حول الوضع
الثقافي والإبداع الأدبي
1
أزمة ثقافة
بلا هوية
ما وراء أزمة القرّاء وأزمة الكتابة**
بدرالدين
عرودكي
ماهي الأزمة: أزمة قرّاء أم أزمة كتابة؟ تلك هي الصيغة
التي طرحت بها مشكلة من أخطر المشكلات التي واجهها ويواجهها مجتمعنا في المرحلة
التاريخية المعاصرة، خلال ندوة جرت في المركز الثقافي العربي
في الأسبوع الماضي وأعني بها مشكلة الثقافة. وشبيه بهذه الصيغة، صيغة ذلك
التساؤل عن الأول بين اثنين: الدجاجة أم البيضة؟ فكما أن هذه الصيغة الأخيرة لا
يمكن أن تؤدي إلى حلٍّ نهائي، فإن طرح المشكلة الثقافية من خلال عنصرين من عناصرها
لن يؤدي إلى ذلك الحل المنشود إلا إذا أردنا أن ندور في حلقة مفرغة بين جزئيات
المشكلة دون أن نتمكن على الإطلاق من وصل حلقاتها ضمن سلسلة تؤدي في النهاية إلى
نتيجة محددة.
ومن هنا فإن صيغة السؤال تبدو قاصرة عن استيعاب أبعاد
المشكلة المراد طرحها أساساً إلا إذا فهمنا هذه الصيغة ضمن حدّيْها بالذات
(القراءة ـ الكتابة) بحيث يكون المطلوب في النهاية أن نضع الخط الأحمر تحت واحد
منهما ونغلق النقاش. إذ أننا في هذه الحالة نتناسى أساس المشكلة أصلاً، ومن ثم
تغدو كل نتيجة يمكن الوصول إليها في النهاية من خلال تلك الصيغة قاصرة وجزئية
بالنسبة إلى الإطار الأساس الذي يجب أن ترتد إليه أصلاً.
لذلك لابد لنا من العودة إلى هذا الإطار. وهي عودة سوف
تتيح لنا فرص إلقاء أكثر من ضوء على زوايا المشكلة الأساسية.
** الأمية
ولعل أبرز مظاهر الأزمة الثقافية في الوطن العربي مشكلة
الأمية التي تتراوح نسبتها بين مختلف الأقطار العربية من 40% إلى 90%. وهذا هو
السبب الذي يجعلنا نتجاوز أزمة القراء وأزمة الكتابة في حدودهما الضيقة نحو
إطارهما العام الذي تشكل الأمية أبرز مظاهره، مادام القارئ والكاتب ينتميان إلى
هذا الواقع أساساً ويشكلان مظهراً آخر من مظاهره.
وما دمنا نعتبر أزمة القراءة وأزمة الكتابة مظهرين من
مظاهر الأزمة الثقافية، فلابد لنا أيضاً من النظر إلى هذه الأزمة من خلال الأطر
الحضارية والتاريخية والاجتماعية التي ننتمي إليها. ونظرة بسيطة إلى حذور هذه
الأزمة في تاريخنا تؤدي بنا إلى تحديدها كما يلي:
ــ أربعة قرون في ظل الاحتلال العثماني أقرب إلى أن تكون
عهد ظلامكامل؛
ــ ربع قرن آخر من محاولات اليقظة الملجومة بعصا
الاستعمار؛
ــ ربع قرن آخر من محاولة تصفية هذه التركة الثقيلة على
كافة المستويات الحضارية والاجتماعية ونتائجها التي برزت مع انتهاء الاحتلال
العسكري المباشر لللاستعمار الأوربي: التجزئة والصهيونية.
** فترة الانقطاع الثقافي
وإذا كنا نعود بجذور الأزمة الثقافية إلى هذا التاريخ
البعيد الذي يبدأ مع احتلال الجيوش العثمانية للمنطقة العربية، أو بتحديد أقرب إلى
الدقة مع اضمحلال الإمبراطورية العباسية وتهافتها، فذلك لأن الثقافة العربية قد
بدت في تلك الفترة من التاريخ وكأنها توقفت وقوفاً لا مجال للتنبؤ بمداه. لم يكن
هذا الوقوف مفاجئاً في ذلك الوقت، وخاصة لتلك العقول الكبيرة النادرة التي سبقت
زمنها وتنبأت بالكارثة قبل حصولها بوقت طويل: كالمتنبي والمعري ـ على ما بينهما من
فروق واختلافات ـ . فلقد أدرك هذان الشاعران العربيان خطورة الحصار الذي كان
الوجود العربي يعانيه آنذاك، عندما كانت الإمبراطورية العباسية نهباً للغزو
المغولي والتتري وللتمزيق. فأعلن الأول أفول الحضارة العربية ولاذ ببلاط سيف
الدولة في محاولة ـ تبدو لنا اليوم دون كيشوتية ـ لأنقاذ ما لم يعد ممكناً إنقاذه.
منح سيف الدولة كل علامات المجد والفخار، وكرس لتعظيمه كل طاقات موهبته الشعرية
الفذة، لا باعتباره أميراً يغدق أمواله على شاعر مادح، وإنما باعتباره أميراً
عربياً ـ وحيداً في تلك الفترة ـ يحمي المنطقة العربية من محاولات الروم المتكررة
لغزوها، ويمثل النبض القويّ الأخير لحضارة آفلة. هذا في حين لاذ المعري بمحبسيْه،
معلناً رفضه لكل القيم السائدة، وملزماً نفسه بما لا يلزم، يمارس نمطاً صعباً من
الترف الفني لم يكن يملك مع شكه ورفضه وعزلته أن يفعل شيئاً سواه، وهو يحيا بين
أطلال متداعية.
لقد كانت الثقافة العربية حتى ذلك الحين حلقات آخذ بعضها
برقاب البعض الآخر، تبدأ من أعماق العصر الجاهلي، وتتصل مع ظهور الإسلام واتساع
دعوته بثقافات الأمم الأخرى دون أن تفقد أصالتها وهويتها الأولى. ثم انقطعت
السلسلة نهائياً مع السيطرة العثمانية التي أبدت في البداية نوعاً من التقديس لهذا
التراث العظيم ما لبثت بعده أن تغاضت عنه وتناسته، لتستبدله وخاصة في القرن الأخير
من عمرها ـ القرن التاسع عشر ـ بمحاولات دفنه وطمسه.
وتلك هي الأزمة التي واجهها رواد الحركة القومية العربية
الأولى في القرن التاسع عشر: أن يعبروا برزخاً يمتد إلى أربعة قرون، كي يمسكوا
بأول شعاع من أشعة الثقافة العربية الكلاسيكية لتأكيد الهوية العربية تجاه محاولات
إنكارها وطمسها من أنصار القومية التركية، وهي الأزمة ذاتها التي واجهها أيضاً
رواد الحركة القومية العربية في أوائل هذا القرن ـ أي فيما يسمى ببدايات عصر
النهضة العربية ـ تجاه تحدي الحضارة الغربية الحديثة: أن يقيموا الجسر بين تلك
الثقافة العربية قبل أربعة قرون، يعبر ظلام الاحتلال العثماني، ويظل قوياً عند
وصوله منعطف القرن العشرين، تلك الأزمة التي مازالت قائمة حتى الآنّ
** الاحتلال الأوربي: ثقافة المستعمر
ومع الاحتلال
الفرنسي والإنجليزي والإيطالي للوطن العربي، كانت محاولات تأكيد الهوية العربية
قائمة ما تزال. ومع ذلك، فقد حاول الاستعمار الأوربي بشتى الوسائل ضرب هذه
المحاولات من الأساس وذلك بوسيلتين ما تزال آثارهما ـ أيضاً ـ قائمة إلى الآن: عزل
الطبقات الفقيرة والمعدمة ثقافياً من جهة، ونشر الثقافة الاستعمارية بواسطة المدارس
التي يقيمها أو التي تقيمها بعثاته التبشيرية بين أوساط الطبقة الإقطاعية والطبقة
البورجوازية من جهة أخرى.
فالحصار الاقتصادي الذي ضربه حول الأكثرية الفقيرة، كان
يحول دونها ودون الاهتمام بالثقافة والتعليم، بحيث أن قلة ضئيلة منها كانت تعرف
القرآن معرفة لفظية تتيح لها قراءته لا فهمه، في حين غرقت البقية في ظلام دامس.
وفي الوقت ذاته، كان بوسع أبناء الطبقتين الإقطاعية والبورجوازية دخول المدارس
الأجنبية بما يملكون لذلك من أسباب مادية لم تكن متاحة لغيرهم. وكان الاستعمار
يؤمن بذلك تكوين البنية العقلية للطبقة التي يريد لها أن تحمي مصالحه وأن تدافع عن
وجوده عن طريق نشر ثقافته. فما د امت الثقافة تنمية للتصورات والقيم الوجدانية
والسلوكية فإن الاستعمار إذ ينشر ثقافته وهي ثقافة بورجوازية موجهة لأبناء
المستعمرات فإنما يضمن بذلك نشر قيمه ورؤيته للحياة.
وتلك هي تركة الاستعمار الأوربي ـ بعد الاستعمار
العثماني ـ في الوطن العربي: أمّيّة تكاد تكون شاملة بين الأكثرية الساحقة من
الشعب العربي في مختلف أقطاره، وأقلية مثقفة بثقافة لا تمت إلى واقعها ومتطلباته
بأية صلة.
** الخطر الثقافي
وهذا هو جوهر الخطر الذي كانت الشعوب العربية تواجهه
عشية استقلالها. كان الاستعمار يخرج بمعداته وبجنوده من الأرض تاركاً فيها بذوراً
خبيثة في طور النمو.
والحق أن انتباهنا لهذا الخطر الثقافي لم يكن على مستوى
هذا الخطر. لاشك أننا كنا ندرك هذا الخطر وندرك معه أبعاد تخلفنا. غير أن شعورنا
بالتخلف طغى على شعورنا بالخطر، وأتاح لعقد نقص عميقة الغور في نفوسنا أن تمارس
فعلها ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ فتفتح الأبواب على مصاريعها للثقافة الغربية
والحضارة الغربية دون قيد أو شرط يفرضه واقع مثقل بأعباء تركة خمسة قرون من النوم
الثقيل. لتنعكس آثار هذا الانفتاح غير المشروط في مجالات عدّة:
انعكست أولاً على مناهج التعليم التي كانت كلها تقريباً تستند إلى فلسفات غريبة عن
احتياجاتنا القومية والاجتماعية. ولقد كانت مناهج ديوي بالذات ـ كما يقول محمود
أمين العالم في كتابه الثقافة والثورة
ـ تسود مناهجنا التعليمية سيادة تامة. هذا بالنسبة إلى المدارس الوطنية. أما
بالنسبة إلى المدارس الأجنبية فقد كانت متعددة، تسود فيها مناهج المدارس الأمريكية
والإنجليزية والفرنسية، بما تتضمنه كلها من فلسفات خاصة تعرقل نمو وجداننا القومي،
في حين ظلت المدارس التقليدية القديمة ـ كالأزهر ـ مغلقة أبوابها دون الحضارة
المعاصرة ودون حاجات الواقع في المرحلة التاريخية المعاصرة إلى وقت قريب.
وانعكست ثانياً على عمل دور النشر التي تحكمت بها فوق ذلك عناصر عديدة:
عنصر التجارة المحضة، فقد صارت ترجمة الثقافة تجارة رابحة تعتمد على
طلب السوق الذي تحدده الرغبات السائدة. وهكذا تتالت موجات الترجمة: موجة سارتر
والوجودية، موجة مورافيا والجنس، موجة كولن ولسن، موجة الكتب الثورية على
اختلافها، وأخيراً موجة شعر الأرض المحتلة الذي بدا وكأنه ظهر للمرة الأولى بعد
الخامس من حزيران.. أما على صعيد التراث القديم، فقد غدا أيضاً تجارة رابحة.
وتتالت الكتب الضخمة لشعراء الجاهلية والإسلام، وكتب الجاحظوالتوحيدي والمتصوفين،
في طبعات فخمة لا ينقصها إلا الدراسة والتحقيق العلمي! ذلك أن هذا النقص لا يمكن
أن تقوم بإتمامه دور النشر مادام يكلفها جهداً علمياً لا مكان له أمام هدفها
التجاري.
وهنا من ناحية أخرى عنصر التوجيه الخارجي الذي
كان يختفي وراء "الحاجة إلى ترجمة نتاج الثقافة الغربية المعاصرة".
فظهرت مؤسسات أجنبية تدعم دور النشر المحلية، تسهم معها وبدونها في لا في نشر
الثقافة الأمريكية والكتاب المعبر عن الرؤية الأمريكية للحياة فحسب، بل في بث
مناهج التربية وفلسفات التعليم التي تؤكد هذه الرؤية وفي السعي نحو جعلها تسود
مناهجنا التعليمية في المدارس وفي الجامعات.
هناك من ناحية ثالثة عنصر آخر يتمثل في افتقار دور
النشر المرتبطة بوزارات الثقافة في البلدان العربية إلى الخط الفكري الواضح الذي
يتحكم بمنشوراتها أو بمشاريعها. لا بل إنه حتى في حال تحديد مثل هذا الخط،
وهذا ما يحدث أحياناً، فإن الأيدي القذرة تمتد في الخفاء لتعبث به وتحرفه عن
اتجاهه الأصلي، كما حدث في مشروع الألف كتاب في القطر المصري. إذ كان الهدف
من وراء هذا المشروع تكوين مكتبة ثقافية متكاملة بأسعار زهيدة، فتحول أثناء
التنفيذ إلى مكتبة ثقافية أمريكية متكاملة.
هذه العناصر جميعها في مناهج التعليم وفي أعمال دور
النشر هي ما يؤلف المظاهر الحالية للوضع الثقافي والتعليمي والتربوي في وطننا
العربي، ذلك الوضع الذي يشكل الكاتب نتاجه الرفيع!
** أزمة القراءة.. أزمة الكتابة!
ونحن إذ نصل ـ بعد هذه الإشارات السريعة ـ إلى مسألة القارئ
والكاتب، فإنما ننتقل إلى صعيد آخر من أصعدة الأزمة الثقافية التي نتحدث عنها
مادام كل منهما مشروط ببيئته أولاً وبالوضع السائد في تلك البيئة ثانياً. وإذا كان
أقرب إلى الدقة أن نتحدث عن أزمة قلة القراء بدلاً من أزمة القراتء فذلك لأننا
ننظر إلى النسبة التي يشكلها القراء في الوطن العربي بالقياس إلى عدد سكانه.
ونستطيع هنا أن نضرب مثالاً ريباً منا. فأعلى رقم توزيع تحققه مجلة عربية على
الإطلاق هي مجلة العربي التي توزع شهرياً
ما يقرب من 160 ألف نسخة في وطن يسكنه مائة مليون. ومن هذا الرقم يمكن أن نصل إلى
النتيجة التالية: وهي أن نسبة القراء من بين المتعلمين (قراء مجلة لا كتاب!) هي
نسبة 0016 %! في حين نستطيع أن ندرك نسبة قراء الكتاب إذا عرفنا أن أعلى رقم يمكن
أن تنحنجرؤ دار نشر على الوصول إليه في ععد النسخ من الكتاب الواحد الذي تطبعه هو
خمسة آلاف نسخةّ!
نحن هنا إذن أمام أزمة قراءة بين المتعلمين بين سكان
الوطن العربي. وجذور هذه الأزمة تعود أساساً إلى المناهج التربوية والتعليمية التي
تحكم صلة القارئ بالكتاب منذ طفولته. فهذه المناهج تؤسس علاقة مصلحة متبادلة بين الطالب والكتاب
تنتهي بانتهاء هذه المصلحة عند حصول الطالب على الشهادة في نهاية تحصيله. وفيما
عدا ذلك، فإن الكتاب يؤلف بالنسبة لهذه القلة الضئيلة من القراء وسيلة تسلية أكثر
منه باباً للمعرفة، ووسيلة إرضاء رغبات معينة أكثر منه مجالاً للثقافة وللعلم.
ومع ذلك فإن القلة القليلة من سكان الوطن العربي الذين
يقرؤون يؤلفون النخبة بالمسبة إلى مجتمعنا. فإذا ما نظرنا إلى مصادر ثقافتهم
الأساسي، وهي في أغلبها من الكتاب العربي مترجماً أو موضوعاً، وعرفنا الكتب التي
تصدرها دور النشر في مختلف الأقطار العربية، استطعنا أن ندرك طبيعة البنية العقلية
التي يتمتع بها القارئ العربي المعاصر!
** مشكلة الكاتب
ومشكلة الكاتب ـ من ناحية أخرى ـ ترتبط بمشكلة القارئ
ارتباطاً جدلياً. فالكاتب العربي قد بدأ طالباً في المدارس الوطنية أو الأجنبية،
أو قارئاً، وفي كلا الحاليْن نستطيع منذ البداية تحديد بيئته وثقافته. فهو قد ولد
ونشأ في بيئة متخلفة حضارياً تعاني من تركة تاريخية ثقيلة، وتواجه أخطاراً يومية
مباشرة، وهو قد تلقى ثقافة هجينة من مصادر مختلفة، لا يحول دون وصفها
بالهجينة تلقيه لها من مدرسة أو جامعة.
ولكن اقتصارنا على عنصريْ البيئة والثقافة سوف يؤدي بنا إلى فقدان الأمل منه
نهائيا وبشكل صوري. ومن ثمَّ فلا بد لنا من إضافة وعيه لنفسه ولواقعه. والوعي هنا
مسألة نسبية ترتبط بمدى قدرته على تجاوز تخلف بيئته وهجنة ثقافته من جهة، وعلى
الزاوية التي ينظر منها إلى جمهوره من جهة ثانية، وعلى جمهوره الذي يفترضه في وعيه
الباطن عندما يمارس عملية الكتابة من جهة ثالثة.
لكن مسألة الوعي، وعي الكاتب، تواجه على صعيد آخر عدة
مشكلات:
فهناك ـ أساساً ـ مسألة الحرية الفكرية، وهناك من ناحية
أخرى الإغراء المادي الذي تقدمه المؤسسات الأجنبية له، وهناك أيضاً احتواء
المؤسسات الرسمية له حيث تمتص وعيه وتجهض طموحه منذ البداية بما تقدمه له من رواتب
عالية يضطر معها للتنازل عن مشاريعه بالتتالي.
وفي كل الأحوال، فإن الكاتب العربي ما يزال يواجه ـ على
صعيد ثالث ـ مشكلات أساسية لا قبل له ـ كفرد ـ على حلها:
ـ مشكلة التراث؛
ـ مشكلة وحدة الثقافة القومية أو هويتها؛
ـ مشكلة الثقافة الفكرية الهجينة غير القادرة على مواجهة
تحديات الثقافات العالمية الأصيلة.
ولذلك فالكاتب العربي بوصفه النتاج الرفيع للوضع الثقافي
والاجتماعي والتاريخي الراهن، يبقى مثقلاً أمام قارئه بمشكلات عليه أن يواجهها.
وهو يقع في الحالة هذه تحت وطأة الإغراءات المتعددة التي تحدثنا عنها. ويواجه
كوابح اجتماعية وسياسية تحول بينه وبين متابعة هذه المواجهة إلى النهاية، أو أن
يتناساها. وهو في هذه الحال لن يتمكن من أن يقدم لقارئه شيئاً مادام لا يطرح
مشكلاته الأساس كمواطن ينتمي إلى أمة تحيا مرحلة تاريخية معينة.
ولعل هذا ما يفسر ـ إلى حدٍّ ما ـ سبب إقبال جمهرة
القراء على الأعمال المترجمة أكثر من إقبالها على الأعمال المؤلفة.
** ثقافة بلا هوية
إزاء ذلك كله لا يسعنا أن نتساءل عن أزمة قراء أو أزمة
كتابة، وإنما عما يتجاوز هاتين الأزمتيْن، أي إلى الوضع التربوي والتعليمي أساساً
الذي يشكل المظهر الأساس من مظاهر أزمة الثقافة العربية المعاصرة التي تعاني من
ضياع الهوية. إذ ما زلنا إلى الآن نفتقر إلى التصور الواضح لما يجب أن تكون عليه
مناهجنا التعليمية والتربوية، أي لنصور واضح لهوية ثقافتنا القومية وتكوينها
أساساً. ولا يكفي في ذلك أن نتحدث عن هذا التصور ضمن صيغ عامة. ذلك أنه لا معنى
لهذا التصور مادام منحصراً ضمن حدود هذه الصيغ لا يتجاوزها نحو التطبيق في
التفاصيل، ونحو الممارسة في السلوك اليومي. *
*
يشكل هذا المقال صياغة أولية لما قلته في الندوة التي أجراها المركز الثقافي
العربي بدمشق تحت عنوان "أزمة قراءة أم أزمة كتابة؟". ومن ثمَّ فهو ليس
أكثر من خطوط عامة لدراسة لا بدَّ لكي تكتسب طابعاً علمياً من تدعيمها بالإحصاءات
الدقيقة والمراجع العلمية الموثوقة.
** نشر هذا المقال في مجلة
"الطليعة" السورية، العدد 240، الصادر بتاريخ 20 شباط/فبراير 1971، ص.
38 ـ 41 .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire