"ينداح الطوفان"
بين الخبر والرواية *
بدرالدين عرودكي
يبدو أن الناقد الأدبي في بلادنا مرغم، في كل مرة يتعرض
فيها لأثر أدبي جديد، وخاصة إذا كان الأثر الأول للكاتب، على التعرض لأوليات الفن
الأدبي الذي ينتمي إليه هذاالعمل. وبذلك يضع نفسه في موقعيْن يريد سلفاً أن ينأى
بنفسه عنهما. الأول أنه ينصب من نفسه معلماً للكاتب الذي استطاع أن يجد لنتاجه
عدداً من القراء، والثاني أنه لا يمارس عمله
كناقد، وإنما يعيد دروساً لا تفيد معرفتها في الإبداع الأدبي مادامت مطروحة
للجميع، بعيداً عن العمل الأدبي ذاته. إذ أنه يبدأ من هذا التعارض الذي يوجده هذا
العمل بينه من ناحية وبين النوع الأدبي الذي ينتمي إليه كما استقرت مفاهيمه في
التاريخ الأدبي من ناحية أخرى، وليس في عمله ـ مع ذلك ـ أية محاولة لفرض مفاهيم
وشروط مسبقة على العمل الأدبي الذي يتناوله، مادام هذا العمل لا يقدم أية مؤشرات
لانتمائه الفني.
فما الذي يدفع الناقد إذن نحو هذين الموقعين اللذين
يرفضهما سلفاً؟
ضرورة محلية بحتة.
وتتضاعف هذه الضرورة في مجال الرواية المحلية التي ما
يزال بناؤها مغامرة فردية على كافة المستويات، لم يصل بعد إلى مرحلة تكوين ظاهرة
متميزة. ومن ثمَّ تغدو متابعة ما يكتبه الكتاب المحليون في مجال الرواية، على
قلته، أمراً لا غنى عنه، مادمنا نضع على أنفسنا مهمة رصد النتاج المحلي ومتابعته، ولكي
لا يكون ضياعه في نهاية المطاف بحجة إهمال النقد الأدبي له ــ على الرغم من أنه لم
يعرف تاريخ الأدب مثلاً أن إهمال النقد لأثر فني أصيل كان سبباً في صياع هذا
الأثر! ــ لا بحجة ضعفه وعدم قدرته على الحياة.
غير أني أريد أن أنأى بنفسي على الرغم من كلِّ ذلك عن هذين الموقعيْن في
تناولي لمحاولة روائية لكاتب شاب أصدر قبل فترة وجيزة أول عمل أدبي له.
** ** **
ينداح الطوفان لنبيل سليمان أول محاولة روائية في قطرنا تطمح إلى
تغطية قطاع مهم في حياتنا ما يزال على الصعيد الأدبي مهملاً إلى أبعد الحدود وهو
قطاع الحياة في الريف. وعندما يتطلع كاتب شاب ينتمي إلى الريف نشأة وتجربة إلى
بناء رواية تتخذ من القرية إطاراً مكانياً، ومن أوائل الستينيات إطاراً زمانياً،
ومن الفلاحين والإقطاعيين والسياسيين التقليديين أبطالاً لها، فإنه بذلك يغامر على
صعيديْن: صعيد المادة ذاتها، تلك التي لا تزال مجهولة لدى الكثيرين، والتي يحتاج
التعامل معها إلى وعي سياسي وتاريخي واجتماعي بالغ النضج، وصعيد المعالجة الفنية
التي لا يقف وراءها تراث روائي عريض واضح الملامح ثابت القواعد محدَّدِ الاتجاهات.
ومثل هذه المغامرة تتطلب جرأة وصبراً. إذ لا يكفي لمن
يملك تجربة الحياة في الريف أن يتخذ مجرد امتلاكه التجربة حجة لطرح مشكلات الريف
وقضاياه في عمل فني، تماماً مثلما أنه لا يكفي مجرد امتلاك القدرة على خلق عمل فني
لكي يكتب المرء رواية عن الريف. ولقد يملك الكاتب بالإضافة إلى التجربة ثقافة
عميقة تتيح له أن يطرح هذه المشكلات على الصعيدين الفكري والنظري في مقال أو في
دراسة. غير أن ذلك يختلف أيضاً عن طرحها بواسطة عمل فني كالرواية يتضافر الوعي
التاريخي والسياسي والمخيلة والثروة اللغوية والتجربة الفنية في عملية بنائها.
وقبل هذا وذلك، لابد للكاتب من أن يحدد موضوع كتابته
أولاً لكي يبحث بعد ذلك في الإدارة الفنية الأكثر قدرة على استيعاب الموضوع. فما
الذي يحاوله نبيل سليمان في عمله هذا؟
هل يريد أن يكتب رواية وثائقية عن قرية ما تصلح أن تكون
نموذج كل القرى في الريف السوري خلال مرحلة هامة في تاريخنا المعاصر هي أوائل
الستينيات؟
أم أنه يريد أن يكتب رواية واقعية يتحدث فيها عن الصراع
الطبقي، أو عن الصراع في سبيل التقدم والعلم في ريفنا؟
أم أنه يريد أن يكتب رواية تتخذ من التجربة والذكريات
الشخصية في بيئة ريفية مادة لها؟
أم ماذا؟
إن ينداح الطوفان لا تجيب عن هذه الأسئلة إجابة
واضحة، لا بل إنها تقدم عدة إجابات متتالية دون أن تستقر على إحداها أكثر من
لحظات. هي تارة رواية وثائقية، وهي أخرى واقعية، وهي تارة ثالثة ملحمية، وهي تارة
رابعة رواية تاريخية...
قد يسجل ذلك لصالح الرواية لا ضدها. ولسوف يكون ذلك
صحيحاً لو أن هذه الخطوط جميعها توازت في الرواية من أولها إلى آخرها لتصنع في
النهاية ما يسميه الناقد الفرنسي ألبيريس "رواية شمولية". غير أن فصول
الرواية ذاتها تنوس بين هذه المفاهيم الفنية جميعها دون أن يكون ثمة تصور فني
يوحدها ويمنحها وحدة الحياة تلك التي تحوزها الرواية الشمولية عادة.
** ** **
فإذا تجاوزنا هذا الارتباك الذي تعاني منه الرواية على
صعيد الأنواع الروائية المختلفة، نحو الفكرة المركزية فيها، فسوف نجد أن نبيل
سليمان يطمح إلى تجسيد مقولة "الصراع الطبقي" في تاريخ قرية سورية في
أوائل الستينيات. غير أن هذا الطموح يطرح على الصعيد الفني تساؤلاً مهماً: من أين نبدأ؟
إن البدء من التحديدات النظرية لهذه المقولة سوف يورطنا في
تفصيل الأشخاص والأحداث والزمان على قدِّ هذه التفاصيل، في حين أن استخدام هذه المقولة
كأداة والبدء من الواقع الخام: العلاقات السائدة فيه، وإمكانات القوى التي تتحرك وسطه،
قد يحدد تفاصيل أخرى للمقولة ذاتها، تمنحها هوية خاصة ويتيح لنا تأكيدها في النهاية
في ضوء التجربة المباشرة، لا في ضوء الثقافة والبراهين النظرية.
في ينداح الطوفان لا مجال لإنكار تجربة الكاتب الشخصية
في القطاع الذي اتخذ منه إطار روايته. غير أن بدءه من تحديدات فكرة الصراع الطبقي النظرية،
قد حال دونه ودون الاستفادة من هذه التجربة، ذلك أن شخصيات الرواية مفصلة على قدِّ
الفكرة لا على قدِّ الواقع نفسه. والخطوط المستقيمة التي رسم بها نبيل سليمان شخصيات
أبطاله، وبشكل خاص شخصية أبي اسكندر لا تتفق مع طبيعة الشروط التي يفترض أن تحدد مفاصل
هذه الشخصية. إن اللون الواحد الذي لون به نبيل سليمان هذه الشخصية من بداية الرواية
حتى نهايتها يوحي وكأنها نتيجة مخيلة مثقلة بالأفكار النظرية المجردة. في حين كان بوسعه
أن يجعلها أكثر إقناعاً لو اعتمد على تظليلها وخفف من استقامة الخطوط التي تحدد ملامحها.
لقد استطاع نبيل سليمان أن يتلافى ذلك إلى حدٍّ ما في رسمه لشخصية المعلم أحمد وإن كانت هذه الخطوط هن منكسرة. وخفف
من حدّة هذه الخطوط في رسمه لملامح شخصية سلمان عندما جعله يخضع للشروط الاجتماعية
السائدة في نهاية روايته. غير أنه كان يمتح في رسم شخصياته كلها من تحديدات المنطلق
الأساسي الذي بدأ منه، أعني فكرة الصراع الطبقي التي تلخص على صعيد نظري وجود المستَغِلين
والمستَغَلين والانتهازيين والثوريين. بيد أن الحدود بين هذه الفئات إذا كانت واضحة
على المستوى النظري، فإنها ليست كذلك على المستوى الواقعي الذي يفترض في رواية واقعية أو تسجيلية أن تكون أمينة
له. سوى أنها، بما هي عمل فني ذو إطار سياسي، يمكن لها أن تشير بأدوات فنية إلى طبيعة
هذا الصراع، أو طبيعة أطرافه وأمكنتهم في حلبته. وبعبارة أخرى، فإن البدء من مقولة
نظرية وتطبيقها بتحديداتها الصارمة على واقع حي يستلب الحياة من العمل الأدبي، ويحيله
إلى مجرد مقال نظري مليء بالشواهد المعنية بالتفاصيل الأساسية دون أن تعنى بالتفاصيل
الفرعية الأخرى التي تحتاج إليها الرواية.
** ** **
لقد بدت هذه المحاولة الروائية وكأنها مجموعة أخبار منسقة
وفق ترتيب زمني محدد. لم يكن الارتباك الذي عانت منه على صعيد مفهوم الأنواع الروائية
العامل الوحيد الذي أسهم في جعلها كذلك، وإنما أيضاً ثقافة الكاتب السياسية النظرية
التي طغت في هذا العمل على تجربته الشخصية. هذا إذا وضعنا جانباً مشكلة البناء اللغوي
الذي وقف كجسر متهالك بين القارئ وبين ما يريد الكاتب أن يقوله، والذي بدا أبعد ما
يكون عن البناء اللغوي الذي تحتاجه الرواية، أو أي عمل أدبي بشكل عام.
**
نشر هذا المقال في مجلة "الطليعة" السورية، العدد 248، 17 نيسان/أبريل
1971
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire