ألف ليلة وليلة، مغامرة كتاب
أو عندما لا تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح
هل يمكن أن يُنظمَ معرضٌ عن كتاب، وما الذي يمكنه أن يضيف مما لا قِبَلَ لكتاب أن يقدّمه؟
وحده كتابٌ عَبَرَ الثقافات، والقارات، والقرون، وكان رابطة استثنائية بين الشرق والغرب قبل أن يصير ظاهرة كونيّة، يمكن أن يستدعي مثل هذه الرغبة، أو إن شئتم الضرورة. أعني كتاب ألف ليلة وليلة. كتاب حكايات لم يُعرَف مؤلفه أو مؤلفوه، استمرّ عقوداً من السنين بل قروناً عدّةً يُكتب ويغتني في كل رحلة يقوم بها في الجغرافيا أو في الثقافات، مثلما ظلَّ يعتبر أدباً شعبياً لا يعبأ به كتَّابُ الأدب الرسمي ونقاده ومؤرخوه وإن كان قبل وصول المطبعة إلى العالم العربي مخطوطاً يُقرأ على الناس في الأماكن العامة أو في المقاهي قبل أن يصيرَ كتاباً مطبوعاَ يقرؤونه بأنفسهم في بيوتهم منذ أن قامت مطبعة بولاق الأميرية بمصر بطبعه للمرة الأولى عام 1280هـ/1860م.
ظلَّ هذا الكتاب طوال أكثر من ربع قرن موضوع مشروع معرض ضمن مشروعات المعارض الممكنة في معهد العالم العربي، لكنه لم ينتقل إلى لائحة المعارض موضع الإنجاز إلا قبل أربع سنوات.
لكنَّ ربع القرن هذا شَهِدَ معارض عن الكتاب تتفاوت في أهميتها وفي ميزانياتها وفي الغاية المرجوّة منها، لكنه كان قد شهد بوجه خاص إنجاز أهمّ مجموعة من الدراسات المعمقة عن الكتاب قام بها المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل والشاعر ومؤرخ الأدب المرحوم جمال الدين بن شيخ، وباحث من الجيل الجديد صار في سنوات معدودة علّامة في "علم" هذا الكتاب، أبو بكر شرايبي. لكن أهمَّ ما شهده قبل ذلك وبعده، كان صدور الترجمة الفرنسية الثالثة والأكمل لكتاب ألف ليلة وليلة على أيدي أندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ، في طبعة أنيقة ضمن سلسلة لابلياد عن منشورات غاليمار، وكذلك في طبعة شعبية متاحة للجميع.
ولابدَّ بطبيعة الحال لكتاب متعدد الأصول، مجهول المؤلف أو بالأحرى المؤلفين، ومصدر وحي الشعراء والروائيين والمصورين والرسامين والسينمائيين والمسرحيين بل وأصحاب المهن الحرفية والفنية على تنوعها من أن يجعل أية مقاربة، أياً كانت وسيلتها التعبيرية، ترتعد أمام الكمِّ الهائل الذي تراكم عبر السنين من الوثائق المكتوبة والمسموعة والمرئية في أنحاء العالم كله حول الكتاب وحكاياته. وكان لابدَّ للفريق الذي أخذ على عاتقه تحقيق هذا المعرض في مؤسسة كمعهد العالم العربي من أن ينطلق من سؤال طالما أثار فضول مثقفي العرب خصوصاً: كيف تحوّل كتابٌ أهملته النخبة واحتفت به العامّة من كتابٍ محليٍّ، عربيٍّ ذي أصول هندية وفارسية، إلى كتاب إنساني؟ وكيف أمكن له أن يجتاز حدود الثقافات واللغات كي تستحوذ عليه الإنسانية على اختلاف مراجعها وأساطيرها ولغاتها وأذواقها وهمومها؟
ذلك كان سؤال المعرض الأساس. لكن الإجابة عنه كانت تستدعي طريقة الكتاب نفسه، أي طريقة شهرزاد، كي تستعين بها: أن تحكي، أن تفتن، أن تعلِّم، شريطة عدم الاستسلام للسحر الخادع للكليشيهات النمطية أو المبتذلة أو التبسيطية الساذجة، التي عرفها الغرب وروج لها. على أنَّ هذا الغرب نفسه كان، إلى جانب استحواذه على الكتاب، مصدر ثروة من المُبدعات الفنية لا تزال وهي تستوحيه تغتني منذ ثلاثة قرون وإلى يومنا هذا: في الفنون كلها وفي الأجناس كلها، من المسرح إلى تصميم الأزياء، ومن الموسيقى إلى السينما، ومن الفن التشكيلي إلى الأوبرا، ومن التصوير الفوتوغرافي إلى الأدب، مولدة صوراً لم يستولِدها كتابٌ من قبل: هارون الرشيد، شهريار، شهرزاد، سندباد، علاء الدين... سيُقترح على الزائر جولة تقدم له بعضاَ من هذه التحف (حوالي 350 تحفة) تنتمي إلى حقب وأجناس وأساليب مختلفة (من العصر الفاطمي إلى عصر بيكاسو، ومن فنون الاستشراق إلى الفنون الحديثة) تمت استعارتها من نيف وستين من متاحف فرنسا ودول أوربا وأمريكا، بعضها، ولاسيما المخطوطات، يُعْرَضُ للمرة الأولى مثل مخطوط شيكاغو أو مانشستر أو أكسفورد أو كيمبريدج أو الفاتيكان أو توبنجن..
وكان طموح المعرض وهو يجيب عن هذا السؤال، أن يكشف جوانب الكتاب كلها بما في ذلك تاريخه الفريد بوصفه شاهداً ثقافياً وتاريخياً وناقل أساطير ومعتقدات خاصة لا بالشرق العربي فحسب بل بالشرق بأوسع معانيه. وحكاية الكتاب كذلك، وهو أمرٌ لا بدَّ منه بالطبع من خلال تقديم مخطوطاته على اختلاف محتوياتها ومصادرها وأزمنتها، وهي مغامرة كان لابدَّ من أن تحكي أيضاً وخصوصاً أول رحلة ثقافية للكتاب قطعها في القرن الثامن الميلادي، من أصله الفارسي، هزان أفسان (ألف حكاية)، الذي ضاع اليوم، وكان هو نفسه من قبل قد انتقل من بلاد الهند إلى بلاد فارس قبل أن ينتقل إلى موطنه الجديد إثر ترجمته إلى اللغة العربية تحت عنوان: ألف ليلة، ليصير منذئذ عربياً، ولكي لا يكفّ، منذ ذلك الحين، عن الرحيل والتحوّل عبر أصقاع جغرافية ثقافته الجديدة أولاً، من بغداد إلى دمشق، ومن دمشق إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى أرجاء الثقافة العربية كلها. كان كلما انتقل إلى مدينة ازدادت حكاياته فيها، أو تلونت بألوانها. وكان رواة حكاياته ونُسَّاخها، في تكاثر، يتوارون كما فعل مَنْ قبلهم، وراء الحكايات. على أن القفزة الأخرى ستتم مع بداية القرن الثامن عشر، في عام 1704 على وجه الدقة، حين قام أنطوان غالان(1646 ـ 1715)، وهو عالم مغمور في اللغات الشرقية، بترجمة مخطوط للكتاب يعود إلى القرن الخامس عشر ولا يحتوي إلا على 35 حكاية، أتبعه، بعد لقائه بالشاب السوري حنا دياب، بترجمة حكايات على بابا أو علاء الدين والمصباح السحري، لتبدأ معه رحلة الكتاب في 70 حكاية و281 ليلة في اللغات وفي الثقافات الأخرى: إلى اللغة الدانمركية، ثم الألمانية، ثم الإنجليزية، ثم إلى بلدان ولغات أوربا كلها والأمريكتين من بعدها.
لا تعني مغامرة النصِّ طبيعة الترجمة الخصوصية التي تميّز بها، أي تجاور الترجمة والتأليف معاً، فحسب، بل تعني أيضاً ما أدّى إليه، أي إلى أن تتكوّن مكتبة من حول ألف ليلة وليلة. مبدعاتٌ أدبية تستوحيها أو تحاول أن تكون امتداداً لها، منذ بداية القرن الثامن عشر وخلال ثلاثة قرون، بل حتى أيامنا هذه.
سيطوف زائر المعرض، كما في حكايات ألف ليلة وليلة، العوالم الحضرية الأشهر: من بغداد عاصمة العباسيين، إلى دمشق مدينة الأمويين التي كانت نفوس بعض الخلفاء العباسيين تهفوا إليها، إلى قاهرة الفاطميين. المدن الثلاث الأشهر في المشرق العربي، والأشدّ تمثيلاً للمجتمعات العربية المدنية في القرون الوسطى وما تلاها، فيها يتم تبادل الأفكار والسلع، وتنمو التجارة وتزدهر الفنون والآداب، مثلما تدور فيها وتتشابك أحداث ألف ليلة وليلة ومغامرات أبطالها.
وسيلقى الثيمة ذات الحضور الأكبر: الحب؛ ثيمة لا يوازيها في الحضور إلا ثيمة الموت. وكأنَّ كل واحدة صدى غير مباشر للأخرى. الحب الفوري، الصاعق، وآلام الفراق أو البُعاد، والحنين إلى المحبوب، كلها منطلقات للعديد من المغامرات في حكايات تستدعي قصائد الحب والغزل التي اشتهر بها الشعر العربي القديم.
أما الموت فهو الموازي الطبيعي، كليَّ الحضور في الكتاب في ساحات الحروب والمعارك حيث تسقط الرؤوس بالعشرات، أو في أساس الكتاب أصلاً وسبب وجوده: الموت أو دفع الموت بالحكاية وبالقصّ.
يدخل الزائر قاعات المعرض مستمعاً في الوقت نفسه إلى الحكايات تُحكى له بالعربية أو بالفرنسية، على إيقاع الليالي، ليلة بعد ليلة، ممتلئاً بالأحلام والأوهام والخيالات التي استثارها منذ ألف ونيف من السنين كتاب لا مثيل له في تاريخ الآداب كلها. سيدخل أيضاً عالماً يظن نفسه على علم به لكنه سيكتشف أنه لم يعرف منه إلا القليل وربما أقل من القليل، يساعده في ذلك مجموعة من المختارات السينمائية والفنية من ميليس إلى بازوليني إلى فيربانك..ذلك كله ضمن توليفة سينوغرافية مبتكرة (حققها ماسيمو كويندولو وليا سيتو).
ستتلاشى أمامه، فضلاً عن ذلك، كثرة من الأفكار القديمة أو المسبقة عن الكتاب، ولاسيما تلك القائلة بوصوله إلى الغرب خالياً من أي صورة، بعد أن بيَّنت الأبحاث المتأخرة أن ثمة حوالي عشرين مخطوطاً مصوراً تم اكتشافها لألف ليلة وليلة (وقدم بعض منها في هذا المعرض) من أصل 140 مخطوط باتت اليوم معروفة..
هذا المعرض عن ألف ليلة وليلة هو الأول من نوعه. صحيح أن مقاربة الكتاب سبقت من قبل تحت هذا العنوان أو ذاك: تحت غطاء الفنون الإسلامية كما فعل متحف اللوفر في ثمانينيات القرن الماضي، أو لتقديم النص ورواياته أو ترجماته المختلفة، لكنها المرة الأولى التي تتم فيها مقاربة الكتاب بوصفه نصوص حكايات وشعر أساساً وكذلك بما ينطوي عليه من تاريخ معروف بدأ في غياهب القرون السابقة على القرن الثامن، ولا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.
5 شباط/فبراير 2013
مجلة الدوحة ـ قطر ـ آذار/مارس 2013 ص. 138ـ139http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=61310940-6828-4B96-BA55-60CBA3C7A5E1&d=20130301#.UTJqEdiOiQ1.facebook
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire