الفن التشكيلي في سورية
وجوه الحداثة
لم تتجلّ الحداثة على نحو بليغ في مختلف ضروب الفنون
والآداب في سورية مثل تجليها في مختلف ضروب الفنون التشكيلية ولاسيّما في الرسم
وفي النحت. وعلى أنها جاءت متأخرة نسبياً هنا بالمقارنة مع الأنواع الأدبية الأخرى
كالرواية والمسرح، إلا أنها سرعان ما فرضت نفسها كتعبير يتجذر بعمق يوماً بعد يوم،
وينهل في آن واحد من مدارسها الأولى في الغرب مثلما يتشرّب من طبيعة الأرض التي
ينمو ويتطوّر فيها وينتمي في الوقت نفسه إليها.
وقد يبدو للنظرة السريعة في ما أنتجه الفنانون
التشكيليون السوريون من جيل الرواد أو من الأجيال التي تلته ممن يُقدّم بعضٌ من أعمالهم اليوم أنه ليس إلا بضاعة مستوردة كما جرى على
قول ذلك ذات يوم الباحثون عن الأصالة بأي ثمن ولو غاب الإبداع. كما يمكن لبعض
النقاد، وقد فعل بعضهم ذلك، أن يأخذوا على هذا الإبداع أنه جمع في وقت واحد مدارس
في التعبير التشكيلي قضى الغرب قروناً في تكوينها وفي تحديد ملامحها. لكن النظرة
المتعمقة تنقض مثل هذه الأقوال جميعها وتؤكد في الوقت نفسه أن الفنان في سورية، بل
وينسحب الأمر أيضاً على بقاع عديدة من الوطن العربي، كان في إبداعه وريث حضارة
تشكيلية عريقة متجذرة في الأرض منذ آلاف السنين. وأنه كان عليه ليصل لحظة الحاضر
بماضيه هو أن يختصر المسافات الزمنية وأن يعاني ضروب التعبير كلها معاً أو على
التتالي. وسيكون من العبث الافتراء على التاريخ بابتكار بدايات له مصطنعة. إن
الألوان التي تفنّن في مزجها بابتكار الجديد منها فاتح المدرس والياس زيات ومروان
هي ألوان هذه الطبيعة التي كانوا يعيشون فيها؛ والوجه الواحد دوماً المتعدد إلى
مالا نهاية، وجه مروان، هو وجه هذا الوطن العربي بأبعاده كلها، وبأحاسيسه كلها،
وبما ينوء به ولا يزال منذ قرون، منذ أن مال اتجاه الرياح نحو الشمال وكف عن أن
يكون جنوبياً. والوجوه في أيقونات الياس زيات الحديثة ترسم الآلام، آلام هذا الوطن
الذي لم يكفّ لحظة عن المعاناة. ولا يمكن لأيّ ناقد فني إلا أن يتعرّف في تكوينات
محمود حمّاد وأدهم إسماعيل ونصير شورى ونعيم إسماعيل ونذير نبعة على الفنان السوري
في كل ملامحه ولاسيّما في عمق خصوصيّته التي تتجلى في هذه الصلة شبه الدموية
بالأرض وبالبيئة وبهمِّ الإنسان فيها. ولقد بات لؤي كيالي الذي مضى في قمة شبابه
هذا الرمز لفنانٍ يصير فنه قضيّته وقضيّته فنّه.
وليس من قبيل الصدفة أن الفنان التشكيلي السوري بعد إذ
عاش وهو يطوّر فنه وأدواته مستوحياً حضارة عريقة ميزتها على وجه الدقة الوحدة
والتعدد أن يتسم مبدعه بهده الميزة التي تصل به فعلاً إلى مقام التصوف الذي ما هو
إلا هذا النزوع نحو الوحدة في التعدد والتعدّد في الوحدة. وإذا كان مروان ومنذ زمن
بعيد يقدّم المثل البليغ المُعْجز على هذا التجسيد، فإن نذير نبعة في تجلياته
الجديدة يسلك هذا الطريق نحو هذا المقام الذي لو أنعم الإنسان في مبدعاته منذ
نهاية الستينات لوجد أنه كان يسير في اتجاهه أصلاً وها هو يبلغ منه مرحلة
التجليات.
وهي سمة الفنّ بامتياز.
بدرالدين
عرودكي
نشرت المقالة
كافتتاحية لكتالوغ معرض استعادي للفنانين السوريين في غاليري أمل ملحم بدبي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire