حول الوضع
الثقافي والإبداع الأدبي
3
هوية العمل
الأدبي أساساً*
بدرالدين
عرودكي
هوية العمل الأدبي هي الأساس. لماذا؟
في مقال سابق، حاولت أن أحدد النقاط الأساسية في أزمة الثقافة العربية
التي أوجزتها بأنها أزمة ثقافة بلا هوية. وفي مقالي الأخير "هوية العمل الأدبي
بين المحليّة والعالميّة" حاولت كذلك أن أوضح المفاصل الأساسية لما أعنيه
بهذا المصطلح "هوية العمل الأدبي" الذي هو تحديد أدق لما يسمى
"المحلية" وانتهيت إلى أن (الهوية) معيارٌ نقديٌ أساسي في أية عملية
نقدية تتناول أعمالاً أبداعية. إن هدف هذا المقال إذن تقديم مبررات هذا المعيار
كأساس نقدي.
لعل الفارق
الأساسي بين عصر النهضة الأوربي الذي بدأ في القرن الخامس عشر، وبين ما يسمى بعصر
النهضة العربي الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، هو أن النهضة الأوربية قامت
على أساس قراءة جديدة للتراث الإغريقي، مهملة كل الشروح المتراكمة عبر العصور
لنصوص هذا التراث. في حين أن النهضة العربية قامت على أساس انفتاح غير محدد على
الحضارة الغربية الحديثة التي كانت تنطوي على كل بذور الحضارة المعاصرة في القرن
العشرين على كافة الأصعدة. ولقد أدى وجود هذا الفارق إلى أمرين هامين: الأول أن البرزخ
الفاصل بين بداية عصر النهضة العربية وبين لحظة غروب الحضارة العربية الإسلامية في
هذه المنطقة، والذي استمر أكثر من أربعة قرون، قد ظل قائماً على الرغم من كل شيء.
إذ لم تكن هناك أية محاولةٍ لإعادة قراءة هذا التراث مجدداً، بعيداً عن شروحه
المتراكمة. لاكتشاف مفاصل الحضارة العربية الإسلامية الأساسية، وظلت كل نصوص هذا
التراث، بدءاً من القرآن وانتهاءً بأشعار المتنبي والمعري، نصوصاً تفهم في ضوء هذه
الشروح، الأمر الذي لا يمكن أن يؤدي إلى أي تغيير في البنية العقلية لواضعي هذه
الشروح ذاتها، وهي بنية عقلية متخلفة بما لا يقاس عن الواقع الحضاري الراهن.
والثاني أن محاولات عبور هذا البرزخ بأدوات غربية، تحت تأثير الانفتاح الثقافي على
الغرب، وإن كانت رائدة وجديدة ومثمرة في بعض الأحيان (كمحاولات طه حسين في بحثه عن
حقيقة الشعر الجاهلي ومحاولة العقاد دراسة كبار الشعراء اعتماداً على المناهج
النفسية الحديثة كدراسته لابن الرومي وأبي نواس) إلا أنها لم تكن قادرة على إحياء
هذا التراث إحياءً يضع بذور حضارة عربية جديدة تمتد جذورها في الماضي البعيد، ولا
تقطع أسبابها بواقع العصر الحديث. ويمكننا أن نشهد نتائج ذلك كله في عدد من
المواقف الفكرية والأدبية في الوقت الحاضر. فلقد أدى وجود هذا البرزخ إلى وهم مضلل
تجلى في فكرة العصر الذهبي العربي، هذه الفكرة التي استنفذت وما تزال جهود العديد
من المفكرين والباحثين العرب المعاصرين، ومفاد هذه الفكرة أن حقيقة الأمة لا تتجلى
في تراثها، وأن هذا التراث، بكل ما يطرحه من قيم فكرية وسياسية وفنية واجتماعية،
تراث يمكن أن تعاد الحياة إليه، باعتباره الحقيقية الوحيدة المثلى، بمجرد نفض
الغبار المتراكم عليه عبر قرون وقرون. في
حين أدت محاولات عبور هذا البرزخ بأدوات غربية إلى أن يتقوقع أصحابها
ضمن الأطر التقليدية بمجرد أن هبَّت رياح التجديد. وهكذا غدا ثوار الأمس محافظي
اليوم. وليس أدلَّ على ذلك من موقف عباس محمود العقاد يوم أحال أشعار صلاح عبد
الصبور إلى لجنة النثر للاختصاص! وهو الذي قاد أول معركة نقدية ضد المفاهيم
الشعرية التقليدية التي كان شوقي خير معبِّرٍ عنها. ومن ناحية أخرى، فقد أدت هذه
المحاولات إلى أخطاء لا نهاية لها.
فنحن نعلم مثلاً أن العرب قد عرفوا المقامة والرسائل
الأدبية والأحاديث الأدبية والحكايات (مقامات الحريري، مقامات الهمذاني، الإمتاع
والمؤانسة للتوحدي، البخلاء للجاحظ، كليلة ودمنة لابن المقفع)، لكنهم لم يعرفوا
المسرح أو الرواية أو القصة القصيرة. ومع بداية عصر النهضة العربي، بدأ العرب
يتعرفون هذه الأنواع الأدبية الراسخة في الغرب، ثم مالبثوا أن أنتجوا في هذه
الأنواع إنتاجاً متفاوتاً في قيمته الفنية، وإن بات يشكل حقيقة قائمة من حقائق
الأنواع الأدبية في أدبنا الحديث. وهنا نشأ برزخ جديد بين (المقامة) وبين (القصة
القصيرة)، بين (الحديث الأدبي) وبين (المقالة)، أدى بالنتيجة إلى عدم الاعتراف
بالمقامة لأنها ليست قصة قصيرة في حين أن المقامة نوع أدبي عربي خاص يمكن مقارنته
مع القصة القصيرة "على سبيل المقارنة وليس على سبيل المفاضلة" كما يقول
خلدون الشمعة في مقاله الممتاز (الاستكشاف النوعي للأشكال الأدبية في التراث
العربي). وبعبارة أخرى فقد أدت محاولات عبور البرزخ إلى التراث العربي إلى رفض هذا
التراث بالنتيجة وهجره نهائياً سواء على صعيد القيم الفنية التي يتميز بها أو على
صعيد القيم الوجودية التي تؤلف قوام
رؤيته.
لقد أدى ذلك كله إلى اضطراب في المفاهيم والمعايير
النقدية كان من شأنه عدم قدرة النقد العربي على اصطناع منهج أساس يمكن أن تدرس به
الأعمال الأدبية الحديثة في الرواية والقصة والمسرح، دون أن يعتمد على المناهج
النقدية الغربية، سواء تناولت هذه المناهج دراسة الأنواع الأدبية كفنون، أو
دراستها كمضامين فكرية واجتماعية وتاريخية.
** ** **
ولذلك فإن معيار الهوية، بالمعنى الذ حددته في المقال
السابق، يبدو أساساً لا غنى عنه في أية محاولة نقدية تتناول عملاً أدبياً حديثاً
لكاتب عربي. فهو إذ ينطوي على عنصر الصدق الفني الذي هو انسجام الصياغة الجمالية
مع الحقيقة الاجتماعية المطروحة عبر هذه الصياغة، وعلى عنصر المحلية الذي هو عبارة
عن الإطار الزماني والمكاني للعمل الأدبي من جهة، والواقع بكل تراثه وقيمه ورصيده
الثقافي والفني من جهة أخرى، إنما يستطيع أن يمهد بداية اعتبار أي عمل أدبي، وأن
يكون الأرضية الأساسية التي ينقد هذا العمل استناداً إليها في شكله وفي مضمونه
سواء بسواء.
** ** **
ومن هنا فإن المبرر الأساس لهذا المعيار النقدي
"الهوية" هو محاولة عبور هذا البرزخ
القائم بين ثقافتنا الحديثة في وضعنا الراهن وبين التراث العربي، وذلك عن
طريق دراسة تهدف الاستكشاف النوعي للأشكال الأدبية في التراث العربي ـ كما حدد منطلقاتها خلدون
الشمعة في مقاله المذكور ـ ، والإسهام النقدي عبر دراسة الأعمال التي تحاول مثل
هذه العملية على صعيد الإبداع الأدبي، في تحديد ملامح متطورة لأنواع أدبية عربية
تقدم الواقع الاجتماعي عبر صياغات جمالية تنسجم وهذا الواقع، وتشكل في الوقت نفسه إضافة لما عرفه العالم في مجال الابتكارات
الفنية والجمالية على صعيد الأشكال الأدبية.
ويبدو هذا المبرر سياسياً بقدر ما هو حضاري أو ثقافي.
ولا غرابة في ذلك، ما دمنا ننطلق من الصبغة السياسية (بالمعنى الواسع للكلمة) لأية
فعالية إنسانية وما دمنا ننطلق من تقرير حقيقة واقعة ذات دلالة سياسية بعيدة المدى،
وأعني بها افتقار الثقافة العربية المعاصرة لهوية محددة.
بيد أن المبررات الأخرى لهذا المعيار إنما تتجلى في
الإمكانات التي يتيحها للنقد الأدبي، لا في تناوله للأعمال الأدبية الحديثة وحسب،
وإنما في تناوله لكل الأعمال الأدبية التي تؤلف التراث الأدبي العربي أيضاً
واستناداً إلى قواعد أساسية سوف أتحدث عنها فيما بعد.
ويمكن تحديد هذه الإمكانات ـ مبدئياً ـ بما يلي:
ــ الكشف عن أصالة الأعمال الأدبية في الماضي البعيد
والقريب، أي في التراث وفي النتاج الحاضر؛
ــ تحديد خطوط تطور الأشكال والتقنيات الفنية لمختلف
الأنواع الأدبية من حيث وجودها وجدتها، ومن حيث ارتباطها بالواقع (والواقع هنا هو
المحصلة الثقافية والاجتماعية والقيمية والسياسية والاقتصادية في لحظة تاريخية
معينة)؛
ــ الكشف عن القوانين التي تربط تطور الأشكال الفنية
بتطور الواقع السياسي والاجتماعي؛
ــ تهميش كل الأعمال الأدبية (وضعها على الهامش) التي لا
يتوفر فيها عنصر الصدق الفني. إذ أن افتقار هذه الأعمال للصدق ينفي علاقتها بالواقع ومن ثمَّ تعبيرها عن هذا
الواقع (وإن كان لوجودها دلالات تلقي ضوءاً على طبيعة هذا الواقع)؛
ــ تحديد ملامح الشخصية العربية في عصرنا الراهن. إذ
لابد لنا أخيراً أن ننتقل في الحديث عن
هذه الشخصية من مجر الحديث عن فكرة سديمية غير محددة الملامح والمقومات إلى الحديث
عنها كحقيقة واقعة، مهما كانت هذه الحقيقة.
** ** **
إن قيمة كل عمل أدبي سوف تتحدد إذن بتحديد هويته. إذ ليس
ثمة عمل أدبي يحمل قيمة إنسانية مطلقة ـ إن صح ووجدت مثل هذه القيمة ـ إلا وكان يحمل
هوية المجتمع الذي يطرح مشكلاته في لحظة تاريخية وحضارية ما. وهذه القيمة واقعية، بمعنى
أنها تنطوي على أبعاد تاريخية وسياسية واجتماعية وأدبية في الوقت نفسه. وواقعيتها هي
التي تسمح بتحديد عمر العمل الأدبي، ومدى قدرته على التأثير. ولذلك، فإن قيمة الأعمال
الأدبية التي لا هوية لها ليست واقعية وإنما هي قيمة ذات بعد تاريخي فقط، تسمح لنا،
استناداً غلى معيار الهوية ذاته، بفهم مبررات وجود هذه الأعمال، في لحظة تاريخية ما.
هذا المبررالأخير سوف يتيح لنا فرصة القيام بتمييز أساسي
بين مختلف الأعمال الأدبية، لم يوله النقد العربي المعاصر من الاهتمام ما يستحق.
غير أن هذه المبررات جميعاً تطرح في النهاية سؤالاً أساسياً:
من الذي يحدد هوية العمل الأدبي: هل هو الناقد المعنيُّ بفنية العمل الأدبي، أم ذلك
الذي يُعنى بكلية هذا العمل، أم مؤرخ الأدب، أم عالم الاجتماع الأدبي؟
* نشر هذا المقال في مجلة "الطليعة" السورية،
العدد 244، الصادر بتاريخ 20 آذار/مارس 1971، ص. 32 ـ33.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire