الترجمة والتبعية
أم الترجمة والاستيعاب؟[1]
بدرالدين عرودكي
من المؤكد أن ما يحملنا على الظن بشبهة التبعية في مجال
الترجمة وضع استثنائي عاشه العالم العربي في القرن الماضي ولا يزال يعيشه في مستهل
القرن الحالي، وضع أكدته في السنوات الأخيرة تقارير المؤسسات الأممية والدولية
الخاص منها والعام، وتجلى في ضعف الإقبال على الترجمة والكتابة والنشر فيه على
خلاف ما يبدو ظاهرياً بالمقارنة مع أمم وثقافات مشابهة بعضها أقرب إلينا من البعض
منا.
وهو وضع استثنائي في حياة الأمم بامتياز: فقلما تعثرت
نهضة ثقافة مثلما تعثرت ولا تزال تتعثر نهضة الثقافة العربية منذ أكثر من قرن
ونصف. وقلما شعرت أمة بثقل دونيتها نحو ثقافة أخرى، مثلما شعرت ولا تزال تشعر به الأمة العربية إزاء الثقافة الغربية.
ولأنّ خط التقدّم انتقلَ، كما لاحظ ابن خلدون في زمنه منذ نيّف وستة قرون، إلى
شمال البحر المتوسط فمن الطبيعي إذن، كما يقول البعض، أن تكون ترجمة مبدعات هذه الثقافة تحمل على خلق شعور
بالانصياع، أو بالتبعية. لاسيما، كما يقول البعض دائماً، وأن لذلك أسبابه المادية
التي تجلت على مدى عقود القرن الماضي في تمويل إنشاء مؤسسات ثقافية محلية وتحديد
خياراتها في ما تنشره من كتب وخصوصاً في عاصمتي النشر العربي القاهرة وبيروت.
لاسيما أيضاً وأنه لا تزال مؤسسات ثقافية أجنبية تشجع بالتمويل على ترجمة بعض
الكتب التي ترغب في الترويج لها إلى اللغة العربية أو أنها تحض، بالتمويل أيضاً،
على ترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية دون سواها إلى اللغات الأجنبية على الرغم
من فقر مبرّرات الخيارات التي تقوم بها في هذا المجال، لكن الأسباب، يقولون، واضحة في كلا الحاليْن.
على أنّ الأمر يتجاوز هذه التبسيطات. إلى حدٍّ بعيد. ولا
بدّ لاستقرائه من العودة إلى أصول المشكلة والإشكالية معاً، تعريفاً وتوصيفاً وتاريخاً،
قبل الاستنتاج والتقويم.
إذا كانت الترجمة وسيلة اتصال فهي أيضاً قراءة. بالمعنى
الأصولي للكلمة. ومن ثمَّ، فقد وسمت الترجمة ـ القراءة التاريخ في ميادينه على
اختلافها: تاريخ الأمم مثل تاريخ ثقافاتها جميعاً، على الأقل، نظراً لامتلاكنا
الوثائق حول ذلك، منذ أن عرف الإنسان الكتابة. ذلك أن الترجمة أساساً ليست إلا
وسيلة ربط بين طرفين يقوم بينهما حاجز اختلاف لغتيهما. ومن ثمَّ تقوم وظيفة
المترجم على إنشاء صلة الوصل بين هذين الطرفين بفعل إتقانه للغتيهما معاً. ويتيح
له قيامه بهذه المهمة الوصل، والربط، وإنشاء العلاقة بين الطرفين اللذين كانا
سيبقيان لولاه منفصلين، يجهل كلٌّ منهما الآخر، وربما بقيا عدوّيْن بسبب جهل
أحدهما بالآخر على وجه الدقة. ومن البدهيّ أيضاً أنّه إن أتاح عمل الترجمة تسهيل
التعارف والتبادل فإنه يمكن أيضاً أن يسبِّبَ سوء تفاهم قد يؤدي إلى نتائج تزداد
أهميتها أو خطورتها بقدر أهمّية أو خطورة موضوع العمل المترجم.
لو تمّ الانطلاق من هذه البداهة من أجل تشخيص وضع تاريخي
ما لأمكن على وجه الاحتمال إعادة الأمور إلى نصابها في ما يتعلق بقضية التبعية في
الترجمة. ولن يكون هذا الوضع التاريخي إلا ذلك الذي يخصُّ العلاقة بين الثقافة
العربية والثقافة الغربية بأوسع معانيهما. على أنَّ استعادته لن تكون إلا على سبيل
الإشارات السريعة المتصالبة تمهيداً لمناقشة الموضوع الذي يعني هذه السطور:
التبعية والترجمة.
ومن المهمّ البدء من بعض الجذور وأهمّها، في القرن
الثامن الميلادي، والمتمثل في ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية. كان
المشروع الحضاري العربي في مرحلة البناء. وما كان لأصحابه، كأيّ مشروع طموح، أن
يتجاهلوا مَنْ حولهم من الأمم التي سبقتهم. هكذا فعل النبيّ العربيّ عندما استعاد
ثقافة العرب وحضاراتهم السابقة كلها وحضارات من حولهم من الشعوب والقبائل ليحقق
التجاوز التاريخي المتمثل في حضارة الإسلام. وهكذا سيفعل الخلفاء من بعده، ولاسيما
العباسيون منهم، حينما أطلقوا العنان لعلمائهم ولمفكريهم كي يترجموا آداب الأمم
الأخرى وفلسفاتها. عرف بيت الحكمة البغدادي آنئذ حملة منظمة تحت رعاية سلطة الدولة
لترجمة كتب فلاسفة اليونان وعلمائهم. ولم يخلُ ذلك من سوء تفاهم أو فهم. إذ على
إطلاقِ هذه الترجمات حركةً فكرية وإبداعية في مجالات اللغة والعلوم المحضة
والفلسفة، وهي حركة استمرّت شديدة الحيوية حتى القرن الخامس عشر، فإنّ عدم فهم[2] معاني
المآسي والهزليات أدّى، على سبيل المثال، إلى تأخر ظهور المسرح في الثقافة العربية
أكثر من أحد عشر قرناً.
لكن الغرب وقد انتقلت حركة البناء إليه من الجنوب طفق،
هو الآخر، يهتمّ بثقافة العرب فبدأ أول ما بدأ في ترجمة القرآن التي نعرف اليوم
أنها تمّت للمرة الأولى في القرن الثاني عشر وإن لم تنشر إلا في القرن السادس عشر[3]. وبخلاف
ما كان العرب يتطلعون إليه من إطلاق حركة الترجمة التي قاموا بها في القرن الثامن،
فإن الغرب، ومن خلال ممثلي الكنيسة التي كانت سلطة الحكم الأولى آنئذ، كان يتطلع
إلى تعليل وتأسيس استنكاره وإنكاره للعقيدة التي كان أصحابها قد عادوا أو يعودون إلى
أوربا من شرقها بعد وصولهم إليها واستقرارهم ثمانية قرون في أقصى غربها. لكنّ جهود
الفهم والاستيعاب التي قامت بها حركة الترجمة العربية قد بدأت تجد صداها، على
الطرف المقابل وفي حركة عكسية، في الغرب اعتباراً من القرن السابع عشر. هكذا ترجمت
أعمال كبار الفلاسفة والموسوعيين العرب انطلاقاً من الأندلس إلى اللغة اللاتينية.
وكان بيت الحكمة البغدادي يُستعاد بيوتاً عديدة في ليدن وموسكو وبرلين وباريس
ولندن. من أجل الفهم قطعاً. ومن أجل
الاستيعاب. ذلك أنَّ إشكالية الفتوحات العربية الصاعقة شرقاً وغرباً اعتباراً من القرن
السابع قد شغلت الغرب قروناً وربما لا تزال. مثلما أن إشكالية تقدم الغرب شغلت ولا
تزال تشغل العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، وتدعوهم إلى الفهم وإلى
الاستيعاب. ذلك ما يفسّر الإقبال على الترجمة
كلما همَّ مشروع نهضوي بالبدء، منذ دولة محمد علي في مصر وانتهاء بالمشروع
القومي العربي في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وإلى محاولات النهوض
المتعثرة اليوم التي تأخذ أشكالاً وصيغاً مختلف ألوانها.
هكذا، على تشابه أو تنافر التجربتين العربية والغربية في
الظروف التاريخية والسياسية التي أحاطت مشروعات الترجمة فيهما على امتداد القرون،
لم يكن الهمّ فيها إلا همّ معرفة الآخر. ولا يمكن بالطبع أن نستبعد من هذا الهمّ
هدفاً أو أهدافاً تتعلق بالسيطرة أو الهيمنة. كان العرب في القرن الثامن يترجمون
ليستوعبوا الثقافات التي سيطروا على شعوبها أو يهمون بالسيطرة عليها. وكان
الغربيون يترجمون ليفهموا أولاً ثم ليستوعبوا من بعدُ قبل أن يتجهوا للهيمنة. على
أنّ التبعية، وقد وجدت في الحالتين، لم تكن إلا تبعية سياسية. كانت في وجود
المقاومة القومية الدائم ومنذ أقدم العصور، تحت الإرغام والهيمنة بالقوة. وبعبارة
أخرى، لم تأتِ التبعية نتيجة الترجمة بقدر ما أتت نتيجة علاقات القوى المادية بين
أمتين أو شعبين. فالصلة التي يُراد إقامتها بين الترجمة والتبعية صلة فاسدة من
الأساس إذا كان يُراد أن يُفهم منها أن ترجمة ثقافة ما إلى لغة ثقافة أخرى سيؤدي
بهذه الأخيرة إلى أن تكون تبعاً للأولى. ولا يكفي للتدليل على هذه التبعية بما
يُقدَّمُ من أدلة تتمثل في تمويل المؤسسات لنشر ما يعتبر كتباً "مشبوهة"
أو سوى ذلك. فليس من شأن ترجمة الكتب ونشرها أن تؤدي إلى التبعية إذا لم يكن حتى
بوسع العمل العسكري العنيف المتمثل في الاحتلال والاستيطان أن يؤدي إلى ذلك.
والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ولنضرب واحداً منها له معانيه التي يمكن أن
تمتد لتشمل ثقافات وفضاءات أخرى. في كتابه العدو الأمريكي، أصول النزعة
الفرنسية المعادية لأمريكا، يحاول فيليب روجيه أن يبيّن أنه فيما وراء
العلاقات السياسية الخارجية بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وأياً كانت
حرارة هذه العلاقات، فإن نزعة معاداة أمريكا تبقى ثابتة في درجتها وفي طبيعتها لدى
الفرنسيين. تعود أصول هذه النزعة إلى أكثر من قرنين وهي لا تزال مستمرّة حتى الآن،
في حين أن عدد ما يترجم من الكتب الأمريكية إلى الفرنسية ليتجاوز أضعافاً مضاعفة
ما يترجم منها إلى العربية. لابل أن تجدر ملاحظة أنّ "بريطانيا العظمى،
ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، كلها دول خاضت الحرب ذات يوم ضد الولايات المتحدة
الأمريكية. أما فرنسا فلم تخض ضدها حرباً على الإطلاق. لكن ذلك لا يحول دونها، كما
ذكرنا بذلك ميشيل فينوك إثر الهجوم على مركز التجارة العالمي، ودون أن تكون البلد
الذي " كانت فيه نزعة العداء المضادة لأمريكا ولا تزال شديدة الحدّة . ثمة مفارقة عنيفة تجعل من النزعة الفرنسية في
معاداة أمريكا دفعة واحدة لغزاً تاريخياً
وثقافياً. ما السبب في أننا معادون لأمريكا على هذا النحو؟ يجدر طرح هذا السؤال
لاسيما وأن نزعة معاداة أمريكا هذه تتجاوز مجرد علاقتنا الحقيقية أو الخيالية
بالولايات المتحدة الأمريكية"[4].
ذلك مثل نادر إن لم يكن مثلاً فريداً في تاريخ البشرية.
إذ مع غياب الحروب والاحتلال، ومع وجود كلّ ما يمكن أن يغري في ما يسمى بالتقدّم
التكنولوجي والعلمي الأمريكي، وبسعي أمريكي حثيث منذ نهاية الحرب العالمية الأولى
في بدايات القرن الماضي لنشر الثقافة والقيم الأمريكية، لم يكن ثمة أثر يستحق
الذكر في ما يمكن اعتباره شبهة تبعية ما لدى الفرنسيين إزاء الأمريكيين.
مثلٌ آخر من عالمنا العربي، ومن فلسطين على وجه الدقة،
حيث ندر كذلك أن وجدت في تاريخ البشرية محاولة لمحو الذاكرة والتاريخ والأسماء
والدلالات مثلُ تلك التي يشهدها العالم بلا مبالاة في قلب العالم العربي. لا
يستطيع أحد أن ينكر أنَّ عنف وشراسة هذه المحاولة قد أنتج على وجه الاحتمال تبعية
على الصعيد السياسي والإداري، لكنه لم يستطع الحيلولة دون وجود فكر وأدب عربي يرد على
محو الذاكرة بإبداع الأدب (حافظ الذاكرة وضمانها أمام الزمان وأمام التاريخ)، وعلى
محو التاريخ بابتكار تاريخ نقيض. وما كانت التبعية السياسية التي فرضتها علاقات
القوة لتحول دون تواجد روائي كإميل حبيبي وقاص كتوفيق فياض وكشاعر كمحمود درويش أو
سميح القاسم، وليس هذا إلا غيض من فيض. من الواضح أنّ الترجمة ليست هي المعنية هنا
بل ما هو أشدّ وأعتى، قوة الهيمنة العمياء التي تعمل في وضح النهار على المحو، لا
على التبعية فحسب.
لذلك، ليس بالوسع العثور على مثل واحد في تاريخ الثقافات
الإنسانية يمكن أن يحمل بصورة جدّية على ربط الترجمة بالتبعية أو إقامة صلة ما بين
هاتيْن العمليتيْن. إذ تبقى الترجمة خطوة واعية أياً كان ضعفها أو كانت كثافتها
تقوم بها ثقافة ما في حركة منها نحو ثقافة أو ثقافات أخرى، تلتمس بها التعرف،
والاكتشاف، والاغتناء، وتوسيع الآفاق. ولئن استخدمت الترجمة في بعض اللحظات
التاريخية، أداة بين أدوات عدّة لتسهيل أو توطيد هيمنة وسلطة قوة ما على شعوب قهرت
بقوة السلاح، فلا يجب أن يقودنا ذلك إلى أن نستنتج أن الترجمة والتبعية طرفان في
معادلة صحيحة. لا حاجة إلى التذكير بما كان ابن خلدون يقوله عن تبعية الضعيف للقوي.
إذ المسألة مسألة علاقة قوى بين اثنين أحدهما يهيمن على الآخر. ولا بدّ في هذه
الحالة من أن يُعاد النظر كلياً في المعادلة التي يُقدَّمُ طرفاها على أنهما
الترجمة والتبعية.
من الواضح أن التاريخ يقدم أمثلة كانت الترجمة فيها على
الدوام أداة حوار وتعارف واغتناء واستيعاب، أياً كان الطرف الذي يترجم منه أو إليه
قوياً أو ضعيفاً. لم تكن أوربا، عندما ترجمت عيون التراث العربي وأنشأت أجيالاً من
المختصين بهذا التراث على أصعدة اللغة والتاريخ والدين والفلسفة والعلوم على
امتداد أكثر من قرنيْن، تهدف إلى أن تجعل من نفسها تابعة لمن أنتج وأبدع هذا
التراث. كان هذا الأخير بالنسبة إليها اكتشافاً حاولت الاستفادة منه إلى أقصى مدى:
ألم تكن كتب ابن رشد تدَرّس في الكوليج دو فرانس وفي السوربون كمادة أساسية حتى
نهاية القرن التاسع عشر؟ وكم عدد من وهبوا حياتهم لدراسة هذا التراث وترجمته
مقارنة مع عدد الذين فعلوا الأمر نفسه في العالم العربي نفسه؟ وهل كان يمكن لولا
هذه الترجمات أن يكتب لامارتين كتابه عن حياة محمد أو أن ينظم فيكتور هوغو
في نبيِّ الإسلام قصيدته الشهيرة أو أن يكتب جوته ديوانه الشرقي الشهير للشاعر
الغربي؟ ربما ساعدتها الترجمة بما هي أداة لفهم الآخر في بسط هيمنتها عليه. ومن
ثمّ يمكن الحديث عن الترجمة والهيمنة. مثلما يمكن الحديث أيضاً عن الترجمة
والمعرفة، أو عن الترجمة والحوار، أو عن الترجمة والاستيعاب. لكن الحديث لا يستقيم
بأيّ حال عن الترجمة والتبعية. ذلك أن هذا الأخير لا يمكن أن يؤدي إلا إلى
الانغلاق على الذات خوفاً أو هرباً أو ضعفاً.
إنَّ الأمثلة التي تضرب للبرهان على علاقة الترجمة
بالتبعية، ولاسيما منها تلك التي تشير إلى تمويل الترجمة وبعض المؤسسات العاملة في
حقلها من بعض ممثلي القوى المُهيمنة، لا تبرهن على شيء آخر غير أنّ هناك من يحاول
التشجيع بالمال وبالعتاد على نشر قيمه وقيم ثقافته وحضارته. كان ذلك شأن الجميع
ولا يزال. إنَّ الربط بين الترجمة والتبعية في عصر باتت فيه الصورة المبثوثة من
أبعد القارات تصل إلى غرف نوم كلّ إنسان على وجه الكرة الأرضية يفتقر إلى الجدّية
التي لابدّ وأن يتسم بها الحديث عن حوار الشعوب والثقافات والحضارات.
يكفي أن ننعم النظر في مشهد الترجمة اليوم بين مختلف
الثقافات واللغات: يستطيع اليوم من يقرأ الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية أو
الروسية أو اليابانية أن ينعم بقراءة الأعمال الكاملة لهذا الروائي أو لهذا المفكر
أو ذاك من الثقافات الأخرى. بذلك يتجاوز عقبة اللغة، لأن لغته تضع بين يديه تراث
العالم. وليس من قبيل الصدفة على سبيل المثال أن تحمل أشهر سلسلة أنشأتها منذ
عشرينات القرن الماضي أكبر وأعرق دور النشر الفرنسية اسم من العالم كلهDu monde entier ، وأن تخصص لدى دار النشر نفسها منذ ثلاثينات القرن العشرين سلسلة
فاخرة تحمل اسم الكوكبةLa Pléiade لطبع الأعمال الكاملة لكتاب وفلاسفة الثقافات
شرقيها وغربيها في طبعات محققة ومدروسة يقوم بها علماء ومحققون كرسوا قسطاً كبيراً
من حياتهم العلمية لهذا الكاتب أو لهذا المفكر أو ذاك. على أن من يقرأ العربية
وحدها لا يزال شديد البعد عن زميله قارئ واحدة من اللغات التي أشرنا إليها. لا بل
إن طلاب الفلسفة الذين حملوا إجازتها من الجامعات العربية على اختلافها لم يقرؤوا
حتى وقت قريب فيلسوفاً غربياً واحداً في نصّه الأصلي باللغة العربية. ترجمات
متناثرة قامت بها مؤسسات مستنيرة كلجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة التي
كان وراء تأسيسها طه حسين، أو تلك التي أشرفت عليها جامعة الدول العربية في لحظة
قصيرة لم يكتب لها الدوام وتحت إشراف طه حسين نفسه، أو بعض الأعمال التي ساعدت
منظمة اليونسكو على ترجمتها في لحظات هي الأخر لم تتكرر، وسواها كذلك ممن كان بمبادرة
من بعض العلماء أو المفكرين الذي لا حول
مادياً لهم ولا قوة مالية للقيام بمشروعات يكتب لها طول العمر ودوام الإنتاج.
لن يكون البحث في معادلات مثل معادلة الترجمة والتبعية
ناجعاً إن كان يستهدف التنبيه أو التحذير أو التخويف من مغبّة بعض الترجمات التي
تمولها مؤسسات أجنبية أو عمل بعض المؤسسات المحلية التي تمول منشوراتها ذات
المؤسسات أو سواها. فلا بدَّ لجهد الترجمة من أن يطال كل شيء من ميادين العلم
والمعرفة حتى ولو كان بل وخصوصاً إذا كان معادياً. وأنجع أن يستهدف الجهد بالدراسة
والتحليل والتمحيص ما ينشر ترجمة من أجل تعميق المعرفة وإخصابها بصورة نقدية.
ولن يكون البحث في معادلات مثل معادلة الترجمة والتبعية
ناجعاً إلا إذا كان يستهدف الحيلولة دون أيِّ انفتاح على العالم، وإنكار القدرة
النقدية والاستيعابية لدى ثقافة عرفت كيف تجتاز العصور صعودا وهبوطاً بلا هوادة
مثلما تقدم فلسطين الآن ومثلما قدمت الجزائر من قبل ومثلما قدم العالم العربي
بأكمله على امتداد أكثر من أربعة قرون عثمانية المثل الأمثل على فساد هذه المعادلة
التي يُراد لها أن تقوم بين الترجمة والتبعية.
الإنسان عدوّ ما يجهله. وفي عالم بات إلى وقت قريب قرية
لا تستطيع أيّ ثقافة مهما فعلت أن تنطوي على نفسها تحت طائلة الموت البطيء أو
السريع. كل ثقافة عريقة قادرة على أن تهضم ما ينتقل إليها إن استقبلته بالفهم
وبالنقد. وعلى سوء الوضع العربي سياسياً وحضارياً في عصرنا هذا، لا تزال الثقافة
العربية قادرة على الهضم وعلى الاستيعاب وعلى النقد. ولا تزال على تشاؤم هؤلاء
وأؤلئك قادرة على الإبداع والإخصاب.
[1] نص مداخلة
قدِّمت في المؤتمر الذي نظمه المركز القومي للترجمة ومؤسسة سلطان العويس في
القاهرة (تشرين الثاني/نوفمبر 2009) حول الترجمة وتحديات العصر.
[2] هذا إذا قبلنا فرضية عدم فهم المترجمين الأوائل
لمعنى المأساة والملهاة. إذ أني أميل إلى الظنّ بأن ما حال دون ترجمة المسرح
اليوناني في صورتيْه المآسي والهزليات، لم يكن عدم الفهم بقدر ما كان رفض
المترجمين للطابع الوثني الذي يسم المآسي بوجه خاص ولما ينطوي عليه المسرح
اليوناني من تواجد الآلهة (بالجمع) على خشبة المسرح بصورة أو بأخرى.
[3] عمل الأب بيار لو فينيرابل Pierre Le Vénérable، كاهن كلوني، على ترجمة القرآن إلى اللاتينية في عام 1141 وانتهت
الترجمة في عام 1143، وساعدته على إنكار العقيدتين اليهودية والإسلامية في كتبه
التي ألفها في ما بعد، لكنها لم تنشر إلا في عام 1543 حين تطور الاهتمام بالإسلام
بعد تقدم الأتراك في أوربا، وخصوصاً أن الطبع صار متاحاً بفعل وجود المطبعة
اعتباراً من عام 1450.
[4] انظر فيليب
روجيه، العدوالأمريكي، أصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا، ترجمة بدرالدين
عرودكي، المجلس الأعلى للثقافة، المشروع
القومي للترجمة، القاهرة، 2005، ص. 13.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire