vendredi 12 juillet 2013


الحركة القومية والإبداع القصصي


محاولة دراسة سوسيولوجية للرواية العربية

من خلال روايتيْن: جيل القدر و  شرخ في تاريخ طويل


 

بدرالدين عرودكي


 


(كتبت هذه الدراسة أصلاً بالفرنسية لتلقى في حلقة بحث أدارها جاك بيرك في الكوليج دو فرانس خلال شهر تشرين الثاني 1979. وقد قمتُ بنشر صيغتها العربية في مجلة"المعرفة" السورية في العدد 216 الصادر في شهر شباط/فبراير 1980. قام الدكتور حسام الخطيب بنقد هذه الدراسة تحت عنوان "نقط منهجية إلى بدرالدين عرودكي" نشرته المجلة نفسها في العدد 219 الصادر في أيار/مايو 1980، ونشرتُ ردي على هذا النقد في مقالة حملت عنوان "ما بين نقط المنهج والدكتور حسام الخطيب"  في  العدد 224 الصادر في تشرين الأول/اكتوبر 1980، أنشر هنا بعد نصِّ الدراسة نقدَها ونقد نقدها .)

 
 

تسود الدراسات النقدية التي تتناول الإنتاج الروائي في العالم العربي مشكلتان، مشكلة الإبداعية ومشكلة الدلالة، تحددان في الواقع معالم اتجاهيْن أساسيّيْن في النقد الأدبي: الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه النقد الجمالي الذي يبحث في معايير النوع الذي يدعي الانتماء إليه، أي المعايير التي تسمح إما بإعلان صلاحية هذا المبدع وإما برفضه. والحقيقة أن هذا الاتجاه يعمل على تصنيف الإنتاج القصصي بمنظور تاريخي وفق تصورات قبلية.. هكذا جرى الحديث مثلاً، بمناسبة الأدب القصصي، عن الكلاسيكية والتعبيرية، بل وحتى عن الواقعية الاشتراكية[1]. والاتجاه الثاني، فهو ما يمكن أن نطلق عليه النقد الإيديولوجي تارة والنقد الاجتماعي تارة أخرى، والذي يبحث في المبدع عن الوثيقة أو عن المغزى أو عما يريد الكاتب أن يقوله عبر العالم التخييلي الذي بناه دون أن يهتم  من أجل ذلك بخصوصية المبدع بوصفه مقالاً تخييلياً مُقَدَّماً للقارئ بشكل مختلف كلياً. فهو بذلك يبحث حصراً عن النبأ message المتضمّن في المبدع دون أن يشغل نفسه في أي مرحلة بحثه بالأسباب التي تجعل من هذا النبأ قابلاً للتوصيل ولا بما يسمح له أن يتحقق على هذا النحو حصراً دون ذاك ولا بالدلالات المتعددة التي يمكن له أن يوحي بها أو أن يقدِّمها تبعاً للطريقة التي تمت صياغته بها. ولهذا فإن هذا الاتجاه لا يقتصر، من أجل استخلاص النبأ، على نصِّ المُبدَع وحده، وإنما يبحث عن دعم لنتائجه في عناصر أخرى أجنبية عن النص: كانتماء الكاتب الطبقي أو سيرة حياته أو ثقافته أو مواقفه السياسية المعلنة.. إلخ.

وعلى الرغم من الاختلاف الظاهري بين هذين الاتجاهيْن فإنهما يلتقيان في عدّة نقاط منهجية أساسية: كلاهما يفصل الإبداعية عن الدلالة، وكلاهما يعالج المبدع وفق تصورات قبلية، وكلاهما يعمل للوصول إلى إثبات صلاحية مبدع ما ضمن النوع الذي ينتمي إليه في مجال خارجي عن المبدع نفسه سواءً تعلقت هذه الصلاحية بالمعايير الشكلية أو بالنبأ.

والحق أنه على الرغم من أن مشكلتي الإبداعية والدلالة مشكلتان حقيقيتان يتوجب طرحهما في أي بحث يرتبط بالنقد أو بتاريخ الأدب، فإن المناهج التقليدية التي طرحتهما على هذا النحو في هذين الميدانيْن لم تكن قادرة على وضعهما على صعيد المبدع نفسه بوصفه كلية غير قابلة للتجزيئ. إذ لما نظر إلى الدلالة بوصفها نبأ أو بوصفها مضموناً، فقد تمَّ نسيان الإبداعية حتى في أكثر مظاهرها أولوية ونعني به كتابة رواية باللغة العربية، ولأنه نظر إلى الإبداعية من وجهة نظر الجماليات وحدها، فقد أهْمِلت الدلالة إهمالاً شبه كليّ.

إنَّ المشكلة إذن مشكلة منهج. والواقع أننا لا تستطيع تحديد الإبداعية والدلالة في نوع أدبي تمَّ تبنيه من القرن التاسع عشر الغربي دون أن نأخذ بعين الاعتبار وأن نضع على صعيد واحد من الأهمية عدّة مبادئ أساسية:

* لايمكن تناول المُبدَع إلا بوصفه كلية متماسكة غير قابلة للتجزيئ؛

* على هذه الكلية أن تكون متماسكة (و"التماسك" هنا يغدو معياراً جمالياً أساسياً)، أي أن تعمل أجزاء المبدع بطريقة تتمكن بها أن تعطي المجموع دلالة. وهكذا فإن "الحقيقة الجزئية لا تكتسب دلالتها الحقيقية إلا بمكانتها في المجموع، كذلك فإنه لا يمكن معرفة المجموع إلا عبر التقدم في معرفة الحقائق الجزئية"[2].

* إنَّ فهم المبدع يهدف إلى إضاءة بنيته الدلالية. وبما أنَّ هذه البنية تشمل كافة العناصر المُقوِّمة للمبدع، فهي تبيِّن تماسكه بقدر ما تكشف عن دلالته.

* يتم تفسير هذه البنية الدلالية عن طريق دمجها في مجموع أكثر اتساعاً وتلعب فيه دور عنصر مقوِّم. وبعبارة أخرى، فإن تفسير البنية الدلالية لمبدع ما يتم بفهم بنية أو مجموع أكثر اتساعاً منها تؤلف الأولى فيه أحد عناصره المُقوِّمة. ومن الضروري أن نشير هنا إلى مايقوله لوسيان غولدمان الذي أعدَّ أداة التحليل هذه حول عمليتيْ الفهم والتفسير. إذ أنهما ليستا "عمليّتيْن عقليّتيْن مختلفتيْن وإنما هما عملية واحدة مردودة إلى إطاريْن من أطر الإسناد"[3].

كيف يمكن إذن، انطلاقاً من هذه المبادئ وباتباع هذه الطريقة، أن نحدد الإبداعية في ميدان الإنتاج القصصي العربي؟

ثلاثة عناصر يتوجب أخذها بعين الاعتبار:

1ـ العنصر الأول أن الرواية والقصة القصيرة نوعان أدبيان تمَّ تبنيهما من الغرب، إذ أن الأشكال الفقصصية التي عرفها الأدب العربي خلال تاريخه تختلف تمام الاختلاف عما نعنيه اليوم بـ "الرواية" و "القصة القصيرة" (كالمقامة، والحكاية.. إلخ.)؛

2ـ العنصر الثاني أن هذا التبني حديث نسبياً. إذ على الرغم من أن حركة ترجمة الروايات الغربية والمحاولات الأولى للكتابة ضمن شكل الرواية الغربية وعلى منوالها قد بدأت من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فإن المبدعات الروائية العربية الأولى قد كتبت مع مطلع عشرينات القرن العشرين، ولم تزدهر الكتابة الروائية في العالم العربي إلا غداة الحرب العالمية الثانية؛

3ـ والعنصر الأخير هو أن حركة الترجمة القصصية قد تمّت ضمن عملية اتفق على تسميتها عموماً "النهضة الأدبية" التي تمّت بدورها ضمن مجموع أيديولوجي أكثر اتساعاً ونعني به اليقظة الوطنية والقومية على الصعيد السياسي، والتحديث على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.

وهكذا يتم التعرف على إبداعية الإنتاج الروائي والقصصي العربي على مستوييْن: إسهام هذا الإنتاج في تأصيل نوع أدبي في الأدب العربي من جهة، والعلاقات الدلالية التي يباشرها، كبنية دلالية، مع بنى الوسط الاجتماعي الذي ولد فيه من جهة أخرى.

وعلى الرغم من سوسيولوجية هذا المنظور، بل لأنه كذلك في الواقع[4]، فإنه يسمح لنا أن نتجاوز في دراستنا للمبدعات الروائية العربية عموماً مشادات الشكل والمضمون وأن نعانق، من خلال مفاهيم كالتماسك والبنية الدلالية ورؤية العالم والكلية، في آن واحد معاً، "أدبية" المبدع ودلالته، دون أن نحتاج من أجل ذلك إلى الفصل بينهما فصلاً مصطنعاً.

ومن خلال هذا المنظور إنما نحاول هنا أن نقدم تحليلاً لروايتيْن: الأولى هي إحدى أهم الروايات التي عرفها الإنتاج الروائي في سورية ونعني بها جيل القدر لمطاع صفدي التي نشرت عام 1960 وصدرت عن دار الطليعة ببيروت، والثانية شرخ في تاريخ طويل لهاني الراهب التي نشرت في عام 1970 وصدرت عن دار الأجيال بدمشق.

لقد رأى البعض لدى صدور رواية جيل القدر أنها لا تستحق حتى مجرد وصفها بالرواية: فالمفردات الفلسفية والمناقشات الميتافيزيقية والتساؤلات الوجودية من ناحية، وغياب الفعل والحدث ولا واقعية الشخصيات وتزييف العقدة من ناحية أخرى، كلها عناصر تجعل من هذا المبدع  أقرب إلى أن يكون كتاب حوار فلسفي ـ وتظل قيمته محلّ نقاش ـ أكثر مما هو رواية حقيقية. أما البعض الآخر، فقد وجد أنه على الرغم من النواقص الشكلية التي تعتور هذا المبدع فإنه عمل فني ذو طموح فكري مؤداه إثراء الأيديولوجية القومية، التي يمثلها حزب البعث، بمفاهيم الوجودية السارترية ضمن إطار المواجهة الفكرية والسياسية التي كانت على أشدها في الخمسينيات مع تيارين أيديولوجيين كبيرين هما الأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية الدينية[5].

ولكي نفحص مدى صحة أو زيف هذه الأحكام ونضع الرواية في موضعها الذي تستحق ضمن خط الإبداع الروائي العربي، يتوجب علينا، وفق المنظور الذي أتينا على تحديد خطوطه الرئيسة بإيجاز، أن نبدأ بمحاولة الإجابة عن عدة أسئلة يمكن توزيعها على أربعة مستويات:

1)   هل تقدم جيل القدر بنية دلالية متماسكة؟ وما هي هذه البنية؟ وهل تحدد، في حال وجودها، هذه الرواية فقط أم أنها تحدد روايات أخرى من الإنتاج القصصي السوري منذ ظهورها؟

2)   هل نستطيع وهل يتوجب علينا دمج هذه البنية الدلالية لرواية جيل القدر في تيار أيديولوجي أوسع كتيار الرواية القومية مثلاً؟

3)   هل تملك هذه البنية الأيديولوجية، في حال وجودها، علاقات وظيفية واضحة مع جماعة اجتماعية أو طبقة ما، ومن هي؟

4)   وأخيراً، هل تحتل هذه الجماعة الاجتماعية موقعاً واضحاً في بنية المجتمع الذي ولدت فيه الرواية، أي المجتمع السوري؟

يتحدد عالم الرواية زمنياً بين عام 1953، في ظل النظام العسكري الديكتاتوري (أديب الشيشكلي)، وعام 1954، بُعَيْدَ سقوط النظام المذكور وعودة الحياة الديمقراطية. غير أن هناك بالإضافة إلى ذلك، عدة فصول تتابع مصير الشخصيات الرئيسة خلال الحقبة التي تفصل بين النهاية الأولى للرواية ةالنهاية الثانية التي تقع في الأسبوع الأول من شهر شباط/فبراير 1958، مع احتفالات إقامة الوحدة السورية المصرية.

مكانياً، تدور أحداث الرواية في المدن السورية واللبنانية (دمشق، حلب، بيروت) ثم في نهاية الرواية، في جبال الجزائر، حيث كانت المعارك دائرة بين قوات جبهة التحرير الوطني الجزائرية وقوات الاستعمار الفرنسي، ثم في دمشق من جديد ومع النهاية الثانية للرواية. وفضلاً عن ذلك تتمفصل الرواية وفق أربع نقاط ذات دلالة:

 

* الشروط التاريخية التي تشرط وجود الشخصيات (وهي المشار إليها في الرواية بـ"القدر":

"لقد ولدنا في الجحيم، وينبغي أن تستمر حياتنا فيه. كل جنة نلقى إليها إنما هي جنة كاذبة" (نبيل)، ص. 459.

"إننا نتحدث كما لو كنا مشوّهين، كأن عجزاً أو تشويهاً يقع في عضو منا.. في جهة ما من وجودنا" ص. 33.

"كانت الصورة تمثل عدداً كبيراً من الوجوه المضخمة ملامحها، بينما تضاءلت أجسادها دون أن تفقد حركتها وكانت حركتها عبارة عن زوبعة يطلقها من زاوية اللوحة وجه ساخر، أشبه شيء بوجه الشيطان". وتأملت هذه الوجوه العجيبة ذات الخطوط المعبرة عن نماذج وجودها، فعرفت منها وجه حسان القديم ووجهي أنا، وهاني وهيفاء، وليلى وطائفة كبرى من الأشخاص الذين أعرفهم ولا أعرفهم.. كانوا جميعاً تلفهم زوبعة تنطلق من نَفَسِ ذلك الشيطان.

"وقال حسان: أرأيت.. إنهم أنت وأنا.. والكل.. إنهم الجيل، تعبث بهم زوبعة من نفخة شيطان.. شيطان لا يمكن تحديد هويته بعد؛ إنه يحمل أغمض اسم في سفر الإنسانية: القدر.

:وقلت بخفوت: تعني أنهم.. جيل القدر.." ص. 456ـ457.

 

* البحث الذي يتجلى عبر عدة مظاهر: البحث عن الحب الحقيقي، عن النضال الحقيقي، عن الثورة الحقيقية، عن الملجأ، أخيراً، الذي يسمح بالتحرر.. وهو الذي يتجلى مادياً عبر محاولة الفعل وتحقيق شيء ما:

"لا أفعل شيئاً له معنى. لا أحسب أن الشيء ثقلاً.. أريد أن.. أريد شيئاً لا يمكن أن أعيّنه.. أواه يا ليلى، إنني يائس.. إنني أبحث عن لاشيء.." (نبيل)، ص. 112.

"أرأيت، يجبأن يكون (أي الحب) شيئاً آخر، يجب أن نكتشفه معاً". ص. 51.

"إنك تفتش عن الأصالة، أليس كذلك يا حبيبي... إنك أنت لا تعلم على وجه التحديد ماذا تعني بالأصالة.." ص. 263.

"نبيل: إشارة كبرى لنا، إشارة نسميها البعث، أتفهمين هذه الكلمة؟

"هيفاء: أفهمها، ولكن هناك.. هناك ما يشبه الصدى المستمر الداوي لها في النفس.. إنها كلمة تفهم بإيقاعها ككل الألفاظ الكبرى، كالله والحب والحياة والموت.. أشعر أنها من فصيلة هذه الكلمات، ولكنها كلمة قريبة جداً من النفس، كأننا جميعاً نحمل قاموسها وينقصنا الدليل الحي لأن توجد جميع مفرداتها.. جميع معانيها، جميع جذورها..

"نبيل: نعم، هذا تيهي الأعظم." ص 174.

 

* المخرج: إنه ملتقى جميع الشخصيات الرئيسة في الرواية. ذلك أن بحث كل شخصية يقودها إلى هذا الملتقى: إيجاد مخرج يعثر فيه كل واحد على سلامته، على خلاصه من قدره. وسوف يترجم هذا المخرج على الصعيد الحدثي في الرواية بفصل تدبير اغتيال الديكتاتور، أي العقيد الشيشكلي:

"إن لك أخاً يملك الطريق المنقذ الوحيد لنا جميعاً.. لقد دلني على طريقي أخيراً، وها أنا سائر إليه.. سأقتل، سأقتل.." ص. 235.

 

* غياب الحدث: قد تبدو رواية بدون فعل، بدون حدث، للوهلة الأولى، متناقضة مع تصور مسبق عن الرواية. غير أن هذا الغياب على وجه الدقة هو الحدث الوحيد الذي يحرك عالم الرواية.

فمع الشخصيات والضوابط التي تنتظم عبر علاقاتها المتبادلة من ناحية، وعبر علاقاتها مع شروطها: أي بيئتها وانتماؤها الاجتماعي ومطامحها، تتضح دلالة نقاط التمفصل هذه.

إن "نبيل" هو أحد شخصيات الرواية الرئيسة، لكنه يتمتع فيها بموقع ممتاز. فكل شيء فيها يشير إلى أنه مهيّأ ليكون ممثلاً لكلِّ أترابه ومن ثم لجيله. فهو، باعتباره ينحدر من أسرة متوسطة، ينتمي إلى ذلك الجيل الذي وعى، غداة الاستقلال، أهميته التاريخية على الرغم من الشروط الاجتماعية والثقافية والسياسية التي كانت تفيد من حركته. وكان على وعيه هذا أن يسمح له بالتحرر منها بموقفيْن: رفض كل القيم التي تحرك حياة جيله من ناحية، وتجسيد انتمائه للأمة العربية. لكنه إذا كان ينطلق من رفض كل ما هو قائم، أي التقاليد والأسرة والسلطة والواقع الفاسد، فإن الحزب الذي كان ينتمي إليه  لم يكن يقدم له أيديولوجية راسخة تسمح له أن يواجه بها أيديولوجيتيْن قويتيْن فكرياً، إحداهما ذات جذور عميقة في الفكر العالمي، والأخرى ذات جذور راسخة في الواقع المحلي، ونعني بهما الأيديولوجية الماركسية والأيديولوجية الدينية. والأفكار القليلة المطروحة عما يجب أن يكون عليه الإنسان العربي والمجتمع العربي ومن ثمَّ الفكر العربي، ليست إلا أفكاراً عامة مادامت مدعمة بقاعدة نظرية، ومادامت تصاغ دوماً انطلاقاً من الأفكار المطروحة في ساحة الصراع النظري والسياسي الدائرة آنذاك، صياغة تقوم على نفي هذه الأفكار دون تقديم بديل له قوة المستبدل. والحق أن هذه الأفكار تترجم الرفض:

 

"فالبعث نوع من العدم بالنسبة لما هو موجود، ووجود بالنسبة لما هو عدم تماماً" ص. 175.

 

ورفض أيديولوجية الطبقات:

 

"وأمتنا العربية، إنها مهددة بوجودها قبل أن تكون مهددة بمعدتها.. يجب أن نعمل إذن على أن توجد هذه الأمة.. أن تبعث من عدمها، أن تشعر بشخصيتها.." ص. 211.

 

أو أيضاً:

 

"وهكذا فإن ثورتنا ليست طبقية ولكنها قومية، للأمة كلها.. هذا هو شعارنا الحقيقي". ص. 312.

ولكن من يصنع الثورة إذن أو بالأحرى البعث؟ إنهم الأفراد الذين يستطيعون عبر تجربة فردية وفريدة تكوين الطليعة التي تحقق الثورة:

 

"يكفي أن يبدأ البعث حقيقياً من ذات الفرد وأن يعيه حتى ينقلب هو نفسه إلى قائد ويلتقي مع كتائب الطليعة". ص. 177

"إن الثورة في حقيقتها، وكما تعيشونها أنتم بأنفسكم.. لا تعني مجرد الحرب المادية ضد المستعمر؛ إنها قبل كل شيء انقلاب ذاتي وجودي". ص. 480.

 

إن ذلك يفسر في الواقع عددأً من الاستيحاءات الوجودية في الرواية يراد لها أن تقوم بدور داعم لأيديولوجية البعث:

 

إن تجربتي معك لأصدق دليل على أنني أستطيع أن أكون أنا ولا أكون طبقتي، أن تكون لي ميزاتي الخاصة، فضائلي وعيوبي وآرائي ولهجتي في حياتي ووجودي وتفكيري، وألا أستقي كل ذلك من شيئ أعم مني خارجيٍّ عني". ص. 165.

 

ولكن ها هو تساؤل فيه المفردات السارترية مع تصورات غيبية محلية:

 

"ولكن، هل كنا أحراراً فعلاً عندما صممنا؟ هل كان مجال الاختيار أمامنا مفتوحاً؟. أحسب أننا لم نختر، وكأن إرادة أخرى فوق إرادتنا هي التي تصنع اختيارنا.." ص. 264.

 

إذا صحَّ ذلك، فقد كان من الطبيعي أن يفشل مشروع نبيل في "تحقيق التحول الوجودي في أنفسنا". إذ لما كان دائماً حبيس قدره، أي الشروط التي تقيّد حركته في نظرنا، فإن محاولته إغناء أيديولوجيته بتجربة حية وجودية كانت في طريقها إلى الفشل سواء على صعيد الحياة العاطفية أو على صعيد تحقيق نفسه بوصفه مناضلاً.

هيفاء/ الشخصية الثانية، هي طباق contrepoint نبيل. فهي سليلة أسرة شديدة الثراء، ترتبط مع نبيل بعلاقة حبٍّ أرادها الاثنان مختلفة. لكنها كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر نظراً للفوارق الاجتماعية التي تفصل بينهما.

بدأ هذا الحب في السر خشية أن يفشل إذا ما بدا للعيان قبل نضجه. بيد أن نبيلاً لم يكن هو نفسه عندما يكون إلى جانبها: فهو يبدو بعيداً عن حزبه وعن رفاقه في النضال، وكذلك عن القراءة والإبداع كما لو أنه كان يستسلم لهذا البحث عن علاقة أصيلة كي يمتلك قاعدة صلبة لمطامحه وتطلعاته الأخرى. أما هيفاء، فإنها بحبها له إنما تحاول الخروج من شرطها الخاص بها دون أن تتبنى بعمق مثل نبيل الذي حاول مع ذلك أن يجعلها تسير معه وفق إيقاعه. صحيح أن انتحار هيفاء، الذي يقع حين تستشعر استحالة مشروعها، يحرر نبيلاً، لكنه يؤكد على صعيد الدلالة الشاملة للرواية فشل محاولته.

ليلى، وهي تنويع أنثوي من نبيل، لكنها أشدّ حدّة وربما درامية على الصعيد البنيوي ـ كلّ ذكاء وفعالية المرأة ـ كان يمكن بها أن تلعب دوراً كبيراً. فأبوها، وهو تاجر سلاح، يعطيها بموقفه وبسلوكه نحوها أو صورة عن البطل المضاد أو اللابطل. لذلك كانت تبحث عن البطولة في واحد من ضحايا أبيها، هاني، اللاجئ الفلسطيني الذي كانت تتوقع أن يكون نموذج الرفض ونمط البطولة. لكن هذا كان عاجزاً حتى عن الارتفاع إلى مستوى الضحية الحقيقية. آنذاك، تلتقي نبيلاً الذي يجسد في عينيها وعد بطل تنتظر تحققه حتى نهاية الرواية. فهل تراها عثرت على ما تنتظر؟

أما حسان، فهو بالنسبة إلى نبيل، ظله أو مِثله. لكنه يبدو في نهاية الرواية أقل قسوة منه وأكثر تحسّساً بالواقع. هو أيضاً كان يبحث عن تحقيق نفسه بواسطة فعل حقيقي.

هاني، بطل ليلى الذي لم يتحقق، واحدٌ من الفلسطينيين الذين وجدوا أنفسهم فجأة محرومين من ماضيهم ومستقبلهم في مواجهة حرب شرسة لإلغاء ذاكرتهم. يعي نفسه في دمشق مجرد لاجئ، ومن هنا شعوره بعدميته ولاأباليته قِيَلَ أحلام الآخرين في النضال السياسي والاجتماعي من أجل بناء مجتمع جديد: فالأفكار الكبرى تفقد أهميتها، والمشاريع الكبرى تغدو مدعاة للسخرية أكثر منها إثارة للحماسة. كان يتوقع أن يعيش مع ليلى حياة كحياة الآخرين، ولكن دون أوهام. أما ليلى التي كانت تبحث فيه عن البطل المأساوي وتحبه لكي تعوض عن خيانة أبيها فإنها تكتشف لا أباليته. وهكذا تتخلى عنه وتدعه يرحل إلى الولايات المتحدة الأمريكية مهاجراً. إلا أنه حين يشعر هناك باستلابه، يعود إلى سورية ليعمل عميلاً للنظام العسكري ممتهناً في الوقت نفسه لحساب الصحافة الأمريكية حرفة كتابة مقالات تدعي الموضوعية عن أوضاع اللاجئين الفلسطينيين. وإذ يعي حجم المفارقة التي تطبع وجوده، يبحث، هو الآخر، عن فعل حقيقي يمكن أن يكون فيه خلاصه.

كان يمكن لهذا الفعل الحقيقي أن يكون الحدث المنتظر وقوعه في حياة كل واحدة من الشخصيات وخلاصها من قدرها: فعل اغتيال "الديكتاتور". فقد وجدت كل شخصية من شخصيات الرواية الرئيسة في هذا المشروع أمل تحقيق نفسها الخاص بها تبعاً للأسباب الشخصية التي تحرك كلَّ واحدٍ منها نحو هذا الهدف. وحتى أؤلئك الذين كانوا ينضوون تحت لواء الحزب، يقذفون بأنفسهم في حمى الإعداد للمشروع على الرغم من أن حزبهم غريب عنه. هكذا تبدو دلالة محولة الفعل هذه، لا سياسة فحسب، وإنما ذات طابع تاريخي تكسبه في الواقع من مشاركة مختلف أنماط الشخصيات: سواء نبيل، المناضل البعثي في غياب إرادة حزبه، أن هيفاء وليلى وهاني، الغرباء عن الحزب.

غير أن الذي يتم حدوثه فعلاً هو أنه، قبل أن يضعوا فكرتهم موضع التنفيذ، تسبقهم مجموعة أخرى إلى تنفيذها (يتهم الكاتب هنا مخابرات النظام نفسه) وتفشل في محاولتها. الأمر الذي يجعل مشروع أبطالنا مستحيل التحقيق نظراً للإجراءات ذات الطابع الوقائي التي اتخذتها السلطة ضدّ أيّ عمل محتمل من هذا القبيل. ويوجّه أبطالنا أصابع الاتهام إلى عملاء مخابرات النظام العسكري الذين فوّتوا عليهم بلعبتهم، فرصة التنفيذ الفعلي، باستنزافهم أو سرقتهم لفعل القتل:

"تقول هيفاء: ليلى.. لقد سرقوا فرصتنا الوحيدة.. لقد قضوا علينا، لقد أضاعوا حياتنا..

ونشجت ليلى: الجبناء. لقد سرقوا منا حتى القتل، حتى الموت. لم يدعونا نقتل.. إنهم زيفونا حتى في قتل الآخرين. سلبنا الآخرون قضيتنا، فما نحن إلا أكذوبة تسير على الأرض بدون ظل.. بدون هدف. أين نبيل، أين عدنان، أين هاني، حسان، وسعيد.. إنهم كلهم الآن بدون قتل.." ص. 269.

 

هؤلاء اللصوص.. هل يمكن أن يكونوا إلا تجسيداً زمنياً ومؤقتاً للقدر الذي يكبل بقيوده جيلاً بأكمله؟ من الممكن أن يغرينا القول إن العجز الموجود في أعماق كلٍّ منا والذي نجعله يتماهى في الآخرين يحول بيننا وبين العمل. ولكن كيف نفسر آنئذ أن كل شيء في الرواية قد استنفر لبيان الأهمية القصوى التي يضفيها الأبطال على هذا العمل المُحَرِّر في نظرهم؟

مهما يكن من أمر، فإن هذا الفشل يبعثر الشخصيات ويشتتها: تنتحر هيفاء، ويعود هاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية ثانية، وتعكف ليلى على عملية إعادة نظر شاملة، عازلة نفسها عن الجميع، بينما يكرس نبيل نفسه كلياً للنضال اليومي في حزبه، ويسافر حسان إلى حلب ليحيا حياة نضالية حقاً لكنها أكثر واقعية هذه المرة وأقل تعلقاً بالنظريات وبالأوهام. إن محاولة حسان تجذير نضاله من خلال اختلاطه بالعمال تجعله يصطدم بأيديولوجية أشدّ صلابة من أيديولوجيته ونعني بها الأيديولوجية الماركسية. فمفاهيمه المجردة عن الأمة بلا طبقات،وهمومه التي هي هموم كل الأفراد المنتمين إلى الفئات الوسطى من المجتمع، تتكشف عاجزة عن الوقوف في وجه الشيوعيين الذين يواجههم ويلتقي بهم يومياً. إن شيئاً ما ينقصه رغم جهوده التي يبذلها لتجذير نفسه. غير أن نهاية النظام العسكري وعودة الحياة الديمقراطية تفتحان عينيْه، وكذلك عينيْ نبيل: فمناضلو الحزب ضد الديكتاتور بالأمس قد التفتوا اليوم إلى الخلافات السياسية العادية ولم تعد الثورة قضية الحزب الأولى. لهذا يهجر حسان النضال المباشر منصرفاً إلى الرسم الكاريكاتوري، وكان أول رسم ينفذه هو رسم جيله: جيل القدر. أما نبيل، فإنه يغادر البلد مسافراً إلى الجزائر، آملاً أن يعثر هناك على الثورة الحقيقية والفعل الحقيقي.

هنا تتوقف الرواية مرة أولى، لتستأنف ثانية بعد عدة سنوات من هذا التوقف: مع نبيل أولاً، مجاهداً في صفوف الجزائريين، ثم عائداً إلى دمشق في الأسبوع الأول من شباط/فبراير 1958، حين تم إعلان الوحدة بين سورية ومصر.

عنصران دلاليان تتوجب الإشارة إليهما هنا: أولهما سفر نبيل إلى الجزائر، هذه الشخصية التي قدمت نموذجاً لجيل بأكمله، من أجل المشاركة في الثورة ومنحها بعدها العربي إثر انهيار النظام الدكتاتوري مباشرة، هذا في الوقت الذي كانت فيه سنوات ال 55 و 56 و1957 حافلة بالأحداث الجسام التي كانت تستوجب حضور مناضل صلب وعنيد كنبيل للمشاركة فيها بفعالية (حلف بغداد، العدوان الثلاثي، تأميم قناة السويس، ...إلخ.) والعنصر الثاني هو هذه المصادفة (هل هي مقصودة؟) ونعني بها احتضار نبيل لحظة إعلان الوحدة، هو الذي عاد من الجزائر بالضبط كي يشارك في الاحتفال بها، وانتهاء الرواية بلحن جنائزي يوحي بموته أو على الأقل بانتهائه. وبعبارة أخرى، فإن هناك عدد من الأسئلة يستلزم الطرح" لماذا هذا الانقطاع في الزمان وفي المكان في عالم الرواية؟ ثم لماذا هذه العودة إلى رواية انتهت ـ حسب فهم البعض ـ منطقياً بتشتت أبطالها إثر فشلهم في اغتيال الديكتاتور، هذا الفشل الذي وضع حدّاً مرة وإلى الأبد لأوهام وآمال الأبطال؟ ثم لماذا يشارك نبيل في احتفالات الوحدة وهو بين حدران غرفته الأربع؟ وهل كان احتضاره وموته أو الإيحاء بموته بعد إعلان الوحدة مجرد مصادفة؟ وهل هناك مصادفة في الرواية؟

لا يمكن الإجابة عن هذه الأسئلة دون الرجوع إلى الدلالة الشاملة للرواية حتى نهايتها الأولى. فالواقع أن سفر نبيل إلى الجزائر كان نتيجة تراكم مشاعر اليأس على عدة مستويات: المستوى العملي المتمثل في محاولته تحقيق ذاته من خلال فعل حقيقي، وفضل هذه المحاولة، والمستوى العاطفي الذي كان يتجسد في علاقته بهيفاء التي آلت إلى الفشل وحطمت حلمه ببناء علاقة خالصة من كل الشروط المنحطة التي يمكن أن تكبلها، والمستوى السياسي الذي تمثل بابتعاد الحزب، في نظره، عن الثورة الموعودة بعد سقوط النظام العسكري.

لقد كان يأمل أن يجد في الجزائر ثورة حقيقية تمكنه من تحقيق نفسه من خلال الممارسة المباشرة واليومية للعمل وللفعل الثوريين وتجعله قادراً على المراهنة المعقولة على المستقبل. غير أنه ما إن يصير هناك حتى يتم إنجاز فعل آخر في بلده وفي غيابه مرة أخرى، دون أن يتمكن من المشاركة فيه، ونعني به أول وحدة في تاريخ العرب الحديث،هذه الوحدة التي كرس حياته ووجوده لتحقيقها بين أجزاء الأمة العربية المشتتة. لقد بدا موقف نبيل من هذه الوحدة مفارقاً: فهي مرادة منه ومرفوضة في الوقت نفسه. مرادة، لأنها تمثل حلمه الخاص؛ ومرفوضة لأنها لم تتحقق نتيجة مشاركته ولم تكن من صنع جيله. ومن ثمَّ، فلم تكن تملك الضمان الذي يكفل لها واقعاً حقيقياً: هذا الحلم، هذا الفعل الذي طالما انتظر جيله ان يحققه بنفسه، بدا مرة أخرى وقد استنزف، وقد سرق.

ومن هنا "جيل القدر" المسروق. ذلك هو السبب في وجود نهايتيْن للرواية تبدوان، للوهلة الأولى، بلا تبرير على صعيد البناء الشمولي للرواية فيما لو اعتبر محورها، كما فعل بعض النقاد ذلك، مجرد سرقة القتل وفشل هذه المحاولة[6]. ففعل القتل الذي لم يتحقق لا يكتسب دلالته الأساسية والنهائية كفعل مسروق إلا من خلال الفعل الثاني الذي تمت سرقته أيضاً والذي يتضح لنا مع النهاية الثانية للرواية، ونعني به الوحدة السورية المصرية. وإذا كان سفر نبيل إلى الجزائر يُعَدُّ، من وجهة النظر المنطقية والسياسية، بلا مبرر ما دامت أسباب النضال ومبرراته قائمة باستمرار بل وبشكل أكثر حدّة وضراوة في سورية خلال السنوات التي تلت سقوط النظام العسكري، فإنه، في ضوء بنية الرواية الشاملة، كان بحثاً عن بديل في فعل عينيٍّ وماديّ في ساحة أخرى، وهو بحث دفعت إليه ولا شك كثير من الوعود غير المنجزة والأقوال التي لم تكن تملك أية قاعدة في الواقع العملي. لكن السبب الرئيس، فيما نرى، هو الشعور بالقصور الشديد عن إمكان التخلص من "القدر" بالمعنى الذي أشرنا إليه في هذه الدراسة، دون التحام مادي، وربما دموي، مع الواقع النضالي الذي كانت الثورة الجزائرية تقدم آنذاك خير مثال له. إن هذا القدر لا يلف جيلاً بأكمله، وإنما بالأحرى حقبة بأكملها، ولم يكن تحقق الوحدة في سورية، في أثناء غياب البطل ـ النموذج، ومن ثمَّ احتضار هذا البطل في اللحظة نفسها التي كان يتم فيها الاحتفال بها، إلا تأكيداً، ولكن على مستوى أشمل هذه المرة، لمحور الرواية الأول: ونعني عجز جيل نبيل (بسبب القدر، أو الشروط التي تكبله، أو الافتقار إلى أيديولوجية شاملة وراسخة القواعد..إلخ.) عن تحقيق فعل له ثقل تاريخي. وإذا كانت محاولة قتل الديكتاتور قد سرقت واستنزفت، وهي محاولة مجموعة من الأفرادصحيح أنهم يمثلون ـ كما يُرادُ لهم ـ جيلاً بأكمله لكنهم يظلوا أفراداً، فإن إنجاز الوحدة على النحو الذي تمّ، من وجهة نظر الرواية، كان سرقة لفعل يشمل أمة بكاملها، بل ويمسُّ صميم تاريخها. ومن هنا خطورة وجلال الدلالة الشمولية لهذه الرواية التي أعلنت عن إفلاس جيل بأكمله في اللحظة نفسها التي كان يحسب فيها أن حقق أعظم الانتصارات.

في ضوء هذا التقطيع الذي حاولنا من خلاله تبيان كافة العناصر المقوِّمة لبنية الرواية مهملين ـ ولا بدّ من الإشارة إلى ذلك ـ عناصر أخرى بدت لنا ثانوية أحياناً ومناقضة لتمفصل الرواية نفسه أحياناً أخرى، يمكننا الإجابة عن التساؤل الذي طرحنا على أنفسنا في بداية هذه الدراسة: إن رواية مطاع صفدي تقدم ولا شك بنية دلالية متماسكة لا تحدها وحدها فحسب بل وتحدّ روايته الثانية ثائر محترف التي نشرت في عام 1961 (دار الطليعة ببيروت) كما تحدّ بنى ثلاث روايات مهمة على أصعدة مختلفة في الإنتاج القصصي العربي، ونعني بها روايات هاني الراهب المهزومون، 1961، (دار الآداب ببيروت) وشرخ في تاريخ طويل  وألف ليلة وليلتان، 1977، (اتحاد الكتاب العرب بدمشق).

فإذا كانت رواية جيل القدر تتوقف على حافة اليأس الذي عاناه الجيل القومي والحركة القومية في أواخر الخمسينيات، فإن ثائر محترف التي تتخذ لها إطار الحرب الأهلية في لبنان عام 1958 تنتهي إلى كسوف كامل يتجسد مادياً بصورة لا لبس فيها ربما لأنها عبرت عن الهموم والأزمات والتطلعات والخيبات نفسها بطريقة أكثر حيوية وفنية نظراً للإطار  الذي تمَّ اختياره لأحداثها.

هذه البنية الدلالية التي أكدتها الرواية الثانية لمطاع صفدي تتأكد وتغتني في روايات هاني الراهب ولاسيما روايته الثانية شرخ في تاريخ طويل التي كتبت بعد عشر سنوات من جيل القدر، ومن قبل كاتب ينتمي إلى جيل آخر هو جيل الستينيات[7].

تستعيد هذه الرواية مفاصل جيل القدر نفسها، نعني الشروط التي تحدد سلوك أبطالها، وبحث هؤلاء الأبطال ـ الذي يتأكد ويغدو مادياً وعينياً في هذه الرواية ـ عن قيم ودلالات جديدة لحياتهم، والملجأ الذي يتخذ في هذه الرواية مظهر تجارب فردية متباينة بدلاً من أن يكون فعلاً واحداً يشارك به جميع الأبطال، وأخيراً غياب الحدث بالمعنى الروائي لهذه الكلمة.

يتقلص الجانب التاريخي في هذه الرواية إلى مجرد الإشارة إلى الفترة التي تدور فيها أحداث الرواية، وهي الفترة الوحدة السورية المصرية بين عامي 1958 و 1961. وهي إشارة لم تقدم للقارئ إلا في نهاية الرواية، عند إعلان انفصال هذه الوحدة في 28 أيلول/سبتمبر 1961. وستتضح لنا دلالة هذا العنصر عبر التقطيع الموجز الذي سنقوم به لإيضاح العناصر المقوّمة للبنية الدلالية لهذه الرواية.

إنَّ إشكالية شخصيات الرواية، وهم مثقفون في معظمهم أو حملة شهادات جامعية، تتلخص في السؤال التالي: كيف نحقق البعث بشكل عيني، وبالتالي الثورة بالمعنى الثقافي لهذه الكلمة؟

تقدم الرواية عبر شخصياتها عدة خيارات من الإجابات تكتسب دلالتها بالعلاقة مع الإطار التاريخي الذي تقدم فيه. غير أن التأكيد ينصب على المشروع: مشروع أسيان ومشروع مجد. وهما في الحقيقة مشروعان إذا ما نظر إليهما في ضوء تحققهما في الواقع: فمشروع أسيان يشكل في نظره هدفاً أولياً، أما مشروع مجد فإنه يشكل نقطة انطلاق. إن تحقيق الثورة لا يتم في نظر أسيان إلا عبر بناء أول خلية في المجتمع: الأسرة. ولنقرأ هذا الحوار:

 

"أريد امرأة أعيش معها ثورتي وبعدئذ أنطلق إلى ما هو أوسع: أكون أسرة وأنشئ أطفالاً أصحاء.

ـ عصرنا لا يسمح لك بهذا ..هذه قضية صغيرة. أنت للوطن ولست لنفسك.

ـ عندما أعيش مع امرأة فلا تتمزق علاقتنا أكون قد صنعت ثورة كاملة. خدعتنا الشعارات الكبيرة وغفلنا عن قصورنا الشخصي.

ـ لا أتوقع منك هذا الحصر لنفسك بامرأة. مرام لك. تزوجها. ماذا تنتظر؟

ـ لست أحصر نفسي. أريد أن تكون البدايات صحيحة". ص. 70.

 

إلا أنه لتحقيق ذلك لابدّ من مواجهة القيم التقليدية التي تحيط بنا والتي نرفض هيمنتها على سلوكنا من ناحية، وإيجاد الشريك الذي يسعه على المستوى نفسه تحقيق هذه النواة للثورة. وكما يقول أسيان:

 

"ـ عندما يستطيع اثنان مثلنا أن ينسجا وحدة تكون وحدة الجماهير مضمونة". ص. 163.

 

لكن هذا العالم الذي يتوجب على أسيان مواجهته لتحقيق مشروعه تحكمه أيديولوجية تقليدية (يجسدها في الرواية شخصيتان: صهر مرام وزوج لبنى)، أيديولوجية هي من القوة بحيث يشعر أسيان قبلها مجرداً من سلاحه. وحين يصف قوة هذه القيم التقليدية يقوم بمقارنتها بقيمه:

 

"أبو مها هو المنتصر الأكبر. شيء واحد كان مؤسفاً: لقد بدا عالمي باهتاً أمام عالمه، ولم يستطع أن يكون طرفاً حقيقياً في صراع الأضداد". ص. 70.

 

ولكن هل يصلح هذا المشروع الذي يحاول أسيان تحقيقه قاعدة انطلاق؟ لقد ظنَّ مجد ذلك أمداً، شأنه شأن أسيان. لكنه بخلاف هذا الأخير، استطاع تحقيق مشروعه، وكانت داره ملجأ أسيان ومآل حنينه. ومن ثمَّ كان عليه أن يواجه الخيارات التي انبثقت أمامه ما إن قام بالخطوة الأولى. ولقد تمَّ هذا الخيار في الجزء الأول من الرواية. يقول مجد:

 

"تقاليد جديدة في بيئة يفترسها غياب التقاليد والنمو الشاذ. لقد بلغ بنا المرض حداً أنسانا كيف تكون العافية. أخي أسيان، أكره الناس الضخمين. أكره هؤلاء الحاملين أزمة الوطن العربي وهم لا يقومون بأي عمل سوى ترديد الشعارات والنقد. أنا مع الحكومة برغم كل شيء: تعمل، أو على الأقل تحاول. وبالنسبة لي، لامجال لإدانتها. أنا أيضاً أحاول". ص. 184.

 

المحاولة هي التي تهم إذن في المقام الأول، في غياب قاعدة نظرية. لكن ذلك ليس إلا خياراً من خيارات. وخيار أسيان يصطدم بالقيم التقليدية، أما مجد فإنه يحقق ما يعتبره أسيان أساساً، لا يجد المنفذ إلا من خلال تضامنه مع الحكم القائم، أي ذلك الذي كان قائماً في أثناء الوحدة السورية المصرية.

أما بالنسبة لأبي خالد فإن مشروعه ينطلق من قاعدة أخرى لها في نظره أولوية مطلقة. فإجابته تقوم على مواجهة الواقع كما هو. وهذا الواقع مطبوع بالفقر والجهل والمرض. أن تقوم بالثورة إذن يعني أن تنتصر على هؤلاء الأعداء. والوسيلة الوحيدة إلى ذلك هي السلاح. وبما أنه لا يثق بتصميم جيله (الجيل الخرع كما يسميه)، يقوم بمحاولة انقلاب تنتهي إلى الفشل الكامل وتودي به إلى السجن.

على أن نهاية قناعات مجد لن تكون بأفضل من نهاية قناعة أبي خالد. فهو يكتشف بعد لأي أنّ خياره لم يكن كافياً لتحقيق حلم الجميع: البعث. فيرحل إلى أفريقيا كي يواجه فيها موتاً مجانياً.

أين هو الشرخ إذن؟ أهو في الشروط التاريخية؟ أهو في غياب كل نظرية؟أم في عجز هؤلاء الأبطال عن جعل الوسائل التي اختاروها فعّالة؟

كان على هذا الجيل الذي ولد في بيئة تتحكم فيها أيديولوجية التقاليد والانحطاط والذي تغذى من الأفكار القومية التي استنفرت قواه لتحقيق البعث، بعث الأمة العربية، والذي تثقف بثقافة تستجيب، وهي الصادرة عن فرويد وماركس وحتى برغسون، لحاجاته وتفتح له مختلف الطرق ليتحرر، أن يواجه في آن واحد:

ـ تربيته التقليدية: فقد كان عليه أن يتحرر من القيم السلفية والمحرّمات التي تكبله.

ـ وتكونه داخل الأيديولوجية القومية التي كان عليه أن يخلصها من خواء الشعارات الطنانة وأن يشفي عجزه وأن يبحث عن قواعد أكثر رسوخاً للانطلاق.

ـ وتبعثره الثقافي: فمشكلاته ليست لها الطبيعة نفسها كما أن مشروعه ليس شخصياً أو فردياً: إذ المقصود تحقيق مشروع حضارة جديدة وثقافة جديدة. فهل يمكن الاكتفاء بماركس دون فرويد؟ وهل يكفي الاثنان معاً للإجابة على المشكلات القائمة؟

ـ والواقع السياسي: إذ من الدلالة بمكان أن نلاحظ أن أياً من أبطال الرواية لم يكن يمارس فعالية سياسية ما. كل مشاريعهم كانت إذن فردية ولم تكن على علاقة، حتى ولو كانت غير مباشرة، بجماعة سياسية أو حزب سياسي ما. وهو أمر يمكن تفسيره بالعودة إلى الإشارة الخاصة بالإطار التاريخي لأحداث الرواية الذي لم يكن ذكره مجانياً: فترة الوحدة السورية المصرية التي حرمت خلالها أية فعالية سياسية حقيقية خارج أطر المؤسسات التي أقامتها الدولة.

ـ وأخيراً الواقع التاريخي: فالأيديولوجية التقليدية السائدة تطبع هذا الوضع منذ ألف عام، كما أن مؤسساتها وممثليها حاضرون دوماً حضوراً يمكنهم من التحرك بنشاط وفعالية.

ذلك هو إذن ما يفسر بحثهم عن قيم أصيلة في عالم منحط (تماماً كبطل الرواية الغربية حسب لوسيان غولدمان مع فارق: هو أن هذا الانحطاط لا يرتدّ إلى بنية مجتمع منتج من أجل السوق أو إلى مجتمع التشييئ).. ورغم أن خياراتهم كانت تتطلع إلى هدف واحد، فقد كانت تختلف حسب الأولويات التي تضفيها على هذه الوسيلة أو تلك.

إن الشرخ إذن ليس ابن اليوم، وإنما كان دائماً حاضراً في تاريخ العرب. بيد أنه كان لابد في القرن السابع الميلادي مثلاً من رجل كالنبيّ محمد قادر على استيلاد بعث عربي من رحم هذا الشرخ، في حين أنه اليوم قائم ولا شيء يشير إلى إمكان تحقيق مثل هذا البعث، إذا ما سايرنا منطوق الرواية نفسه. إذ أن الذي ينتصر في النهاية ليس مشروع أسيان أو مشروع مجد وإنما أبو مها، تجسيد الأيديولوجية التقليدية. والإعلان عن انتصاره يأتي تماماً قبل الصفحة الأخيرة من الرواية التي تقطع تسلسلها أو بالأحرى تتوج نهايتها بإعلان انفصال الوحدة السورية المصرية يوم 28 أيلول/سبتمبر 1961. صفحة من التاريخ بليغة الدلالة، في ما يبدو لنا(ومن رؤية الروائيين السوريين أيضاً من حيث إنها تؤكد بنية ودلالة رواية مطاع صفدي جيل القدر) وكانت استجابة الأبطال الوحيدة لها بحكم كل ما سبق، هي البكاء الذي ينهي المقطع الأخير من الرواية:

 

"وجلسنا جميعاً نسمع إذاعات الراديو.

"حتى الثامنة كانت إذاعتا المدينتين في حرب كلامية، ثم صمتت حلب.

"وفي الثامنة وسبع وثلاثين دقيقة، انتشر فوق البلاد صمت دمشق.

"عند ذاك، انخرط عدي في بكاء مرّ. وخلال دقائق أخذنا نبكي غضباً في الغرفة الموصدة الباب" ص. 324.

 

**  **  **

الآن وقد قمنا بتحديد  دلالات هاتين الروايتيْن التي تتطابق ودلالات مبدعات أخرى ظهرت في الستينيات على وجه الخصوص، يمكننا أن نتساءل عما إذا كان بوسعنا دمج هذيْن العمليْن في تيار أيديولوجي أوسع يفترض أن يكون التيار القومي.

من المبالغة بمكان أن ندّعي، على صعيد الأدب الروائي بوجه خاص، وجود مثل هذا التيار قبل رواية جيل القدر، نعني وجود تيار يمكن أن تكون له ملامحه الواضحة والمتميزة. ذلك أنه اعتباراً من الخمسينيات، إنما بدأت تتبلر بين الكتاب اتجاهات نحو التجمع من حول عدد من الأفكار التي كانوا يطمحون إلى تحقيقها في كتاباتهم: تيار ديني تقليدي كان يستخدم الأجناس الأدبية الكلاسيكية: الشعر والطرف والمقالات والقصص الأخلاقية، معلناً رفضاً كاملاً للأنواع الأدبية الحديثة كالرواية والمسرح من جهة، ومن جهة أخرى تيار يساري تبلر مع تأسيس رابطة الكتاب السوريين التي غدت عام 1953 رابطة الكتاب العرب، يستقي مثله الأدبية من المبدعات الروسية والسوفييتية خصوصاً. وقد أعلن هذا التيار عن أولوية الاجتماعي التي كانت محاولات تجسيدها فنياً تتمثل على نحو خاص في قصص شوقي بغدادي ضمن مجموعته حيّنا يبصق دماً (1956)، وقصص سعيد حوراني، والرواية الأولى لحنا مينة المصابيح الزرق التي صدرت في طبعتها الأولى عام 1954. وكان هناك تيار ثالث قيد التكوّن من حول مجلة الآداب التي اتخذت منذ ظهورها طابعاً قومياً. وقد تمكن هذا التيار من التبلر عبر المساجلات والنقد والمناقشات بين طائفة من الكتاب الشباب القوميين الماركسيين. على أنه إذا كان الأولون ينتمون إلى حزب البعث أو يتعاطفون مع أفكاره، فإن الجمعية التي تأسست عام 1957 تحت اسم جمعية الأدباء العرب والتي تكونت لمواجهة رابطة الكتاب العرب تحت شعارات قومية كانت تجمع الكتاب القوميين حقاً ولكن بالمعنى الأوسع لهذه الكلمة. فالحقيقة أن كل واحد لم يكن ينتمي إلى أحد هذيْن التياريْن السابقيْن كان بوسعه أن يدعي الانضواء آنذاك تحت لافتة القومية.

بيد أنه إذا كان كتاب التيار الأول يعتمدون على أيديولوجية دينية متماسكة، وكتاب التيار الثاني يعتمدون على الأيديولوجية الماركسية وما ينضوي تحت لوائها أو يراد له الانضواء من نماذج أدبية، فإن الكتاب القوميين كانوا يشكون بالمقابل من افتقارهم لأيديولوجية ذات بعد فلسفي ونظري، قادرة على مواجهة الأيديولوجيتيْن القائمتين. لذلك فقد كان التعبير عن التيار القومي يتم من خلال رفض الأيديولوجية الدينية بوصفها إطاراً ثقافياً "رجعياً"، ورفض الأيديولوجية الماركسية بوصفها تقدم أولوية الاجتماعي (الصراع الطبقي) على أية أولويات أخرى ولاسيما التحرر القومي والوحدة، وكذلك من خلال تقديم مفهوم البعث من ناحية وأولوية الأمة من ناحية أخرى.

كان على الكتاب القوميين في تلك المرحلة إذن وقبل أن يتبنى حزب البعث مبادئ الاشتراكية العلمية في الستينيات أن يعملوا على وضع مجموعة كاملة من المفاهيم، وخاصة في ميدان الأدب، لتحديد معالم رؤيتهم من جهة، وأن يعبروا عن تجربة الجيل القومي الذي حمل أعباء النهوض انطلاقاً من أولوية الأمة دون سلاح نظري راسخ يمكنه من مواجهة خصومه في المجالات الفكرية والسياسية والاقتصادية خاصة.

من الممكن القول إذن إن قصص مطاع صفدي وخصوصاً رواياته كانت تدشن تبلر هذا التيار الذي سميناه قومياً والذي تميز على صعيد الإبداع الروائي بالخصائص التالية:

 

ـ التأكيد على الأمة كإطار استنادي وكأساس انتماء في آن واحد بدلاً من صراع الطبقات.

ـ المشروع الذي يتحكم بوعي أبطال المبدعات الروائية ذو طبيعة ثقافية ووجودية باعتبار أن الهدف هو بعث الأمة العربية وليس ذا طبيعة اجتماعية أو أممية.

ـ الفرد، وفي الرواية القومية، كل شخصية، هو مركز الاهتمام بوصفه مرآة. فكل إنجاز يجب أن يتحقق فيه قبل كل شيء. وهذا ما يعطي لكل خيار ولكل سلوك فردي بعداً تاريخياً.

ـ لا أهمية للحدث بوصفه نقطة تمفصل في المبدع الروائي باعتبار أن الهدف ليس مجرد تقديم واقع ما أو وصفه وإنما قول صيرورة الشخصيات نفسها.

 

إذا صحّ ذلك، فإن من الممكن القول إن التيار القومي في الرواية كان يجد فيها إمكاناته ونواقصه في آن واحد.

هذه الإمكانات والنواقص تم التعبير عنها عدة مرات على صعيد التاريخ الحي للجماعات من خلال مواقف أهم ممثلي هذا التيار ونعني به حزب البعث. كان أحد هذه المواقف القرار الذي اتخذه هذا الحزب بحل نفسه عشية إعلان الوحدة السورية المصرية. ولا يقلّ عن هذا الموقف خطورة وأهمية على الصعيدين التاريخي والسياسي موقف الحزب في الستينيات الذي تمثل من خلال نزوعه الواضح نحو الاشتراكية العلمية التي انتهى إلى تبنيها بعد أن ناهضها طوال تاريخه في الأربعينيات والخمسينيات.

من الطبيعي أن تحليلاً معمقاً لهذه المواقف بمفردات التكوين التاريخي يمكن أن يبين الأسباب العميقة التي كانت في أساس هذا السلوك الذي حاولت الرواية القومية على الأقل في الروايتيْن اللتين أتينا على تحليلهما ـ أن تنقله إلى صعيد التخييل.

 


 [1]   ينطبق ذلك بوجه خاص على النقد الأدبي في سورية منذ الاستقلال وقبل أن يكون ثمة شخصية متميزة  للمبدعات والكتابات القصصية.
[2]  Lucien Goldmann, Le Dieu Caché, Gallimard, Paris, p. 15.
[3]  L. Goldmann, La méthode structuraliste génétique en histoire de la littérature, in Pour une sociologie du roman, col. Idées, Gallimard, Paris, pp. 354.                                                                                                                  
[4]  نقول "على الرغم"لأن المنظور السوسيولوجي التقليدي الذي كان سائداً في العالم العربي خاصة وفي أوربا عموماً حتى الخمسينيات على الأقل، ظلَّ معتبراً، وإن كان معترفاً به، ذا أهمية ثانوية.  ذلك أنه بالقياس إلى المناظير الأخرى عبارة عن مجرد نظرة خارجية لا يسعها الوصول إلى عمق موضوع الإبداع الثقافي، كما أنه لم يكن يعالج المبدع إلا بوصفه نبأ أو مضموناً كما كان عاجزاً، بسبب وسائله المنهجية أصلاً، عن إيضاح كلية المبدع بدلاً من الاكتفاء بواحد من عناصره المقوّّمة أو الهامشية. ولعل هذا هو السبب في اعتباره ذا أهمية ثانوية. ولكن المنظور السوسيولوجي الذي وضع لوسيان غولدمانمبادئه، انطلاقاً من جورج لوكاتش وجان بياجيه والذي أطلق عليه "البنيوية التكوينيةstructuralisme génétique" تمييزاً له عن البنيوية السكونية structuralisme statique يشكل ثورة في مجال الدراسات السوسيولوجية في تاريخ الأدب ونقده، وكذلك في مجال النقد الأدبي نفسه من حيث إنه ينطلق أساساً من كلية المبدع totalité de l’œuvre  وخصوصيته في آن واحد دون أن يهمل أيّ عنصر من العناصر المقومة له في تحليل محايث للنص وللنص وحده. ولا تنطلق دراستنا هذه من الفرضيات التي صاغها غولدمان في دراساته للمبدعات الثقافية الغربية وإنما من المبادئ المنهجية التي حددها للمنهج البنيوي التكويني والتي، في ما يتعلق بالإبداع الروائي العربي، قد قادتنا إلى صياغة فرضيات أخرى مختلفة عن تلك التي صاغها حول الرواية الغربية، وهو اختلاف فرضته بالطبع الشروط التي رافقت ولادة الرواية الغربية وولادة الرواية العربية. راجع حول المنهج البنيوي التكويني الفصول التي كتبها غولدمان بوجه خاص: سوسيولوجيا الأدب: وضع المنهج ومشكلاته، علة الإبداع الثقافي، التكوين والبنية، علم الجمال لدى جورج لوكاتش شاباً،  وذلك في كتابه:
Marxisme et sciences humaines, collection Idées, Paris, 1970.
راجع أيضاً المنهج البنيوي التكويني في تاريخ الأدب الذي أشرنا إليه آنفاً وكذلك المادية الجدلية وتاريخ الأدب، و طبيعة المبدع وذلك في كتابه:
Recherches dialectiques, Gallimard, Paris, 1959.
أما فرضيات غولدمان حول الرواية الغربية فإن بوسع القارئ الرجوع إلى دراسة غولدمان عن الرواية الجديدة والواقع التي ترجمناها ونشرناها في مجلة المعرفة السورية العدد 167/1976 وكذلك دراسته مدخل إلى سوسيولوجيا الرواية ويمكن أيضاً الرجوع إلى هاتيْن الدراستين في الكتاب الذي ترجمناه إلى العربية. انظر: لوسيان غولدمان، مقدمات في سوسيولوجية الرواية ، ترجمة بدرالدين عرودكي، دار الحوار، اللاذقية  1994.
[5]  الدكتور حسام الخطيب، سبل المؤثرات الأجنبية وأشكالها في القصة السورية الحديثة، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة 1973، ص. 62.
[6]  الدكتور حسام الخطيب، المرجع المذكور، ص. 75. يقيم المؤلف مقارنة بين رواية جيل القدر ومسرحية جان بول سارتر الأيدي القذرة يخلص منها إلى تأثر مطاع صفدي بسارتر ولا سيما في موضوعة القتل وسرقة الفعل التي تبين لنا هنا أنها تؤلف بنية الرواية الأساسية. غير أن الدلالة التي تكتسبها هذه الموضوعة في رواية جيل القدر تختلف اختلافاً جذرياً عن دلالتها في مسرحية سارتر. ولسنا هنا بصدد المساجلة في موضوع الاقتباس والاستيحاء في المبدعات الفنية. يكفينا القول إن ماهو مهم في أي مبدع فني هو التماسك الداخلي بين مختلف عناصره ووجود دلالة شاملة لبنيته التي يتم اسنخلاصها منه، آخذين بعين الاعتبار بالطبع معظم أجزاء العمل ضمن تحليل محايث للنص.
لقد كان همّ الدكتور كما يشير إلى ذلك عنوان كتابه بالذات، هو العمل على تأكيد المؤثرات الأجنبية في المبدعات القصصية السورية ومنها جيل القدر. وهو همٌّ فوَّتَ عليه في رأينا فرصة الالتفات إلى الدلالة التي تكتسبها الموضوعة المستوحاة من عملٍ آخر أو المقتبسة ومبررات إضفاء هذه الدلالة عليها، أي إمكان التوافق بين هذه الدلالة والموضوعة المقتبسة لاسيما إذا كانت هذه الموضوعة مأخوذة من مبدع غربي.
ذلك هو ما يجعلنا نتحفظ بالنسبة إلى كثير من النتائج التي خلص بحثه إليها.
[7]  يعتبر مطاع صفدي الذي ولد عام 1929 من جيل كتاب الخمسينيات (وقد بدأ الكتابة في مطلع الخمسينيات أيضاً)، في حين أن هاني الراهب المولود عام 1939 يعتبر من جيل الستينيات.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire