mardi 30 décembre 2014


ثورة السوريين: الأمل ساطعاً لا يزال..

بدرالدين   عرودكي
 


على الرغم من أننا "محكومون بالأمل" كما كان سعد الله ونوس يقول إلا أننا كنا، في سوريا، على وشك فقدان الأمل حين كنا نشهد ما يحدث في ميادين تونس والقاهرة وبنغازي وصنعاء..
لكن أطفال درعا وشباب دمشق أحيوه ساطعاً. إذ سرعان ما ترددت الأصداء في أرجاء سوريا كلها وبلا استثناء. وتناهت إلى أسماعنا نحن الذين كنا نزعم معرفة بلدنا قطعة قطعة أسماء قرى وبلدات لم تطرق من قبل آذاننا. وكأنما انبثقت الجغرافية في تلاحم وعلى موعد مع التاريخ في حضرة بدهيات إنسانية أريد لها أن تبقى في غياهب النسيان: الحرية والكرامة.
شبانٌ سوريٌون في عمر زهور الربيع يخرجون لا يملكون سوى حناجرهم والورد في أيديهم يواجهون به الرصاص الحيّ وهم ينادون بهذا الحّق الطبيعي. كان ذلك هو الحوار الوحيد المُتاح. وفي كل مكان. وكان المُحَرّمُ الأكبر ماثلاً في تقنية المواجهة المادية: لا مكان لميدان تحرير آخر في سوريا، مثلما كان حاضراً أيضاً في المواجهة الإعلامية: مؤامرة كونية أدواتها التكفيريون وأبناء القاعدة.
كانوا يسقطون كل يوم قتلى على مذبح هذا الحق. فرادى وجماعات. وكانت آلة القتل كل يوم تتمدد وتتكاثر وتتفنن.
كانوا يُقتلون على التتابع : بالرصاص ثم بالصواريخ ثم بالبراميل على أيدي النظام؛ وعلى لسان "مثقفي" الثورة والحداثة لأنهم يخرجون في مظاهراتهم من المساجد! وبعد ذلك على أيدي من تقدموا ممثلين لهم في المحافل الدولية، ثمَّ على أيدي معظم من أطلقوا على أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري"..فكانت النتيجة حتى الآن ما ينيف عن ثلاثمائة ألف قتيل وأضعافهم من الجرحى والمعاقين، وملايين المُهَجَّرين.
ذلك كله من أجل كسر الأمل، أيّ أمل.
منذ البداية أريد لهم أن يخرجوا من الجغرافيا ومن التاريخ: أن يُغَيَّبوا تحت الأرض وفي أعماق البحار  موتى أو أن يتفرقوا مُهَجَّرين جماعات في أرجاء المعمورة. فكانت التغريبة السورية، ولا تزال.
ومنذ البداية أُريدَ لهذا البلد بعد أن كان مرتع عائلة واحدة ومن يلوذ بها أن يكون مرتع القوى  الإقليمية والدولية كلها التي كانت هذه العائلة تتفنن في التلاعب بها ومعها وعلى حسابها ولحسابها في آن. فربما استطاعت بذلك أن تستعيده من جديد.
واستعانت مع القوى المحلية والإقليمية والدولية بضواري الأرض جميعاً بعد أن ألبستهم أقنعة القرون الخوالي فبتنا أمام ضروب الدواعش على اختلافها تحاول من أجل أن تلغيها أن تغطي وتزيِّف ثورة شعب بأكمله.
لكن الثورة لا تزال وستبقى عصيّة على الجميع. في الداخل وفي الخارج. مادامت قد آتت أكلها عندما أخرجت العائلة الحاكمة وخدمها من حيِّز الإمكان في المستقبل.
ذلك هو الأمل الذي لا يزال ساطعاً.
 
* نشر في مجلة الهلال، القاهرة، عدد كانون الثاني، يناير 2015.
 

vendredi 26 décembre 2014


حول الوضع الثقافي والإبداع الأدبي

1

أزمة ثقافة بلا هوية

ما وراء أزمة القرّاء وأزمة الكتابة**

بدرالدين عرودكي

 

ماهي الأزمة: أزمة قرّاء أم أزمة كتابة؟ تلك هي الصيغة التي طرحت بها مشكلة من أخطر المشكلات التي واجهها ويواجهها مجتمعنا في المرحلة التاريخية المعاصرة، خلال ندوة جرت في المركز الثقافي  العربي  في الأسبوع الماضي وأعني بها مشكلة الثقافة. وشبيه بهذه الصيغة، صيغة ذلك التساؤل عن الأول بين اثنين: الدجاجة أم البيضة؟ فكما أن هذه الصيغة الأخيرة لا يمكن أن تؤدي إلى حلٍّ نهائي، فإن طرح المشكلة الثقافية من خلال عنصرين من عناصرها لن يؤدي إلى ذلك الحل المنشود إلا إذا أردنا أن ندور في حلقة مفرغة بين جزئيات المشكلة دون أن نتمكن على الإطلاق من وصل حلقاتها ضمن سلسلة تؤدي في النهاية إلى نتيجة محددة.

ومن هنا فإن صيغة السؤال تبدو قاصرة عن استيعاب أبعاد المشكلة المراد طرحها أساساً إلا إذا فهمنا هذه الصيغة ضمن حدّيْها بالذات (القراءة ـ الكتابة) بحيث يكون المطلوب في النهاية أن نضع الخط الأحمر تحت واحد منهما ونغلق النقاش. إذ أننا في هذه الحالة نتناسى أساس المشكلة أصلاً، ومن ثم تغدو كل نتيجة يمكن الوصول إليها في النهاية من خلال تلك الصيغة قاصرة وجزئية بالنسبة إلى الإطار الأساس الذي يجب أن ترتد إليه أصلاً.

لذلك لابد لنا من العودة إلى هذا الإطار. وهي عودة سوف تتيح لنا فرص إلقاء أكثر من ضوء على زوايا المشكلة الأساسية.

** الأمية

ولعل أبرز مظاهر الأزمة الثقافية في الوطن العربي مشكلة الأمية التي تتراوح نسبتها بين مختلف الأقطار العربية من 40% إلى 90%. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نتجاوز أزمة القراء وأزمة الكتابة في حدودهما الضيقة نحو إطارهما العام الذي تشكل الأمية أبرز مظاهره، مادام القارئ والكاتب ينتميان إلى هذا الواقع أساساً ويشكلان مظهراً آخر من مظاهره.

وما دمنا نعتبر أزمة القراءة وأزمة الكتابة مظهرين من مظاهر الأزمة الثقافية، فلابد لنا أيضاً من النظر إلى هذه الأزمة من خلال الأطر الحضارية والتاريخية والاجتماعية التي ننتمي إليها. ونظرة بسيطة إلى حذور هذه الأزمة في تاريخنا تؤدي بنا إلى تحديدها كما يلي:

ــ أربعة قرون في ظل الاحتلال العثماني أقرب إلى أن تكون عهد ظلامكامل؛

ــ ربع قرن آخر من محاولات اليقظة الملجومة بعصا الاستعمار؛

ــ ربع قرن آخر من محاولة تصفية هذه التركة الثقيلة على كافة المستويات الحضارية والاجتماعية ونتائجها التي برزت مع انتهاء الاحتلال العسكري المباشر لللاستعمار الأوربي: التجزئة والصهيونية.

** فترة الانقطاع الثقافي

وإذا كنا نعود بجذور الأزمة الثقافية إلى هذا التاريخ البعيد الذي يبدأ مع احتلال الجيوش العثمانية للمنطقة العربية، أو بتحديد أقرب إلى الدقة مع اضمحلال الإمبراطورية العباسية وتهافتها، فذلك لأن الثقافة العربية قد بدت في تلك الفترة من التاريخ وكأنها توقفت وقوفاً لا مجال للتنبؤ بمداه. لم يكن هذا الوقوف مفاجئاً في ذلك الوقت، وخاصة لتلك العقول الكبيرة النادرة التي سبقت زمنها وتنبأت بالكارثة قبل حصولها بوقت طويل: كالمتنبي والمعري ـ على ما بينهما من فروق واختلافات ـ . فلقد أدرك هذان الشاعران العربيان خطورة الحصار الذي كان الوجود العربي يعانيه آنذاك، عندما كانت الإمبراطورية العباسية نهباً للغزو المغولي والتتري وللتمزيق. فأعلن الأول أفول الحضارة العربية ولاذ ببلاط سيف الدولة في محاولة ـ تبدو لنا اليوم دون كيشوتية ـ لأنقاذ ما لم يعد ممكناً إنقاذه. منح سيف الدولة كل علامات المجد والفخار، وكرس لتعظيمه كل طاقات موهبته الشعرية الفذة، لا باعتباره أميراً يغدق أمواله على شاعر مادح، وإنما باعتباره أميراً عربياً ـ وحيداً في تلك الفترة ـ يحمي المنطقة العربية من محاولات الروم المتكررة لغزوها، ويمثل النبض القويّ الأخير لحضارة آفلة. هذا في حين لاذ المعري بمحبسيْه، معلناً رفضه لكل القيم السائدة، وملزماً نفسه بما لا يلزم، يمارس نمطاً صعباً من الترف الفني لم يكن يملك مع شكه ورفضه وعزلته أن يفعل شيئاً سواه، وهو يحيا بين أطلال متداعية.

لقد كانت  الثقافة العربية حتى ذلك الحين حلقات آخذ بعضها برقاب البعض الآخر، تبدأ من أعماق العصر الجاهلي، وتتصل مع ظهور الإسلام واتساع دعوته بثقافات الأمم الأخرى دون أن تفقد أصالتها وهويتها الأولى. ثم انقطعت السلسلة نهائياً مع السيطرة العثمانية التي أبدت في البداية نوعاً من التقديس لهذا التراث العظيم ما لبثت بعده أن تغاضت عنه وتناسته، لتستبدله وخاصة في القرن الأخير من عمرها ـ القرن التاسع عشر ـ بمحاولات دفنه وطمسه.

وتلك هي الأزمة التي واجهها رواد الحركة القومية العربية الأولى في القرن التاسع عشر: أن يعبروا برزخاً يمتد إلى أربعة قرون، كي يمسكوا بأول شعاع من أشعة الثقافة العربية الكلاسيكية لتأكيد الهوية العربية تجاه محاولات إنكارها وطمسها من أنصار القومية التركية، وهي الأزمة ذاتها التي واجهها أيضاً رواد الحركة القومية العربية في أوائل هذا القرن ـ أي فيما يسمى ببدايات عصر النهضة العربية ـ تجاه تحدي الحضارة الغربية الحديثة: أن يقيموا الجسر بين تلك الثقافة العربية قبل أربعة قرون، يعبر ظلام الاحتلال العثماني، ويظل قوياً عند وصوله منعطف القرن العشرين، تلك الأزمة التي مازالت قائمة حتى الآنّ

** الاحتلال الأوربي: ثقافة المستعمر

 ومع الاحتلال الفرنسي والإنجليزي والإيطالي للوطن العربي، كانت محاولات تأكيد الهوية العربية قائمة ما تزال. ومع ذلك، فقد حاول الاستعمار الأوربي بشتى الوسائل ضرب هذه المحاولات من الأساس وذلك بوسيلتين ما تزال آثارهما ـ أيضاً ـ قائمة إلى الآن: عزل الطبقات الفقيرة والمعدمة ثقافياً من جهة، ونشر الثقافة الاستعمارية بواسطة المدارس التي يقيمها أو التي تقيمها بعثاته التبشيرية بين أوساط الطبقة الإقطاعية والطبقة البورجوازية من جهة أخرى.

فالحصار الاقتصادي الذي ضربه حول الأكثرية الفقيرة، كان يحول دونها ودون الاهتمام بالثقافة والتعليم، بحيث أن قلة ضئيلة منها كانت تعرف القرآن معرفة لفظية تتيح لها قراءته لا فهمه، في حين غرقت البقية في ظلام دامس. وفي الوقت ذاته، كان بوسع أبناء الطبقتين الإقطاعية والبورجوازية دخول المدارس الأجنبية بما يملكون لذلك من أسباب مادية لم تكن متاحة لغيرهم. وكان الاستعمار يؤمن بذلك تكوين البنية العقلية للطبقة التي يريد لها أن تحمي مصالحه وأن تدافع عن وجوده عن طريق نشر ثقافته. فما د امت الثقافة تنمية للتصورات والقيم الوجدانية والسلوكية فإن الاستعمار إذ ينشر ثقافته وهي ثقافة بورجوازية موجهة لأبناء المستعمرات فإنما يضمن بذلك نشر قيمه ورؤيته للحياة.

وتلك هي تركة الاستعمار الأوربي ـ بعد الاستعمار العثماني ـ في الوطن العربي: أمّيّة تكاد تكون شاملة بين الأكثرية الساحقة من الشعب العربي في مختلف أقطاره، وأقلية مثقفة بثقافة لا تمت إلى واقعها ومتطلباته بأية صلة.

** الخطر الثقافي

وهذا هو جوهر الخطر الذي كانت الشعوب العربية تواجهه عشية استقلالها. كان الاستعمار يخرج بمعداته وبجنوده من الأرض تاركاً فيها بذوراً خبيثة في طور النمو.

والحق أن انتباهنا لهذا الخطر الثقافي لم يكن على مستوى هذا الخطر. لاشك أننا كنا ندرك هذا الخطر وندرك معه أبعاد تخلفنا. غير أن شعورنا بالتخلف طغى على شعورنا بالخطر، وأتاح لعقد نقص عميقة الغور في نفوسنا أن تمارس فعلها ـ إلى جانب عوامل أخرى ـ فتفتح الأبواب على مصاريعها للثقافة الغربية والحضارة الغربية دون قيد أو شرط يفرضه واقع مثقل بأعباء تركة خمسة قرون من النوم الثقيل. لتنعكس آثار هذا الانفتاح غير المشروط في مجالات عدّة:

انعكست أولاً على مناهج التعليم التي كانت كلها تقريباً تستند إلى فلسفات غريبة عن احتياجاتنا القومية والاجتماعية. ولقد كانت مناهج ديوي بالذات ـ كما يقول محمود أمين العالم  في كتابه الثقافة والثورة ـ تسود مناهجنا التعليمية سيادة تامة. هذا بالنسبة إلى المدارس الوطنية. أما بالنسبة إلى المدارس الأجنبية فقد كانت متعددة، تسود فيها مناهج المدارس الأمريكية والإنجليزية والفرنسية، بما تتضمنه كلها من فلسفات خاصة تعرقل نمو وجداننا القومي، في حين ظلت المدارس التقليدية القديمة ـ كالأزهر ـ مغلقة أبوابها دون الحضارة المعاصرة ودون حاجات الواقع في المرحلة التاريخية المعاصرة إلى وقت قريب.

وانعكست ثانياً على عمل دور النشر التي تحكمت بها فوق ذلك عناصر عديدة:

عنصر التجارة المحضة، فقد صارت ترجمة الثقافة تجارة رابحة تعتمد على طلب السوق الذي تحدده الرغبات السائدة. وهكذا تتالت موجات الترجمة: موجة سارتر والوجودية، موجة مورافيا والجنس، موجة كولن ولسن، موجة الكتب الثورية على اختلافها، وأخيراً موجة شعر الأرض المحتلة الذي بدا وكأنه ظهر للمرة الأولى بعد الخامس من حزيران.. أما على صعيد التراث القديم، فقد غدا أيضاً تجارة رابحة. وتتالت الكتب الضخمة لشعراء الجاهلية والإسلام، وكتب الجاحظوالتوحيدي والمتصوفين، في طبعات فخمة لا ينقصها إلا الدراسة والتحقيق العلمي! ذلك أن هذا النقص لا يمكن أن تقوم بإتمامه دور النشر مادام يكلفها جهداً علمياً لا مكان له أمام هدفها التجاري.

وهنا من ناحية أخرى عنصر التوجيه الخارجي الذي كان يختفي وراء "الحاجة إلى ترجمة نتاج الثقافة الغربية المعاصرة". فظهرت مؤسسات أجنبية تدعم دور النشر المحلية، تسهم معها وبدونها في لا في نشر الثقافة الأمريكية والكتاب المعبر عن الرؤية الأمريكية للحياة فحسب، بل في بث مناهج التربية وفلسفات التعليم التي تؤكد هذه الرؤية وفي السعي نحو جعلها تسود مناهجنا التعليمية في المدارس وفي الجامعات.

هناك من ناحية ثالثة عنصر آخر يتمثل في افتقار دور النشر المرتبطة بوزارات الثقافة في البلدان العربية إلى الخط الفكري الواضح الذي يتحكم بمنشوراتها أو بمشاريعها. لا بل إنه حتى في حال تحديد مثل هذا الخط، وهذا ما يحدث أحياناً، فإن الأيدي القذرة تمتد في الخفاء لتعبث به وتحرفه عن اتجاهه الأصلي، كما حدث في مشروع الألف كتاب في القطر المصري. إذ كان الهدف من وراء هذا المشروع تكوين مكتبة ثقافية متكاملة بأسعار زهيدة، فتحول أثناء التنفيذ إلى مكتبة ثقافية أمريكية متكاملة.

هذه العناصر جميعها في مناهج التعليم وفي أعمال دور النشر هي ما يؤلف المظاهر الحالية للوضع الثقافي والتعليمي والتربوي في وطننا العربي، ذلك الوضع الذي يشكل الكاتب نتاجه الرفيع!

** أزمة القراءة.. أزمة الكتابة!

ونحن إذ نصل ـ بعد هذه الإشارات السريعة ـ إلى مسألة القارئ والكاتب، فإنما ننتقل إلى صعيد آخر من أصعدة الأزمة الثقافية التي نتحدث عنها مادام كل منهما مشروط ببيئته أولاً وبالوضع السائد في تلك البيئة ثانياً. وإذا كان أقرب إلى الدقة أن نتحدث عن أزمة قلة القراء بدلاً من أزمة القراتء فذلك لأننا ننظر إلى النسبة التي يشكلها القراء في الوطن العربي بالقياس إلى عدد سكانه. ونستطيع هنا أن نضرب مثالاً ريباً منا. فأعلى رقم توزيع تحققه مجلة عربية على الإطلاق هي مجلة العربي  التي توزع شهرياً ما يقرب من 160 ألف نسخة في وطن يسكنه مائة مليون. ومن هذا الرقم يمكن أن نصل إلى النتيجة التالية: وهي أن نسبة القراء من بين المتعلمين (قراء مجلة لا كتاب!) هي نسبة 0016 %! في حين نستطيع أن ندرك نسبة قراء الكتاب إذا عرفنا أن أعلى رقم يمكن أن تنحنجرؤ دار نشر على الوصول إليه في ععد النسخ من الكتاب الواحد الذي تطبعه هو خمسة آلاف نسخةّ!

نحن هنا إذن أمام أزمة قراءة بين المتعلمين بين سكان الوطن العربي. وجذور هذه الأزمة تعود أساساً إلى المناهج التربوية والتعليمية التي تحكم صلة القارئ بالكتاب منذ طفولته. فهذه المناهج  تؤسس علاقة مصلحة متبادلة بين الطالب والكتاب تنتهي بانتهاء هذه المصلحة عند حصول الطالب على الشهادة في نهاية تحصيله. وفيما عدا ذلك، فإن الكتاب يؤلف بالنسبة لهذه القلة الضئيلة من القراء وسيلة تسلية أكثر منه باباً للمعرفة، ووسيلة إرضاء رغبات معينة أكثر منه مجالاً للثقافة وللعلم.

ومع ذلك فإن القلة القليلة من سكان الوطن العربي الذين يقرؤون يؤلفون النخبة بالمسبة إلى مجتمعنا. فإذا ما نظرنا إلى مصادر ثقافتهم الأساسي، وهي في أغلبها من الكتاب العربي مترجماً أو موضوعاً، وعرفنا الكتب التي تصدرها دور النشر في مختلف الأقطار العربية، استطعنا أن ندرك طبيعة البنية العقلية التي يتمتع بها القارئ العربي المعاصر!

** مشكلة الكاتب

ومشكلة الكاتب ـ من ناحية أخرى ـ ترتبط بمشكلة القارئ ارتباطاً جدلياً. فالكاتب العربي قد بدأ طالباً في المدارس الوطنية أو الأجنبية، أو قارئاً، وفي كلا الحاليْن نستطيع منذ البداية تحديد بيئته وثقافته. فهو قد ولد ونشأ في بيئة متخلفة حضارياً تعاني من تركة تاريخية ثقيلة، وتواجه أخطاراً يومية مباشرة، وهو قد تلقى ثقافة هجينة من مصادر مختلفة، لا يحول دون وصفها بالهجينة  تلقيه لها من مدرسة أو جامعة. ولكن اقتصارنا على عنصريْ البيئة والثقافة سوف يؤدي بنا إلى فقدان الأمل منه نهائيا وبشكل صوري. ومن ثمَّ فلا بد لنا من إضافة وعيه لنفسه ولواقعه. والوعي هنا مسألة نسبية ترتبط بمدى قدرته على تجاوز تخلف بيئته وهجنة ثقافته من جهة، وعلى الزاوية التي ينظر منها إلى جمهوره من جهة ثانية، وعلى جمهوره الذي يفترضه في وعيه الباطن عندما يمارس عملية الكتابة من جهة ثالثة.

لكن مسألة الوعي، وعي الكاتب، تواجه على صعيد آخر عدة مشكلات:

فهناك ـ أساساً ـ مسألة الحرية الفكرية، وهناك من ناحية أخرى الإغراء المادي الذي تقدمه المؤسسات الأجنبية له، وهناك أيضاً احتواء المؤسسات الرسمية له حيث تمتص وعيه وتجهض طموحه منذ البداية بما تقدمه له من رواتب عالية يضطر معها للتنازل عن مشاريعه بالتتالي.

وفي كل الأحوال، فإن الكاتب العربي ما يزال يواجه ـ على صعيد ثالث ـ مشكلات أساسية لا قبل له ـ كفرد ـ على حلها:

ـ مشكلة التراث؛

ـ مشكلة وحدة الثقافة القومية أو هويتها؛

ـ مشكلة الثقافة الفكرية الهجينة غير القادرة على مواجهة تحديات الثقافات العالمية الأصيلة.

ولذلك فالكاتب العربي بوصفه النتاج الرفيع للوضع الثقافي والاجتماعي والتاريخي الراهن، يبقى مثقلاً أمام قارئه بمشكلات عليه أن يواجهها. وهو يقع في الحالة هذه تحت وطأة الإغراءات المتعددة التي تحدثنا عنها. ويواجه كوابح اجتماعية وسياسية تحول بينه وبين متابعة هذه المواجهة إلى النهاية، أو أن يتناساها. وهو في هذه الحال لن يتمكن من أن يقدم لقارئه شيئاً مادام لا يطرح مشكلاته الأساس كمواطن ينتمي إلى أمة تحيا مرحلة تاريخية معينة.

ولعل هذا ما يفسر ـ إلى حدٍّ ما ـ سبب إقبال جمهرة القراء على الأعمال المترجمة أكثر من إقبالها على الأعمال المؤلفة.

** ثقافة بلا هوية

إزاء ذلك كله لا يسعنا أن نتساءل عن أزمة قراء أو أزمة كتابة، وإنما عما يتجاوز هاتين الأزمتيْن، أي إلى الوضع التربوي والتعليمي أساساً الذي يشكل المظهر الأساس من مظاهر أزمة الثقافة العربية المعاصرة التي تعاني من ضياع الهوية. إذ ما زلنا إلى الآن نفتقر إلى التصور الواضح لما يجب أن تكون عليه مناهجنا التعليمية والتربوية، أي لنصور واضح لهوية ثقافتنا القومية وتكوينها أساساً. ولا يكفي في ذلك أن نتحدث عن هذا التصور ضمن صيغ عامة. ذلك أنه لا معنى لهذا التصور مادام منحصراً ضمن حدود هذه الصيغ لا يتجاوزها نحو التطبيق في التفاصيل، ونحو الممارسة في السلوك اليومي. *

 

* يشكل هذا المقال صياغة أولية لما قلته في الندوة التي أجراها المركز الثقافي العربي بدمشق تحت عنوان "أزمة قراءة أم أزمة كتابة؟". ومن ثمَّ فهو ليس أكثر من خطوط عامة لدراسة لا بدَّ لكي تكتسب طابعاً علمياً من تدعيمها بالإحصاءات الدقيقة والمراجع العلمية الموثوقة.

 

** نشر هذا المقال في مجلة "الطليعة" السورية، العدد 240، الصادر بتاريخ 20 شباط/فبراير 1971، ص. 38 ـ 41 .

 

 

حول الوضع الثقافي والإبداع الأدبي

 

2

هويّة العمل الأدبي بين المحليّة والعالميّة

 

بدرالدين عرودكي

 


عندما أعلن طه حسين قبل نصف قرن تقريبا شكه في حقيقة ما نسميه الشعر الجاهلي، مصطنعاً لذلك المنهج الذي استخدمه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء في مطلع العصر الحديث، معلناً أن "الحياة الجاهلية يجب أن تلتمس في القرآن لا في ما نسميه الأدب الجاهلي" مفجرا بذلك أول قنبلة في المناهج التقليدية المعتمدة في دراسة التراث الأدبي العربي، فقد كان يضع بذلك صوى جديدة في النقد العربي الحديث، لا  تقتصر على استخدام المنهج أو طريقة البحث العلمي فحسب، ولا على تفجير حدود الدائرة المغلقة التي استقرت ضمنها أذهان الباحثين والنقاد طويلة لا يتجاوزونها، ولا يحاولون أن يفعلوا و لا مرة واحدة وحسب، وإنما تشمل كذلك تحديد معايير صارمة للكيفية التي يمكن بها الكشف عن الواقع الاجتماعي والسياسي من خلال عمل أدبي ما، أو أعمال أدبية تنتمي لمرحلة محددة. ولا تقف هذه المعايير عن حدود المقبول بما تطرحه الأعمال الأدبية في عصر ما، وإنما تتجاوزها إلى حدود التأثير الذي استطاع أحداثه هذا العمل في هذا الواقع دون غيره من الأعمال. إنه بذلك لم يصطنع منهجاً علمياً في بحث أدبي فحسب، وإنما يضع المعالم التي تحدد هوية أدب ما، تشمل الزمان والمكان اللذين ينتسب إليهما.

لقد رفض الهوية الزمانية التقليدية لما يسمى بالشعر الجاهلي، على أساس أن هذا الشعر لا يقدم لنا شيئاً عن الحياة الجاهلية، أو عن عرب الجاهلية... رفض قبول ما كان مسلمة حتى ذلك الوقتن من أن هذا الشعر قد قاله شعراء عاشوا قبل الإسلام و قبل القرآن، وقدم فكرته التي أحالت المسلمة إلى مصادرة، والمتضمنة هوية زمانية جديدة لذلك الشعر، مفادها أنه قد قيل بعد القرآن وبعد مجيء الإسلام على ألسنة رواة مجهولين.

لقد قيل ذلك قبل نصف قرن، وكان أن ثارت العقول المحافظة يومها مطالبة برأس الباحث ما دام قد جرؤ على الاقتراب من المناطق المحرّمة، وأغلق الكتاب يومها، وأعيد طبعه معدلاً، مقتصراً على بعض نتائج البحث دون غيرها، غير أنه كان أشبه برصاصة وحيدة تطلق ثم يخيم السكون بعدها إلى الأبد.

*  *  *

غير أن البحث إذا كان قد طوي منذ ذلك الحين، فإن القيم النقدية الجديدة التي أثارها لم تطو، وإنما أخذت في النماء على أيدي نقاد وباحثين في أنواع الأدب المختلفة، نستطيع أن نلمسها في تلك الحركة النقدية الفنية في القطر المصري، وفي ازدهار الأنواع الأدبية ازدهاراً لم نشهد ما يماثله في الأقطار العربية الأخرى من حيث التنوع والخصوبة على الأقل.

*  *  *

وإذا كنت أعيد إلى الأذهان ذلك الحدث النقدي الهام في تاريخنا الأدبي، فذلك لكي أثير الحديث عن أحد المعايير النقدية التي طرحها ذلك البحث، وتجاهلها عددٌ كبيرٌ من النقاد، ولم يفهمها عدد كبير آخر من الكتاب، وأعني به معيار هوية العمل الأدبي.

وليس سهلاً أن نتحدث عن هوية عمل أدبي ما دون أن نحدد قبل ذلك ماذا نعني بالمصطلح أساساً. فلئن كان طه حسين قد شك في المقدمات التي طرحها لبحثه، ورفض في النتائج التي توصل إليها، إثبات الهوية الزمانية لما يسمى بالشعر الجاهلي، معلناً أن هذا الشعر ليس جاهلياً بحال من الأحوال، ولم يقله الشعراء قبل الإسلام، وإنما بعد الإسلام، بل وبعد أن استقرت أوضاع البلاد الإسلامية، فذلك اعتماداً على صورة لواقع الحياة الجاهلية قدمها القرآن، واعتماداً على مدى التأثير الذي أحدثه القرآن في عقول الناس الذي توجه إليهم في تلك الفترة من التاريخ، وهو تأثير يقوم على إدراك المفاصل الأساسية لحياة الناس وسلوكهم وعاداتهم. وهو قد نسف الهوية المكانية لهذا الشعر عندما نفى أن يكون قائلوه من شعراء مكة والمدينة والطائف، لا بل حتى الصحراء في فترة ما قبل الإسلام.

وما يهمني هنا، هو تحديد دلالات هذا المعيار النقدي أكثر من نتائجه في بحث طه حسين عن حقيقة الأدب الجاهلي. هوية العمل الأدبي، تعني انتساب هذا العمل لزمن محدد و لمكان محدد ولواقع اجتماعي محدد. أي أننا نستطيع أن نكشف في تضاعيف العمل الأدبي ذاته عن الزمن الحقيقي الذي كتب فيه_ وهو يختلف عن الزمان الخاص للعمل ذاته_ وعن المكان الذي يؤلف الأرضية الأساسية لهذا العمل_ وهو يختلف كذلك عن المكان الخاص بالعمل الأدبي_ وعن واقع اجتماعي محدد مرتبط بالزمان والمكان اللذين يكشف عنهما في الوقت نفسه.

وهذا لا يعني بطبيعة الحال وقوف حدود العمل الأدبي عند الزمان الذي كتب عنه، والمكان الذي كتب فيه، والواقع الاجتماعي الذي يطرح مشاكله بالضرورة. لا بل أن قدرة العمل الأدبي على الكشف عن هويته، وتجاوز حدودها في الوقت نفسه هي التي تضيف قيمة أخرى إليه، لا يمكن إضافتها ما  لم تكن له هذه القدرة أساساً، وهي القيمة التي نصطلح على تسميتها بالبعد الإنساني أو إمكانية العمل الأدبي على النمو والتطور_ شأن الكائن الحي_ في مختلف الاتجاهات وفي سائر الأزمنة.

*  *  *

ومصطلح "هوية العمل الأدبي" هو تحديد أدق لما يسمى بـ (المحلية) ذلك أن مصطلح المحلية قد فهم في أغلب الأحيان على أنه يعارض (العالمية) أو (الإنسانية). وبتنا نرى النتاج الأدبي يدخل مزاد المحلية والعالمية دون أن يعي أن التعارض بين المحلية والعالمية لا أساس له سواء في النتاج الأدبي، أو في النقد الأدبي في العالم. لقد استطاعت أعمال سوفوكل و أسخيلوس ويوربيدس أن تحيا حتى القرن العشرين لأنها كانت تضم هاتين القيمتين النقديتين الأساسيتين:

الهوية والبعد الإنساني، ولأنها كانت إغريقية أولاً، أي إنها نتاج اليونان القديمة في العصر الوثني_ بكل ما يعنيه ذلك من طرح أعمق لمشاكل الإنسان الإغريقي_ فقد استطاعت أن تتجاوز حدود هويتها الزمانية والمكانية، لتحوز البعد الإنساني، ولتكون كائناً حياً بكل ما يؤدي إليه ذلك من نتائج في النمو وفي الاتساع.

وليست الآثار الأدبية الإغريقية المثل الوحيد في ذلك. إن أعظم الروايات، وأروع القصائد، وأفضل المسرحيات يمكن أن تكون أمثلة مشابهة، قبل أن يغدو شكسبير ودستوفيسكي وغوته وبايرون وشيلر ملكاً للإنسانية، وقبل أن تنمو أعمالهم وتزداد نمواً يوماً بعد يوم، كانوا ملكاً لشعوبهم، وكانت أعمالهم تحمل هوية هذه الشعوب. لم يكتب دستوفيسكي عن الإنسان وحسب، ولكنه كتب عن روسيا القيصرية في الوقت نفسه، ولم يطرح شكسبير أعقد المشاكل الإنسانية وحسب، وإنما كان يكتب عن انكلترا في العصر الإليزابيثي أيضاً.

*  *  *

غير أن "المحلية" قد فهمت فهماً يخالف ذلك إلى حد بعيد. لقد حسب البعض أن مجرد وصف ملابس بطل القصة وتسميته بأسماء شعبية (أبو محمود، أبو كاسم، أبو أحمد...الخ) يمكن أن يمنح القصة طابع المحلية، ويمنح الكاتب بالتالي شهادة الأصالة في التعبير عن واقعنا ومشاكلنا الاجتماعية. في حين أن نظرة نقدية متمهلة، يمكن أن تجد تحت ثياب (أبي محمود) ملامح مشوهة لشخصية (أكاكي أكاكفيتش)، أو تحت الملاءة السوداء التي تغطي (عائشة أو سعاد) بعض أصباغ كل من (إيفيت) أو (ليلي) !...

وبالمقابل، فهم البعد الإنساني في الأدب على أنه التعبير عن الإنسان المطلق غير المشروط بزمان ومكان وبيئة، عن (الإنسان في مكان وزمان) كما يقال، وبتنا نرى أن الطابع العام لأعمال هؤلاء الذين يريدون أن يصلوا إلى أعلى درجة في سلم العالمية بقفزة واحدة، هو طابع الأساليب التي تجهد لكي تبدو جديدة مبتكرة، تطرح بواسطتها مشاكل عامة، لكي تجد صداها في كل زمان ومكان!  لقد كتب_ مثلاً_ غسان كنفاني قصته "ما تبقى لكم"، وكتب على غلافها الأخير:

"إنها رواية تطرق أبواب العالمية"، في حين أنها ليست_ كعمل فني_ أكثر من نسخ مشوه لتقنية الفصل الأول من رواية " الصخب والعنف" لفوكنر، وهي تقنية لم يكن لاستخدامها أي مبرر في طرح قضية الإنسان الفلسطيني بعد عشرين عاماً من الاحتلال الصهيوني لفلسطين.

*  *  *

وعلى هذا، فليست هوية العمل الأدبي مجرد سمات خارجية، أو براقع مرقشة بأصباغ محلية، ولن يكون اسم كل (أي محمود وعائشة) كافياً لكي نقول عن هذا العمل الأدبي إنه عمل محلي، كما أن تجريد الشخصية من كل سماتها المحلية العميقة، لن يجعل من العمل الأدبي عملاً إنسانياً أو عملاً يطرق أبواب العالمية!..

إن المفاصل التي يمكن أن تؤلف هوية عمل أدبي ما، لا تقتصر على المضمون لوحده أو على الصياغة الجمالية والفنية التي يطرح من خلالها هذا المضمون لوحدها، وإنما هي في كل منهما بمقدار، هو في النهاية مقدار الخصوصية في كل مضمون يطرحه عمل أدبي ما، ما دامت المضامين متشابهة، وما دامت حساسية أية جماعة تجاه هذا المضمون أو ذاك ليست واحدة لدى كل الجماعات، وما دامت هذه الخصوصية نتاج هذه الحساسية ذاتها، تلك التي تنعكس على كلية العمل الأدبي، شكله ومضمونه سواء بسواء.

إن الواقع إذ يطرح عدداً من المشاكل يمكن أن تؤلف خامات أعمال أدبية متنوعة، إنما يطرح أيضاً وبالقوة ذاتها_ عبر تراثه وقيمه ورصيده الثقافي والفني_ خامة الصياغة الجمالية لهذه المشاكل. وهوية عمل أدبي ما، تلك التي تتيح للقارئ، أي قارئ، أن يكشف عن انتماء هذا العمل لعصر ولمكان معينين، إنما تتحدد من خلال هذه الصياغة وذلك المضمون. يمكن بعد ذلك أن ينسحب هذا المضمون على هذا الزمان أو ذاك، ويمكن أن تشكل الصياغة إضافة إلى الصياغات الجمالية الأخرى في التراث الجمالي الإنساني، غير أن ذلك كله لا ينفي الأساس، وهو أساس نقدي لا بد من تعميقه في حياتنا الأدبية، لكي نكشف عن أصالة هذا الركام من النتاج الأدبي الذي كرّس أصحابه أنفسهم استناداً إليه، عباقرة أمتهم وعصرهم، دون أن يدري أحدٌ بذلك على الإطلاق.

غير أن هذا، يظل مجرد مقدمة نظرية، حول معيار نقدي، يبدو أنه مجهول من كتابنا ما يزال.  

* نشر في مجلة "الطليعة" السورية،  العدد 243 الأربعاء 10 آذار 1971.
 
 

حول الوضع الثقافي والإبداع الأدبي

3

هوية العمل الأدبي أساساً*
 

بدرالدين  عرودكي

 
هوية العمل الأدبي هي الأساس. لماذا؟

في مقال سابق، حاولت أن أحدد النقاط الأساسية في أزمة الثقافة العربية التي أوجزتها بأنها أزمة ثقافة بلا هوية. وفي مقالي الأخير "هوية العمل الأدبي بين المحليّة والعالميّة" حاولت كذلك أن أوضح المفاصل الأساسية لما أعنيه بهذا المصطلح "هوية العمل الأدبي" الذي هو تحديد أدق لما يسمى "المحلية" وانتهيت إلى أن (الهوية) معيارٌ نقديٌ أساسي في أية عملية نقدية تتناول أعمالاً أبداعية. إن هدف هذا المقال إذن تقديم مبررات هذا المعيار كأساس نقدي.

 

 لعل الفارق الأساسي بين عصر النهضة الأوربي الذي بدأ في القرن الخامس عشر، وبين ما يسمى بعصر النهضة العربي الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر، هو أن النهضة الأوربية قامت على أساس قراءة جديدة للتراث الإغريقي، مهملة كل الشروح المتراكمة عبر العصور لنصوص هذا التراث. في حين أن النهضة العربية قامت على أساس انفتاح غير محدد على الحضارة الغربية الحديثة التي كانت تنطوي على كل بذور الحضارة المعاصرة في القرن العشرين على كافة الأصعدة. ولقد أدى وجود هذا الفارق إلى أمرين هامين: الأول أن البرزخ الفاصل بين بداية عصر النهضة العربية وبين لحظة غروب الحضارة العربية الإسلامية في هذه المنطقة، والذي استمر أكثر من أربعة قرون، قد ظل قائماً على الرغم من كل شيء. إذ لم تكن هناك أية محاولةٍ لإعادة قراءة هذا التراث مجدداً، بعيداً عن شروحه المتراكمة. لاكتشاف مفاصل الحضارة العربية الإسلامية الأساسية، وظلت كل نصوص هذا التراث، بدءاً من القرآن وانتهاءً بأشعار المتنبي والمعري، نصوصاً تفهم في ضوء هذه الشروح، الأمر الذي لا يمكن أن يؤدي إلى أي تغيير في البنية العقلية لواضعي هذه الشروح ذاتها، وهي بنية عقلية متخلفة بما لا يقاس عن الواقع الحضاري الراهن. والثاني أن محاولات عبور هذا البرزخ بأدوات غربية، تحت تأثير الانفتاح الثقافي على الغرب، وإن كانت رائدة وجديدة ومثمرة في بعض الأحيان (كمحاولات طه حسين في بحثه عن حقيقة الشعر الجاهلي ومحاولة العقاد دراسة كبار الشعراء اعتماداً على المناهج النفسية الحديثة كدراسته لابن الرومي وأبي نواس) إلا أنها لم تكن قادرة على إحياء هذا التراث إحياءً يضع بذور حضارة عربية جديدة تمتد جذورها في الماضي البعيد، ولا تقطع أسبابها بواقع العصر الحديث. ويمكننا أن نشهد نتائج ذلك كله في عدد من المواقف الفكرية والأدبية في الوقت الحاضر. فلقد أدى وجود هذا البرزخ إلى وهم مضلل تجلى في فكرة العصر الذهبي العربي، هذه الفكرة التي استنفذت وما تزال جهود العديد من المفكرين والباحثين العرب المعاصرين، ومفاد هذه الفكرة أن حقيقة الأمة لا تتجلى في تراثها، وأن هذا التراث، بكل ما يطرحه من قيم فكرية وسياسية وفنية واجتماعية، تراث يمكن أن تعاد الحياة إليه، باعتباره الحقيقية الوحيدة المثلى، بمجرد نفض الغبار المتراكم عليه عبر قرون وقرون.  في حين أدت محاولات عبور  هذا البرزخ بأدوات غربية إلى أن يتقوقع أصحابها ضمن الأطر التقليدية بمجرد أن هبَّت رياح التجديد. وهكذا غدا ثوار الأمس محافظي اليوم. وليس أدلَّ على ذلك من موقف عباس محمود العقاد يوم أحال أشعار صلاح عبد الصبور إلى لجنة النثر للاختصاص! وهو الذي قاد أول معركة نقدية ضد المفاهيم الشعرية التقليدية التي كان شوقي خير معبِّرٍ عنها. ومن ناحية أخرى، فقد أدت هذه المحاولات إلى أخطاء لا نهاية لها.

فنحن نعلم مثلاً أن العرب قد عرفوا المقامة والرسائل الأدبية والأحاديث الأدبية والحكايات (مقامات الحريري، مقامات الهمذاني، الإمتاع والمؤانسة للتوحدي، البخلاء للجاحظ، كليلة ودمنة لابن المقفع)، لكنهم لم يعرفوا المسرح أو الرواية أو القصة القصيرة. ومع بداية عصر النهضة العربي، بدأ العرب يتعرفون هذه الأنواع الأدبية الراسخة في الغرب، ثم مالبثوا أن أنتجوا في هذه الأنواع إنتاجاً متفاوتاً في قيمته الفنية، وإن بات يشكل حقيقة قائمة من حقائق الأنواع الأدبية في أدبنا الحديث. وهنا نشأ برزخ جديد بين (المقامة) وبين (القصة القصيرة)، بين (الحديث الأدبي) وبين (المقالة)، أدى بالنتيجة إلى عدم الاعتراف بالمقامة لأنها ليست قصة قصيرة في حين أن المقامة نوع أدبي عربي خاص يمكن مقارنته مع القصة القصيرة "على سبيل المقارنة وليس على سبيل المفاضلة" كما يقول خلدون الشمعة في مقاله الممتاز (الاستكشاف النوعي للأشكال الأدبية في التراث العربي). وبعبارة أخرى فقد أدت محاولات عبور البرزخ إلى التراث العربي إلى رفض هذا التراث بالنتيجة وهجره نهائياً سواء على صعيد القيم الفنية التي يتميز بها أو على صعيد القيم الوجودية  التي تؤلف قوام رؤيته.

لقد أدى ذلك كله إلى اضطراب في المفاهيم والمعايير النقدية كان من شأنه عدم قدرة النقد العربي على اصطناع منهج أساس يمكن أن تدرس به الأعمال الأدبية الحديثة في الرواية والقصة والمسرح، دون أن يعتمد على المناهج النقدية الغربية، سواء تناولت هذه المناهج دراسة الأنواع الأدبية كفنون، أو دراستها كمضامين فكرية واجتماعية وتاريخية.

**    **    **

ولذلك فإن معيار الهوية، بالمعنى الذ حددته في المقال السابق، يبدو أساساً لا غنى عنه في أية محاولة نقدية تتناول عملاً أدبياً حديثاً لكاتب عربي. فهو إذ ينطوي على عنصر الصدق الفني الذي هو انسجام الصياغة الجمالية مع الحقيقة الاجتماعية المطروحة عبر هذه الصياغة، وعلى عنصر المحلية الذي هو عبارة عن الإطار الزماني والمكاني للعمل الأدبي من جهة، والواقع بكل تراثه وقيمه ورصيده الثقافي والفني من جهة أخرى، إنما يستطيع أن يمهد بداية اعتبار أي عمل أدبي، وأن يكون الأرضية الأساسية التي ينقد هذا العمل استناداً إليها في شكله وفي مضمونه سواء بسواء.

**    **    **

ومن هنا فإن المبرر الأساس لهذا المعيار النقدي "الهوية" هو محاولة عبور هذا البرزخ  القائم بين ثقافتنا الحديثة في وضعنا الراهن وبين التراث العربي، وذلك عن طريق دراسة تهدف الاستكشاف النوعي للأشكال الأدبية  في التراث العربي ـ كما حدد منطلقاتها خلدون الشمعة في مقاله المذكور ـ ، والإسهام النقدي عبر دراسة الأعمال التي تحاول مثل هذه العملية على صعيد الإبداع الأدبي، في تحديد ملامح متطورة لأنواع أدبية عربية تقدم الواقع الاجتماعي عبر صياغات جمالية تنسجم وهذا الواقع، وتشكل في الوقت نفسه  إضافة لما عرفه العالم في مجال الابتكارات الفنية والجمالية على صعيد الأشكال الأدبية.

ويبدو هذا المبرر سياسياً بقدر ما هو حضاري أو ثقافي. ولا غرابة في ذلك، ما دمنا ننطلق من الصبغة السياسية (بالمعنى الواسع للكلمة) لأية فعالية إنسانية وما دمنا ننطلق من تقرير حقيقة واقعة ذات دلالة سياسية بعيدة المدى، وأعني بها افتقار الثقافة العربية المعاصرة لهوية محددة.

بيد أن المبررات الأخرى لهذا المعيار إنما تتجلى في الإمكانات التي يتيحها للنقد الأدبي، لا في تناوله للأعمال الأدبية الحديثة وحسب، وإنما في تناوله لكل الأعمال الأدبية التي تؤلف التراث الأدبي العربي أيضاً واستناداً إلى قواعد أساسية سوف أتحدث عنها فيما بعد.

ويمكن تحديد هذه الإمكانات ـ مبدئياً ـ بما يلي:

ــ الكشف عن أصالة الأعمال الأدبية في الماضي البعيد والقريب، أي في التراث وفي النتاج الحاضر؛

ــ تحديد خطوط تطور الأشكال والتقنيات الفنية لمختلف الأنواع الأدبية من حيث وجودها وجدتها، ومن حيث ارتباطها بالواقع (والواقع هنا هو المحصلة الثقافية والاجتماعية والقيمية والسياسية والاقتصادية في لحظة تاريخية معينة)؛

ــ الكشف عن القوانين التي تربط تطور الأشكال الفنية بتطور الواقع السياسي والاجتماعي؛

ــ تهميش كل الأعمال الأدبية (وضعها على الهامش) التي لا يتوفر فيها عنصر الصدق الفني. إذ أن افتقار هذه الأعمال للصدق  ينفي علاقتها بالواقع ومن ثمَّ تعبيرها عن هذا الواقع (وإن كان لوجودها دلالات تلقي ضوءاً على طبيعة هذا الواقع)؛

ــ تحديد ملامح الشخصية العربية في عصرنا الراهن. إذ لابد لنا أخيراً  أن ننتقل في الحديث عن هذه الشخصية من مجر الحديث عن فكرة سديمية غير محددة الملامح والمقومات إلى الحديث عنها كحقيقة واقعة، مهما كانت هذه الحقيقة.

**     **     **

إن قيمة كل عمل أدبي سوف تتحدد إذن بتحديد هويته. إذ ليس ثمة عمل أدبي يحمل قيمة إنسانية مطلقة ـ إن صح ووجدت مثل هذه القيمة ـ إلا وكان يحمل هوية المجتمع الذي يطرح مشكلاته في لحظة تاريخية وحضارية ما. وهذه القيمة واقعية، بمعنى أنها تنطوي على أبعاد تاريخية وسياسية واجتماعية وأدبية في الوقت نفسه. وواقعيتها هي التي تسمح بتحديد عمر العمل الأدبي، ومدى قدرته على التأثير. ولذلك، فإن قيمة الأعمال الأدبية التي لا هوية لها ليست واقعية وإنما هي قيمة ذات بعد تاريخي فقط، تسمح لنا، استناداً غلى معيار الهوية ذاته، بفهم مبررات وجود هذه الأعمال، في لحظة تاريخية ما.

هذا المبررالأخير سوف يتيح لنا فرصة القيام بتمييز أساسي بين مختلف الأعمال الأدبية، لم يوله النقد العربي المعاصر من الاهتمام ما يستحق.

غير أن هذه المبررات جميعاً تطرح في النهاية سؤالاً أساسياً: من الذي يحدد هوية العمل الأدبي: هل هو الناقد المعنيُّ بفنية العمل الأدبي، أم ذلك الذي يُعنى بكلية هذا العمل، أم مؤرخ الأدب، أم عالم الاجتماع الأدبي؟

 

* نشر هذا المقال في مجلة "الطليعة" السورية، العدد 244، الصادر بتاريخ 20 آذار/مارس 1971، ص. 32 ـ33.
 
 
 

vendredi 12 décembre 2014


"ينداح الطوفان"

بين الخبر والرواية *

 

بدرالدين عرودكي

  

يبدو أن الناقد الأدبي في بلادنا مرغم، في كل مرة يتعرض فيها لأثر أدبي جديد، وخاصة إذا كان الأثر الأول للكاتب، على التعرض لأوليات الفن الأدبي الذي ينتمي إليه هذاالعمل. وبذلك يضع نفسه في موقعيْن يريد سلفاً أن ينأى بنفسه عنهما. الأول أنه ينصب من نفسه معلماً للكاتب الذي استطاع أن يجد لنتاجه عدداً من القراء، والثاني أنه لا يمارس عمله  كناقد، وإنما يعيد دروساً لا تفيد معرفتها في الإبداع الأدبي مادامت مطروحة للجميع، بعيداً عن العمل الأدبي ذاته. إذ أنه يبدأ من هذا التعارض الذي يوجده هذا العمل بينه من ناحية وبين النوع الأدبي الذي ينتمي إليه كما استقرت مفاهيمه في التاريخ الأدبي من ناحية أخرى، وليس في عمله ـ مع ذلك ـ أية محاولة لفرض مفاهيم وشروط مسبقة على العمل الأدبي الذي يتناوله، مادام هذا العمل لا يقدم أية مؤشرات لانتمائه الفني.
فما الذي يدفع الناقد إذن نحو هذين الموقعين اللذين يرفضهما سلفاً؟
ضرورة محلية بحتة.
وتتضاعف هذه الضرورة في مجال الرواية المحلية التي ما يزال بناؤها مغامرة فردية على كافة المستويات، لم يصل بعد إلى مرحلة تكوين ظاهرة متميزة. ومن ثمَّ تغدو متابعة ما يكتبه الكتاب المحليون في مجال الرواية، على قلته، أمراً لا غنى عنه، مادمنا نضع على أنفسنا مهمة رصد النتاج المحلي ومتابعته، ولكي لا يكون ضياعه في نهاية المطاف بحجة إهمال النقد الأدبي له ــ على الرغم من أنه لم يعرف تاريخ الأدب مثلاً أن إهمال النقد لأثر فني أصيل كان سبباً في صياع هذا الأثر! ــ لا بحجة ضعفه وعدم قدرته على الحياة.
غير أني أريد أن أنأى بنفسي  على الرغم من كلِّ ذلك عن هذين الموقعيْن في تناولي لمحاولة روائية لكاتب شاب أصدر قبل فترة وجيزة أول عمل أدبي له.

**    **    **

ينداح الطوفان لنبيل سليمان أول محاولة روائية في قطرنا تطمح إلى تغطية قطاع مهم في حياتنا ما يزال على الصعيد الأدبي مهملاً إلى أبعد الحدود وهو قطاع الحياة في الريف. وعندما يتطلع كاتب شاب ينتمي إلى الريف نشأة وتجربة إلى بناء رواية تتخذ من القرية إطاراً مكانياً، ومن أوائل الستينيات إطاراً زمانياً، ومن الفلاحين والإقطاعيين والسياسيين التقليديين أبطالاً لها، فإنه بذلك يغامر على صعيديْن: صعيد المادة ذاتها، تلك التي لا تزال مجهولة لدى الكثيرين، والتي يحتاج التعامل معها إلى وعي سياسي وتاريخي واجتماعي بالغ النضج، وصعيد المعالجة الفنية التي لا يقف وراءها تراث روائي عريض واضح الملامح ثابت القواعد محدَّدِ الاتجاهات.
ومثل هذه المغامرة تتطلب جرأة وصبراً. إذ لا يكفي لمن يملك تجربة الحياة في الريف أن يتخذ مجرد امتلاكه التجربة حجة لطرح مشكلات الريف وقضاياه في عمل فني، تماماً مثلما أنه لا يكفي مجرد امتلاك القدرة على خلق عمل فني لكي يكتب المرء رواية عن الريف. ولقد يملك الكاتب بالإضافة إلى التجربة ثقافة عميقة تتيح له أن يطرح هذه المشكلات على الصعيدين الفكري والنظري في مقال أو في دراسة. غير أن ذلك يختلف أيضاً عن طرحها بواسطة عمل فني كالرواية يتضافر الوعي التاريخي والسياسي والمخيلة والثروة اللغوية والتجربة الفنية في عملية بنائها.
وقبل هذا وذلك، لابد للكاتب من أن يحدد موضوع كتابته أولاً لكي يبحث بعد ذلك في الإدارة الفنية الأكثر قدرة على استيعاب الموضوع. فما الذي يحاوله نبيل سليمان في عمله هذا؟
هل يريد أن يكتب رواية وثائقية عن قرية ما تصلح أن تكون نموذج كل القرى في الريف السوري خلال مرحلة هامة في تاريخنا المعاصر هي أوائل الستينيات؟
أم أنه يريد أن يكتب رواية واقعية يتحدث فيها عن الصراع الطبقي، أو عن الصراع في سبيل التقدم والعلم في ريفنا؟
أم أنه يريد أن يكتب رواية تتخذ من التجربة والذكريات الشخصية في بيئة ريفية مادة لها؟
أم ماذا؟
إن ينداح الطوفان لا تجيب عن هذه الأسئلة إجابة واضحة، لا بل إنها تقدم عدة إجابات متتالية دون أن تستقر على إحداها أكثر من لحظات. هي تارة رواية وثائقية، وهي أخرى واقعية، وهي تارة ثالثة ملحمية، وهي تارة رابعة رواية تاريخية...
قد يسجل ذلك لصالح الرواية لا ضدها. ولسوف يكون ذلك صحيحاً لو أن هذه الخطوط جميعها توازت في الرواية من أولها إلى آخرها لتصنع في النهاية ما يسميه الناقد الفرنسي ألبيريس "رواية شمولية". غير أن فصول الرواية ذاتها تنوس بين هذه المفاهيم الفنية جميعها دون أن يكون ثمة تصور فني يوحدها ويمنحها وحدة الحياة تلك التي تحوزها الرواية الشمولية عادة.

**   **   **

فإذا تجاوزنا هذا الارتباك الذي تعاني منه الرواية على صعيد الأنواع الروائية المختلفة، نحو الفكرة المركزية فيها، فسوف نجد أن نبيل سليمان يطمح إلى تجسيد مقولة "الصراع الطبقي" في تاريخ قرية سورية في أوائل الستينيات. غير أن هذا الطموح يطرح على الصعيد الفني تساؤلاً مهماً: من أين نبدأ؟
إن البدء من التحديدات النظرية لهذه المقولة سوف يورطنا في تفصيل الأشخاص والأحداث والزمان على قدِّ هذه التفاصيل، في حين أن استخدام هذه المقولة كأداة والبدء من الواقع الخام: العلاقات السائدة فيه، وإمكانات القوى التي تتحرك وسطه، قد يحدد تفاصيل أخرى للمقولة ذاتها، تمنحها هوية خاصة ويتيح لنا تأكيدها في النهاية في ضوء التجربة المباشرة، لا في ضوء الثقافة والبراهين النظرية.
في ينداح الطوفان لا مجال لإنكار تجربة الكاتب الشخصية في القطاع الذي اتخذ منه إطار روايته. غير أن بدءه من تحديدات فكرة الصراع الطبقي النظرية، قد حال دونه ودون الاستفادة من هذه التجربة، ذلك أن شخصيات الرواية مفصلة على قدِّ الفكرة لا على قدِّ الواقع نفسه. والخطوط المستقيمة التي رسم بها نبيل سليمان شخصيات أبطاله، وبشكل خاص شخصية أبي اسكندر لا تتفق مع طبيعة الشروط التي يفترض أن تحدد مفاصل هذه الشخصية. إن اللون الواحد الذي لون به نبيل سليمان هذه الشخصية من بداية الرواية حتى نهايتها يوحي وكأنها نتيجة مخيلة مثقلة بالأفكار النظرية المجردة. في حين كان بوسعه أن يجعلها أكثر إقناعاً لو اعتمد على تظليلها وخفف من استقامة الخطوط التي تحدد ملامحها. لقد استطاع نبيل سليمان أن يتلافى ذلك إلى حدٍّ ما في رسمه لشخصية  المعلم أحمد وإن كانت هذه الخطوط هن منكسرة. وخفف من حدّة هذه الخطوط في رسمه لملامح شخصية سلمان عندما جعله يخضع للشروط الاجتماعية السائدة في نهاية روايته. غير أنه كان يمتح في رسم شخصياته كلها من تحديدات المنطلق الأساسي الذي بدأ منه، أعني فكرة الصراع الطبقي التي تلخص على صعيد نظري وجود المستَغِلين والمستَغَلين والانتهازيين والثوريين. بيد أن الحدود بين هذه الفئات إذا كانت واضحة على المستوى النظري، فإنها ليست كذلك على المستوى الواقعي  الذي يفترض في رواية واقعية أو تسجيلية أن تكون أمينة له. سوى أنها، بما هي عمل فني ذو إطار سياسي، يمكن لها أن تشير بأدوات فنية إلى طبيعة هذا الصراع، أو طبيعة أطرافه وأمكنتهم في حلبته. وبعبارة أخرى، فإن البدء من مقولة نظرية وتطبيقها بتحديداتها الصارمة على واقع حي يستلب الحياة من العمل الأدبي، ويحيله إلى مجرد مقال نظري مليء بالشواهد المعنية بالتفاصيل الأساسية دون أن تعنى بالتفاصيل الفرعية الأخرى التي تحتاج إليها الرواية.

**   **   **

لقد بدت هذه المحاولة الروائية وكأنها مجموعة أخبار منسقة وفق ترتيب زمني محدد. لم يكن الارتباك الذي عانت منه على صعيد مفهوم الأنواع الروائية العامل الوحيد الذي أسهم في جعلها كذلك، وإنما أيضاً ثقافة الكاتب السياسية النظرية التي طغت في هذا العمل على تجربته الشخصية. هذا إذا وضعنا جانباً مشكلة البناء اللغوي الذي وقف كجسر متهالك بين القارئ وبين ما يريد الكاتب أن يقوله، والذي بدا أبعد ما يكون عن البناء اللغوي الذي تحتاجه الرواية، أو أي عمل أدبي بشكل عام.

 

** نشر هذا المقال في مجلة "الطليعة" السورية، العدد 248، 17 نيسان/أبريل 1971

 

 

 

jeudi 11 décembre 2014


 
الرواية والرواية الجديدة‏
انحطاط الرواية أم انبعاثها؟‏
 
بدرالدين عرودكي
 
 
            ما إن يزول سحر النظرة الأولى ـ وهي مزيج من الخيال والتوقع والذاكرة السمعية والبصرية وشيء من الواقع ـ حتى تتمايز ملامح الصورة: صورة باريس، وعلى الأخص الحياة الثقافية في باريس، تمايزاً يزداد في الوضوح مع الأيام كلما استغرقت القادم الغريب أجزاء الحياة اليومية الصغيرة والكبيرة معاً. يزداد في الوضح ويبرز القاع الذي تقوم عليه مختلف الألوان، لتأخذ الصورة بعد ذلك أبعاداً أخرى: فالحياة الثقافية ليست قطاعاً معزولاً عن بقية القطاعات الأخرى ـ وهي بداهة يغلفها ذلك السحر في الحقيقة ـ، والألوان الوردية ليست هي الألوان الوحيدة، وربما لم تكن أيضاً الألوان الغالبة.‏
          ولا بد من الاعتراف أنه كلما تبدت خطوط التمايز كلما عمقت الصورة فتكشفت عن أبعاد معقدة لم تكن تشي بها النظرة الأولى. ومن هنا، عندما حاولت أن أضع تمهيداً أترصد به الملامح العامة لهذه الصورة التي يفترض أن تكشف عن تفاصيلها هذه الرسالة والرسائل التالية لـ (الموقف الأدبي) وجدتني أمام خيارين: إما أن انساق وراء تعميمات لن تعني شيئاً وإما أن أجعل من التمهيد خلاصة لمجموعة من التفاصيل بحيث يأتي في نهاية سلسلة من الرسائل تتناول الظواهر الأساسية في هذه الصورة تركيباً يجمع مختلف العناصر ويؤالف بينها مؤالفة تنأى به عن أن يكون مجرد انطباعات عامة أو تكراراً لصيغ جاهزة تروق للصحافة الباحثة عن المثير والمدهش بأي ثمن حتى ولو كان التلفيق أو التزييف أحياناً.‏
           لذلك أريد أن أبدأ مباشرة بالحديث عن ظاهرة الرواية والرواية الجديدة في فرنسا لسببين: أولهما أن القارئ العربي يتابع ـ بشكل أو بآخر ـ هذه الظاهرة، وأكبر دليل على ذلك عدد المقالات التي كتبت عن الرواية الجديدة وعن كتابها مثلاً رغم أنه لم يترجم أي عمل كامل لأي منهم ـ فيما أعلم ـ فيما عدا بعض القصص القصيرة لروب ـ غرييه نشرت في غاليري 68 والطليعة السورية والموقف الأدبي، وإقبال إحدى دور النشر الكبيرة في الوطن العربي ـ (دار المعارف) ـ على ترجمة مقالات آلان روب ـ غرييه التي جمعها تحت عنوان ((نحو رواية جديدة)) والتي حاول أن يقدم فيها نظريته في الرواية الجديدة التي يكتبها هو وعدد من الروائيين في فرنسا منذ 1954؛ وثانيهما أن النقاش الدائر حول هذه الظاهرة الآن في فرنسا قد اتسع مجاله: في الصحافة، وفي البرامج الإذاعية الثقافية وفي مجموعة من الكتب التي صدرت خلال السنوات الثلاث الأخيرة والتي تنضاف إلى ما يمكن أن يكون مكتبة كاملة، منذ عام 1954 حتى الآن، أي منذ عشرين عاماً، عمر الرواية الجديدة.‏
          في الصحافة، كان أبرز المشاركات في هذا النقاش، العدد الخاص الذي كرسته المجلة الأدبية الأسبوعية (النوفيل ليترير (Les Nouvelles Litteraire لبحث ظاهرة الرواية تحت عنوان ضخم ومثير   (انحطاط الرواية أم انبعاثها؟) شارك في تحريره النقاد والروائيون والناشرون الذين يمثلون لا مختلف الاتجاهات الروائية السائدة الآن فحسب وإنما مختلف الإيديولوجيات السياسية أيضاً. أما في الإذاعة فإن الإذاعة الثقافية الفرنسية Farnce - Culture قد خصصت خلال الأشهر السابقة عدة حلقات لمناقشة الوضع الراهن للرواية الفرنسية تمثل المحاور التي قامت بين الروائي والناقد جان ريكاردو والناقد جورج رايار ملامحها الأساسية. أما الكتب، فهناك ثلاثة كتب أساسية صدرت مؤخراً: أولهما كتاب الناقد ومؤرخ الرواية الفرنسية ز.م. البيريس تحت عنوان (الأدب، آفاق عام 2000)؛ وثانيهما كتاب جان ريكاردو (الرواية الجديدة) الذي صدر ضمن سلسلة (كتاب كل يوم) المخصصة أصلاً لدراسة أعلام الأدب والفكر الغربي، فبدا هذا الكتاب الذي يشكل حلقة منها وكأنه يجمع الروائيين الجدد السبعة الذين تحدث عنهم في واحد أو بالأحرى في اتجاه واحد يكاد يشي بوجود مدرسة تحت هذا الاسم لها زعيمها وأتباعه وقوانينها الخاصة، شأنها في ذلك شأن ((السريالية))؛ ولكن الكتاب الذي صدر أيضاً ضمن هذه السلسلة كان يحمل عنوان ((السرياليون)) وليس السريالية، على الرغم من أن هؤلاء كانوا يشكلون مدرسة معلنة بزعامة أندريه بريتون، كان لها اتباعها وقوانينها والخارجون على القانون فيها أيضاً؛ وثالث هذه الكتب ((الرواية والمجتمع)) لميشيل زيرافا الذي يأتي بعد كتابه السابق ((الثورة الروائية)) الذي خصصه لدراسة التطور العميق في الفن الروائي في الثلث الأول من هذا القرن. وإلى جانب هذه الكتب التي تحدد أيضاً نزعات النقد الروائي الفرنسي، هناك أعمال ودراسات الاتجاه البنيوي التطوري في علم اجتماع الأدب. Structuralisme Genetique  التي انطلقت من المفاهيم الأساسية التي صاغها جورج لوكاتش في بدايات هذا القرن، وطورتها تطويراً ملحوظاً، مستفيدة في وقت واحد معاً من تحليلات ماركس لبنية المجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر والتحليلات الماركسية المعاصرة وأبحاث جان بياجيه، عالم النفس السويسري، في علم النفس ونظرية المعرفة. وقد نادى بهذا الاتجاه في فرنسا لوسيان غولدمان الذي طبق لأول مرة مبادئ المنهج البنيوي التكويني على دراسة الأدب التراجيدي في القرن السابع عشر في أطروحته ((الإله المختفي)) (1956)، وفي أبحاثه اللاحقة في قسم علم اجتماع الأدب في ((معهد الدراسات العليا)) في باريس ومركز علم اجتماع الأدب التابع لمؤسسة علم الاجتماع في جامعة بروكسل. ومن أبرز هذه الأبحاث تلك التي تناولت روايات أندريه مالرو والرواية الجديدة ومسرح جان جينه. وبوفاة غولدمان عام 1970 يتجاوز هذا الاتجاه مرحلة وضع الأسس والفرضيات إلى مرحلة تعميق ينزع نحو الدراسات التطبيقية أكثر من نزوعه نحو البحث عن أسس نظرية. ودراسة شارك كاستيلا عن روايات موباسان ودراسته المرتقبة عن قصصه القصيرة، ثم دراسة جاك لينهار لرواية آلان روب ـ غرييه (الغيرة) التي صدرت في العام الماضي في كتاب مستقل تحقق وتؤكد الفرضيات والمبادئ التي اقترحها غولدمان ومن قبله لوكاتش لدراسة الأدب. تلك هي العناصر الأساسية في النقاش الجاري حالياً حول الرواية. وقد يثار في معرض هذا التحديد اعتراضان: أولهما أنه لا يشير إلى عنصر لا يقل أهمية وأعني به رولان بارت واتجاه البنيوية اللغوية؛ وثانيهما أنه أضاف إلى الأصوات النقدية في النقد الروائي الفرنسي اتجاهاً اقرب إلى أن يمت إلى علم الاجتماع منه إلى النقد الروائي خاصة والأدبي بشكل عام. والحق أن الدراسات التي يقوم بها بارت لا تمت إلى النقد الروائي وإن تناولت في بعضها عدداً من النصوص الروائية المهمة، وإنما تمت بالأحرى إلى ميدان الدراسات اللغوية الجديدة التي تهتم بـ ((الكتابة)) كوسيلة اتصال أكثر من اهتمامها بهذا النوع الأدبي أو ذاك. ولهذا الاتجاه وجوده المؤثر في الدراسات الأدبية والحياة الثقافية الفرنسية ولا بد له من عرض يتناوله على حدة. أما غولدمان وأتباعه، فمن الصحيح أنهم يتناولون الأدب من وجهة نظر علم الاجتماع، إلا أن مفهوم هذا التناول ـ الذي يعتمد منهج البنيوية التطورية ـ كان ينادي بتطوير جذري لمناهج علم الاجتماع الأدبي. فالمناهج التقليدية تتناول مضمون العمل الفني والعلاقة بين هذا المضمون ومضمون الوعي الجمعي، أي أنماط تفكير وسلوك الناس في الحياة اليومية. وبعبارة أخرى فهي تبحث في الأعمال الفنية عن (الوثيقة) أكثر من بحثها عن (الأدب) خاصة وأنها، بمنطلقاتها، تحطم وحدة العمل الفني باهتمامها بالمضمون وحده.‏
          في حين أن البنيوية التكوينية تنطلق من مبادئ أولية ليست مختلفة وحسب وإنما مناقضة أيضاً لمبادئ هذه المناهج. وهي بإيجاز تأخذ في الاعتبار أولاً وحدة العمل الأدبي، شكلاً ومضموناً، بانطلاقها من مبدأ اعتبار العمل الأدبي أو الفني، كوحدة متماسكة أو كبنية، واقعة أنه ظاهرة فردية واجتماعية في آن واحد. بمعنى أن العمل الفني ليس وثيقة تلقي الضوء على بعض نتائج الدراسات الميدانية نفياً أو إثباتاً، وإنما هو جزء من الفعالية الاجتماعية. إن الظواهر أو الوقائع الإنسانية عبارة عن إجابات فرد أو جماعة تشكل محاولة لتعديل أو تغيير وضع معطى باتجاه يلائم تطلعاته أو تطلعاتها. وعالم اجتماع الأدب يهتم بهذا الاعتبار بالدلالة التي تحملها هذه الظاهرة، أي هذا العمل الفني، وذلك بهدف الكشف عنها. وهذه الدلالة لا تقوم في مضمون العمل الأدبي وحده ولا كذلك في شكله وإنما في كليته كوحدة تؤلف بنية متميزة. ومع ذلك فحيثما كان ثمة إمكان لاستخلاص مثل هذه البنية المتميزة، كان ثمة مجال لدراسة دلالة ما، أي لدراسة ظاهرة اجتماعية ما.‏
           هذا التناول للعمل الأدبي قمين أكثر من أي تناول آخر، بفهم معنى التحولات العميقة في الأدب وفي الأنواع الأدبية، وقادر من ثم على وضع هذه التحولات في مكانها الصحيح في التاريخ الاجتماعي والتاريخ الأدبي معاً. ففي حين أن الدراسات النقدية المحضة تكشف عن بنيان العمل الفني ومدى تماسكه، فإن الدراسات البنيوية التكوينية لا تكتفي بذلك فقط وإنما تقدم مبرراته وتعديلاته باستخلاصها من داخل بنية العمل الفني ذاته وبمعارضتها بالبنية الاجتماعية التي ينتمي إليها هذا العمل للكشف عن طبيعة العلاقة بينهما ـ تماثلاً أو تمايزاً ـ بحيث يمكن فهم طبيعة استمرار أو تحول أو انقلاب يمس الأنواع الأدبية في لحظة ما من التاريخ. من هنا بدت لي ضرورة إضافة هذا الاتجاه إلى الأصوات الأخرى في النقد الروائي الفرنسي المعاصر خصوصاً وأن التحليلات التي قدمها لمنجزات الرواية الجديدة والمسرح الطليعي أسهمت أكثر من أي تحليلات أخرى في الكشف عن ضرورتها وفي تأصيلها في حركة تطور الرواية الفرنسية بشكل خاص والرواية الأوروبية بشكل عام.‏
          إن الأطراف المشاركة في النقاش الدائر اليوم حول الرواية تنطلق من معايير متمايزة في النظر إلى طبيعة التحولات التي تمت وتتم في مجال الشكل الروائي. ومن الممكن عنونة هذه الأطراف من خلال المبادئ الأساسية التي تتحكم في رؤية كل واحد منها الأمر الذي سيسمح لنا في نهاية هذا العرض من تحديد مواقع الخلاف، وذلك كما يلي:‏
ـ إن أساس الرواية هو إبداع شخصية روائية دون أي شيء آخر.‏
ـ إن الفن الروائي هو الذي يعتمد بشكل مباشر على فكرة ما عن الإنسان في لحظة ما من التاريخ الاجتماعي والذي يترجم هذه الفكرة بأكبر قدر من الوضوح والدقة.‏
ـ إن الشكل الروائي يتوقف إلى حد كبير على طبيعة بنية العلاقات بين الشخصيات التي تصفها الرواية. إن التحول في شكل الرواية يترجم بالضرورة تحولاً اجتماعياً. فالشكل الروائي هو، من بين كافة الأشكال الأدبية الأخرى، أكثرها ارتباطاً فورياً ومباشراً بالبنى الاقتصادية بالمعنى المحدد للكلمة وبين التبادل والإنتاج من أجل السوق. وهكذا، فبقيام الرواية أساساً على الوحدة البنيوية: الشخصية ـ الموضوع، لا بد أن يرافق أي تحول في هذه العلاقة على المستوى الاجتماعي بتحول على المستوى الأدبي وبشكل خاص على مستوى الرواية.‏
ـ إن فن الرواية هو حوار بين الأنا والعالم؛ ذلك هو لحنها الأساسي اليوم كما يقول البيريس، وبالتالي، فحيثما توفر مثل هذا الحوار في عمل يتخذ اسم الرواية، فهو كذلك؛ وبين الأشكال المختلفة التي نراها اليوم ليس ثمة أي تناقض وإنما اختلاف تناول.‏
***
          ((انحطاط الرواية أم انبعاثها؟)) تساؤل يترجم إذن، انطلاقاً من جو المفاهيم السابقة وجهة نظر ترفض أن تؤكد موقفاً ما إزاء الوضع الذي تمر به الرواية المعاصرة. والحقيقة أن هذا التساؤل يرجع إلى عشرينات هذا القرن، مع التحولات الروائية العميقة التي تمت في أعمال بروست وموزيل وجويس وكافكا وفوكنر. غير أنه يستعاد اليوم بمناسبة الرواية الجديدة التي رفض أصحابها أن تصنف على أساس أنها ظاهرة عارضة روجت لها الصحافة الأدبية أكثر مما فرضت نفسها عبر أعمال محددة وعندما بدا أن الرواية الجديدة قد اجتازت الخط الفاصل بين الظاهرة العارضة والتيار الذي يترجم علاقات قائمة لا يكف عن الوجود إلا بزوالها أو بتحولها، وذلك بعد عشرين عاماً من ولادتها وبعد أن فرضت وجودها فرضاً رأى فيه البعض نوعاً من الديكتاتورية بدأت تؤثر على حرية المخيلة لدى الروائيين الشبان على حد تعبير بيير بواسدوفر.‏
          أزمة رواية إذن. ولكن هذه الأزمة، كما تشهد الأعمال النقدية منذ بدايات هذا القرن، ليست جديدة. إلا أنها تأخذ اليوم طابعاً من الحدة يضعها أمام حدين: موت الرواية أو استمرارها في ((الرواية الجديدة)) الأمر الذي يجعلها مع ذلك قائمة!.‏
          وراء هذه الحدة في الأزمة تقف الرواية الجديدة بما طرحته من رؤية جديدة للبنية الأساسية للرواية فرضتها طبيعة التغير الذي طرأ على بنية العلاقات في المجتمع الأوروبي. إن التغير الذي طرأ على الشكل الروائي منذ بدايات هذا القرن يساير بشكل ملحوظ هذا التغير ويصل في مرحلته اليوم إلى الرواية الجديدة. ولكن ما الذي يتغير بالضبط في الحياة الاجتماعية وفي الشكل الروائي؟‏
          يستعيد لوسيان غولدمان في هذا المال التحليلات الماركسية لتطور المجتمع الغربي بدءاً من ماركس نفسه الذي ((وضع في دراسته للتحولات الرئيسة الناتجة في بنية الحياة الاجتماعية بظهور وتطور الاقتصاد، وضع هذه التحولات بالدقة على مستوى العلاقة بين الفرد والشيء مسجلاً في زمنه بداية انتقال تدريجي لمعامل الواقع ولفعالية الأول إلى الثاني وهو ما سماه بتوثين السلعة Fetichisme de la Marchandise أو التشييء Reification حسب المصطلح الذي استخدم في الأدبيات الماركسية منذ كتابات لوكاتش. وأية محاولة للإجابة عن السؤال السابق، وبالتالي طبيعة العلاقة بين البنية الاجتماعية والبنية الروائية، لا بد لها من أن تأخذ في اعتبارها أربعة عناصر حاسمة:‏
1 ـ أن التشييء، بوصفه عملية نفسية دائمة، يعمل منذ عدة قرون بدون انقطاع في المجتمعات الغربية المنتجة للسوق.‏
أما العناصر الثلاثة الأخرى فهي تحدد المظهر المباشر للتشييء ومراحله في هذه المجتمعات:‏
2 ـ الاقتصاد الحر الذي احتفظ حتى بداية القرن العشرين بالوظيفة الرئيسية للفرد في الحياة الاقتصادية، وبدءاً منها في الحياة الاجتماعية.‏
3 ـ تطور التروستات والاحتكارات ورأس المال، خاصة في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين الذي أحدث تغييراً كيفياً في طبيعة الرأسمالية الغربية تغييراً سماه المنظرون الماركسيون ((الانتقال من الرأسمالية اللبيرالية إلى الإمبريالية)). وكانت نتيجة هذا الانتقال في نهاية العشر الأول من القرن العشرين، من الزواية التي تهمنا هنا، تعليق كل أهمية رئيسية للفرد وللحياة الفردية داخل البنى الاقتصادية، ومن ثم في مجموع الحياة الاجتماعية.‏
4 ـ إن تطور تدخل الدولة في الاقتصاد وخلق آلية انتظام ذاتي بفضل هذا التدخل خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الثانية وخاصة منذ نهاية هذه الحرب، جعل من المجتمع المعاصر مرحلة ثالثة كيفية في تاريخ الرأسمالية الغربية يمكن تسميتها التنظيم))1.‏
          هذه المراحل الثلاثة تتحدد على المستوى البنيوي كما يلي: الأولى باعتبار الفرد (الفرد لا باعتباره كائناً مفرداً مستقلاً وإنما بوصفه ممثلاً لملامح طبقة ولمنظومة من القيم تستند إليها هذه الطبقة) واقعاً أساسياً للأشياء فيه أهمية أولية ولا شك ولكنها لا توجد إلا من خلال علاقتها بهذا الفرد؛ الثانية، باختفاء تدريجي للفرد بوصفه واقعاً أساسياً وبالمقابل بالاستقلال المتزايد للأشياء؛ الثالثة، بتكون عالم الأشياء ـ الذي فقد فيه ((الإنساني)) كل واقع أساسي، بوصفه فرداً وبوصفه مجتمعاً ـ كعالم مستقل له بنيانه الخاص الذي يسمح وحده للإنساني أحياناً وبصعوبة أن يعبر عن نفسه.‏
          ويبدو من العودة إلى تاريخ البنية الروائية أن هذه المراحل الثلاث تطابق فعلياً ثلاث مراحل كبيرة فيه: مرحلة الوجود الفعلي للشخصية كواقع أولي (القرن التاسع عشر وروايات بلزاك وستندال)؛ مرحلة ذوبان الشخصية الروائية (بين 1912 و1945) في روايات جويس وكافكا وموزيل والغثيان لسارتر والغريب لكامو؛ والمرحلة الأخيرة وهي مرحلة رأسمالية التنظيم المعاصرة التي تتسم بظهور عالم مستقل للأشياء له بنيته وقوانينه الخاصة، والذي لا يستطيع الواقع الإنساني أن يعبر عن نفسه بمعنى من المعاني إلا عبره، يمثل هذه المرحلة الرواية الجديدة، وبوجه خاص آلان روب غرييه الممثل الأكثر أصالة وعمقاً لها.‏
          إن الرواية الجديدة التي تقف اليوم وراء أزمة الرواية والتساؤل عن انحطاطها أو انبعاثها هي إذن، من وجهة نظر البنيوية التكوينية، التعبير الأكثر أصالة عن المرحلة الحالية من تاريخ المجتمع الأوروبي ومآل تطور طبيعي ومنطقي داخل تاريخ البنية الروائية منذ القرن التاسع عشر إلى اليوم. إنها ليست إذن تجديداً مجانياً في الشكل الروائي، ولا هي طلاق للمفهوم الأساسي للرواية ـ بوصفها إبداع شخصية روائية ـ، ولا هي تفريغ للمجتمع وللإنسان أو للواقع من حيث إذن الرواية ـ أصلاً ـ تدور حول الإنسان حياً في المجتمع. إنما هي تجديد فرضته رؤية لواقع متغير بالمقارنة مع الواقع الذي كتبت فيه رواية القرن التاسع عشر أو الواقع الذي كتبت فيه رواية القرن التاسع عشر أو الواقع الذي كتبت فيه رواية النصف الأول من القرن العشرين؛ وإنما هي تطوير للمفهوم الأساسي للشكل الروائي، من حيث أن الشكل يترجم مفهوماً ما عن الشخصية تطويراً فرضته طبيعة التغير الحاصلة في البنية الأساسية للمجتمع والتي لا يمكن للروائي إلا أن يأخذها بعين الاعتبار؛ وإنما هي تعبير عن رواية الروائي للواقع، فليست هي التي فرغت الواقع من الإنسان، وإنما هو الواقع نفسه الذي اكتسبت فيه الأشياء وجوداً أولياً على الإنسان. وبعبارة أخرى فإن ((قراءة جويس وبروست بل ولورنس مثلاً تبين أن أشكال الحكاية والشخصيات كانت مرتبطة دوماً بلحظة ما من التاريخ، بمظهر ما من مظاهر الحضارة، وبشكل خاص التطور الخاص بفن ما)). إن التأكيد على وجود تاريخ للشكل الروائي يعني أول ما يعني أن المفهوم البلزاكي أو الطبيعي عن الرواية لم تكن له على الإطلاق سلطة القانون على الرواية، تماماً كما أن فن التصوير المنظوري ليست له هذه السلطة على فن الرسم.‏
          إن مبرر الرواية الجديدة اليوم لا يختلف، من حيث الأساس، عن مبرر الرواية في بداية القرن العشرين. ومثلما اضطر بروتس وجويس وولف وغيرهم من الروائيين في عشرينات هذا القرن أن يكتبوا أبحاثاً أو مقالات تنظيرية لشرح وللدفع عن معاييرهم الشكلية الجديدة، كذلك يجد رواد الرواية الجديدة أنفسهم، كآلان روب ـ غيرييه وميشيل بوتور وجان ريكاردو مضطرين لمباشرة نفس المروع، وهو ما يفسر مقالات آلان روب ـ غرييه التي جمعت تحت عنوان ((نحو رواية جديدة)) ومقالات ناتالي ساروت المنشورة ضمن كتاب ((عصر الشك)) وكتب جان ريكاردو ((نحو نظرية للرواية الجديدة)) و((مشكلات الرواية الجديدة)) و((الرواية الجديدة))، بل كذلك لأن يجتمعوا قبل سنتين طوال أسبوع كامل ليناقشوا فيما بينهم هذا الذي صنعوه ويستمرون في صنعه: الرواية الجديدة، ولينشروا بعد ذلك نصوص حوارهم ضمن مجلدين ضخمين. هذا المبرر يقوم بشكل جوهري على أساس أن سلطة الأشياء واستقلالها في المجتمع المعاصر اكتسبت أولية واضحة على الإنسان بحيث غدا من المستحيل على الروائي اليوم أن يبدع شخصيات روائية كما ينادي النقاد التقليديون لسبب بسيط وهو أن هذه الشخصيات لم يعد لها في المجتمع الأوروبي وجود مستقل. لقد غدت ظلاً للأشياء التي حلت محلها في الأهمية والأولية والوجود.‏
          إن اختفاء الشخصية بالنسبة لآلان روب ـ غرييه مثلاً واقعة قائمة؛ غير أنه يؤكد بالمقابل أن هذه الشخصية قد حل محلها واقع آخر مستقل ذاتياً، وهو عالم الأشياء. ذلك لا يعني إذن أنه لا يبحث عن الواقع الإنساني. إنه يبحث عنه، ولكن هذا الواقع لن يتواجد بشكله واقعاً عفوياً، ولن يكون ممكناً إيجاده إلا من خلال عالم الأشياء التي يعبر عن نفسه من خلالها.‏
           ذلك هو بالضبط مبرر البحث عن طريقة جديدة لقول الأشياء في الوقت الراهن.‏
           يكتب غولدمان عن حوار جرى بينه وبين أحد النقاد في هذا الصدد: ((لقد حاولت أن أبين أنه إذا كان هناك كاتب يقص الأشياء بطريقة مختلفة فذلك لأن هذه الأشياء قد غدت هي نفسها مختلفة بشكل جوهري بحيث لن يكون بوسعه أن يستخدم لقولها وسيلة كانت تستخدم قبل تغيرها. وقد انتهت المناقشة بتحليل مقطع من رواية ((الغيرة)) لآلان روب غرييه: (لم يحدث الحذاء الخفيف ذو النعل المطاطي أي ضوضاء فوق بلاط الدهليز). قال الناقد: ((من الواضح أن المقصود هنا رجل غيور يسير بخطوات صامتة كيلا يحدث ضوضاء يباغت بها المرأة)). فأجبت: ((ربما، ولكن ما هو أساسي هو أن روب غرييه لم يكتب: ((رجل يسير بخطى صامتة)) وإنما ((الحذاء الخفيف... لم يحدث أي ضوضاء))، وأنه إذا كان قد فعل ذلك، فمن المحتمل أن ذلك هو الأساسي، أعني حقيقة أن الأحذية في عالم اليوم هي التي تجر الإنسان، وأن الشيء الجامد وليس الإنسان هو محرك الأحداث)).‏
          من الواضح أن الجواب كان: ((هذه مزحة مسلية وروحية ولا شك ولكنها ليست أكثر من مزحة!)). إذ ذاك، طلبت إلى محدثي الاختيار بين تفسيرين سأقدمهما له، وأن يقول لي أيهما يبدو له أكثر دقة بما أن الإجابة عن المشكلة التي كنا نناقشها تتوقف على هذا الاختيار:‏
          من الممكن القول إنه بين تموز وآب من كل عام في الواقع، يذهب عدة ملايين من الناس في البلاد الصناعية المتقدمة لقضاء عطلتهم مع آلة تصوير، ويصنعون صوراً يعرضونها بعد ذلك على أصدقائهم وعلى أفراد أسرتهم.‏
           من الممكن القول أيضاً أنه في كل سنة يقرر كل من مجلس إدارة كوداك والشركات الأساسية المنتجة لآلات التصوير، واتفاقها مع عدة وكالات سياحية نادراً ما يكون صريحاً وغالباً ما يكون ضمنياً، أن ينتجوا عدداً من آلات التصوير تسافر عبر العالم، في حين أن عدد من الآلات الأخرى، الموزعة في السنوات السابقة، تبقى معروضة للتداول، وإنه ما إن تتخذ هذه القرارات حتى تنطلق الآلات في رحلة مع عدد يساوي عدد الناس الذين يخدمونها.‏
          فأي واحد من هذين التفسيرين يتصور بشكل أفضل الحقيقة الجوهرية لهذه الظاهرة؟
          أعتقد أن كل عالم اجتماع جدي سوف يختار الثاني، وبقدر ما يسمح به هذا التفسير من فهم أدق للواقع فإن ذلك ينطبق أيضاً على تعبيرها الأدبي الذي قاد روب ـ غرييه للقول: ((العلم يتقدم)) لا أن يقول: ((الإنسان يتقدم)). والحق أننا ههنا إزاء تحول عميق لن يتمكن الكاتب من التعبير عنه إلا على هذا المستوى من التجريد، الأمر الذي يجعل منه مفارقة بالنسبة لمعظم الناس الذين يقرأون نصه)). (الإبداع الثقافي الحديث ص64 ـ 65).
          هذا التحول العميق هو ما تزعم الرواية الجديدة التعبير عنه بوسائل جديدة هي وحدها قادرة على أن ترسم ملامح المرحلة الراهنة من المجتمع الأوروبي. يكتب آلان روب غرييه: ((إذا كانت الرواية الجديدة تصف علاقات غيور مع امرأته وعشيق المرأة بالأشياء المحيطة بهم بطريقة مختلفة فلي ذلك لأن المؤلف يبحث عن شكل جديد بأي ثمن، وإنما لأن طبيعة البنية نفسها التي تشترك بها كل هذه العناصر قد تغيرت. فالحقيقة أن المرأة والعشيق والغيور نفسه قد استحالوا أشياء، وفي مجموع هذه البنية وكل البنى الأساسية في المجتمع المعاصر تعبر المشاعر الإنسانية الآن على علاقة تملك فيها الأشياء ديمومة واستقلالاً ذاتياًً تضيعه الشخصيات بالتدريج)).‏
          غير أن نقطة الخلاف هي هنا بالضبط. فوراء الاختلاف الأساسي في رؤية وتفسير الظواهر الاجتماعية والنفسية في المجتمع المعاصر، هناك الاختلاف حول تحديد مفهوم الرواية أصلاً. فالذين يعرفون الرواية إبداع شخصيات روائية هم بالضبط من يرفضون الرواية الجديدة، لا في إنجازاتها الشكلية والتقنية فحسب وإنما في بنيتها كلها بما هي رؤية للعالم ((مختلفة)). إنهم لا يقبلون الرواية إلا عندما تشكل امتداد مستقيماً لرواية القرن التاسع عشر، وإلا عندما يكتشفون في هذا المقطع أو ذاك لهجة بلزاكية أو حواراً داخلياً ستندالياً، وإلا عندما تجعلهم الرواية ينسون أنفسهم ولحظتهم الحاضرة ما أن تقلب أيديهم الصفحة الأولى من الكتاب فتستغرقهم خيوط الأحداث المتتابعة وتحليلهم هم إلى أبطال، في عالم آخر لا علاقة له بعالمهم. ومع أن هؤلاء مثلاً يستشعرون مدى التغيرات العميقة التي طرأت على المجتمع الأوروبي خلال المائة سنة الأخيرة فإنهم لا يجدون أي ضرورة لزوال الشخصية من الرواية وهي تشكل محورها. يكتب بيير بواسدوفر في مقاله ((مناقشة الرواية ومستقبل الأدب القصصي)):‏
           ((الرواية ليست ظاهرة معزولة، إنها فعل اجتماعي. أزمتها هي أزمة حضارتنا. لقد قامت المجتمعات التي سبقت مجتمعنا حول مفهوم عن الإنسان وعن العقل وعن الطبيعة وعن علاقاتنا مع العالم كان على حظ من الوثوق والثبات بحيث صلح ملجأً نفسياً وأخلاقياً لكل جيل. أما اليوم فإن هذه الملاجئ ـ الأمة والكنائس والمدرسة والكتاب ـ ليست سوى أبنية مهزوزة. منذ أمد قريب، منذ قرن، رأينا العلوم والفلسفة ثم الفنون والأخلاق تمزق هذه الصورة المريحة والمطمئنة إلى حد بعيد لأرض صورت على أنها حماية ضد الموت. ويبدو أنه ليس من الممكن أن نحيا وأن نفكر بحرية إلا عبر معارضتنا الجذرية لا للمجتمع فحسب وإنما للواقع أيضاً..))، ومع ذلك ((فالرواية الفرنسية من ستندال حتى بلزاك، إلى زولا، إلى برنانو وحتى سيلين، بل وحتى مالرو لم تكف عن الرجوع إلى الإنسان، عن الكشف عنه حياً في هذا المجتمع في هذا المكان أو ذاك من العالم)).‏
          إن الإتفاق ما إن يبدو كاملاً في الكلمات الأولى من هذا المقطع حتى يستحيل إلى اختلاف، بين رؤية الرواية الجديدة ورؤية الرواية التقليدية. فالرواية فعل اجتماعي، تلك نقطة لا خلاف عليها بين الطرفين. وأزمتها هي أزمة حضارة، وذلك صحيح. والانقلاب الحاصل بين مفهومين عن الإنسان، بهذه النظرة الحضارية واضح أيضاً. ولكن عدم التمييز بين موقف بلزاك وستندال مثلاً من الإنسان من جهة وموقف مالرو من جهة أخرى هو محل الاختلاف. صحيح أن الرواية لم تكف بشكل عام عن الرجوع إلى الإنسان أيضاً؟ هل يعني ذلك أن الرواية الجديدة كفت مثلاً عن الرجوع إلى الإنسان أيضاً؟ هل يعني ذلك أن الرواية الجديدة كفت عن البحث عن الواقع الإنساني؟. إن إجابة هذا السؤال تتطلب بالطبع عودة مباشرة إلى النصوص، وذلك ممكن في كل وقت. ولكن لنعد ببساطة إلى المقطع الذي أورده غولدمان في معرض مناقشته، فسنرى أن الواقع الإنساني يختفي وراء واقع أكثر حضوراً هو واقع الأشياء الساكنة، وأنه لا يستطيع أن يرى وأن يعبر عن نفسه إلا من خلال هذا الأخير. ثمة شيء ما إذن قد تغير فأوجب على الروائي المعاصر أن يعبر عن تغيره. إن نفس المقارنة بين رواية ((الأب غوريو)) لبلزاك و((الوضع البشري)) لمالرو سوف تقودنا إلى نفس النتيجة. هذا التغير لم يكن على مستوى الواقع الاجتماعي والتاريخي فحسب ولا كذلك عبر مضمون كل الروايتين وإنما في معمار وجمالية كل منهما. وبإيجاز، في نظرة كل منهما إلى الإنسان، وإلى وضعه في المجتمع وإلى علاقته به. والحق أن بين ((الوضع البشري)) وبين ((المماحي)) لروب ـ غرييه هذه المسافة أيضاً. ذلك أنه يترتب علينا في أي تحليل لتاريخ بنية اجتماعية أو بنية فنية أن نحسب حساب درجة تسارع التطور والتحول. إن معدل هذه الدرجة قد تضاعف مرات عديدة خلال المائة سنة الأخيرة، بل إنه يصل إلى معدل خيالي بالمقارنة مع معدل القرن الماضي اعتباراً من نهاية الحرب العالمية الثانية. فلا غرابة والحالة هذه مثلاً أن يكون معدل التغير بين ((الأب غوريو)) و((الوضع البشري)) أقل بكثير منه بين هذه الأخيرة وبين ((المماحي))، لا بل بين ((المماحي)) وبين آخر رواية لآلان روب ـ غرييه وأعني بها ((مشروع من أجل ثورة في نيويورك)) (1971)، أو بين أول رواية جديدة في عام 1954 وبين رواية ((H)) لفيليب سوللر التي يروق اليوم لنقاد الملاحق الأدبية تسميتها بالرواية الجديدة الجديدة. ومن هنا فلا معنى للقول مثلاً مع دومينك مانغنيو: ((أن الرواية الجديدة لم تفلت من القانون العام: هناك ما بعد الرواية الجديدة!)).. ذلك أنه في حال تأكيدنا لهذا ((المابعد)) إنما نؤكد في الوقت نفسه معدل التسارع هذا ومشروعية التغيير على مستوى الرؤية الجمالية التي تترجم بالضرورة رؤية اجتماعية، إذا كانت هي وحدها كفيلة بالتعبير عن مثل هذا التغيير.‏
           إزاء هذا التعليل يشهر دعاة الرواية التقليدية حجة تبدو للوهلة الأولى قاطعة: ولكن من يقرأ الرواية الجديدة؟‏
           في تعليل بواسدوفر أن الرواية الجديدة ((لا تهم حقاً سوى الأساتذة الأعزاء الذين يعلقون عليها في ندواتهم وحلقاتهم الدراسية، واستمرارها كان بوصفها ظاهرة في التاريخ الأدبي خلال العشرين سنة الفائتة)). فالرواية الجديدة ـ كما يقول ـ مارست ديكتاتورية ـ عبر ادعاء أصحابها أن الرواية التي يكتبونها هي الرواية التي تسجل الواقع بصدق في حين أن كل ما عداها من روايات تقدم صورة مزيفة عن الواقع لسبب بسيط وهي أنها لا تختلف عن روايات القرن التاسع عشر معماراً ورؤية للإنسان ـ سببت "هذا العزوف المتزايد من قبل الجمهور عن الرواية وجعلته يلتفت إلى السينما والتاريخ، في حين أن الرواية المقروءة هي الرواية التقليدية بالمعنى الفعلي للكلمة كرواية كريستين ريفواييه (بوي) التي بيع منها مائتي ألف نسخة في الأسابيع الأولى من نشرها. صحيح ـ يقول بواسدوفر ـ أن قراءة هذه الرواية هم في معظمهم قراء مجلتي ((إل (و(ماري كلير) ـ وهما مجلتان نسائيتان مكرستان للاهتمامات النسائية وبشكل خاص آخر صرعات بيوت الأزياء الباريسية الشهيرة ـ ((إلا أن على الروائيين أن يفكروا ملياً في أسباب هذا النجاح))!. فبما أن الرواية التقليدية هي المقروءة، وأن الرواية الجديدة لم تتمكن من فرض نفسها على القراء، فالرواية الجديدة قد ماتت!.‏   "
           هذا الحكم يرفضه نقاد الرواية الجديدة رفضاً قاطعاً. إن حضور الرواية الجديدة لا شك فيه في رأي جورج رايار بدليل أن الروائيين الذين بدأوا في عام 1954 ما يزالون يكتبون، وأنه قد صدرت خلال السنة الأخيرة فقط ثلاث روايات لثلاثة من أركان الرواية الجديدة  (ممرّ إلى ميلانو)) لميشيل بوتور، ((ثلاثية)) لكلود سيمون ((بعد عشرين عاماً)) لكلود أولييه، على الرغم من أن مبيعات هذه الروايات لا يصل إلى مبيع رواية (بوي). على أن جان ريكاردو يعترض على صيغة طرح مسألة وجود الرواية أو موتها من خلال عدد القراء. فقراء مالارميه مثلاً لم يتجاوز عددهم مائة قارئ أثناء حياته، ومع ذلك فإن ما حققته أعماله من تحويل إيديولوجي لم تحققه أعمال معاصرة له طبعت وبيعت بمئات الألوف. عن المشكلة الحقيقية في رأيه هي أن الرواية الجديدة قد استطاعت، على مستوى النظرية وعلى مستوى التطبيق، أن تحقق تغيراً جذرياً، أنها لم تستطع مع ذلك تغيير النظرة التقليدية السائدة للرواية لدى القارئ. تلك حقيقة، لكن من المؤكد أنه لا يمكن تغير مثل هذه النظرة خلال عشرين سنة لأنه إذا كانت النظرة التقليدية للرواية هي السائدة، فذلك لأن الإيديولوجية السائدة، في التعليم الثانوي والجامعي الرسمي هي إيديولوجية الطبقة السائدة، الطبقة البرجوازية، التي تثبت هذه النظرة وتؤكدها بشتى الوسائل.‏
          على أن تفسير ناتالي ساروت لعدم قراءة الناس الرواية الجديدة أو لعدم فهمهم لها يخرج من الإطار الإيديولوجي الذي يقدمه جان ريكاردو. تقول: ((إن العادات النفسية والبنى والأطر العقلية القديمة المستمرة في وعي معظم الناس تحول بينهم وبين إدراك الواقع الجديد الذي يقوم فعلياً حياة الناس اليومية بالرغم من أن نسبة منهم غير واعية بذلك)). الأمر الذي يحول بينهم وبين فهم المرامي الأساسية في هذا التطور العميق الذي طرأ على معمار الرواية مع آلان روب غرييه وبوتور وغيرهما، هذا التطور الذي لم يكن ـ من وجهة نظر اجتماعية وجمالية معاً ـ طفرة بالنسبة لما سببته، وإنما تسلسلاً منطقياً وطبيعياً تم عبر هذا الإدراك العميق لكبار الروائيين من بلزاك إلى غرييه مروراً بجويس وبروست ومالرو وكافكا لطبيعة التغير الذي كان يمر به المجتمع الأوروبي، والذي كان ينتقل إلى مستوى الشكل الروائي تغيراً موازياً وضرورياً.‏
          على أن ما يلفت النظر ـ بالمقابل ـ في سلسلة التعليلات التي يسوقها بيير بواسدوفر لحكمه على الرواية الجديدة بالموت قوله: إن التجديد الذي يثير بعض الفرنسيين لم يكن له مبرر لأنه في الوقت الذي كان فيه الفرنسيون يكتشفون فوكنر وهمنغواي كانت أمريكا تكتشف نفسها عبر روايات هنري جيمس ومارسيل بروست!.‏
          ولكن، إذا كان الفرنسيون يكتشفون وتكتشف أمريكا بروست ـ والمقصود طبعاً في ثلاثينات هذا القرن ـ، فإن كلاً من فوكنر وبروست في ذلك الحين كانا يمثلان قمة التجديد في فن الرواية.‏
          ثم، إذا كانت أمريكا تكتشف نفسها في بروست في ثلاثينات هذا القرن، فكيف نفسر إذن أنها تكتشف نفسها في روايات آلان روب غرييه التي تضرب اليوم فيها الرقم القياسي في المبيع والقراءة كما يقول روب ـ غرييه نفسه؟. هل يعني ذلك موت الرواية الجديدة في فرنسا وانبعاثها في أمريكا؟.‏
         من المؤكد أن تعليلات تأخذ هذا المنحى لإصدار حكم ما لا تأخذ بعين الاعتبار عناصر عديدة قد تغير طبيعة المناقشة أساساً. هذا فضلاً عن أن أي مناقشة لا تستند إلى تحقيقات عملية تظل حبيسة التخمين والظن أكثر من أن تكون نتيجة تعليل ذي طابع علمي.‏
         على أنه عندما يرفع نقاد الرواية التقليدية راية الإنسان والواقع الإنساني في وجه الرواية الجديدة، بدعوى أنها تفرغ هذا الواقع وتحيله إلى جماد، وبالتالي تنكره، فإن هذه الحجة تفقد بريقها عندما يؤكد الرواة الجدد بالنص أنهم لم يتخلوا عن هذا الواقع الإنساني، بل إن المبرر الأساسي لمشروعهم هو البحث عن هذا الواقع وجعله يعبر عن نفسه. فإذا كان لا يستطيع أن يعبر عن نفسه إلا من خلال واقع الأشياء الذي اكتسب، بفضل البنية الاقتصادية للمجتمع الراهن، أولية واستقلالاً ذاتياً، فليسوا هم، بوصفهم كتاباً، من يغير هذه البنية. وأي محاولة للادعاء بأن الواقع الإنساني ما يزال يحافظ على أوليته واستقلاله الذاتي إزاء عالم الأشياء، والتعبير بالتالي عنه على هذا الأساس، إنما تتضمن تجاهلاً أو جهلاً بهذا الواقع.‏
         على أن البيريس ينحو في مناقشته منحى آخر. إنه لا يتحدث باسم الرواية الجديدة أيضاً، وإنما يتحدث بوصفه ناقداً عليه، بحكم هذه الصفة، أن ((يتبنى قضايا متعارضة إذا ما أراد أن يحسب حساب كافة التيارات الأدبية الكبرى في الوقت الراهن)). إنه إذن يبسط أمامه ملف الرواية الجديدة وملف الرواية التقليدية خلال الأعوام الفائتة يجد أن في صالح الأولى ((المبادرة والمهارة والأصالة التي لا تخشى الاعتراض الذي يرفع في وجهها بالغموض. فمبدؤها الأساسي يقوم على اللغة، لغة فاليري المقدسة التي وجدت قبل كل الأشياء، السابقة على الإنسانية والتي بها ولدت الإنسانية في تحول مفاجئ)). ولهذا فإن قضية الرواية الجديدة قابلة للدفاع عنها، من هذه المنطلقات بالذات، فيما عدا نقطة واحدة، هي تأكيد كتابها أن كل رواية لم تكتب من قبل واحد منهم ليست سوى تكرار لعدد من الصيغ البالية التي تمثل الصيغ ((البورجوازية)) للرواية، وبالتالي ((فإن كل من ليس منهم فهو ضدهم)). يقول البيريس: ((تلك قطيعة تامة يريد أن يستهلكها الروائيون الجدد، وهم خلفاء بروست وكافكا، وبشكل خاص جيمس جويس فيما يتعلق بالتقسيم والقطع، وكذلك أصحاب مجلة تل ـ كل Tel – Quel الذين استعاروا من فاليري عنوان مجلتهم، والذين يعتبرون أنه لم يوجد أحد قبلهم غير المركيز دوساد محرر الوعي الأخلاقي، ونرفال، الشاعر الذي عرف أن يوحد بين الحياة والحلم، وفلوبير فنان اللغة المجد). أما ملف الرواية التقليدية ـ والمجددة مع ذلك في رأي البيريس ـ فإنه لا يقل أمية عن ملف الرواية الجديدة، ويضرب البيريس أمثلة محددة على سبيل التعداد: فرانسوا نوريسييه في ((أزرق كالليل)) وفي ((رب البيت))؛ برونوغي لوساك في ((الصالون الأزرق))؛ روبير كاتربوانت في ((يوميات كائن بشري))... هؤلاء وعديدون غيرهم، إنما يعزفون، ولو بطريقة مختلفة، نفس اللحن الذي يعزفه أصحاب الرواية الجديدة أو دعاة التجديد في الكتابة.‏
          من الصحيح أن تجديدهم يتم ضمن إطار الرواية التقليدية ـ كما يقول البيريس ـ وإن بوسعنا بالتالي أن نتلمس في هذه الرواية أو تلك بعض اللهجات الدستويفسكية أو الجيرودية (نسبة إلى جيرودو) إلا أنهم يستخدمون مع ذلك نفس اللغة التي يستخدمها المجددون للتعبير عن هذا الحوار العميق بين الأنا والعالم الذي يؤلف لحن الرواية الأساسي في هذا العصر. وإذا كان هؤلاء يكتبون روايات بأسلوب السير الذاتية فيجددون بذلك معمار الرواية نفسه، فإن دعاة الرواية الجديدة يبدعون هم أيضاً سيرة ذاتية للكتابة!.‏
          مجددون وتقليديون مجددون أيضاً. هؤلاء يبحثون في سدم اللغة، وأؤلئك يسبرون سدم الحساسية؛ ولا تناقض في ذلك. إنما الاختلاف هو اختلاف نزعة بين دراسة لنسيج اللغة يقوم بها فيليب سوللر مثلاً وبين استخدام اللغة يمنح روايات كاتب كنوريسييه سحراً خاصاً. إنه اختلاف إذن في طريقة التجديد، والأزمة، نتيجة، لا وجود لها كما يرى البيريس. إن الرواية مستمرة‍!.‏
          ولكن هذا التأكيد نفسه هو، أساساً، موضع النقاش. إن قبول البيريس بتجديد نسبي دون إهمال المفهوم الأساسي للرواية البلزاكية يواجه بالرفض من قبل دعاة الرواية الجديدة. ففي رأي هؤلاء أن المشكلة لا تكمن في تجديد الأدوات التعبيرية وإنما في رؤية الواقع. وأنه على أولئك الذين يعترفون بتغير هذا الواقع أن يثبتوا ذلك فعلياً في التعبير عن رؤيتهم لهذا التغيير. ذلك هو الطريق الوحيد لإدراك عمق هذه الرؤية وجدارتها أساساً.‏
         هل تنحصر المشكلة إذن في قضية العلاقة بين بينة الرواية الأساسية (لشخص والموضوع) وبنية المجتمع الاقتصادية كما يؤكد لوسيان غولدمن؟‏
          إن مسار الحوار يدفع التفكير بهذا الاتجاه. ومع ذلك فثمة من يؤكد: أن الرواية التقليدية قد ماتت، والرواية الجديدة هي التي أجرت مراسم الدفن. لكن الرواية الجديدة نفسها، هي الآن في طريق مسدود‍!.‏
          يرد جيروم ليندون مدير منشورات مينوي ((Minuit)) الذي نشر معظم أعمال الروائيين الجدد بقوله: "الرواية الجديدة في طريق مسدود؟. منذ عشرين عاماً وأنا أسمع هذا الكلام. وأظن أن ذلك صحيح. فالأدب الحي يجد نفسه دوماً أمام طريق مسدود. أن علينا أن نتخيله كما لو كان شيئاً يحفر في أرض، ويجد لنفسه دوماً إزاء جدار ما. غير الأرض تنحفر والجدار يتراجع والطريق يشق. عن الأدب الذي لا يتساءل في كل خطوة: والآن؟ لا أهمية له.‏
         إن صموئيل بيكيت وروب ـ غرييه يخيبان دوماً آمل قارئهما. فهما يكتبان أشياء لا يفهمها الناس. ولكن هل يعني أن الرواية الجديدة ميتة؟. إنه حكم بلا حيثيات يرغمنا على الاعتراف بأنها توجد".‏
          والآن؟. ذلك هو السؤال الذي تحاول الرواية الجديدة أن تجيب عنه باستمرار. ولكن متى كانت الرواية في معزل عن الأزمة التي تمس وجودها بالذات وتحيله إلى إشارة استفهام؟.‏
         ومع ذلك فإن الحوار الذي استعرضنا في الصفحات السابقة مختلف جوانبه يظل هامشياً إذا لم يطرح السؤال الأساسي: ماذا تحقق الرواية الجديدة اليوم. ما الذي حققته الرواية من قبلها؟‏
        إن المشكلة، على كل حال، ليست مشكلة تجديد مجاني يخضع للقبول أو الرفض وفق معايير متفاوتة، وإنما هي مشكلة بناء رؤية للواقع الراهن. ومن هذه الزاوية فإن الرواية الجديدة تعبر عن خط سياسي واجتماعي أي محاولة لتجاهله تلقي بها في تهمة الغموض، وتبقى في النهاية عاجزة عن رؤية المرمى الحقيقي لأي تحول في الأدب.‏
       إن منهج البنيوية التكوينية يبدو بهذا الاعتبار الباصرة الوحيدة التي حاولت أن تدرك معنى التحول الذي تنجزه الروائي الجديدة اليوم على صعيد الشكل الروائي وعلى صعيد البنية الروائية، دون أن تحطم بذلك وحدة العمل الأدبي واستقلاله الذاتي العزيز على النقاد، مؤصلة إياها في تاريخ الرواية الأوروبية وفي تاريخ البنية الاجتماعية معاً.‏
      لقد كان السؤال يدور حول انحطاط أو انبعاث الرواية. ولكن ألا يجب أن يدور بالأحرى حول كيفية هذا التطور وعلاقة هذا التطور بالظرف التاريخي والاجتماعي الذي يكتب فيه العمل الروائي الجديد، بما أنه في أساس كل تساؤل راهن عن الأمة؟.‏
باريس ـ بدر الدين عرودكي‏
 
 
 
** هذا النص وكل النقاط الرئيسية التي تعرض مشاركة غولدمان وبالتالي وجهة نظر المنهج البنيوي التطوري، مستقاة من كتبه التالية:
نحو علم اجتماع للرواية  Pour une sociologie du roman  
الإبداع الثقافي في المجتمع الحديث     La création culturelle dans la société moderne
الماركسية والعلوم الإنسانية Marxisme et sciences humaines
البنى العقلية والإبداع الثقافي Structures mentales et création cultureuelle
 


رسالة باريس الحياة الثقافيّة ـــ بدر الدين عرودكي

مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 3 تموز 1974