الرواية والرواية الجديدة
انحطاط الرواية أم انبعاثها؟
بدرالدين عرودكي
ما إن يزول سحر النظرة الأولى
ـ وهي مزيج من الخيال والتوقع والذاكرة السمعية والبصرية وشيء من الواقع ـ حتى
تتمايز ملامح الصورة: صورة باريس، وعلى الأخص الحياة الثقافية في باريس، تمايزاً
يزداد في الوضوح مع الأيام كلما استغرقت القادم الغريب أجزاء الحياة اليومية الصغيرة
والكبيرة معاً. يزداد في الوضح ويبرز القاع الذي تقوم عليه مختلف الألوان، لتأخذ
الصورة بعد ذلك أبعاداً أخرى: فالحياة الثقافية ليست قطاعاً معزولاً عن بقية
القطاعات الأخرى ـ وهي بداهة يغلفها ذلك السحر في الحقيقة ـ، والألوان الوردية ليست
هي الألوان الوحيدة، وربما لم تكن أيضاً الألوان الغالبة.
ولا
بد من الاعتراف أنه كلما تبدت خطوط التمايز كلما عمقت الصورة فتكشفت عن
أبعاد معقدة لم تكن تشي بها النظرة
الأولى. ومن هنا، عندما حاولت أن أضع تمهيداً أترصد به الملامح العامة لهذه
الصورة التي يفترض أن تكشف عن تفاصيلها هذه الرسالة والرسائل التالية لـ (الموقف
الأدبي) وجدتني أمام خيارين: إما أن انساق وراء تعميمات لن تعني شيئاً وإما أن
أجعل من التمهيد خلاصة لمجموعة من التفاصيل بحيث يأتي في نهاية سلسلة من الرسائل
تتناول الظواهر الأساسية في هذه الصورة تركيباً يجمع مختلف العناصر ويؤالف بينها مؤالفة
تنأى به عن أن يكون مجرد انطباعات عامة أو تكراراً لصيغ جاهزة تروق
للصحافة الباحثة عن المثير والمدهش بأي ثمن حتى ولو كان التلفيق أو التزييف أحياناً.
لذلك
أريد أن أبدأ مباشرة بالحديث عن ظاهرة الرواية والرواية الجديدة في
فرنسا لسببين: أولهما أن القارئ
العربي يتابع ـ بشكل أو بآخر ـ هذه الظاهرة، وأكبر دليل على ذلك عدد المقالات التي كتبت
عن الرواية الجديدة وعن كتابها مثلاً رغم أنه لم يترجم أي عمل كامل لأي منهم ـ
فيما أعلم ـ فيما عدا بعض القصص القصيرة لروب ـ غرييه نشرت في غاليري 68 والطليعة
السورية والموقف الأدبي، وإقبال إحدى دور النشر الكبيرة في الوطن العربي ـ (دار
المعارف) ـ على ترجمة مقالات آلان روب ـ غرييه التي جمعها تحت عنوان ((نحو رواية
جديدة)) والتي حاول أن يقدم فيها نظريته في الرواية الجديدة التي يكتبها هو وعدد من
الروائيين في فرنسا منذ 1954؛ وثانيهما أن النقاش الدائر حول هذه الظاهرة الآن في فرنسا
قد اتسع مجاله: في الصحافة، وفي البرامج الإذاعية الثقافية وفي مجموعة من الكتب
التي صدرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة والتي تنضاف إلى ما يمكن أن يكون مكتبة
كاملة، منذ عام 1954 حتى الآن، أي منذ عشرين عاماً، عمر الرواية الجديدة.
في
الصحافة، كان أبرز المشاركات في هذا النقاش، العدد الخاص الذي كرسته
المجلة الأدبية الأسبوعية (النوفيل
ليترير (Les
Nouvelles Litteraire لبحث ظاهرة الرواية تحت عنوان ضخم ومثير
(انحطاط الرواية أم انبعاثها؟) شارك في تحريره النقاد والروائيون والناشرون الذين يمثلون
لا مختلف الاتجاهات الروائية السائدة الآن فحسب وإنما مختلف الإيديولوجيات السياسية
أيضاً. أما في الإذاعة فإن الإذاعة الثقافية الفرنسية Farnce - Culture قد خصصت خلال الأشهر
السابقة عدة حلقات لمناقشة الوضع الراهن
للرواية الفرنسية تمثل المحاور التي قامت بين الروائي والناقد جان
ريكاردو والناقد جورج رايار ملامحها
الأساسية. أما الكتب، فهناك ثلاثة كتب أساسية صدرت مؤخراً: أولهما كتاب الناقد ومؤرخ الرواية
الفرنسية ز.م. البيريس تحت عنوان (الأدب، آفاق
عام 2000)؛ وثانيهما كتاب جان ريكاردو (الرواية الجديدة) الذي صدر
ضمن سلسلة (كتاب كل يوم) المخصصة
أصلاً لدراسة أعلام الأدب والفكر الغربي، فبدا هذا الكتاب الذي يشكل حلقة منها
وكأنه يجمع الروائيين الجدد السبعة الذين تحدث عنهم في واحد أو بالأحرى في اتجاه واحد
يكاد يشي بوجود مدرسة تحت هذا الاسم لها زعيمها وأتباعه وقوانينها الخاصة،
شأنها في ذلك شأن ((السريالية))؛ ولكن الكتاب الذي صدر أيضاً ضمن هذه السلسلة كان يحمل
عنوان ((السرياليون)) وليس السريالية، على الرغم من أن هؤلاء كانوا يشكلون مدرسة
معلنة بزعامة أندريه بريتون، كان لها اتباعها وقوانينها والخارجون على القانون
فيها أيضاً؛ وثالث هذه الكتب ((الرواية والمجتمع)) لميشيل زيرافا الذي يأتي بعد
كتابه السابق ((الثورة الروائية)) الذي خصصه لدراسة التطور العميق في الفن الروائي
في الثلث الأول من هذا القرن. وإلى جانب هذه الكتب التي تحدد أيضاً نزعات النقد
الروائي الفرنسي، هناك أعمال ودراسات الاتجاه البنيوي التطوري في علم اجتماع
الأدب.
Structuralisme Genetique التي انطلقت من المفاهيم الأساسية التي صاغها
جورج لوكاتش في بدايات هذا القرن، وطورتها تطويراً ملحوظاً، مستفيدة في وقت واحد
معاً من تحليلات ماركس لبنية المجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر والتحليلات
الماركسية المعاصرة وأبحاث جان بياجيه، عالم النفس السويسري، في علم النفس ونظرية المعرفة.
وقد نادى بهذا الاتجاه في فرنسا لوسيان غولدمان الذي طبق لأول مرة مبادئ المنهج
البنيوي التكويني على دراسة الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر في أطروحته ((الإله
المختفي)) (1956)، وفي أبحاثه اللاحقة في قسم علم اجتماع الأدب في ((معهد
الدراسات العليا)) في باريس ومركز علم اجتماع الأدب التابع لمؤسسة علم الاجتماع في جامعة
بروكسل. ومن أبرز هذه الأبحاث تلك التي تناولت روايات أندريه مالرو والرواية الجديدة
ومسرح جان جينه. وبوفاة غولدمان عام 1970 يتجاوز هذا الاتجاه مرحلة وضع
الأسس والفرضيات إلى مرحلة تعميق ينزع نحو الدراسات التطبيقية أكثر من نزوعه نحو
البحث عن أسس نظرية. ودراسة شارك كاستيلا عن روايات موباسان ودراسته المرتقبة عن
قصصه القصيرة، ثم دراسة جاك لينهار لرواية آلان روب ـ غرييه (الغيرة) التي صدرت في العام
الماضي في كتاب مستقل تحقق وتؤكد الفرضيات والمبادئ التي اقترحها غولدمان
ومن قبله لوكاتش لدراسة الأدب. تلك هي العناصر الأساسية في النقاش الجاري حالياً
حول الرواية. وقد يثار في معرض هذا التحديد اعتراضان: أولهما أنه لا يشير إلى عنصر
لا يقل أهمية وأعني به رولان بارت واتجاه البنيوية اللغوية؛ وثانيهما أنه أضاف إلى
الأصوات النقدية في النقد الروائي الفرنسي اتجاهاً اقرب إلى أن يمت إلى علم
الاجتماع منه إلى النقد الروائي خاصة والأدبي بشكل عام. والحق أن الدراسات التي يقوم بها
بارت لا تمت إلى النقد الروائي وإن تناولت في بعضها عدداً من النصوص الروائية
المهمة، وإنما تمت بالأحرى إلى ميدان الدراسات اللغوية الجديدة التي تهتم بـ
((الكتابة)) كوسيلة اتصال أكثر من اهتمامها بهذا النوع الأدبي أو ذاك. ولهذا الاتجاه وجوده المؤثر في
الدراسات الأدبية والحياة الثقافية الفرنسية ولا بد له من عرض يتناوله على
حدة. أما غولدمان وأتباعه، فمن الصحيح أنهم يتناولون الأدب من وجهة نظر علم
الاجتماع، إلا أن مفهوم هذا التناول ـ الذي يعتمد منهج البنيوية التطورية ـ كان ينادي
بتطوير جذري لمناهج علم الاجتماع الأدبي. فالمناهج التقليدية تتناول مضمون العمل
الفني والعلاقة بين هذا المضمون ومضمون الوعي الجمعي، أي أنماط تفكير وسلوك الناس في
الحياة اليومية. وبعبارة أخرى فهي تبحث في الأعمال الفنية عن (الوثيقة) أكثر من بحثها عن
(الأدب) خاصة وأنها، بمنطلقاتها، تحطم وحدة العمل الفني باهتمامها
بالمضمون وحده.
في
حين أن البنيوية التكوينية تنطلق من مبادئ أولية ليست مختلفة وحسب وإنما
مناقضة أيضاً لمبادئ هذه
المناهج. وهي بإيجاز تأخذ في الاعتبار أولاً وحدة العمل الأدبي، شكلاً ومضموناً،
بانطلاقها من مبدأ اعتبار العمل الأدبي أو الفني، كوحدة متماسكة أو كبنية، واقعة أنه ظاهرة
فردية واجتماعية في آن واحد. بمعنى أن العمل الفني ليس وثيقة تلقي الضوء على بعض
نتائج الدراسات الميدانية نفياً أو إثباتاً، وإنما هو جزء من الفعالية الاجتماعية.
إن الظواهر أو الوقائع الإنسانية عبارة عن إجابات فرد أو جماعة تشكل محاولة
لتعديل أو تغيير وضع معطى باتجاه يلائم تطلعاته أو تطلعاتها. وعالم اجتماع الأدب يهتم بهذا
الاعتبار بالدلالة التي تحملها هذه الظاهرة، أي هذا العمل الفني، وذلك بهدف
الكشف عنها. وهذه الدلالة لا تقوم في مضمون العمل الأدبي وحده ولا كذلك في شكله
وإنما في كليته كوحدة تؤلف بنية متميزة. ومع ذلك فحيثما كان ثمة إمكان لاستخلاص مثل
هذه البنية المتميزة، كان ثمة مجال لدراسة دلالة ما، أي لدراسة ظاهرة اجتماعية
ما.
هذا
التناول للعمل الأدبي قمين أكثر من أي تناول آخر، بفهم معنى التحولات
العميقة في الأدب وفي الأنواع
الأدبية، وقادر من ثم على وضع هذه التحولات في مكانها الصحيح في التاريخ الاجتماعي
والتاريخ الأدبي معاً. ففي حين أن الدراسات النقدية المحضة تكشف عن بنيان العمل الفني
ومدى تماسكه، فإن الدراسات البنيوية التكوينية لا تكتفي بذلك فقط وإنما تقدم مبرراته
وتعديلاته باستخلاصها من داخل بنية العمل الفني ذاته وبمعارضتها بالبنية الاجتماعية
التي ينتمي إليها هذا العمل للكشف عن طبيعة العلاقة بينهما ـ تماثلاً أو
تمايزاً ـ بحيث يمكن فهم طبيعة استمرار أو تحول أو انقلاب يمس الأنواع الأدبية في
لحظة ما من التاريخ. من هنا بدت لي ضرورة إضافة هذا الاتجاه إلى الأصوات الأخرى في
النقد الروائي الفرنسي المعاصر خصوصاً وأن التحليلات التي قدمها لمنجزات الرواية
الجديدة والمسرح الطليعي أسهمت أكثر من أي تحليلات أخرى في الكشف عن ضرورتها وفي تأصيلها
في حركة تطور الرواية الفرنسية بشكل خاص والرواية الأوروبية بشكل عام.
إن
الأطراف المشاركة في النقاش الدائر اليوم حول الرواية تنطلق من معايير
متمايزة في النظر إلى طبيعة
التحولات التي تمت وتتم في مجال الشكل الروائي. ومن الممكن عنونة هذه الأطراف من خلال
المبادئ الأساسية التي تتحكم في رؤية كل واحد منها الأمر الذي سيسمح لنا في نهاية هذا
العرض من تحديد مواقع الخلاف، وذلك كما يلي:
ـ إن
أساس الرواية هو إبداع شخصية روائية دون أي شيء آخر.
ـ إن
الفن الروائي هو الذي يعتمد بشكل مباشر على فكرة ما عن الإنسان في لحظة
ما من التاريخ الاجتماعي
والذي يترجم هذه الفكرة بأكبر قدر من الوضوح والدقة.
ـ إن
الشكل الروائي يتوقف إلى حد كبير على طبيعة بنية العلاقات بين الشخصيات
التي تصفها الرواية. إن التحول في
شكل الرواية يترجم بالضرورة تحولاً اجتماعياً. فالشكل الروائي هو، من بين
كافة الأشكال الأدبية الأخرى، أكثرها ارتباطاً فورياً ومباشراً بالبنى الاقتصادية
بالمعنى المحدد للكلمة وبين التبادل والإنتاج من أجل السوق. وهكذا، فبقيام الرواية أساساً على
الوحدة البنيوية: الشخصية ـ الموضوع، لا بد أن
يرافق أي تحول في هذه العلاقة على المستوى الاجتماعي بتحول على المستوى
الأدبي وبشكل خاص على مستوى
الرواية.
ـ إن
فن الرواية هو حوار بين الأنا والعالم؛ ذلك هو لحنها الأساسي اليوم كما
يقول البيريس، وبالتالي،
فحيثما توفر مثل هذا الحوار في عمل يتخذ اسم الرواية، فهو كذلك؛ وبين الأشكال المختلفة
التي نراها اليوم ليس ثمة أي تناقض وإنما اختلاف تناول.
***
((انحطاط الرواية أم انبعاثها؟)) تساؤل
يترجم إذن، انطلاقاً من جو
المفاهيم السابقة وجهة نظر ترفض أن تؤكد موقفاً ما إزاء الوضع الذي تمر به الرواية
المعاصرة. والحقيقة أن هذا التساؤل يرجع إلى عشرينات هذا القرن، مع التحولات
الروائية العميقة التي تمت في أعمال بروست وموزيل وجويس وكافكا وفوكنر. غير أنه يستعاد
اليوم بمناسبة الرواية الجديدة التي رفض أصحابها أن تصنف على أساس أنها ظاهرة
عارضة روجت لها الصحافة الأدبية أكثر مما فرضت نفسها عبر أعمال محددة وعندما بدا أن
الرواية الجديدة قد اجتازت الخط الفاصل بين الظاهرة العارضة والتيار الذي يترجم
علاقات قائمة لا يكف عن الوجود إلا بزوالها أو بتحولها، وذلك بعد عشرين عاماً من
ولادتها وبعد أن فرضت وجودها فرضاً رأى فيه البعض نوعاً من الديكتاتورية بدأت تؤثر
على حرية المخيلة لدى الروائيين الشبان على حد تعبير بيير بواسدوفر.
أزمة
رواية إذن. ولكن هذه الأزمة، كما تشهد الأعمال النقدية منذ بدايات هذا
القرن، ليست جديدة. إلا أنها تأخذ
اليوم طابعاً من الحدة يضعها أمام حدين: موت الرواية أو استمرارها في ((الرواية
الجديدة)) الأمر الذي يجعلها مع ذلك قائمة!.
وراء
هذه الحدة في الأزمة تقف الرواية الجديدة بما طرحته من رؤية جديدة
للبنية الأساسية للرواية فرضتها طبيعة
التغير الذي طرأ على بنية العلاقات في المجتمع الأوروبي. إن التغير الذي طرأ على
الشكل الروائي منذ بدايات هذا القرن يساير بشكل ملحوظ هذا التغير ويصل في مرحلته
اليوم إلى الرواية الجديدة. ولكن ما الذي يتغير بالضبط في الحياة الاجتماعية وفي
الشكل الروائي؟
يستعيد لوسيان غولدمان في هذا المال
التحليلات الماركسية لتطور
المجتمع الغربي بدءاً من ماركس نفسه الذي ((وضع في دراسته للتحولات الرئيسة الناتجة في
بنية الحياة الاجتماعية بظهور وتطور الاقتصاد، وضع هذه التحولات بالدقة على مستوى
العلاقة بين الفرد والشيء مسجلاً في زمنه بداية انتقال تدريجي لمعامل الواقع ولفعالية
الأول إلى الثاني وهو ما سماه بتوثين السلعة
Fetichisme de la Marchandise أو التشييء Reification حسب المصطلح الذي
استخدم في الأدبيات
الماركسية منذ كتابات لوكاتش. وأية محاولة للإجابة عن السؤال السابق،
وبالتالي طبيعة العلاقة بين
البنية الاجتماعية والبنية الروائية، لا بد لها من أن تأخذ في اعتبارها أربعة عناصر
حاسمة:
1 ـ
أن التشييء، بوصفه عملية نفسية دائمة، يعمل منذ عدة قرون بدون انقطاع في
المجتمعات الغربية المنتجة
للسوق.
أما
العناصر الثلاثة الأخرى فهي تحدد المظهر المباشر للتشييء ومراحله في هذه المجتمعات:
2 ـ
الاقتصاد الحر الذي احتفظ حتى بداية القرن العشرين بالوظيفة الرئيسية
للفرد في الحياة الاقتصادية،
وبدءاً منها في الحياة الاجتماعية.
3 ـ
تطور التروستات والاحتكارات ورأس المال، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر
وبداية القرن العشرين الذي
أحدث تغييراً كيفياً في طبيعة الرأسمالية الغربية تغييراً سماه المنظرون الماركسيون
((الانتقال من الرأسمالية اللبيرالية إلى الإمبريالية)). وكانت نتيجة هذا الانتقال في
نهاية العشر الأول من القرن العشرين، من الزواية التي تهمنا هنا، تعليق كل أهمية
رئيسية للفرد وللحياة الفردية داخل البنى الاقتصادية، ومن ثم في مجموع الحياة
الاجتماعية.
4 ـ
إن تطور تدخل الدولة في الاقتصاد وخلق آلية انتظام ذاتي بفضل هذا التدخل
خلال السنوات التي سبقت
الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ نهاية هذه الحرب، جعل من المجتمع المعاصر مرحلة
ثالثة كيفية في تاريخ الرأسمالية الغربية يمكن تسميتها التنظيم))1.
هذه
المراحل الثلاثة تتحدد على المستوى البنيوي كما يلي: الأولى باعتبار
الفرد (الفرد لا باعتباره كائناً
مفرداً مستقلاً وإنما بوصفه ممثلاً لملامح طبقة ولمنظومة من القيم تستند إليها هذه
الطبقة) واقعاً أساسياً للأشياء فيه أهمية أولية ولا شك ولكنها لا توجد إلا من
خلال علاقتها بهذا الفرد؛ الثانية، باختفاء تدريجي للفرد بوصفه واقعاً أساسياً
وبالمقابل بالاستقلال المتزايد للأشياء؛ الثالثة، بتكون عالم الأشياء ـ الذي فقد فيه
((الإنساني)) كل واقع أساسي، بوصفه فرداً وبوصفه مجتمعاً ـ كعالم مستقل له بنيانه
الخاص الذي يسمح وحده للإنساني أحياناً وبصعوبة أن يعبر عن نفسه.
ويبدو
من العودة إلى تاريخ البنية الروائية أن هذه المراحل الثلاث تطابق
فعلياً ثلاث مراحل كبيرة فيه: مرحلة
الوجود الفعلي للشخصية كواقع أولي (القرن التاسع عشر وروايات بلزاك
وستندال)؛ مرحلة ذوبان الشخصية الروائية (بين 1912 و1945) في روايات جويس وكافكا وموزيل والغثيان
لسارتر والغريب لكامو؛ والمرحلة الأخيرة وهي مرحلة رأسمالية التنظيم
المعاصرة التي تتسم بظهور عالم مستقل للأشياء له بنيته وقوانينه الخاصة، والذي لا
يستطيع الواقع الإنساني أن يعبر عن نفسه بمعنى من المعاني إلا عبره، يمثل هذه المرحلة
الرواية الجديدة، وبوجه خاص آلان روب غرييه الممثل الأكثر أصالة وعمقاً لها.
إن
الرواية الجديدة التي تقف اليوم وراء أزمة الرواية والتساؤل عن انحطاطها
أو انبعاثها هي إذن، من
وجهة نظر البنيوية التكوينية، التعبير الأكثر أصالة عن المرحلة الحالية من تاريخ
المجتمع الأوروبي ومآل تطور طبيعي ومنطقي داخل تاريخ البنية الروائية منذ القرن
التاسع عشر إلى اليوم. إنها ليست إذن تجديداً مجانياً في الشكل الروائي، ولا هي طلاق
للمفهوم الأساسي للرواية ـ بوصفها إبداع شخصية روائية ـ، ولا هي تفريغ للمجتمع
وللإنسان أو للواقع من حيث إذن الرواية ـ أصلاً ـ تدور حول الإنسان حياً في
المجتمع. إنما هي تجديد فرضته رؤية لواقع متغير بالمقارنة مع الواقع الذي كتبت فيه
رواية القرن التاسع عشر أو الواقع الذي كتبت فيه رواية القرن التاسع عشر أو الواقع
الذي كتبت فيه رواية النصف الأول من القرن العشرين؛ وإنما هي تطوير للمفهوم الأساسي
للشكل الروائي، من حيث أن الشكل يترجم مفهوماً ما عن الشخصية تطويراً فرضته طبيعة
التغير الحاصلة في البنية الأساسية للمجتمع والتي لا يمكن للروائي إلا أن يأخذها
بعين الاعتبار؛ وإنما هي تعبير عن رواية الروائي للواقع، فليست هي التي فرغت
الواقع من الإنسان، وإنما هو الواقع نفسه الذي اكتسبت فيه الأشياء وجوداً أولياً
على الإنسان. وبعبارة أخرى فإن ((قراءة جويس وبروست بل ولورنس مثلاً تبين أن
أشكال الحكاية والشخصيات كانت مرتبطة دوماً بلحظة ما من التاريخ، بمظهر ما من
مظاهر الحضارة، وبشكل خاص التطور الخاص بفن ما)). إن التأكيد على وجود تاريخ للشكل
الروائي يعني أول ما يعني أن المفهوم البلزاكي أو الطبيعي عن الرواية لم تكن له على
الإطلاق سلطة القانون على الرواية، تماماً كما أن فن التصوير المنظوري ليست له هذه
السلطة على فن الرسم.
إن
مبرر الرواية الجديدة اليوم لا يختلف، من حيث الأساس، عن مبرر الرواية
في بداية القرن العشرين. ومثلما
اضطر بروتس وجويس وولف وغيرهم من الروائيين في عشرينات هذا القرن أن يكتبوا
أبحاثاً أو مقالات تنظيرية لشرح وللدفع عن معاييرهم الشكلية الجديدة، كذلك يجد رواد
الرواية الجديدة أنفسهم، كآلان روب ـ غيرييه وميشيل بوتور وجان ريكاردو مضطرين
لمباشرة نفس المروع، وهو ما يفسر مقالات آلان روب ـ غرييه التي جمعت تحت عنوان ((نحو
رواية جديدة)) ومقالات ناتالي ساروت المنشورة ضمن كتاب ((عصر الشك)) وكتب جان
ريكاردو ((نحو نظرية للرواية الجديدة)) و((مشكلات الرواية الجديدة)) و((الرواية
الجديدة))، بل كذلك لأن يجتمعوا قبل سنتين طوال أسبوع كامل ليناقشوا فيما بينهم
هذا الذي صنعوه ويستمرون في صنعه: الرواية الجديدة، ولينشروا بعد ذلك نصوص حوارهم
ضمن مجلدين ضخمين. هذا المبرر يقوم بشكل جوهري على أساس أن سلطة الأشياء
واستقلالها في المجتمع المعاصر اكتسبت أولية واضحة على الإنسان بحيث غدا من المستحيل على
الروائي اليوم أن يبدع شخصيات روائية كما ينادي النقاد التقليديون لسبب بسيط
وهو أن هذه الشخصيات لم يعد لها في المجتمع الأوروبي وجود مستقل. لقد غدت ظلاً
للأشياء التي حلت محلها في الأهمية والأولية والوجود.
إن
اختفاء الشخصية بالنسبة لآلان روب ـ غرييه مثلاً واقعة قائمة؛ غير أنه
يؤكد بالمقابل أن هذه
الشخصية قد حل محلها واقع آخر مستقل ذاتياً، وهو عالم الأشياء. ذلك لا يعني إذن أنه لا
يبحث عن الواقع الإنساني. إنه يبحث عنه، ولكن هذا الواقع لن يتواجد بشكله واقعاً
عفوياً، ولن يكون ممكناً إيجاده إلا من خلال عالم الأشياء التي يعبر عن نفسه من
خلالها.
ذلك
هو بالضبط مبرر البحث عن طريقة جديدة لقول الأشياء في الوقت الراهن.
يكتب
غولدمان عن حوار جرى بينه وبين أحد النقاد في هذا الصدد: ((لقد حاولت أن
أبين أنه إذا كان هناك كاتب يقص
الأشياء بطريقة مختلفة فذلك لأن هذه الأشياء قد غدت هي نفسها مختلفة بشكل جوهري بحيث
لن يكون بوسعه أن يستخدم لقولها وسيلة كانت تستخدم قبل تغيرها. وقد انتهت
المناقشة بتحليل مقطع من رواية ((الغيرة)) لآلان روب غرييه: (لم يحدث الحذاء الخفيف ذو
النعل المطاطي أي ضوضاء فوق بلاط الدهليز). قال الناقد: ((من الواضح أن المقصود هنا
رجل غيور يسير بخطوات صامتة كيلا يحدث ضوضاء يباغت بها المرأة)). فأجبت:
((ربما، ولكن ما هو أساسي هو أن روب غرييه لم يكتب: ((رجل يسير بخطى صامتة)) وإنما
((الحذاء الخفيف... لم يحدث أي ضوضاء))، وأنه إذا كان قد فعل ذلك، فمن المحتمل أن
ذلك هو الأساسي، أعني حقيقة أن الأحذية في عالم اليوم هي التي تجر الإنسان، وأن الشيء
الجامد وليس الإنسان هو محرك الأحداث)).
من
الواضح أن الجواب كان: ((هذه مزحة مسلية وروحية ولا شك ولكنها ليست أكثر
من مزحة!)). إذ ذاك، طلبت
إلى محدثي الاختيار بين تفسيرين سأقدمهما له، وأن يقول لي أيهما يبدو له أكثر دقة
بما أن الإجابة عن المشكلة التي كنا نناقشها تتوقف على هذا الاختيار:
من
الممكن القول إنه بين تموز وآب من كل عام في الواقع، يذهب عدة ملايين من
الناس في البلاد الصناعية
المتقدمة لقضاء عطلتهم مع آلة تصوير، ويصنعون صوراً يعرضونها بعد ذلك على أصدقائهم وعلى
أفراد أسرتهم.
من
الممكن القول أيضاً أنه في كل سنة يقرر كل من مجلس إدارة كوداك والشركات
الأساسية المنتجة لآلات التصوير،
واتفاقها مع عدة وكالات سياحية نادراً ما يكون صريحاً وغالباً ما يكون
ضمنياً، أن ينتجوا عدداً من آلات التصوير تسافر عبر العالم، في حين أن عدد من الآلات
الأخرى، الموزعة في السنوات السابقة، تبقى معروضة للتداول، وإنه ما إن تتخذ هذه
القرارات حتى تنطلق الآلات في رحلة مع عدد يساوي عدد الناس الذين يخدمونها.
فأي واحد
من هذين التفسيرين يتصور بشكل أفضل الحقيقة الجوهرية لهذه الظاهرة؟
أعتقد
أن كل عالم اجتماع جدي سوف يختار الثاني، وبقدر ما يسمح به هذا التفسير
من فهم أدق للواقع فإن ذلك ينطبق
أيضاً على تعبيرها الأدبي الذي قاد روب ـ غرييه للقول: ((العلم
يتقدم)) لا أن يقول: ((الإنسان يتقدم)). والحق أننا ههنا إزاء تحول عميق لن يتمكن الكاتب من
التعبير عنه إلا على هذا المستوى من التجريد، الأمر الذي يجعل منه مفارقة بالنسبة لمعظم
الناس الذين يقرأون نصه)). (الإبداع الثقافي الحديث ص64 ـ 65).
هذا
التحول العميق هو ما تزعم الرواية الجديدة التعبير عنه بوسائل جديدة هي
وحدها قادرة على أن ترسم ملامح
المرحلة الراهنة من المجتمع الأوروبي. يكتب آلان روب غرييه: ((إذا كانت الرواية
الجديدة تصف علاقات غيور مع امرأته وعشيق المرأة بالأشياء المحيطة بهم بطريقة
مختلفة فلي ذلك لأن المؤلف يبحث عن شكل جديد بأي ثمن، وإنما لأن طبيعة البنية نفسها
التي تشترك بها كل هذه العناصر قد تغيرت. فالحقيقة أن المرأة والعشيق والغيور نفسه
قد استحالوا أشياء، وفي مجموع هذه البنية وكل البنى الأساسية في المجتمع المعاصر
تعبر المشاعر الإنسانية الآن على علاقة تملك فيها الأشياء ديمومة واستقلالاً
ذاتياًً تضيعه الشخصيات بالتدريج)).
غير
أن نقطة الخلاف هي هنا بالضبط. فوراء الاختلاف الأساسي في رؤية وتفسير
الظواهر الاجتماعية والنفسية في
المجتمع المعاصر، هناك الاختلاف حول تحديد مفهوم الرواية أصلاً. فالذين يعرفون
الرواية إبداع شخصيات روائية هم بالضبط من يرفضون الرواية الجديدة، لا في
إنجازاتها الشكلية والتقنية فحسب وإنما في بنيتها كلها بما هي رؤية للعالم ((مختلفة)).
إنهم لا يقبلون الرواية إلا عندما تشكل امتداد مستقيماً لرواية القرن التاسع عشر، وإلا
عندما يكتشفون في هذا المقطع أو ذاك لهجة بلزاكية أو حواراً داخلياً ستندالياً،
وإلا عندما تجعلهم الرواية ينسون أنفسهم ولحظتهم الحاضرة ما أن تقلب أيديهم الصفحة
الأولى من الكتاب فتستغرقهم خيوط الأحداث المتتابعة وتحليلهم هم إلى أبطال، في عالم آخر
لا علاقة له بعالمهم. ومع أن هؤلاء مثلاً يستشعرون مدى التغيرات العميقة التي
طرأت على المجتمع الأوروبي خلال المائة سنة الأخيرة فإنهم لا يجدون أي ضرورة لزوال
الشخصية من الرواية وهي تشكل محورها. يكتب بيير بواسدوفر في مقاله ((مناقشة الرواية
ومستقبل الأدب القصصي)):
((الرواية ليست ظاهرة معزولة، إنها
فعل اجتماعي. أزمتها هي أزمة
حضارتنا. لقد قامت المجتمعات التي سبقت مجتمعنا حول مفهوم عن الإنسان وعن العقل وعن
الطبيعة وعن علاقاتنا مع العالم كان على حظ من الوثوق والثبات بحيث صلح ملجأً
نفسياً وأخلاقياً لكل جيل. أما اليوم فإن هذه الملاجئ ـ الأمة والكنائس
والمدرسة والكتاب ـ ليست سوى أبنية مهزوزة. منذ أمد قريب، منذ قرن، رأينا العلوم والفلسفة
ثم الفنون والأخلاق تمزق هذه الصورة المريحة والمطمئنة إلى حد بعيد لأرض صورت على
أنها حماية ضد الموت. ويبدو أنه ليس من الممكن أن نحيا وأن نفكر بحرية إلا عبر
معارضتنا الجذرية لا للمجتمع فحسب وإنما للواقع أيضاً..))، ومع ذلك ((فالرواية
الفرنسية من ستندال حتى بلزاك، إلى زولا، إلى برنانو وحتى سيلين، بل وحتى مالرو لم تكف عن
الرجوع إلى الإنسان، عن الكشف عنه حياً في هذا المجتمع في هذا المكان أو ذاك من
العالم)).
إن
الإتفاق ما إن يبدو كاملاً في الكلمات الأولى من هذا المقطع حتى يستحيل
إلى اختلاف، بين رؤية الرواية
الجديدة ورؤية الرواية التقليدية. فالرواية فعل اجتماعي، تلك نقطة لا خلاف عليها بين
الطرفين. وأزمتها هي أزمة حضارة، وذلك صحيح. والانقلاب الحاصل بين مفهومين عن
الإنسان، بهذه النظرة الحضارية واضح أيضاً. ولكن عدم التمييز بين موقف بلزاك وستندال
مثلاً من الإنسان من جهة وموقف مالرو من جهة أخرى هو محل الاختلاف. صحيح أن
الرواية لم تكف بشكل عام عن الرجوع إلى الإنسان أيضاً؟ هل يعني ذلك أن الرواية الجديدة
كفت مثلاً عن الرجوع إلى الإنسان أيضاً؟ هل يعني ذلك أن الرواية الجديدة كفت عن
البحث عن الواقع الإنساني؟. إن إجابة هذا السؤال تتطلب بالطبع عودة مباشرة إلى
النصوص، وذلك ممكن في كل وقت. ولكن لنعد ببساطة إلى المقطع الذي أورده غولدمان في
معرض مناقشته، فسنرى أن الواقع الإنساني يختفي وراء واقع أكثر حضوراً هو واقع
الأشياء الساكنة، وأنه لا يستطيع أن يرى وأن يعبر عن نفسه إلا من خلال هذا الأخير.
ثمة شيء ما إذن قد تغير فأوجب على الروائي المعاصر أن يعبر عن تغيره. إن نفس المقارنة
بين رواية ((الأب غوريو)) لبلزاك و((الوضع البشري)) لمالرو سوف تقودنا إلى نفس
النتيجة. هذا التغير لم يكن على مستوى الواقع الاجتماعي والتاريخي فحسب ولا
كذلك عبر مضمون كل الروايتين وإنما في معمار وجمالية كل منهما. وبإيجاز، في نظرة كل منهما إلى
الإنسان، وإلى وضعه في المجتمع وإلى علاقته به. والحق أن بين ((الوضع
البشري)) وبين ((المماحي)) لروب ـ غرييه هذه المسافة أيضاً. ذلك أنه يترتب علينا في أي تحليل
لتاريخ بنية اجتماعية أو بنية فنية أن نحسب حساب
درجة تسارع التطور والتحول. إن معدل هذه الدرجة قد تضاعف مرات عديدة
خلال المائة سنة الأخيرة، بل إنه
يصل إلى معدل خيالي بالمقارنة مع معدل القرن الماضي اعتباراً من نهاية الحرب
العالمية الثانية. فلا غرابة والحالة هذه مثلاً أن يكون معدل التغير بين ((الأب غوريو))
و((الوضع البشري)) أقل بكثير منه بين هذه الأخيرة وبين ((المماحي))، لا بل بين ((المماحي))
وبين آخر رواية لآلان روب ـ غرييه وأعني بها ((مشروع من أجل ثورة في
نيويورك)) (1971)، أو بين أول رواية جديدة في عام 1954 وبين رواية ((H)) لفيليب سوللر التي يروق اليوم
لنقاد الملاحق الأدبية تسميتها بالرواية
الجديدة الجديدة. ومن هنا فلا معنى للقول مثلاً مع دومينك مانغنيو: ((أن
الرواية الجديدة لم تفلت من
القانون العام: هناك ما بعد الرواية الجديدة!)).. ذلك أنه في حال تأكيدنا لهذا
((المابعد)) إنما نؤكد في الوقت نفسه معدل التسارع هذا ومشروعية التغيير على مستوى
الرؤية الجمالية التي تترجم بالضرورة رؤية اجتماعية، إذا كانت هي وحدها كفيلة بالتعبير
عن مثل هذا التغيير.
إزاء
هذا التعليل يشهر دعاة الرواية التقليدية حجة تبدو للوهلة الأولى قاطعة:
ولكن من يقرأ الرواية الجديدة؟
في
تعليل بواسدوفر أن الرواية الجديدة ((لا تهم حقاً سوى الأساتذة الأعزاء
الذين يعلقون عليها في
ندواتهم وحلقاتهم الدراسية، واستمرارها كان بوصفها ظاهرة في التاريخ الأدبي خلال
العشرين سنة الفائتة)). فالرواية الجديدة ـ كما يقول ـ مارست ديكتاتورية ـ عبر ادعاء
أصحابها أن الرواية التي يكتبونها هي الرواية التي تسجل الواقع بصدق في حين أن
كل ما عداها من روايات تقدم صورة مزيفة عن الواقع لسبب بسيط وهي أنها لا تختلف عن
روايات القرن التاسع عشر معماراً ورؤية للإنسان ـ سببت "هذا العزوف المتزايد من قبل
الجمهور عن الرواية وجعلته يلتفت إلى السينما والتاريخ، في حين أن الرواية المقروءة هي
الرواية التقليدية بالمعنى الفعلي للكلمة كرواية
كريستين ريفواييه (بوي) التي بيع منها مائتي ألف نسخة في الأسابيع
الأولى من نشرها. صحيح ـ يقول بواسدوفر ـ
أن قراءة هذه الرواية هم في معظمهم قراء مجلتي ((إل (و(ماري كلير) ـ وهما مجلتان
نسائيتان مكرستان للاهتمامات النسائية وبشكل خاص آخر صرعات بيوت الأزياء
الباريسية الشهيرة ـ ((إلا أن على الروائيين أن يفكروا ملياً في أسباب هذا النجاح))!.
فبما أن الرواية التقليدية هي المقروءة، وأن الرواية الجديدة لم تتمكن من فرض نفسها
على القراء، فالرواية الجديدة قد ماتت!.
"
هذا
الحكم يرفضه نقاد الرواية الجديدة رفضاً قاطعاً. إن حضور الرواية
الجديدة لا شك فيه
في رأي جورج رايار بدليل أن الروائيين الذين بدأوا في عام 1954 ما
يزالون يكتبون، وأنه قد صدرت خلال
السنة الأخيرة فقط ثلاث روايات لثلاثة من أركان الرواية الجديدة (ممرّ إلى ميلانو)) لميشيل بوتور،
((ثلاثية)) لكلود سيمون ((بعد عشرين عاماً)) لكلود
أولييه، على الرغم من أن مبيعات هذه الروايات لا يصل إلى مبيع رواية
(بوي). على أن جان ريكاردو يعترض على
صيغة طرح مسألة وجود الرواية أو موتها من خلال عدد القراء. فقراء مالارميه مثلاً لم يتجاوز
عددهم مائة قارئ أثناء حياته، ومع ذلك فإن ما حققته أعماله من تحويل
إيديولوجي لم تحققه أعمال معاصرة له طبعت وبيعت بمئات الألوف. عن المشكلة الحقيقية في
رأيه هي أن الرواية الجديدة قد استطاعت، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق، أن
تحقق تغيراً جذرياً، أنها لم تستطع مع ذلك تغيير النظرة التقليدية السائدة
للرواية لدى القارئ. تلك حقيقة، لكن من المؤكد أنه لا يمكن تغير مثل هذه النظرة خلال
عشرين سنة لأنه إذا كانت النظرة التقليدية للرواية هي السائدة، فذلك لأن الإيديولوجية
السائدة، في التعليم الثانوي والجامعي الرسمي هي إيديولوجية الطبقة السائدة، الطبقة
البرجوازية، التي تثبت هذه النظرة وتؤكدها بشتى الوسائل.
على
أن تفسير ناتالي ساروت لعدم قراءة الناس الرواية الجديدة أو لعدم فهمهم
لها يخرج من الإطار الإيديولوجي
الذي يقدمه جان ريكاردو. تقول: ((إن العادات النفسية والبنى والأطر العقلية القديمة
المستمرة في وعي معظم الناس تحول بينهم وبين إدراك الواقع الجديد الذي يقوم
فعلياً حياة الناس اليومية بالرغم من أن نسبة منهم غير واعية بذلك)). الأمر الذي
يحول بينهم وبين فهم المرامي الأساسية في هذا التطور العميق الذي طرأ على معمار
الرواية مع آلان روب غرييه وبوتور وغيرهما، هذا التطور الذي لم يكن ـ من وجهة نظر
اجتماعية وجمالية معاً ـ طفرة بالنسبة لما سببته، وإنما تسلسلاً منطقياً وطبيعياً تم
عبر هذا الإدراك العميق لكبار الروائيين من بلزاك إلى غرييه مروراً بجويس وبروست
ومالرو وكافكا لطبيعة التغير الذي كان يمر به المجتمع الأوروبي، والذي كان ينتقل إلى
مستوى الشكل الروائي تغيراً موازياً وضرورياً.
على
أن ما يلفت النظر ـ بالمقابل ـ في سلسلة التعليلات التي يسوقها بيير
بواسدوفر لحكمه على الرواية الجديدة
بالموت قوله: إن التجديد الذي يثير بعض الفرنسيين لم يكن له مبرر لأنه في الوقت
الذي كان فيه الفرنسيون يكتشفون فوكنر وهمنغواي كانت أمريكا تكتشف نفسها عبر روايات
هنري جيمس ومارسيل بروست!.
ولكن،
إذا كان الفرنسيون يكتشفون وتكتشف أمريكا بروست ـ والمقصود طبعاً في
ثلاثينات هذا القرن ـ، فإن كلاً من
فوكنر وبروست في ذلك الحين كانا يمثلان قمة التجديد في فن الرواية.
ثم،
إذا كانت أمريكا تكتشف نفسها في بروست في ثلاثينات هذا القرن، فكيف نفسر
إذن أنها تكتشف نفسها في روايات
آلان روب غرييه التي تضرب اليوم فيها الرقم القياسي في المبيع والقراءة كما
يقول روب ـ غرييه نفسه؟. هل يعني ذلك موت الرواية الجديدة في فرنسا وانبعاثها في
أمريكا؟.
من المؤكد أن تعليلات تأخذ
هذا المنحى لإصدار حكم ما لا تأخذ بعين الاعتبار عناصر عديدة قد تغير طبيعة
المناقشة أساساً. هذا فضلاً عن أن أي مناقشة لا تستند إلى تحقيقات عملية تظل
حبيسة التخمين والظن أكثر من أن تكون نتيجة تعليل ذي طابع علمي.
على
أنه عندما يرفع نقاد الرواية التقليدية راية الإنسان والواقع الإنساني
في وجه الرواية الجديدة، بدعوى
أنها تفرغ هذا الواقع وتحيله إلى جماد، وبالتالي تنكره، فإن هذه الحجة تفقد بريقها
عندما يؤكد الرواة الجدد بالنص أنهم لم يتخلوا عن هذا الواقع الإنساني، بل إن المبرر
الأساسي لمشروعهم هو البحث عن هذا الواقع وجعله يعبر عن نفسه. فإذا كان لا
يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا من خلال واقع الأشياء الذي اكتسب، بفضل البنية الاقتصادية
للمجتمع الراهن، أولية واستقلالاً ذاتياً، فليسوا هم، بوصفهم كتاباً، من يغير
هذه البنية. وأي محاولة للادعاء بأن الواقع الإنساني ما يزال يحافظ على أوليته
واستقلاله الذاتي إزاء عالم الأشياء، والتعبير بالتالي عنه على هذا الأساس، إنما
تتضمن تجاهلاً أو جهلاً بهذا الواقع.
على
أن البيريس ينحو في مناقشته منحى آخر. إنه لا يتحدث باسم الرواية
الجديدة أيضاً، وإنما يتحدث بوصفه
ناقداً عليه، بحكم هذه الصفة، أن ((يتبنى قضايا متعارضة إذا ما أراد أن يحسب حساب كافة
التيارات الأدبية الكبرى في الوقت الراهن)). إنه إذن يبسط أمامه ملف الرواية
الجديدة وملف الرواية التقليدية خلال الأعوام الفائتة يجد أن في صالح الأولى ((المبادرة
والمهارة والأصالة التي لا تخشى الاعتراض الذي يرفع في وجهها بالغموض. فمبدؤها
الأساسي يقوم على اللغة، لغة فاليري المقدسة التي وجدت قبل كل الأشياء، السابقة
على الإنسانية والتي بها ولدت الإنسانية في تحول مفاجئ)). ولهذا فإن قضية الرواية الجديدة
قابلة للدفاع عنها، من هذه المنطلقات بالذات، فيما عدا نقطة واحدة، هي
تأكيد كتابها أن كل رواية لم تكتب من قبل واحد منهم ليست سوى تكرار لعدد من الصيغ
البالية التي تمثل الصيغ ((البورجوازية)) للرواية، وبالتالي ((فإن كل من ليس منهم فهو ضدهم)).
يقول البيريس: ((تلك قطيعة تامة يريد أن يستهلكها
الروائيون الجدد، وهم خلفاء بروست وكافكا، وبشكل خاص جيمس جويس فيما
يتعلق بالتقسيم والقطع، وكذلك أصحاب
مجلة تل ـ كل Tel – Quel الذين استعاروا من
فاليري عنوان مجلتهم، والذين يعتبرون
أنه لم يوجد أحد قبلهم غير المركيز دوساد محرر الوعي الأخلاقي، ونرفال،
الشاعر الذي عرف أن يوحد بين الحياة والحلم، وفلوبير فنان اللغة المجد). أما ملف
الرواية التقليدية ـ والمجددة مع ذلك في رأي البيريس ـ فإنه لا يقل أمية عن ملف الرواية
الجديدة، ويضرب البيريس أمثلة محددة على سبيل التعداد: فرانسوا نوريسييه في ((أزرق
كالليل)) وفي ((رب البيت))؛ برونوغي لوساك في ((الصالون الأزرق))؛ روبير
كاتربوانت في ((يوميات كائن بشري))... هؤلاء وعديدون غيرهم، إنما يعزفون، ولو بطريقة
مختلفة، نفس اللحن الذي يعزفه أصحاب الرواية الجديدة أو دعاة التجديد في الكتابة.
من
الصحيح أن تجديدهم يتم ضمن إطار الرواية التقليدية ـ كما يقول البيريس ـ
وإن بوسعنا بالتالي أن نتلمس في
هذه الرواية أو تلك بعض اللهجات الدستويفسكية أو الجيرودية (نسبة إلى جيرودو) إلا أنهم
يستخدمون مع ذلك نفس اللغة التي يستخدمها المجددون للتعبير عن هذا الحوار
العميق بين الأنا والعالم الذي يؤلف لحن الرواية الأساسي في هذا العصر. وإذا كان
هؤلاء يكتبون روايات بأسلوب السير الذاتية فيجددون بذلك معمار الرواية نفسه، فإن دعاة
الرواية الجديدة يبدعون هم أيضاً سيرة ذاتية للكتابة!.
مجددون وتقليديون مجددون أيضاً. هؤلاء
يبحثون في سدم اللغة، وأؤلئك
يسبرون سدم الحساسية؛ ولا تناقض في ذلك. إنما الاختلاف هو اختلاف نزعة بين دراسة لنسيج
اللغة يقوم بها فيليب سوللر مثلاً وبين استخدام اللغة يمنح روايات كاتب كنوريسييه
سحراً خاصاً. إنه اختلاف إذن في طريقة التجديد، والأزمة، نتيجة، لا وجود لها كما
يرى البيريس. إن الرواية مستمرة!.
ولكن
هذا التأكيد نفسه هو، أساساً، موضع النقاش. إن قبول البيريس بتجديد نسبي
دون إهمال المفهوم الأساسي
للرواية البلزاكية يواجه بالرفض من قبل دعاة الرواية الجديدة. ففي رأي هؤلاء أن المشكلة
لا تكمن في تجديد الأدوات التعبيرية وإنما في رؤية الواقع. وأنه على أولئك الذين يعترفون
بتغير هذا الواقع أن يثبتوا ذلك فعلياً في التعبير عن رؤيتهم لهذا التغيير.
ذلك هو الطريق الوحيد لإدراك عمق هذه الرؤية وجدارتها أساساً.
هل
تنحصر المشكلة إذن في قضية العلاقة بين بينة الرواية الأساسية (لشخص
والموضوع) وبنية المجتمع
الاقتصادية كما يؤكد لوسيان غولدمن؟
إن
مسار الحوار يدفع التفكير بهذا الاتجاه. ومع ذلك فثمة من يؤكد: أن
الرواية التقليدية قد ماتت،
والرواية الجديدة هي التي أجرت مراسم الدفن. لكن الرواية الجديدة نفسها، هي الآن
في طريق مسدود!.
يرد
جيروم ليندون مدير منشورات مينوي
((Minuit)) الذي نشر معظم أعمال الروائيين الجدد بقوله: "الرواية
الجديدة في طريق مسدود؟. منذ عشرين عاماً وأنا أسمع هذا الكلام. وأظن أن ذلك صحيح. فالأدب الحي يجد
نفسه دوماً أمام طريق مسدود. أن علينا أن نتخيله
كما لو كان شيئاً يحفر في أرض، ويجد لنفسه دوماً إزاء جدار ما. غير
الأرض تنحفر والجدار يتراجع والطريق
يشق. عن الأدب الذي لا يتساءل في كل خطوة: والآن؟ لا أهمية له.
إن
صموئيل بيكيت وروب ـ غرييه يخيبان دوماً آمل قارئهما. فهما يكتبان أشياء
لا يفهمها الناس. ولكن هل يعني أن
الرواية الجديدة ميتة؟. إنه حكم بلا حيثيات يرغمنا على الاعتراف بأنها
توجد".
والآن؟. ذلك هو السؤال الذي تحاول
الرواية الجديدة أن تجيب عنه
باستمرار. ولكن متى كانت الرواية في معزل عن الأزمة التي تمس وجودها بالذات وتحيله
إلى إشارة استفهام؟.
ومع
ذلك فإن الحوار الذي استعرضنا في الصفحات السابقة مختلف جوانبه يظل
هامشياً إذا لم يطرح السؤال الأساسي:
ماذا تحقق الرواية الجديدة اليوم. ما الذي حققته الرواية من قبلها؟
إن
المشكلة، على كل حال، ليست مشكلة تجديد مجاني يخضع للقبول أو الرفض وفق
معايير متفاوتة، وإنما هي
مشكلة بناء رؤية للواقع الراهن. ومن هذه الزاوية فإن الرواية الجديدة تعبر عن خط
سياسي واجتماعي أي محاولة لتجاهله تلقي بها في تهمة الغموض، وتبقى في النهاية عاجزة
عن رؤية المرمى الحقيقي لأي تحول في الأدب.
إن
منهج البنيوية التكوينية يبدو بهذا الاعتبار الباصرة الوحيدة التي حاولت
أن تدرك معنى التحول الذي تنجزه
الروائي الجديدة اليوم على صعيد الشكل الروائي وعلى صعيد البنية الروائية، دون
أن تحطم بذلك وحدة العمل الأدبي واستقلاله الذاتي العزيز على النقاد، مؤصلة إياها في
تاريخ الرواية الأوروبية وفي تاريخ البنية الاجتماعية معاً.
لقد
كان السؤال يدور حول انحطاط أو انبعاث الرواية. ولكن ألا يجب أن يدور
بالأحرى حول كيفية هذا التطور وعلاقة
هذا التطور بالظرف التاريخي والاجتماعي الذي يكتب فيه العمل الروائي الجديد،
بما أنه في أساس كل تساؤل راهن عن الأمة؟.
باريس
ـ بدر الدين عرودكي
** هذا النص وكل النقاط الرئيسية التي تعرض مشاركة غولدمان وبالتالي وجهة نظر
المنهج البنيوي التطوري، مستقاة من كتبه
التالية:
نحو علم اجتماع للرواية Pour une sociologie du roman
الإبداع الثقافي في المجتمع الحديث
La création
culturelle dans la société moderne
الماركسية والعلوم الإنسانية Marxisme et sciences humaines
البنى العقلية والإبداع الثقافي Structures mentales et création cultureuelle
|
|
رسالة
باريس الحياة الثقافيّة ـــ بدر الدين عرودكي
مجلة
الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 3 تموز 1974
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire