vendredi 26 décembre 2014


حول الوضع الثقافي والإبداع الأدبي

 

2

هويّة العمل الأدبي بين المحليّة والعالميّة

 

بدرالدين عرودكي

 


عندما أعلن طه حسين قبل نصف قرن تقريبا شكه في حقيقة ما نسميه الشعر الجاهلي، مصطنعاً لذلك المنهج الذي استخدمه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء في مطلع العصر الحديث، معلناً أن "الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في ما نسميه الأدب الجاهلي" مفجرا بذلك أول قنبلة في المناهج التقليدية المعتمدة في دراسة التراث الأدبي العربي، فقد كان يضع بذلك صوى جديدة في النقد العربي الحديث، لا  تقتصر على استخدام المنهج أو طريقة البحث العلمي فحسب، ولا على تفجير حدود الدائرة المغلقة التي استقرت ضمنها أذهان الباحثين والنقاد طويلة لا يتجاوزونها، ولا يحاولون أن يفعلوا و لا مرة واحدة وحسب، وإنما تشمل كذلك تحديد معايير صارمة للكيفية التي يمكن بها الكشف عن الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال عمل أدبي ما، أو أعمال أدبية تنتمي لمرحلة محددة. ولا تقف هذه المعايير عن حدود المقبول بما تطرحه الأعمال الأدبية في عصر ما، وإنما تتجاوزها إلى حدود التأثير الذي استطاع أحداثه هذا العمل في هذا الواقع دون غيره من الأعمال. إنه بذلك لم يصطنع منهجاً علمياً في بحث أدبي فحسب، وإنما يضع المعالم التي تحدد هوية أدب ما، تشمل الزمان والمكان اللذين ينتسب إليهما.

لقد رفض الهوية الزمانية التقليدية لما يسمى بالشعر الجاهلي، على أساس أن هذا الشعر لا يقدم لنا شيئاً عن الحياة الجاهلية، أو عن عرب الجاهلية... رفض قبول ما كان مسلمة حتى ذلك الوقتن من أن هذا الشعر قد قاله شعراء عاشوا قبل الإسلام و قبل القرآن، وقدم فكرته التي أحالت المسلمة إلى مصادرة، والمتضمنة هوية زمانية جديدة لذلك الشعر، مفادها أنه قد قيل بعد القرآن وبعد مجيء الإسلام على ألسنة رواة مجهولين.

لقد قيل ذلك قبل نصف قرن، وكان أن ثارت العقول المحافظة يومها مطالبة برأس الباحث ما دام قد جرؤ على الاقتراب من المناطق المحرّمة، وأغلق الكتاب يومها، وأعيد طبعه معدلاً، مقتصراً على بعض نتائج البحث دون غيرها، غير أنه كان أشبه برصاصة وحيدة تطلق ثم يخيم السكون بعدها إلى الأبد.

*  *  *

غير أن البحث إذا كان قد طوي منذ ذلك الحين، فإن القيم النقدية الجديدة التي أثارها لم تطو، وإنما أخذت في النماء على أيدي نقاد وباحثين في أنواع الأدب المختلفة، نستطيع أن نلمسها في تلك الحركة النقدية الفنية في القطر المصري، وفي ازدهار الأنواع الأدبية ازدهاراً لم نشهد ما يماثله في الأقطار العربية الأخرى من حيث التنوع والخصوبة على الأقل.

*  *  *

وإذا كنت أعيد إلى الأذهان ذلك الحدث النقدي الهام في تاريخنا الأدبي، فذلك لكي أثير الحديث عن أحد المعايير النقدية التي طرحها ذلك البحث، وتجاهلها عددٌ كبيرٌ من النقاد، ولم يفهمها عدد كبير آخر من الكتاب، وأعني به معيار هوية العمل الأدبي.

وليس سهلاً أن نتحدث عن هوية عمل أدبي ما دون أن نحدد قبل ذلك ماذا نعني بالمصطلح أساساً. فلئن كان طه حسين قد شك في المقدمات التي طرحها لبحثه، ورفض في النتائج التي توصل إليها، إثبات الهوية الزمانية لما يسمى بالشعر الجاهلي، معلناً أن هذا الشعر ليس جاهلياً بحال من الأحوال، ولم يقله الشعراء قبل الإسلام، وإنما بعد الإسلام، بل وبعد أن استقرت أوضاع البلاد الإسلامية، فذلك اعتماداً على صورة لواقع الحياة الجاهلية قدمها القرآن، واعتماداً على مدى التأثير الذي أحدثه القرآن في عقول الناس الذي توجه إليهم في تلك الفترة من التاريخ، وهو تأثير يقوم على إدراك المفاصل الأساسية لحياة الناس وسلوكهم وعاداتهم. وهو قد نسف الهوية المكانية لهذا الشعر عندما نفى أن يكون قائلوه من شعراء مكة والمدينة والطائف، لا بل حتى الصحراء في فترة ما قبل الإسلام.

وما يهمني هنا، هو تحديد دلالات هذا المعيار النقدي أكثر من نتائجه في بحث طه حسين عن حقيقة الأدب الجاهلي. هوية العمل الأدبي، تعني انتساب هذا العمل لزمن محدد و لمكان محدد ولواقع اجتماعي محدد. أي أننا نستطيع أن نكشف في تضاعيف العمل الأدبي ذاته عن الزمن الحقيقي الذي كتب فيه_ وهو يختلف عن الزمان الخاص للعمل ذاته_ وعن المكان الذي يؤلف الأرضية الأساسية لهذا العمل_ وهو يختلف كذلك عن المكان الخاص بالعمل الأدبي_ وعن واقع اجتماعي محدد مرتبط بالزمان والمكان اللذين يكشف عنهما في الوقت نفسه.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال وقوف حدود العمل الأدبي عند الزمان الذي كتب عنه، والمكان الذي كتب فيه، والواقع الاجتماعي الذي يطرح مشاكله بالضرورة. لا بل أن قدرة العمل الأدبي على الكشف عن هويته، وتجاوز حدودها في الوقت نفسه هي التي تضيف قيمة أخرى إليه، لا يمكن إضافتها ما  لم تكن له هذه القدرة أساساً، وهي القيمة التي نصطلح على تسميتها بالبعد الإنساني أو إمكانية العمل الأدبي على النمو والتطور_ شأن الكائن الحي_ في مختلف الاتجاهات وفي سائر الأزمنة.

*  *  *

ومصطلح "هوية العمل الأدبي" هو تحديد أدق لما يسمى بـ (المحلية) ذلك أن مصطلح المحلية قد فهم في أغلب الأحيان على أنه يعارض (العالمية) أو (الإنسانية). وبتنا نرى النتاج الأدبي يدخل مزاد المحلية والعالمية دون أن يعي أن التعارض بين المحلية والعالمية لا أساس له سواء في النتاج الأدبي، أو في النقد الأدبي في العالم. لقد استطاعت أعمال سوفوكل و أسخيلوس ويوربيدس أن تحيا حتى القرن العشرين لأنها كانت تضم هاتين القيمتين النقديتين الأساسيتين:

الهوية والبعد الإنساني، ولأنها كانت إغريقية أولاً، أي إنها نتاج اليونان القديمة في العصر الوثني_ بكل ما يعنيه ذلك من طرح أعمق لمشاكل الإنسان الإغريقي_ فقد استطاعت أن تتجاوز حدود هويتها الزمانية والمكانية، لتحوز البعد الإنساني، ولتكون كائناً حياً بكل ما يؤدي إليه ذلك من نتائج في النمو وفي الاتساع.

وليست الآثار الأدبية الإغريقية المثل الوحيد في ذلك. إن أعظم الروايات، وأروع القصائد، وأفضل المسرحيات يمكن أن تكون أمثلة مشابهة، قبل أن يغدو شكسبير ودستوفيسكي وغوته وبايرون وشيلر ملكاً للإنسانية، وقبل أن تنمو أعمالهم وتزداد نمواً يوماً بعد يوم، كانوا ملكاً لشعوبهم، وكانت أعمالهم تحمل هوية هذه الشعوب. لم يكتب دستوفيسكي عن الإنسان وحسب، ولكنه كتب عن روسيا القيصرية في الوقت نفسه، ولم يطرح شكسبير أعقد المشاكل الإنسانية وحسب، وإنما كان يكتب عن انكلترا في العصر الإليزابيثي أيضاً.

*  *  *

غير أن "المحلية" قد فهمت فهماً يخالف ذلك إلى حد بعيد. لقد حسب البعض أن مجرد وصف ملابس بطل القصة وتسميته بأسماء شعبية (أبو محمود، أبو كاسم، أبو أحمد...الخ) يمكن أن يمنح القصة طابع المحلية، ويمنح الكاتب بالتالي شهادة الأصالة في التعبير عن واقعنا ومشاكلنا الاجتماعية. في حين أن نظرة نقدية متمهلة، يمكن أن تجد تحت ثياب (أبي محمود) ملامح مشوهة لشخصية (أكاكي أكاكفيتش)، أو تحت الملاءة السوداء التي تغطي (عائشة أو سعاد) بعض أصباغ كل من (إيفيت) أو (ليلي) !...

وبالمقابل، فهم البعد الإنساني في الأدب على أنه التعبير عن الإنسان المطلق غير المشروط بزمان ومكان وبيئة، عن (الإنسان في مكان وزمان) كما يقال، وبتنا نرى أن الطابع العام لأعمال هؤلاء الذين يريدون أن يصلوا إلى أعلى درجة في سلم العالمية بقفزة واحدة، هو طابع الأساليب التي تجهد لكي تبدو جديدة مبتكرة، تطرح بواسطتها مشاكل عامة، لكي تجد صداها في كل زمان ومكان!  لقد كتب_ مثلاً_ غسان كنفاني قصته "ما تبقى لكم"، وكتب على غلافها الأخير:

"إنها رواية تطرق أبواب العالمية"، في حين أنها ليست_ كعمل فني_ أكثر من نسخ مشوه لتقنية الفصل الأول من رواية " الصخب والعنف" لفوكنر، وهي تقنية لم يكن لاستخدامها أي مبرر في طرح قضية الإنسان الفلسطيني بعد عشرين عاماً من الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

*  *  *

وعلى هذا، فليست هوية العمل الأدبي مجرد سمات خارجية، أو براقع مرقشة بأصباغ محلية، ولن يكون اسم كل (أي محمود وعائشة) كافياً لكي نقول عن هذا العمل الأدبي إنه عمل محلي، كما أن تجريد الشخصية من كل سماتها المحلية العميقة، لن يجعل من العمل الأدبي عملاً إنسانياً أو عملاً يطرق أبواب العالمية!..

إن المفاصل التي يمكن أن تؤلف هوية عمل أدبي ما، لا تقتصر على المضمون لوحده أو على الصياغة الجمالية والفنية التي يطرح من خلالها هذا المضمون لوحدها، وإنما هي في كل منهما بمقدار، هو في النهاية مقدار الخصوصية في كل مضمون يطرحه عمل أدبي ما، ما دامت المضامين متشابهة، وما دامت حساسية أية جماعة تجاه هذا المضمون أو ذاك ليست واحدة لدى كل الجماعات، وما دامت هذه الخصوصية نتاج هذه الحساسية ذاتها، تلك التي تنعكس على كلية العمل الأدبي، شكله ومضمونه سواء بسواء.

إن الواقع إذ يطرح عدداً من المشاكل يمكن أن تؤلف خامات أعمال أدبية متنوعة، إنما يطرح أيضاً وبالقوة ذاتها_ عبر تراثه وقيمه ورصيده الثقافي والفني_ خامة الصياغة الجمالية لهذه المشاكل. وهوية عمل أدبي ما، تلك التي تتيح للقارئ، أي قارئ، أن يكشف عن انتماء هذا العمل لعصر ولمكان معينين، إنما تتحدد من خلال هذه الصياغة وذلك المضمون. يمكن بعد ذلك أن ينسحب هذا المضمون على هذا الزمان أو ذاك، ويمكن أن تشكل الصياغة إضافة إلى الصياغات الجمالية الأخرى في التراث الجمالي الإنساني، غير أن ذلك كله لا ينفي الأساس، وهو أساس نقدي لا بد من تعميقه في حياتنا الأدبية، لكي نكشف عن أصالة هذا الركام من النتاج الأدبي الذي كرّس أصحابه أنفسهم استناداً إليه، عباقرة أمتهم وعصرهم، دون أن يدري أحدٌ بذلك على الإطلاق.

غير أن هذا، يظل مجرد مقدمة نظرية، حول معيار نقدي، يبدو أنه مجهول من كتابنا ما يزال.  

* نشر في مجلة "الطليعة" السورية،  العدد 243 الأربعاء 10 آذار 1971.
 
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire