ما بين الدكتور حسام الخطيب ونقط المنهج*
بدرالدين عرودكي
لم يستطع الدكتور حسام الخطيب ـ كما قال ـ أن
يخفي عجبه واستثارته من الطريقة التي أشير بها إلى دراسته عن رواية جيل القدر
في مقالي الحركة القومية والإبداع القصصي، المنشور في العدد 216 من مجلة المعرفة/
شباط 1980 ـ فتفضل بتوجيه عدة نقاط منهجية تتعلق بالأمانة المنهجية نشرتها المعرفة
في العدد 219/ أيار 1980.
تناولت النقطة الأولى (المنهجية) إغفالي لذكر
دراسته عن جيل القدر المنشورة في مجلة الموقف الأدبي مؤكداً ضرورة
ذكر هذه الدراسة حتى ولو لم يكن في هذه الدراسة أي غناء.
وتتعرض النقطة (المنهجية) الثانية إلى ظن
الدكتور أن الاستنتاج الذي توصل إليه مقالي هو، في الحقيقة، رأيه بل وأساس دراساته
في القصة السورية في الخمسينات.
وأشارت النقطة الثالثة (المنهجية) أيضاً، إلى
عدم استطاعة الدكتور أن يتبين ما سماه الأثر التكويني لمقدمة المقالة في طبيعتها.
**
** **
من يقرأ نقط الدكتور حسام المنهجية يظن أن الأمر لا يعدو
مجرد عتاب يصل إلى حدِّ التأنيب في بعض الأحيان. لكنه في الحقيقة عتاب ينطوي على
اتهام شديد الخجل والتردد يستحي أن يعلن عن نفسه. ونظراً لخطورة هذا الاتهام فإنني
أجد نفسي مضطراً إلى الردِّ ومرغماً، في معرض ردي، على أن أذكر الدكتور حسام
ببدهيات لا أشك في أنه يعرفها ـ بوصفه أستاذاً جامعياً ـ رغم أنه غفل أو أراد
التغافل عنها:
1ـ يعلم الدكتور حسام تماماً أن ذكر المرجع
في أي مقال معدٍّ للنشر في مجلة ثقافية عامة (غير اختصاصية وغير أكاديمية) هو ذكر
وظيفي، أي يجب أن يكون للمرجع علاقة بما يقال في صلب المقال. أما عندما يتعلق
الأمر بكتاب أو أطروحة فالأمر مختلف، إذ على الكاتب في هذه الحالة أن يذكر كل ما
وصل إلى علمه أو وقع تحت يديه من كتب ودراسات وأبحاث ومقالات وتعليقات في القائمة
المخصصة للمراجع (البيبليوغرافيا) سواء أكانت علاقتها بموضوع الكتاب أو الأطروحة
مباشرة أو غير مباشرة.
المسألة إذن لا تمت بصلة لا من قريب ولا من
بعيد بما يسميه الدكتور حسام "الأمانة المنهجية". وإنما هي طريقة معتمدة
في العمل الكتابي.
ثم إنه، من ناحية أخرى، ومع مجاراة الدكتور
في ما ذهب إليه: ألم يكن من الأمانة المنهجية أن يطالبني بألا أكتفي بذكر دراستيه
فقط عن رواية جيل القدر وإنما بضرورة أن أذكر أيضاً كل المقالات والتعليقات التي
كتبت عن هذه الرواية وكاتبها منذ ظهورها عام 1960 وحتى اليوم (كدراسات محمد حيدر،
وغسان كنفاني، وخلدون الشمعة) مادامت النواحي المنهجية هي التي أثارته في مقالي؟
2ـ يظن الدكتور حسام أن الاستنتاج الذي وصل
إليه مقالي هو في النهاية "محاولة الكتاب القوميين في الخمسينات إثراء الأيديولوجية
القومية بمفاهيم الوجودية السارترية" وأن هذا الاستنتاج الذي ورد مرة
أولى ـ في رأيه ـ في بداية مقالي من خلال
إشارة عابرة، هو، في الأصل رأي الدكتور حسام أصلاً والأساس الذي بنى عليه دراساته
للقصة في الخمسينات. ولكي لا يظن الدكتورأنني "لطشت" رأيه، أسارع على
الفور لأؤكد معه أن الرأي القائل "إن الكتاب القوميين في الخمسينات حاولو
إثراء الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية السارترية هو رأي الدكتور حسام
الخطيب نصاً ومضموناً (وقد أحلت القارئ في مقالتي على كتاب الدكتور المذكور فيه
هذا الرأي)، هو رأي الدكتور وليس رأيي ولا استنتاجي، بل إنني لم أتبنه لا في جزمه
هذا ولا في صياغته هذه ولا فيما يؤدي إليه من نتائج.
لكن الأمانة المنهجية كانت تقتضي كي نجاري
الدكتور مرة ثانية، أن يقرأ مقالي بقلب مفتوح وبمعزل ـ خلال فترة القراءة فحسب ـ
عما كتبه هو. لو فعل ذلك لرأى أن الصفحة 142 من مقالي التي يشير إليها كمرجع
للتأكيد بأن رأيه الذي ذكرته بشكل عابر في بداية المقال قد أصبح استنتاجاً، لا
تتضمن مثل هذا الرأي على الإطلاق، ولكان لاحظ أن هذا الاستنتاج لا علاقة له بهذا
الرأي بقدر ماله علاقة بطبيعة التيار القومي في علاقته مع التيار الاجتماعي على
صعيد التعبير الروائي في تبني الأول أولوية الأمة وتبني الثاني أولوية الطبقة،
ولاستنتج أن مقالي يقف على القطب المعاكس تماماً لكل الأطروحات التي قدمها في
دراستيْه عن رواية جيل القدر.
إنني لا أنكر تأثير الوجودية في الخمسينات
بالطبع. وإذا لم يكن الدكتور حسام أول من أشار إلى هذا التأثير ـ فكل كاتب كتب عن
أدب وفكر الخمسينات في المشرق العربي أشار إلى ذلك (هل يريد الدكتور قائمة
بالمراجع؟) ـ فإنه والحق يقال أول من توصل ـ نتيجة أبحاثه المضنية ـ إلى تأكيد
محاولة الكتاب القوميين إثراء الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية السارترية.
لكنني ـ وأستميح الدكتور حسام عذراً ـ أختلف معه هنا في المنهج وفي الرؤية
اختلافاً (لا آخذ راحتي فيه على حدِّ تعبيره ـ لأن مجال اختلاف الآراء والتفسيرات
في الأدب واسع فضفاض) وإنما أتقيد فيه
بمنظور الرؤية الذي التزمته في مقالي. ولكي أبين عناصر هذا الاختلاف، أجدني مضطراً
إلى الدخول في لب الموضوع الذي عزف الدكتور عن الدخول فيه، وذلك على نحو شديد
الإيجاز:
فالدلالة
التي خلص إليها الدكتور حسام في مقاليه اللذين ذكرهما بوصفها الدلالة الأساسية
لرواية جيل القدر هي أن مطاع صفدي في الرواية حاول إثراء الأيديولوجية
القومية بماهيم الوجودية السارترية، بل وأنه تابع ذلك في روايته الثانية ثائر
محترف، ثم فشل في مشروعه وكف عن كتابة الروايات. وهذا غير صحيح للأسباب
التالية:
أـ إن على الناقد أن يميز بين الكتابة
التخييلية fiction والكتابة المفهومية conceptuelle لاسيما في حالة كاتب كمطاع صفدي الذي لم يكتب روايات
فحسب وإنما كتب أيضاً كتباً نظرية في موضوع الثورة القومية بالذات. فإذا فعل ذلك
واقتصر على الأعمال التخييلية ـ بوصفه ناقداً أدبياً ـ فإن عليه أن يميز بين مختلف
العناصر الأخرى ـ إننا هنا نبيِّن للدكتور كيف أننا نتمسك بحرفية التحليل البنيوي
ـ. فلا يجوز له مثلاً، بدون مبررات، أن يعتبر الرواية ودلالتها تقومان على سلوك
جزئي لأحد أبطالها أياً كانت أهمية هذا البطل (فالأجزاء لا تفهم إلا من خلال
علاقتها بالكل كما أن معرفة الكل لا تتحقق إلا بالتقدم في معرفة الأجزاء). صحيح
أننا نجد مؤثرات سارترية في أقوال نبيل، أحد أهم الشخصيات في الرواية، ولقد أشرت
إليها في مقالي نفسه (ص. 130). لكن هذه المؤثرات نفسها كثيراً ما اختلطت بمفاهيم
غيبية محلية (ص. 130 أيضاً)، ثم إنها تقتصر على نبيل وحده تقريباً، فكيف يمكن أن
نسمح لأنفسنا أن نستنتج أن الرواية كلها محاولة من الكاتب القومي مطاع صفدي إثراء
الأيديولوجية القومية بمفاهيم الوجودية السارترية دون أن نبالغ في التعسف؟ إذا
كانت هذه هي محاولة نبيل، فإنها لم تكن محاولة حسان، وهو صنو نبيل، الذي حاول
العمل على تجذير أيديولوجيته القومية بنزوله إلى الواقع الشعبي والتحامه بالجماهير
مباشرة بعد فشل عملية اغتيال الديكتاتور.
ب ـ إن دراستي وتحليلي لروايات مطاع صفدي لم
ينطلقا كما يظن الدكتور حسام من دراسته الأولى أو الثانية، أو مما ورد فيهما من
طروحات، وإنما من منطلق آخر تماماً هو المنطلق الذي أشرت إليه في بداية مقالي.
وربما لعبت كتابة هذه المقالة بالفرنسية أصلاً دوراً في ذلك سنشير إليه. ولأكتفي
بالتوقف عند عنوان الرواية نفسه: جيل القدر. إن من يقرأ دراستي الدكتور
حسام الخطيب يصل إلى أن دلالة عنوان الرواية تفيد أننا إزاء رواية تحكي قصة جيل القدر
الذي حاول أن يضع الأيديولوجية القومية
ليواجه الأيديولوجيتين الماركسية والدينية. ولكن ما معنى جيل القدر هنا على
وجه الدقة؟ هل هو الجيل الذي صنع القدر أم هو الجيل الذي وقع تحت ضربات القدر؟ ثم
ما معنى القدر موضوعياً هنا؟
الحق أنني في أثناء ترجمتي لعنوان هذه
الرواية إلى الفرنسية ـ فالدراسة كتبت أصلاً بالفرنسية لتلقى في حلقة دراسية حول
سوسيولوجيا الرواية ـ كنتُ أمام خياريْن: إما أن أترجم القدر بـ destin أو بـ prédestination. لكني اخترت الكلمة
الثانية. إذ الأولى تعني المصير في حين أن الثانية تعني "ما هو مقدَّرٌ من
قبل" أي أنها تفيد الكلمة العربية: القدر، تماماً. بيد أن هذا الاختيار لم
يكن أيضاً مجرد لعبة لغوية وإنما يقوم على أساس موجود في الرواية نفسها وأشرت إليه
في مقالي نفسه (ص 127) عندما أوردت نصاً من آخر الرواية يصف الصورة الكاريكاتيرية
التي رسمها حسان لكلّ رفاقه (من أبطال الرواية على اختلاف منازعهم وتركيبهم الفكري
والأيديولوجي): "صورة الوجوه المضخمة ملامحها بينما تضاءلت أجسادها دون أن
تفقد حركتها، وكانت حركتها عبارة عن زوبعة يطلقها من اللوحة وجه ساخر أشبه بوجه
الشيطان"، جيل قال عنه حسان: "إنه الجيل الذي تعبث به زوبعة من نفحة
شيطان" وقال عنه نبيل: "إنه جيل القدر".
القدر إذن وليس المصير. إنه ما هو محدد
سلفاً، ومكتوب سلفاً، ومرسوم سلفاً.
ومن هنا ارتباط فعل سرقة القتل بالقدر
بالمعنى الذي أشرنا إليه (الشروط التاريخية والاجتماعية)، فهي ليست مجرد ثيمة
مقتبسة وإنما هي نتيجة منطقية وتاريخية لهذا القدر الذي يتضح في الرواية وجه شيطان
خرافي (صورة روائية) أي الشروط المادية والتاريخية التي تكبل أبطال الرواية
وتحدِّدهم جميعاً؛ ويوازي فعل سرقة القتل فعل سرقة الوحدة على المستوى نفسه. فليس
جيل نبيل من أطاح بالديكتاتور وليس جيل نبيل من حقق أول وحدة في تاريخ الأمة
العربية الحديث؛ وإذا كان نبيل قد سافر إلى الجزائر ليلتحم بالفعل المادي بعد أن
سرق منه ومن جيله الفعل فكان ذلك حلاً مؤقتاً وتعويضياً له عن عجزه فإن اكتشافه
لفعل الوحدة وقد سرق منه لم يترك أمامه سوى أن يئن احتضاراً مع كمانه في غرفته
بينما تتناهى إليه أغنيات الفرح بالوحدة التي لا يستطيع إلا أن يهلل لها ولكنه
يعرف يقيناً أنها ليست من صنعه (ألا يرى الدكتور أن المشهد الأخير في رواية جيل
القدر هو تمهيد أوليّ لمشهد الكسوف العام الذي يخيم في نهاية رواية ثائر
محترف؟).
فإذا كان الدكتور حسام يرى أن "من باب
الأمانة المنهجية ألا أرميه بعدم تفحص الدلالة بل بالخطأ في الحكم" لأنه تفحص
الدلالة ووجد أن "فعلة القتل مصطنعة ومسقطة إسقاطاً"، فإن الرد عليه هو
أنه لم ينظر إلى فعلة القتل وسرقته بوصفها دلالة وإنما بوصفها ثيمة. وإذا كان
الدكتور يصرُّ على أنه يعتبر سرقة فعل القتل دلالة وأن هذه الدلالة مصطنعة ومسقطة
إسقاطاً فكيف يستقيم له إذن أن يتابع الاهتمام برواية دلالتها الأساسية مصطنعة
ومسقطة إسقاطاً؟ ألا يجدر بنا أن نرمي مثل هذه الرواية في سلة المهملات؟ إن
الدلالة مسألة خطيرة. فهي ليست ثيمة وإنما مآل كل العناصر المقوّمة للرواية
(عناصرها البنائية والمضمونية)، فإذا سقطت سقطت الرواية معها. مرة أخرى أجدني
مضطراً إلى التكرار بأن انشغال الدكتور بالمقارنة كثيراً ضيّع عليه فرصة أن يهتم
بالدلالة ويرى شمولها بالنسبة لبناء الرواية ومضمونها معاً.
من الممكن القول، وهو قولٌ يحتاج إلى تفصيل
لامجال هنا لإثباته بطبيعة الحال، إن مطاع صفدي قد حاول في كتاباته المفهومية أن
يستفيد من الفكر السارتري. بيد أن هذه المحاولة التي تتضح تماماً في كتابه الثورة
في التجربة (دار الطليعة، بيروت 1963) تستفيد من فكر سارتر في مرحلة نقد
العقل الديالكتيكي Critique de la raidon dialectiqueـ أي مرحلة التوفيق بين الوجودية والماركسية
أكثر مما تستفيد من مرحلة الوجود والعدم L’Être et le néant. أما في الكتابات التخييلية، فلابد لكي نقول ذلك من
أن نهمل ثمانين بالمائة من رواية جيل القدر و تسعين بالمائة من رواية ثائر
محترف، هذا إذا استطعنا فعلاً أن نجد علاقة ما بين الفكر الوجودي السارتري كما
يفهمه الدكتور حسام وبين الفكر القومي، أيّ فكر قومي.
ج ـ ثم إنّ همّ الدكتور حسام في دراسته الثانية ـ التي لم أجد أيّ مبرر
للإشارة إليها في مقالتي ـ أن يبين في ما إذا كانت رواية جيل القدر تاريخية
أم فلسفية أم سياسية.. (الموقف الأدبي، العدد 6/11 ـ 1975، ص, 32) معالجاً طريقتها
الفنية وشخصياتها والشخصية المركزية فيها بعد أن قام بعرضها منطلقاً في كل ذلك من
الكاتب وروايته. أما ما كان يشغلني في مقالي فهو على النحو التالي: الرواية في
دلالتها الأساسية والكبرى ضمن سلسلة من الروايات ذات الدلالات المتماثلة والتي
تندرج معها في خط واحد من ناحية، وعلاقة هذا الخط مع مشروعات وطموحات وخيبات أمل
جماعة اجتماعية محددة في دراستي حصراً بالفئة المثقفة الشابة في جزب البعث في
سنوات 1950. ما كان يهمني ليس مطاع صفدي وحده الذي كان واحداً من هذه الفئة وإنما
رؤية هذه الجماعة كما تمت صياغتها في نهاية الخمسينات وتماثل هذه الرؤية مع الرؤية
التي عبرت عنها الرواية. هذه الرؤية سمحت بأن يتخذ، على سبيل المثال، قرار حلِّ
الحزب في مطلع الوحدة من فوق دون أن تشارك به جماهير الحزب الفعلية، وسارت نحو
المنعطف الحاسم للحزب في الستينات، بتبنيه الاشتراكية العلمية.
والخلاصة أن الدكتور الذي كتب دراسة أدبية وصفية في مجلة الموقف الأدبي لم
يكن يهدف إلى تبيان الدلالة التاريخية والاجتماعية لهذه الرواية بقدر ما كان يهدف
إلى تحديد مدى استحقاقها لوصف الرواية وما يمكن أن يضاف على هذا الوصف (تاريخية،
فلسفية.. إلخ) كما أنه عندما كتب دراسته المقارنة كان يهدف إلى تحديد تأثير سارتر
والفكر الوجودي على ما فعله مطاع صفدي في روايتيْه وقصصه أكثر مما كان يهدف إلى
تبيان عناصر الإبداعية الحقة في هذه المبدعات. المسألة إذن مسألة اختلاف منهج ـ
هنا يمكن الحديث عن نقط منهجية. ذلك أن همنا كان مختلفاً، وأرجو أن يكون الدكتور
قد لاحظ ذلك، كان محاولة دراسة سوسيولوجية لا تتناول العمل الأدبي كوثيقة وإنما في
كليته وعلاقة هذا الكل مع بنية الجماعة التي سمحت له بالتكون على هذا النحو دون
ذاك.
3ـ هنا أصل إلى النقطة "المنهجية" الثالثة التي أوردها الدكتور
حسام. فهو كما يقول لم يتبين أثر المقدمة عن المنهج البنيوي التكويني في طبيعة
المقالة كما ذكرته المقالة "بمبشري البنيوية في التأليف العربي..." إلخ.
من الطبيعي ألا يجد الدكتور في مقالي ما يريد أن يجده مادام لم يجد فيه إلا
تكراراً لآرائه دفعته إلى تحرير نقطتيْه المنهجيتيْن. وإذا كنت قد وضحت في الفقرات
السابقة مدى صحة ما يسوقه وبينت الاختلاف الجذري بل والمتعارض بين تناوله وفهمه
للرواية وبين تناولي وفهمي لها، فإنني سأعيده مرة أخرى إلى مقدمة المقال ليقرأها
وليرى أن هذه المقدمة تعرض بإيجاز شديد المنهج ـ هنا مرة أخرى نتحدث عن منهج ـ
الذي عملت على الاستفادة منه في دراستي لروايتي مطاع صفدي وهاني الراهبفي مقالتي،
وليلاحظ أن هذا المنهج يؤدي لا إلى دراسة في النقد الأدبي كالذي يمارسه الدكتور
حسام وإنما إلى دراسة سوسيولوجية للرواية، وليرى أيضاً أن هذا المنهج يلح على
الاعتماد على نصِّ الكاتب وحده ولا شيء غيره عند القيام بعملية "الفهم"
للعمل الدروس، أي استخراج عناصره المقومة وبنيته الشاملة، وأنه لا يجيز أن يزعم ـ
بأي حق؟ ـ أن البطل هو الكاتب؛ لأن هذه المسألة، في نظر هذا المنهج، مسألة مزيفة
ولا ضرورة نظرية لها إلا على مستوى دراسة الأفراد في لحظة تاريخية ما، ولينتبه إلى
أن هذا المنهج يوضح أن على البنية الدلالية التي يتم استخلاصها من العمل المدروس
أن تكون قادرة على استيعاب الجزء الأعظم إن لم يكن جميع العناصر المقومة لهذا
العمل. بعبارة أخرى، إن "تفسير هذه العناصر جميعاً يجب أن يتم بدمجها في هذه
البنية الدلالية، أي برؤية وظائفها ضمن هذه البنية، وأخيراً ليتبين أن الفاعل في
الإبداع الأدبي المتماسك ليس الفرد، وإنما الجماعة، وأن على الباحث أن يحدد نوعية
وطبيعة العلاقة التي تقوم بين البنية الذهنية المستخلصة من رؤية المبدع من ناحية
ورؤية الجماعة الاجتماعية من ناحية أخرى.
فهل كان مقالي غير تطبيق شبه مدرسي لكل ما سبق يادكتور؟
عندما كتبتُ هذه الدراسة يادكتور حسام، وقد كتبتها بالفرنسية كما ذكرت قبل
أن أنقلها إلى العربية وأقرر نشرها ـ وقد تمت كتابتها في مطلع عام 1975، لتلقى في
حلقة دراسية حول سوسيولوجيا الرواية، كنتُ على وعي تام بأن مستمعيّ من الأساتذة
ومن الطلبة يعرفون أكثر مني أصول البنيوية التكوينية وتطبيقاتها. ولم يقل لي أحد
ممن سمعوا هذه الدراسة وقاموا بمناقشتها ـ أساتذة كانوا أم طلبة ـ أن الطريقة
التحليلية التي قمت بها لا علاقة لها بالمقدمة النظرية، أو أن هذا التحليل هو من
النوع التقليدي المعروف، وأنتَ أدرى ولا شك بأن التماسك النظري شرط أساسي في أي
تحليل يقوم به المرء ضمن جدران الجامعات الفرنسية. لذلك، فالمسألة ليست بالنسبة
إلي مسألة منهج تقليدي أو غير تقليدي، كما أنني لست من عشاق "الموضات"،
فالمنهج الذي أعمل بموجبه قديم لا قدم ماركس فقط وإنما قدم باسكال.
إن النقد الذي وجهه لي بعض الأصدقاء هنا عندما رأو الدراسة منشورة بالعربية
أنني لم أتوسع عند نقلي للدراسة إلى العربية في شرح المفاهيم التي عددتها والتي
استخدمتها في التطبيق. لكني أجبت: لعل التحليل نفسه يعوض هذا النقص الذي لم يشعر
به مستمعي الفرنسي. لكني كنت على خطأ فيما يبدو: فحتى الدكتور حسام الخطيب لاقى
صعوبة في ربط المقدمة بصلب المقالة. ولقد فهمت سبب ذلك لمجرد خلطه بين البنيوية
التكوينية والدراسات البنيوية الأخرى، ومن يبشر بها ممن "ينتهون إلى دراسات
من النوع التقليدي المعروف" على حدِّ تعبيره.
*
نشرت هذه المقالة في مجلة المعرفة، السنة 19، العدد 224، تشرين
الأول/أكتوبر 1980، ص: 135 ـ 144.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire