dimanche 10 mars 2013


رسالة إلى ناصر الأنصاري



لم أتوقع هذا الرحيل المفاجئ.


أعرف أنك كنت تتألم. كنت أشعر من خلال الأسلاك وهن صوتك وجسمك لكني كنت أحسّ عزمك وأملك وكنت أدفعك إلى ذلك الأمل ما استطعت. فالآمال العريضة التي ملأت عليك حياتك وأنت تعدّ العدّة للعودة إلى القاهرة من باريس حيث عرفتك كانت تتسع لحيوات وحيوات. وكنتَ محقاً في أن تدعها تتلبسك وتملك عليك وجودك وخواطرك.

في باريس، مصرياً حتى أعمق الأعماق كنتَ وكنتُ أحب فيكَ هذه الكبرياء، كبرياء وريث حضارة تعدّ سنواتها بالآلاف، لكنها كبرياء مشحونة بالودّ وبالوداد. وعربياً شامخاً كنتَ وكنتُ أحب عروبتي وهي تتراءى لي  فيك. وصديقاً صدوقاً صادقاً في زمن بات شحيحاً بالأصدقاء. وودوداً تعكس ابتسامتك التي كانت تنير وجهك مرآة نفس صافية، كريمة، واسعة، عليمة بضعف النفوس غفورة له.

غضبك ابتسامة. ابتسامة عارفة. وابتسامتك فرح يطغى في وهجه على الآخرين فينتقل إليهم عدوى. 

في باريس، في الموقع الذي يطل منه العالم العربي على العالم، كنتَ تحلم لو تستطيع أن.. وكنت تعمل على أن.. ويملكك الغضب من العجز لحظات، ويستحوذ عليك أياماً، وتارة أسابيع.. تتألم خلالها القدرة العاجزة..وأحياناً العجز القاتل. ولا يهن منك الأمل ولا الحلم ولا العمل.

في باريس، أردتَ أن تحمل وجه مصر الصبوح الوضاح ليكون حاضراً ملء السمع والبصر. مثلما كنتَ من قبل في القاهرة تريد وتعمل على حمل وجوه العرب المضيئة لتكون أيضاً في وعي المصريين حاضرة ملء الآذان وملء العيون.

ومن القاهرة إلى باريس، ومن باريس إلى القاهرة، أردتَ أن تكون على طريقتك: الأنيقة، الوديعة، الدافئة، العميقة، الودودة، اللطيفة، رسول مصروالعرب إلى الباريسيين وإلى الفرنسيين.

وفي هذا البيت الفريد من نوعه في العالم، في هذا الموقع الذي يطلُّ منه العرب في أروع ما قدمته قرائحهم ومبدعاتهم على العالم، كنتَ، بأناقة وبعذوبة، تفتح صدرك لكلِّ من يعمل فيه، بلا استثناء، وتنحني احتراماً لما اكتسبه من خبرة في ما يفعل ولِما يفعل.

لا أعرف أحداً شكا جفوة، أو استهتاراً، أو جهلاً منك. ولا أعرف أحداً ممن عملتَ معهم في باريس لجأ إليك وقد عدت إلى مصرك الحنون إلاووجد فيك الملجأ الكريم و العون الصادق.  كنت عنوانهم في القاهرة. في مصر. وكانوا لذلك يشعرون بالطمأنينة. فهل تدرك الآن معنى رحيلك في وجودهم؟ هل تدرك معنى غيابك؟  

هذه الكلمات، تعرف وأعرف، ليست جديدة عليك. ما أكثر ماأسمعتك إياها كلما التقيتك. وهذا هو الآن عزائي الوحيد. لن تقرأ هذه الكلمات كماكنت تسمعها وتغض الطرف تواضعاً واستحياء.

لكنك، واثق أنا، تحملها معك. وهي ليست كلماتي فحسب، بل كلمات من أحبوك هنا ومن مزقهم ألم رحيلك.
أحاول هنا متعثراً أن أكون صوتهم.

كنتُ أعدّ العدّة للقائك في مصرك، مصري. وكنتَ فرحاً لهذااللقاء مثلما كنتُ. لكن الفرح يغادرني وأغادره. وأين مني الفرح والأصدقاء غياباً؟

وداعاً إلى لقاء. لقاء لا بد له على أيِّ حال من أن يكون.


بدر الدين عرودكي

باريس

        تشرين الأول/اكتوبر 2009 (أخبار الأدب، القدس العربي، العرب اليوم)
http://news.arbtoday.com/News-11193.html

jeudi 7 mars 2013


خالد بيومي ـ روز اليوسف

حوار مع بدرالدين عرودكي

«الأهمية الاقتصادية لبعض بلدان الحراك الثورى العربى (ليبيا) أو الاستراتيجية (مصر وسورية) ستدفع الغرب وأمريكا إلى التأثير على نحو يكفل لهم استمرار مصالحهم حتى لو كان هذا الاستمرار مضاداً لكل ما طمح الثوار إلى تحقيقه»... بهذه الكلمات لخص السورى بدرالدين عرودكى كاتب ومترجم وناشط فى المجال الثقافى والفكرى رأيه فى موقف أمريكا واوروبا من ثورات الربيع العربي، مؤكدا أن التغيير السريع للأنظمة العربية أدى لمشكلات لا يمكن حلها بنفس السرعة تعيشها الدول العربية الآن، كما يرى عرودكى الذى يعيش فى باريس منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي، وشغل عدة مناصب فى معهد العالم العربى فى باريس كان آخرها المدير العام المساعد، أن هموم ومشكلات المثقف العربى تختلف جذريا عن هموم ومشكلات المثقف الغربى لاختلاف الهموم والتحديات المجتمعية التى يعيشونها... عن هذه الموضوعات وترجماته لميلان كونديرا وما يرى أنه تبقى من طه حسين للثقافة العربية يدور هذا الحوار:


1ـ كيف تتأمل التحولات المتسارعة في العالم العربي الآن ؟

كان لابدّ من أن تنفجر أخيراً ثورات الشعوب التي لم تعرف من الحرية إلا لفظها ومن الكرامة إلا اسمها ومن الحياة الكريمة إلا المذلة والعبودية طوال ما لا يقل عن نصف قرن، أي منذ سنوات الانتكاسات الكبرى. لن يكون هذا التحول متسارعاً وإن بدا في ظاهره كذلك. صحيح أن أنظمة الحكم قد انقلبت خصوصاً بسرعة كبيرة في تونس ومصر وليبيا بالمقارنة مع سورية، لكن انقلاب هذه الأنظمة يطرح كما نرى الآن من المشكلات ما كان منتظراً وما لا يمكن حله بالسرعة ذاتها. الزمن هنا عامل شديد الأهمية، والأهم منه هو أن يستمر النَّفَسُ الثوري حاضراً وقوياً للحيلولة دون العودة إلى وراء بفعل القوى المضادة للثورة وما أكثرها.


2- كيف ينظر الغرب الى ثورات الربيع العربي ؟

فوجئ الغرب بالحراك الثوري بعد أن ظن أن العالم العربي قد غاب في سهاد طويل دفعه إلى إقامة علاقات وثيقة مع الأنظمة الدكتاتورية أو الاستبدادية أو الفاسدة في العالم العربي متجاهلاً كل ما ينادي به من ضرورة احترام حقوق الإنسان والديمقراطية. لكنه بعد الصدمة حاول أن يستوعب ما يحدث وأن يعمل على التأثير في مجراه بصورة أو بأخرى..ولا يزال. من المؤكد أن الأهمية الاقتصادية لبعض بلدان الحراك الثوري العربي (ليبيا) أو الاستراتيجية (مصر وسورية) ستدفعه إلى التأثير على نحو يكفل له استمرار مصالحه حتى لو كان هذا الاستمرار مضاداً لكل ما طمح الثوار إلى تحقيقه.. ومن هنا جانب من الكوارث التي نعيشها الآن في بلدان الحراك الثوري العربي كافة.


3- ما رؤيتك للولادة العسيرة للثورة السورية والوضع المتأزم هناك ؟


ليست ولادة عسيرة . الثورة السورية ولدت كاملة وواعية. وهي الآن قائمة ومنذ سنتين بلا كلل. العسر موجود في تحقيق أهدافها بالسرعة التي تم فيها ذلك في البلدان العربية الأخرى. لقد قمع النظام سلمية الثورة باختياره الحل الأمني ودفعها إلى أن تكون ثورة مسلحة. كما أنه احتمى بكل القوى ذات المصلحة في سورية ولا سيما إيران. لكن المهم الآن هو أنه لن تكون ثمة عودة إلى الوراء. فالناس الذين واجهوا أعتى سلطة عرفتها المنطقة في تاريخها لن يرضوا بأقل من كسر النظام وتفكيكه بكل أدواته الأمنية والقمعية وتقديم رجاله ونسائه إلى المحكمة احتراماً للشهداء والمشردين والمفقودين ولمن عانوا استبداد هذه الطغمة واستئثارها بخيرات هذا البلد العريق.


4- ما دور المثقف بعد الربيع العربي ؟

لابد أن يستعيد المثقف بعد الربيع العربي في ما أرى دوره الأساس: ناقداً ومراقباً لكل حراك يحاول الالتفاف على الأهداف التي ضحى الناس من أجل تحقيقها، مشيراً إلى كل محاولة للعودة بصور أخرى إلى نظم الاستبداد التي سادت، ولا يمكنه القيام بهذا الدور إلا إذا استقلَّ عن كلِّ سلطة أو سلطان، وبالتالي أن يكون معارضاً ومثيراً للإزعاج بالتعريف، لأنه يشير إلى مكامن الخطر الحقيقي في عملية التطوير.

5- إلى أين وصلت في ترجمة أعمال ميلان كونديرا ؟ ومن أقرب الكتاب العرب الى كونديرا ؟

لم أترجم من أعمال كونديرا سوى ثلاثة كتب (من أصل أربعة الآن) خصصها لتقديم تأملاته في فن الرواية وهي: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار.أما الرابع، لقاء، فقد ترجمته ولم أنشره بعدُ لأسباب لامجال لعرضها هنا.عندما بدأت في ترجمة العمل الأول منها، فن الرواية، وقد تمّ نشره أولاً في المغرب، كان يدفعني إعجاب غير محدود بروائي يحكي جذوره الفنية التي حددها في ما أطلق عليه الرواية الأوربية، كما تجلت بصورة خاصة في روايات إرنست بلوخ، وفرانز كافكا. كانت هذه التأملات تعني لي الشيء الكثير نظراً لأنها تصدر عن روائي يمارس فن الرواية بنجاح قلَّ نظيره في عصرنا، وفي الوقت نفسه لأن قراءته للرواية الأوربية عموماً تختلف اختلافاً جذرياً عن قراءة النقاد التقليديين أو مؤرخي الرواية الكلاسيكيين.

أما بالنسبة للجزء الثاني من سؤالك، عن الأكثر قرباً إلى كونديرا من الكتاب العرب، فإني أسألك بدوري: هل من الضروري أن يكون الروائي العربي قريباً من أو بعيداً عن كونديرا أو أي كاتب آخر سواه؟ لا أرى بصراحة معنى للقرب أو للبعد إلا في ميدان رؤية العالم. وكلُّ ما عدا ذلك عبث وقبض الريح.

6- ترجمت كتاب ( معك) لسوزان طه حسين .. برأيك ما الذي تبقى من طه حسين الآن ؟


في المقدمة التي كتبتها للطبعة الأخيرة التي صدرت عن المركز القومي للترجمة تحدثت عن قصة الكتاب وترجمته التي كان في أساسها العالم والمؤرخ الاجتماعي الفرنسي جاك بيرك. فقد خصص في السبعينيات وبعد وفاة طه حسين درسه الأسبوعي في الكوليج دوفرانس خلال سنتين ليتحدث عنه وعن دوره الثقافي، وهو من أوحى لسوزان طه حسين أن تكتب عن الجانب الحميمي في حياة زوجها والذي أدى إلى كتاب"معك". كان جاك بيرك قد اقترح على سوزان طه حسين إن كتبت الكتاب أن يقوم بترجمته مترجم سوري لإعطاء طه حسين بعداً عربياً، وأن يراجع الترجمة كاتب تقدمي لإعطاء طه حسين بعداً مستقبلياً. ووقع اختياره عليّ كمترجم وعلى محمود أمين العالم كمراجع. يلخص هذان البعدان في رأيي معنى ما أنجزه طه حسين في حياته. لقد كان حدثاً في تاريخ الثقافة العربية على الأصعدة كلها: صعيد حرية التعبير، صعيد النقد العميق للتراث وللتاريخ وللمناهج التقليدية، صعيد التزام الكاتب بمشكلات مجتمعه، صعيد الرؤية المستقبلية للثقافة وللتربية في بلده.. والقائمة لا تنتهي. كان أول من هاجم طه حسين هم أؤلئك الذين يحاولون حتى اليوم إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. ولا يزالون يحاربونه حتى وهو في قبره، شأنه في ذلك شأن الكثرة من كتاب ومفكري مصر التنويريين الكبار.. لكن طه حسين سيعود لاحتلال الساحة من جديد، وسيظل علماً من أعلام حرية الفكر والاجتهاد واستقلال الرأي عن كل سلطان، أياً كانت سلطة هذا السلطان..وإني لأعتبر أن شباب مصر الذين قاموا بثورة 25 يناير هم من حيث لا يدرون أبناء طه حسين بامتياز..


7- كيف تتأمل الدور الثقافي لمعهد العالم العربي في باريس بعد الربيع العربي ؟ وما العقبات التي تحول دون ممارسة دوره ؟

معهد العالم العربي مؤسسة فريدة من نوعها في العالم. وهو أيضاً فريد في قيامه دليلاً على إهمال الأنظمة العربية لشؤون الثقافة الحقيقية، أعني الإبداعية، المستقلة، الحرّة، المسؤولة ولكن غير الخاضعة لأيِّ قيد من القيود التي يفرضها الاستبداد في وجوهه المختلفة. ذلك أنَّ بعضها فهم رسالة المعهد على أنه مركز دعائي له. فحاول طوال عقدين كبح الاستفادة من تواجد المعهد في بلد ينعم بالحرية كفرنسا والحيلولة دون تقديم صورة حقيقية عن العالم العربي. لكن المعهد، مع ذلك، استطاع أن يبتكر هامش حريته فقدم ما استطاع حتى احتلّ موقعاً مميزاً في المشهد الثقافي الباريسي خصوصاً والفرنسي عموماً بل والأوربي. لكن الربيع العربي جاء ليكسر القيود التي كانت تكبل المعهد وأمكن منذ بدايات عام 2011 سماع خطابات وفكر وأداء، حتى في طبيعة المعارض المنظمة، تختلف اختلافاً جذرياً عما سبق.

لكن العقبات لا تزال هي نفسها، وتتجسّد خصوصاً في مشكلة التمويل. لا تزال فرنسا هي المموّل الأكبر للمعهد ولنشاطاته. والحل الذي اقترحته على الدول العربية بتخصيص وقف يتألف من ديون الدول العربية الواجبة للمعهد بدلاً من الإسهامات السنوية لم يكن حلاً موفقاً ولا ناجعاً أصلاً..وكان توقف الدول العربية عن الإسهام المالي السنوي سبباً في لجوء المعهد إلى التخفيف من نشاطاته بل وإلى تسريح عدد كبير من موظفيه. الدولة العربية الوحيدة التي اهتمت بحل مشكلات المعهد المالية كانت دولة الكويت التي تبرعت بأربعة ملايين يورو وقامت بتسديدها لإعادة تأهيل متحف المعهد وكذلك مكتبته العامة من دون أيّ مقابل.


8- برأيك .. هل تتطابق هموم المثقفين العرب مع المثقفين في أوربا أم تختلف؟


لا. بالتأكيد لا. المشكلات التي يواجهها المثقف العربي في مجتمعه تختلف جذرياً عن تلك التي يواجهها المثقف الغربي وذلك لسبب بسيط بالطبع يتجلى في اختلاف هموم المجتمعات الغربية عن هموم المجتمعات العربية. لا يواجه المثقف الغربي الاستبداد، أو انعدام الحريات بما فيها حرية الفكر، أو القمع اليومي والممنهج؛ في حين يواجه المثقف العربي الاستبداد وانعدام الحريات والقمع اليومي باسم المقدسات أو ما يُزعمُ أنه المقدسات تارة وضرورات الأمن تارة أخرى...أنتَ ترى أن الهموم ليست نفسها. يستطيع المثقف الغربي أن ينتقد السلطة الحاكمة من قمتها إلى قاعدتها نقداً لاذعاً وقاسياً ويعود إلى إلى بيته دون أن يقلق على حياته أو أمنه (قد يصادف بعض الإزعاج في أمور معيشته إن كان يعمل في إطار مؤسسات عامة مثلاً)، لكنه يظل آمناً على حياته وحياة أهله. وليس ذلك على الإطلاق حالَ المثقف العربي. من الطبيعي أن المعنيَّ هنا هو المثقف العربي المستقل لا ذلك الذي دجنته السلطات على اختلافها.

روز اليوسف ، 3 آذار /مارس 2013
http://www.rosaeveryday.com/News/26476/-#.UTMPv3qTAbs.facebook

ألف ليلة وليلة، مغامرة كتاب

أو عندما لا تتوقف شهرزاد عن الكلام المباح

                                                                                                             بدرالدين عرودكي

                                                     

هل يمكن أن يُنظمَ معرضٌ عن كتاب، وما الذي يمكنه أن يضيف مما لا قِبَلَ لكتاب أن يقدّمه؟

وحده كتابٌ عَبَرَ الثقافات، والقارات، والقرون، وكان رابطة استثنائية بين الشرق والغرب قبل أن يصير ظاهرة كونيّة، يمكن أن يستدعي مثل هذه الرغبة، أو إن شئتم الضرورة. أعني كتاب ألف ليلة وليلة. كتاب حكايات لم يُعرَف مؤلفه أو مؤلفوه، استمرّ عقوداً من السنين بل قروناً عدّةً يُكتب ويغتني في كل رحلة يقوم بها في الجغرافيا أو في الثقافات، مثلما ظلَّ يعتبر أدباً شعبياً لا يعبأ به كتَّابُ الأدب الرسمي ونقاده ومؤرخوه وإن كان قبل وصول المطبعة إلى العالم العربي مخطوطاً يُقرأ على الناس في الأماكن العامة أو في المقاهي قبل أن يصيرَ كتاباً مطبوعاَ يقرؤونه بأنفسهم في بيوتهم منذ أن قامت مطبعة بولاق الأميرية بمصر بطبعه للمرة الأولى عام 1280هـ/1860م.

ظلَّ هذا الكتاب طوال أكثر من ربع قرن موضوع مشروع معرض ضمن مشروعات المعارض الممكنة في معهد العالم العربي، لكنه لم ينتقل إلى لائحة المعارض موضع الإنجاز إلا قبل أربع سنوات.

لكنَّ ربع القرن هذا شَهِدَ معارض عن الكتاب تتفاوت في أهميتها وفي ميزانياتها وفي الغاية المرجوّة منها، لكنه كان قد شهد بوجه خاص إنجاز أهمّ مجموعة من الدراسات المعمقة عن الكتاب قام بها المستعرب الفرنسي أندريه ميكيل والشاعر ومؤرخ الأدب المرحوم جمال الدين بن شيخ، وباحث من الجيل الجديد صار في سنوات معدودة علّامة في "علم" هذا الكتاب، أبو بكر شرايبي. لكن أهمَّ ما شهده قبل ذلك وبعده، كان صدور الترجمة الفرنسية الثالثة والأكمل لكتاب ألف ليلة وليلة على أيدي أندريه ميكيل وجمال الدين بن شيخ، في طبعة أنيقة ضمن سلسلة لابلياد عن منشورات غاليمار، وكذلك في طبعة شعبية متاحة للجميع.

ولابدَّ بطبيعة الحال لكتاب متعدد الأصول، مجهول المؤلف أو بالأحرى المؤلفين، ومصدر وحي الشعراء والروائيين والمصورين والرسامين والسينمائيين والمسرحيين بل وأصحاب المهن الحرفية والفنية على تنوعها من أن يجعل أية مقاربة، أياً كانت وسيلتها التعبيرية، ترتعد أمام الكمِّ الهائل الذي تراكم عبر السنين من الوثائق المكتوبة والمسموعة والمرئية في أنحاء العالم كله حول الكتاب وحكاياته. وكان لابدَّ للفريق الذي أخذ على عاتقه تحقيق هذا المعرض في مؤسسة كمعهد العالم العربي من أن ينطلق من سؤال طالما أثار فضول مثقفي العرب خصوصاً: كيف تحوّل كتابٌ أهملته النخبة واحتفت به العامّة من كتابٍ محليٍّ، عربيٍّ ذي أصول هندية وفارسية، إلى كتاب إنساني؟ وكيف أمكن له أن يجتاز حدود الثقافات واللغات كي تستحوذ عليه الإنسانية على اختلاف مراجعها وأساطيرها ولغاتها وأذواقها وهمومها؟

ذلك كان سؤال المعرض الأساس. لكن الإجابة عنه كانت تستدعي طريقة الكتاب نفسه، أي طريقة شهرزاد، كي تستعين بها: أن تحكي، أن تفتن، أن تعلِّم، شريطة عدم الاستسلام للسحر الخادع للكليشيهات النمطية أو المبتذلة أو التبسيطية الساذجة، التي عرفها الغرب وروج لها. على أنَّ هذا الغرب نفسه كان، إلى جانب استحواذه على الكتاب، مصدر ثروة من المُبدعات الفنية لا تزال وهي تستوحيه تغتني منذ ثلاثة قرون وإلى يومنا هذا: في الفنون كلها وفي الأجناس كلها، من المسرح إلى تصميم الأزياء، ومن الموسيقى إلى السينما، ومن الفن التشكيلي إلى الأوبرا، ومن التصوير الفوتوغرافي إلى الأدب، مولدة صوراً لم يستولِدها كتابٌ من قبل: هارون الرشيد، شهريار، شهرزاد، سندباد، علاء الدين... سيُقترح على الزائر جولة تقدم له بعضاَ من هذه التحف (حوالي 350 تحفة) تنتمي إلى حقب وأجناس وأساليب مختلفة (من العصر الفاطمي إلى عصر بيكاسو، ومن فنون الاستشراق إلى الفنون الحديثة) تمت استعارتها من نيف وستين من متاحف فرنسا ودول أوربا وأمريكا، بعضها، ولاسيما المخطوطات، يُعْرَضُ للمرة الأولى مثل مخطوط شيكاغو أو مانشستر أو أكسفورد أو كيمبريدج أو الفاتيكان أو توبنجن..

وكان طموح المعرض وهو يجيب عن هذا السؤال، أن يكشف جوانب الكتاب كلها بما في ذلك تاريخه الفريد بوصفه شاهداً ثقافياً وتاريخياً وناقل أساطير ومعتقدات خاصة لا بالشرق العربي فحسب بل بالشرق بأوسع معانيه. وحكاية الكتاب كذلك، وهو أمرٌ لا بدَّ منه بالطبع من خلال تقديم مخطوطاته على اختلاف محتوياتها ومصادرها وأزمنتها، وهي مغامرة كان لابدَّ من أن تحكي أيضاً وخصوصاً أول رحلة ثقافية للكتاب قطعها في القرن الثامن الميلادي، من أصله الفارسي، هزان أفسان (ألف حكاية)، الذي ضاع اليوم، وكان هو نفسه من قبل قد انتقل من بلاد الهند إلى بلاد فارس قبل أن ينتقل إلى موطنه الجديد إثر ترجمته إلى اللغة العربية تحت عنوان: ألف ليلة، ليصير منذئذ عربياً، ولكي لا يكفّ، منذ ذلك الحين، عن الرحيل والتحوّل عبر أصقاع جغرافية ثقافته الجديدة أولاً، من بغداد إلى دمشق، ومن دمشق إلى القاهرة، ومن القاهرة إلى أرجاء الثقافة العربية كلها. كان كلما انتقل إلى مدينة ازدادت حكاياته فيها، أو تلونت بألوانها. وكان رواة حكاياته ونُسَّاخها، في تكاثر، يتوارون كما فعل مَنْ قبلهم، وراء الحكايات. على أن القفزة الأخرى ستتم مع بداية القرن الثامن عشر، في عام 1704 على وجه الدقة، حين قام أنطوان غالان(1646 ـ 1715)، وهو عالم مغمور في اللغات الشرقية، بترجمة مخطوط للكتاب يعود إلى القرن الخامس عشر ولا يحتوي إلا على 35 حكاية، أتبعه، بعد لقائه بالشاب السوري حنا دياب، بترجمة حكايات على بابا أو علاء الدين والمصباح السحري، لتبدأ معه رحلة الكتاب في 70 حكاية و281 ليلة في اللغات وفي الثقافات الأخرى: إلى اللغة الدانمركية، ثم الألمانية، ثم الإنجليزية، ثم إلى بلدان ولغات أوربا كلها والأمريكتين من بعدها.

لا تعني مغامرة النصِّ طبيعة الترجمة الخصوصية التي تميّز بها، أي تجاور الترجمة والتأليف معاً، فحسب، بل تعني أيضاً ما أدّى إليه، أي إلى أن تتكوّن مكتبة من حول ألف ليلة وليلة. مبدعاتٌ أدبية تستوحيها أو تحاول أن تكون امتداداً لها، منذ بداية القرن الثامن عشر وخلال ثلاثة قرون، بل حتى أيامنا هذه.

سيطوف زائر المعرض، كما في حكايات ألف ليلة وليلة، العوالم الحضرية الأشهر: من بغداد عاصمة العباسيين، إلى دمشق مدينة الأمويين التي كانت نفوس بعض الخلفاء العباسيين تهفوا إليها، إلى قاهرة الفاطميين. المدن الثلاث الأشهر في المشرق العربي، والأشدّ تمثيلاً للمجتمعات العربية المدنية في القرون الوسطى وما تلاها، فيها يتم تبادل الأفكار والسلع، وتنمو التجارة وتزدهر الفنون والآداب، مثلما تدور فيها وتتشابك أحداث ألف ليلة وليلة ومغامرات أبطالها.

وسيلقى الثيمة ذات الحضور الأكبر: الحب؛ ثيمة لا يوازيها في الحضور إلا ثيمة الموت. وكأنَّ كل واحدة صدى غير مباشر للأخرى. الحب الفوري، الصاعق، وآلام الفراق أو البُعاد، والحنين إلى المحبوب، كلها منطلقات للعديد من المغامرات في حكايات تستدعي قصائد الحب والغزل التي اشتهر بها الشعر العربي القديم.

أما الموت فهو الموازي الطبيعي، كليَّ الحضور في الكتاب في ساحات الحروب والمعارك حيث تسقط الرؤوس بالعشرات، أو في أساس الكتاب أصلاً وسبب وجوده: الموت أو دفع الموت بالحكاية وبالقصّ.

يدخل الزائر قاعات المعرض مستمعاً في الوقت نفسه إلى الحكايات تُحكى له بالعربية أو بالفرنسية، على إيقاع الليالي، ليلة بعد ليلة، ممتلئاً بالأحلام والأوهام والخيالات التي استثارها منذ ألف ونيف من السنين كتاب لا مثيل له في تاريخ الآداب كلها. سيدخل أيضاً عالماً يظن نفسه على علم به لكنه سيكتشف أنه لم يعرف منه إلا القليل وربما أقل من القليل، يساعده في ذلك مجموعة من المختارات السينمائية والفنية من ميليس إلى بازوليني إلى فيربانك..ذلك كله ضمن توليفة سينوغرافية مبتكرة (حققها ماسيمو كويندولو وليا سيتو).

ستتلاشى أمامه، فضلاً عن ذلك، كثرة من الأفكار القديمة أو المسبقة عن الكتاب، ولاسيما تلك القائلة بوصوله إلى الغرب خالياً من أي صورة، بعد أن بيَّنت الأبحاث المتأخرة أن ثمة حوالي عشرين مخطوطاً مصوراً تم اكتشافها لألف ليلة وليلة (وقدم بعض منها في هذا المعرض) من أصل 140 مخطوط باتت اليوم معروفة..

هذا المعرض عن ألف ليلة وليلة هو الأول من نوعه. صحيح أن مقاربة الكتاب سبقت من قبل تحت هذا العنوان أو ذاك: تحت غطاء الفنون الإسلامية كما فعل متحف اللوفر في ثمانينيات القرن الماضي، أو لتقديم النص ورواياته أو ترجماته المختلفة، لكنها المرة الأولى التي تتم فيها مقاربة الكتاب بوصفه نصوص حكايات وشعر أساساً وكذلك بما ينطوي عليه من تاريخ معروف بدأ في غياهب القرون السابقة على القرن الثامن، ولا يزال مستمراً حتى يومنا هذا.




5 شباط/فبراير 2013
مجلة الدوحة ـ قطر ـ آذار/مارس 2013 ص. 138ـ139
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=61310940-6828-4B96-BA55-60CBA3C7A5E1&d=20130301#.UTJqEdiOiQ1.facebook

لقاء مع بدرالدين عرودكي



* بدأت نشاطك الثقافي كاتباً وناقداً في مجال الأدب والمسرح والسينما، ومع أنك تابعت هذه الاهتمامات في السنوات الأولى من وجودك في فرنسا إلا أنك بدوت وكأنك تخليت عنها منذ بداية عملك في معهد العالم العربي في باريس..  

** لم يكن هناك أيّ تخلٍّ على الإطلاق. لكن الأمور سارت في منحىً آخر أو لنقل إنها أخذت صورة أخرى. صحيح أنني بدأت ناقداً أدبياً ولاسيّما في مجال الرواية والمسرح وفي النقد السينمائي، وكذلك في ترجمة الأعمال الأدبية إلى اللغة العربية، ولقد كتبت عشرات المقالات والدراسات في هذه المجالات مثلما ترجمت عدداً من الأعمال الأدبية كقصيدة الحدّاد لرامبو وقصة الغرفة السرّية لآلان روب غريّيه، إلا أنّه كانت لي إلى جانب ذلك هواية أخرى موازية هي ما يطلق عليه التنشيط الثقافي. ولقد تمثل ذلك في تحمّلي مسؤولية رئاسة النادي السينمائي بدمشق الذي نشط بصورة خاصة في عامي1971 و1972 على صعيد المدينة كلها، فقد بلغ عدد أعضائه آنئذ عشرة آلاف عضو مسجل، كما أنّه قدم مجموعة من أهم الأفلام السينمائية العالمية ودعا إلى دمشق واحتفل بأعمالهم عدداً من كبار السينمائيين: بييرو باولو بازوليني، وأندريه فايدا، وجاك تاتي..  أريد أن أقول، كما لو أنّ عملي في دمشق في نهاية الستينات وبداية السبعينات كان يستبق ما سأقوم به في بداية الثمانينات في باريس، وخاصة منذ أن استلمت عملي في معهد العالم العربي في باريس  في نهاية عام 1983.. لكني قبل ذلك في باريس، كنت أكتب وأراسل المجلات الثقافية العربية وخاصة مجلة الآداب في بيروت في السبعينات، ومجلة المعرفة في دمشق التي كنت أكتب فيها ولاسيّما عندما كان رئيس تحريرها القصّاص الكبير زكريا تامر.. وأمين تحريرها الناقد خلدون الشمعة.. 

* ما الذي حملك على البقاء في باريس والعمل في معهد العالم العربي؟ 

** لم أكن أنوي البقاء في باريس على الإطلاق. سببان متضافران ومتوازيان في القيمة حملاني على اختيار البقاء: أولهما أنني أدركت أن التعليم الجامعي في مجال علم الاجتماع، وهو الاختصاص الذي توفرت عليه في دراساتي العليا في جامعة باريس، كما حلمت أن أمارسه لم يكن من الممكن أن يُتاح لي في جامعة دمشق آنئذ، ولا سيّما في مجال علم الاجتماع. أقنعني بذلك حديث دار بيني وبين أستاذي المرحوم الدكتور بديع الكسم الذي كان أستاذ الفلسفة الحديثة في كلية الآداب، خلال زيارتي له أثناء دراستي، في دمشق، في أواخر السبعينات، أي قبيل مناقشتي لرسالة الدكتوراه في جامعة باريس. أما السبب الثاني فكان قبول ابنتي، ولم يكن لها من العمر إلا أحد عشر عاماً، في المعهد القومي العالي للموسيقى في باريس لدراسة عزف البيانو، وكانت الأولى بين 253 مرشحاً تقدّموا لكي يتمّ اختيار أحد عشر تلميذة وتلميذ منهم فقط. لم يكن بوسعي تركها في باريس لوحدها، كما لم يكن من الممكن أن أتخلى عن هذه الفرصة التي أتيحت لها ولم تتح لغيرها من الفتيات العربيات من قبل أبداً، فكان أن قررت البقاء في باريس ولاسيّما بعد أن رفضت وزارة التعليم العالي آنئذ منحي إجازة للبقاء في باريس لمدّة محددة.. 

*  هل كنت تعمل آنئذ في معهد العالم العربي؟  

** جاء العمل في المعهد بعد ذلك بسنتين. الحقيقة أنني لم أكن أعرف ما الذي كنت سأفعله على الصعيد المهني. فكرت في العمل في جامعة باريسية أو في مدن فرنسا الأخرى وقدّمت ترشيحي للعمل في بعض منها. كان المعهد قد تأسس في عام 1980، ولم يبدأ العمل الحقيقي إلا في عام 1981/1982، بعد انتخاب فرنسوا ميتران للرئاسة واختيار المكان الحالي لبناء مقر المعهد الذي كان بناء على اقتراح جاك شيراك الذي كان آنئذ عمدة مدينة باريس. وفي أيار 1983، عرض عليّ رئيس المعهد آنذاك، الأستاذ فيليب آردان، العمل في المعهد، وبدأت العمل في الأول من كانون الأوّل 1983، كرئيس مساعد لمديرية التنشيط الثقافي.


* وتخلّيت عن الكتابة!
     
** أبداً.. عن الكتابة أبداً، عن النشر، نسبياً. كان من المفروض  أن أبدأ عملي في معهد العالم العربي في بداية شهر تشرين الأول كما طلب مني آنئذ رئيس المعهد، لكني اعتذرت طالباً أن أبداً العمل في بداية شهر كانون الأول، لأنني في تلك الفترة التي كنت أفاوض فيها من أجل عملي في المعهد، كنت، في الوقت نفسه، أعمل إلى جانب الأستاذ بلال الحسن من أجل تأسيس مجلة اليوم السابع التي صدر عددها الأول في بداية تشرين الأول 1983. كان بلال الحسن يريد أن يعهد إليّ بالقسم الثقافي في المجلة، لكنني وجدت نفسي بحكم الضرورة مضطراً إلى أن أتحمّل أعباء العمل الإداري اللازم لإدارة مجلة عربية تصدر في باريس. مما جعله يصرف النظر هو الآخر عن اقتراحه الأولي. على أنني لم أتأخر عن الكتابة كلما سنحت لي الفرصة في الصفحات الثقافية في اليوم السابع، مثلما أنني ساهمت بدعوة كبار كتابنا للمشاركة في المجلة من أمثال محمد عابد الجابري وأنور عبد الملك وهشام جعيط والطاهر بن جلون إلى جانب الكتاب الطبيعيين للمجلة كالمرحوم إميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم.

        * أي أنك كنت تعمل في آن واحد في معهد العالم العربي وفي مجلة اليوم السابع؟
     
** في مجلة اليوم السابع واعتباراً من أول تشرين الأول 1983 عملت مديراً للمؤسسة التي تصدرها والتي كنا أطلقنا عليها اسم "الأندلس الجديدة" ـ برنامج كامل كما ترين! ـ ، أما في معهد العالم العربي، فقد كان الإعداد للانتقال إلى مقر المعهد القائم حالياً والذي وضع حجر أساسه في اللحظة نفسها التي بدأت فيها العمل  في المعهد، أي في كانون الأول 1983، وكان من نصيبي أن أعدّ للنشاطات الثقافية المرافقة للافتتاح.

        * وما هي النشاطات التي أعددتها وتمّ تنفيذها؟

        ** كان من المفروض أن يتمّ افتتاح المعهد في عام 1986، لكن المصاعب المالية (منذ ذلك الوقت!) استدعت تأجيل الافتتاح حتى عام 1987.  ومن ثم اضطررنا إلى تأجيل كلِّ ما أعددنا له من نشاطات. منذ البداية، انصبّ اهتمامي على أن تكون النشاطات الثقافية التي أنظمها أو أقترح تنظيمها جسوراً بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية خصوصاً والأوربية عموماً. وبوسعك أن تلاحظي أنني لم أخرج عن هذا الخط أبداً في كلِّ ما حمل اسمي من نشاط. كان من نصيبي أن أعدّ لمعرض عن اليمن، وندوة عن "وجود الثقافة العربية في فرنسا"، وندوة أخرى كانت اقتراحي الشخصي عرفت باسم "الإبداع الروائي اليوم، لقاء الروائيين العرب والفرنسيين"، إلى جانب ندوة دولية بالتعاون مع جامعة هارفارد ومؤسسة آغا خان للفنون الإسلامية حول "تطوير وإعادة بناء الأحياء في المدن الكبرى". ولقد تم تنفيذ هذه النشاطات كلها، وافتتح الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بناء المعهد في 30 نوفمبر 1987، واستقبلته عند مدخل القاعة التي أقيم فيها هذا معرض اليمن لأقدمه له. ويومها كانت فرقة التلفزيون الكويتية التي كان وزير الإعلام الكويتي آنئذ ورئيس الوزراء حالياً قد أرسلها لاحتفالات افتتاح المعهد قد اصطفت في قاعة الأعمدة في صفين يرسمان طريقاً اجتازه الرئيس ميتران وأنا برفقته.

        أما الندوات الأخرى فقد لاقت نجاحاً جماهيرياً هائلاً. لقد امتلأت قاعة الندوات في المعهد والتي تتسع لأربعمائة شخص على مدى ثلاثة أيام كاملة بالحضور لمتابعة أول لقاء من نوعه يحدث بين روائيين عرب وروائيين فرنسيين.. نخبة من الروائيين من الثقافتين يلتقون للحديث عن الإبداع الروائي كلٌّ من وجهة نظره ووجهة نظر الثقافة التي ينتمي إليها..

        *  والجمهور؟ هل كان عربياً أم فرنسيّاً أم مختلطاً في مثل هذه الندوات؟

** كان مختلطاً. كان هناك الفرنسيون والعرب أو من كان أصلهم عربياً.. على أن التغطية الإعلامية كانت شديدة الأهمية. على سبيل المثال، لم تبق صحيفة فرنسية أو أوربية لم ترسل مندوبيها لحضور لقاء الروائيين، لا بل إن الإذاعات كانت تبث على مدار أيام الندوة الثلاثة التعليقات والمقابلات مع مختلف الكتاب المشاركين أو الحاضرين..  

* هل اقتصر الأمر على المعارض والندوات؟

** بالتأكيد لا. لكني أريد أن أسترعي الانتباه إلى أن النشاط الثقافي الذي كنا نقوم به كان يوازيه نشاط إعلامي لا يقلّ أهمية عنه. حين بدأت الإعداد مثلاً للقاء الروائيين العرب والفرنسيين، طلبت إلى جان جاك بروشييه، الذي كان آنئذ رئيس تحرير مجلة الماغازين ليتيرير المختصة بالآداب والتي توزع من خلال مشتركيها فقط سبعين ألف نسخة، أن يكون عضواً في اللجنة التنظيمية لهذا اللقاء وقد قبل بذلك، وسألته في الوقت نفسه إن كان من الممكن العمل على إصدار عدد خاص عن الأدب العربي المعاصر ينشر في الشهر الذي يعقد فيه لقاء الروائيين، أي في شهر آذار (مارس) 1988. فقبل على الفور وسألني أن أقوم بالتحضير لهذا العدد حسب منهج المجلة كرئيس تحرير زائر.. وهذا ما فعلته، حيث صدر عدد هذه المجلة في شهر آذار 1988 يحمل عنوان الكاتب العربي اليوم، ويقدّم لأول مرة في فرنسا بانوراما متكاملة وليست حصرية بالطبع للإبداع الأدبي العربي المعاصر في مختلف المجالات الأدبية. وقد بقي هذا العدد للأسف يتيماً شأن لقاء الروائيين العرب والفرنسيين؛ تلك مسألة يمكن التعرض إليها في مناسبة أخرى. من ناحية ثانية،  كانت هناك السينما وكانت هناك أيضاً بدايات نشاط مسرحي. في مجال السينما، حاولت بصيغة أخرى أن أعيد تجربة النادي السينمائي بدمشق، فأطلقت على النشاط السينمائي في المعهد اسم سينما معهد العالم العربي الذي صار باستخدام الأحرف الثلاثة الأولى من اسم المعهد بالفرنسية مع الأحرف الثلاثة الأولى من كلمة سينما سينِ ـ إيما، وبالدمج "سينما"، وكان النشاط الافتتاحيّ الذي قمنا به تكريم الممثل الكبير عمر الشريف من خلال تقديمنا نخبة من الأفلام التي مثل أدوار البطولة فيها سواء منها المصرية أو سواها من الإنتاج العالمي، الأمريكي أو الأوربي.. وهذا ما دفع وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى وخاصة التلفزيون ليعلن عن هذا الحدث الذي يقام بمناسبة افتتاح سينما معهد العالم العربي!

أما في المسرح، فقد قام مشروعي آنئذ على أن أعطي الحريّة (كارت بلانش كما يقولون) لثلاثة مخرجين مسرحيين (كان أحدهم في الواقع مصمم رقصات باليه ومخرجاً في آن واحد) في العمل على نصوص شعرية لثلاثة شعراء عرب حديثين: أدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب البياتي.. جان لوك بورغ أخذ أشعار أدونيس، وريناتا سكانت أشعار حجازي، أما وليد عوني فقد أخذ أشعار البياتي.. وقد كانت نتيجة العمل ثلاثة أحداث مسرحية كبيرة من المؤسف أنها لم تقدم إلا مرّة واحدة، باستثناء عمل وليد عوني الذي حاز على الجائزة الدولية الثانية المخصصة لتصميم الرقص الحديث، وقدم ثانية في مدينة أوتريخت بهولندا ضمن إطار تكريم الشاعر عبد الوهاب البياتي فيها آنئذ.. 

* لكن ذلك لم يستمرّ.. وفق المنهج نفسه الذي وضعته لهذه النشاطات..  

** صحيح. كنت بالفعل أريد أن أستتبع لقاء الروائيين الفرنسيين والعرب الأول بلقاء بين الروائيين العرب والأوربيين.. وبدأت الاتصالات في هذا المجال ولا سيما حين عقد مؤتمر للكاتب في أوربا في مدينة ستراسبورغ في فرنسا.. لكن إدارة المعهد عهدت إليّ بعد عام واحد من افتتاحه في مقره على ضفاف السين بمهمات ومسؤوليات أخرى منها مهمة تنظيم المعارض الكبرى، مما أثر على مسار ونوع النشاطات التي أقوم بها. كان المعرض الكبير الأول الذي نظمناه قد خصص لمصر في فترات تاريخها الكبرى: الفرعونية القديمة، والقبطية، والإسلامية وحمل عنوان: مصر عبر كل العصور، وقد افتتح هذا المعرض الرئيس حسني مبارك وحضره آنئذ أكثر من عشرة رؤساء دول كانوا يتواجدون في باريس في الفترة نفسها للاحتفال بالمائة الثانية للثورة الفرنسية.. كان ذلك في عام 1989؛ وكنا على وشك الإعداد لمعرض ثان كبير يحمل عنوان: ملوك وفلاسفة وحرفيّون حول المغرب الأقصى، لولا أن حالت الظروف آنئذ (وكنا في نهاية عام 1990 وبداية عام 1991) دون تنفيذه.

* ومشروعات الترجمة..

** هناك ما يخصّ المعهد وهناك ما يخصني شخصيّاً. في ما يخصّ المعهد، كان هناك، قبل انتقال المعهد إلى مقرّه وأثناء الإعداد لهذا المقرّ،  مشروع ترجمة دزينة من الأعمال الروائية العربية تجلى هدفه في أمرين: الأول ترجمة مجموعة من الروايات العربية الهامة إلى الفرنسية ونشرها بواسطة ناشر فرنسيّ قادر على توزيعها على نطاق واسع، والثاني، التوصل من خلال ذلك إلى إثارة اهتمام الناشرين الفرنسيين بالأدب العربي الحديث بحيث تترجم الأعمال الأدبية إلى الفرنسية بصورة عفوية ويحتل الأدب العربي مكانه اللائقة به بين الآداب الأجنبية المترجمة إلى الفرنسية وخصوصاً أن يُطبع العمل الأدبي العربي في طبعات شعبية ليباع في أكشاك الكتب في محطات القطارات!... كان ذلك في عامي 1983 و1984 حلماً من الأحلام المجنّحة.. عُهِدَ إليّ في المعهد بالإشراف على سلسلة الآداب العربية التي أنشئت لهذا الغرض بالتعاون مع دار نشر لاتيس التي كانت مجموعة هاشيت تقوم بتوزيع منشوراتها.. وكان بين من ترجمنا لهم بشير الخريف التونسي وعبد السلام العجيلي السوري وجبرا ابراهيم جبرا الفلسطيني ويوسف إدريس المصري .. وثلاثية نجيب محفوظ التي كانت تترجم للمرّة الأولى إلى لغة غير العربية، أعني اللغة الفرنسية.. وحين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في عام 1988، كان عدد الأعمال الأدبية العربية المترجم إلى الفرنسية يكاد يقتصر على ما تمّ نشره من خلال مشروع معهد العالم العربي إلى جانب عدد من الأعمال المبعثرة نشرتها آنئذ منشورات سوي أو آرليا وبصورة خاصة منشورات سندباد التي أسسها المرحوم بيير برنارد. لكن كان هناك أساس سمح مع حصول محفوظ على نوبل أن يكون منطلقاً لكي يتركز الاهتمام منذئذ على الأدب العربي المعاصر رواية وشعراً، وصرنا بعد أقلِّّ من خمسة عشر سنة على ذلك التاريخ نرى الأعمال الأدبية العربية تنشر في طبعات شعبية وتباع في محطات القطارات! كما صرنا نرى صور الكتاب العرب الكبار، الشعراء منهم والروائيون، معلقة في معارض الكتب في فرنسا أو في فرنكفورت إلى جانب كتاب العالم الكبار وشعرائه من الشرق ومن الغرب..

أما في ما يخصّ الترجمات الشخصيّة فقد كان أكثرها من اللغة الفرنسية إلى العربية. لقد نشرت ترجمة مذكرات زوجة عميد الأدب العربي طه حسين، سوزان طه حسين، إلى العربية تحت عنوان معكَ ، التي نشرتها دار المعارف.. ولهذه الترجمة قصة جديرة أن تحكى: فقد كتبت سوزان طه حسين هذا الكتاب بناء على اقتراح من جاك بيرك، كبير المستشرقين والمستعربين الفرنسيين الذي خصص دروسه خلال سنة كاملة في الكوليج دو فرانس للحديث عن طه حسين. وقال لمؤنس طه حسين إنه يودّ لو أن مترجماً سوريّا يقوم بترجمة الكتاب إلى العربية لإعطاء طه حسين بعده العربي الذي يستحقه أدبه، وأن يراجع الترجمة كاتب مصريّ تقدّمي لإعطاء أدب طه حسين بعده التقدمي والمستقبلي الذي يستحق. وهكذا، اقترح جاك بيرك اسمي كمترجم، واقترح اسم الأستاذ محمود أمين العالم كمراجع.. لكن أنيس منصور الذي كان رئيس مجلس إدارة دار المعارف التي نشرت الكتاب آنئذ، والذي لم يكن فيما يبدو يطيق لا السوريين ولا التقدّميين، لم يقتصر على إخفاء إسميْ المترجم والمراجع بوضعهما في بنط صغير في أسفل الصفحة الثانية شبه غير المقروءة فحسب، بل إنه حين نشر مقاطع من الكتاب مختارة في أول عدد من مجلة أكتوبر التي كان يرأس تحريرها قد حذف ببساطة اسميْ المترجم والمراجع معاً، مما حمل إحدى المجلات العربية على التعليق الساخر قائلة إن الوحدة السورية المصرية تعود من جديد بحذف اسم المترجم السوري واسم المراجع المصري من كتاب سوزان طه حسين الفرنسيّة!!

لكني أيضاً ترجمت كتاباً لأنور عبد الملك قمت بإعداده انطلاقاً من دراسات عميقة نشرها بالفرنسية حول الفكر العربي الحديث والمعاصر، وقامت بنشره دار الآداب، كما نشرت كتاب لوسيان غولدمان، كبير علماء اجتماع الأدب، الخاص بعلم اجتماع الرواية.. مثلما كنت أنشر في المجلات العربية عددا من الدراسات في مجال الفكر الفلسفي والسياسي والأدبي.. وقد استمر هذا النشاط في الترجمة من دون توقف تقريباً، فمن بين الكتب العشرين التي ترجمتها حتى الآن، ترجمت كتاب ميلان كونديرا فن الرواية الذي كان قد صدر في عام 1986، (ومنذ أشهر أتممت ترجمة الجزءيْن الآخريْن اللذين صدرا بعد ذلك، أعني الوصايا المغدورة  والستار، وسيقوم المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة بنشر الكتب الثلاثة في مجلد واحد يحمل عنواناً اختاره كونديرا نفسه للطبعة العربية هو ثلاثيّة حول الرواية). كما ترجمت في أوقات أخرى كتاب العدو الأمريكي، حول أصول النزعة الفرنسية في معاداة أمريكا، لفيليب روجيه، وكتاب روح الإرهاب للفيلسوف الفرنسي جان بودريّار، وهو مجموعة من الكتيّبات كان الكاتب قد نشرها على إثر تفجير برجيْ مركز التجارة العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001.. إلخ، إلخ..

* لنعد إلى نشاطك في المعهد.. يبدو أن الاحتفال بتنظيم المعارض قد صرفك عن مهنة النقد الأدبي التي كتبت في مجاله عشرات وعشرات من الدراسات والمقالات في السبعينات والثمانينات.. 

** هنا أيضاً اتخذ مجال النقد منحىً آخر، فبعد أن أسست مكتبة معهد العالم العربي لتكون المكتبة المرجع في مجال اختصاصها في فرنسا بل وفي أوربا، أسستُ ما يسمى أربعاءات المقهى الأدبي التي هي بمثابة صالون أدبي على الطريقة الفرنسية، أدعو فيها كاتباً من الكتاب الفرنسيين الذين كتبوا في مجال الثقافة العربية أياً كان مجال كتابته، أو كاتباً عربياً بمناسبة ترجمة عمل من أعماله إلى اللغة الفرنسية، وذلك لحوار معي ومع الجمهور يستمر ساعة ونصف وأحيانا ساعتين ونيّف.. ولقد راقت هذه اللقاءات للكتاب وللجمهور معاً، على الرغم من أنني لا أقوم بأية دعاية حقيقية لهذه الجلسات.. ولقد استقبلت فيها على امتداد أكثر من مائتيْ جلسة نظمت حتى الآن سياسيين كباراً من أمثال رئيس وزراء فرنسا السابق بيير مسمير أو أمين عام الأمم المتحدة بطرس بطرس غالي أو وزير خارجية فرنسا الأسبق هوبير فيدرين أو وزير الاقتصاد اللبناني السابق جورج قرم أو وزير الثقافة اللبناني غسان سلامة، مثلما استقبلت الروائي الفرنسي أوليفييه رولان، والمستعرب أندريه ميكيل، والفنان رشيد قريشي والروائيين جمال الغيطاني وحسن داوود وصنع الله ابراهيم وواسيني الأعرج وسواهم من الكتاب والفلاسفة الفرنسيين أو غير الفرنسيين من مختلف بلدان أوربا.. أعني بذلك مدى التنوع في الأشخاص وفي الموضوعات التي طالتها هذه الأربعاءات.. إنه النقد من خلال الحوار الحيّ المباشر مع المؤلف كما تريْن.. 

*  من وكيف يتم اختيار الكتاب والكاتب؟ .. 

** كان هذا النشاط، ولا يزال، مبادرة شخصية لم يخصص لها المعهد أية ميزانية. وبناء على ذلك، وعلى الرغم من أنّه صار يحتل مكاناً متميزاً في نشاطات المعهد، فقد بقي محتفظاً بالطابع الشخصي الذي تميّز به منذ البداية: يجب أن يستوقفني الكتاب بموضوعه أو بطريقة معالجته بصورة قويّة لكي أدعو كاتبه أو كاتبته لجلسة من جلسات الأربعاء.. يتمُّ عرض الكتاب ونقده من خلال الأسئلة التي أطرحها على المؤلف ومن خلال بعض التعليقات التي أقوم بها أحياناً، يشاركني في ذلك جمهور المقهى الذي صار يحضر خصيصاً، وهو جمهور مختلط ينتمي إلى مختلف الفئات الاجتماعية والمهنية مثلما ينتمي إلى مختلف فئات الأعمار.. 

*  لكنك أيضاً بادرت إلى نشاط آخر يتعلق بالشعر.. 

** استقبلت في أربعاءات المقهى الأدبي عدداً من الشعراء العرب والفرنسيين في مناسبات مختلفة.. لكني حين أنشأت ما يسمى الآن بمدينة معهد العالم العربي، وهو فضاء صُمِّمَ ليوحي بجوِّ مدينة عربية، أو سوق في مدينة عربية، خصصت مقهى أطلقت عليه مقهى أبي نواس، احتفالاً بالشاعر الكبير. وهو ما حملني على أن أخصّه بما أطلقت عليه أمسيات أبي نواس الشعرية، وهي أمسيات شهرية كلٌّ منها يحييها شاعر عربي، وأحيانا شعراء فرنسيون إلى جانبه، يقرأ فيها أشعاره بالعربية كما تقرأ أشعاره وقد ترجمت إلى الفرنسية من قبل ممثلين فرنسيين.. وذلك كله في صحبة عزف موسيقي على العود أو على آلة موسيقية أخرى..

ذات يوم شارك أحد كبار الشعراء الفرنسيين في إحدى هذه الأمسيات، وهو الشاعر جاك لاكاريير. وكان من إعجابه بالأمسية وبالجو أنه نوى الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين في مقهى أبي نواس بالذات. لم يقل ذلك لي. وإنما قاله لزوجته. لكن الموت عاجله قبيْل بلوغه الثمانين. فحضرت زوجته آنئذ تعلمني بما كان يرغب فيه زوجها.. وهكذا نفذنا هذه الرغبة بأن احتفلنا بعيد ميلاده الثمانين في أمسية شعرية لا تنسى أحياها شعراء عرب وفرنسيون إلى جانب الموسيقيين الذين جاؤوا من تركيا أو من اليونان ليشاركوا في عيد الميلاد هذا الذي أحييناه بعد رحيل جاك لاكاريير ولكن في حضور كثيف رائع لشعره الذي كان والشعراء الحاضرون جميعاً يقرؤونه، يملأ المكان والفضاء بحضور الشاعر..


* من هو جمهور هذه الندوات واللقاءات؟ هل يقتصر على العرب

        **
إنه جمهور الندوات في كل مكان في باريس أو في سواها من المدن الفرنسية، أعني أنه لا يقتصر على طائفة دون أخرى ولا على فئة دون أخرى: إننا نجد المتقاعدين إلى جانب الشباب، الفرنسيين إلى جانب العرب، وما أكثر المرات التي كنت ألتقي فيها عدداً من غير الفرنسيين والعرب، أي البلجيكيين والألمان وأحياناً الإيطاليين ممن يتكلمون الفرنسية بالطبع بما أن لغة الحوار هي هذه اللغة.. يأتي الجمهور ليلتقي الكاتب أحياناً، أو لاهتمامه بموضوع الكتاب موضوع اللقاء تارة أخرى، أو للاثنيْن معاً.. الأمر الذي يجعل من هذا الجمهور متجدّداً باستمرار، ومتزايد العدد باستمرار..       

* كما نرى، لقد عشتَ عمراً وأنت تتنقل بين الثقافتين، العربية والفرنسية. إلى أيّ حدٍّ تشعر بأنك بعيد عن الثقافة العربية، وهل تشعر بالغربة وأنت في قلب الثقافة الفرنسية؟  

** إنني لم أبتعد عن الثقافة العربية لحظة واحدة. لا جسداً ولا روحاً. لقد سمحت لي طبيعة عملي أن أزور البلاد العربية كلها إلا واحداً.. لم تسمح الظروف لي بزيارته. ولي علاقات قائمة ومستمرة مع العاملين الأساسيين في المجال الثقافي والفني في مختلف هذه البلدان، كما أنني أتابع قراءة نتاجهم في مجال الإبداع الأدبي والفكري مثلما هو الأمر في مجال الإنتاج السينمائي أو في مجال الفنون التشكيلية.. والزيارات العديدة التي أقوم بها لثلاثة أو أربعة بلدان عربية سنوياً لأسباب متعدّدة تضعني في صلة دائمة مع المناخ ومع الجو اللذيْن تنمو فيهما الثقافة العربية وتتطور.. أتصوّر أنّ مردّ ذلك كله النشأة الثقافية الأساسية التي كانت نشأتي. حين جئت إلى باريس، كنت قد تشبّعت بأصول الثقافة العربية الكلاسيكية والحديثة مثلما كنت على صلة، وإن كان ذلك عن طريق اللغة العربية، بالثقافة الغربية عموماً وبالثقافة الفرنسية خصوصاً. كان عليّ أن أعمّق معرفتي بالثقافة الأوربية من خلال إتقان اللغة الفرنسية إتقاناً يسمح لي مثلاً بقراءة كاتب مثل بروست أو ستندال أو سيلين، لا بل أن أتمكن مثلاً من ترجمة أعمالهم إلى العربية من دون الوقوع في الأخطاء المضحكة التي وقعت فيها كثرة ممن تعرّضوا بجرأة عجيبة لترجمة هذه الأعمال أو ما يماثلها؛ أريد أن أقول إن الهدف كان الوصول إلى فهم مفاصل الثقافة الفرنسية وبدءاً منها تنوعات الثقافة الأوربية حتى يمكن الانتقال بسهولة، ومن دون أي عقد نفسية، بين الثقافتيْن. إن الشرط الأوليّ في أي حوار هو التكافؤ بين الطرفين، ولا يمكن لهذا التكافؤ أن يتواجد بالنسبة للمثقف العربي وعلى صعيده على الأقل ـ لأن الخلل موجود أصلاً على صعيد الثقافتيْن أساساً، ما لم يكن متمثلاً ثقافته العربية في أصولها وفي فروعها.. وواعياً مشكلاتها.. 

*  كيف عاش المعهد ما بعد تفجير مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر؟ 

** استطاع المعهد في سنوات قليلة أن يحتلّ موقعاً يليق بمطامحه في المشهد الثقافي الباريسي والفرنسي، فقد شرط بناؤه الحديث نشاطه وأساليب عمله؛ وحملت رغبة رؤية الجمهور الفرنسي في أرجائه على العمل بطريقة تجذب بواسطتها هذا الجمهور إلى نشاطاته على تنوّعها. ولأنّه لا يقتصر في تعبيره الثقافي على بلد عربي واحد وإنما يعبر عن مختلف الأصوات والنبرات الثقافية في مختلف البلدان العربية فقد اكتسب قدرة وحرية في الحركة ليست متاحة للمراكز الثقافية الخاصة بكل بلد على حدة استخدمها في التوجّه إلى هذا الجمهور وفي التفنن في طرق اجتذابه إلى نشاطات المعهد. وهكذا صار عدد زواره سنوياً أكثر من مليون شخص يترددون على معارضه وندواته وحفلاته وعروضه..

وحين حدث تفجير الحادي عشر من أيلول، نظر الكثير إلى المعهد بوصفه الأداة المثلى للشرح، وللفهم، وللحوار، ولانتزاع الأفكار المسبقة أو التي ولدها ولا يزال يولدها الجهل بالآخر. ليس الغربيون فقط من يجهلوننا، بل نحن العرب أيضاً من يجهلهم. وإذا كنا نتهمهم بأنهم يختصروننا في صيغ ملفقة ومبتسرة لا تعني في النهاية شيئاً، فإن التهمة ذاتها يمكن وببساطة أن توجَّه إلينا.

برزت لدى الفرنسيين بصورة عامة رغبة متلهفة لمعرفة الإسلام والقرآن والتاريخ الإسلامي.. وظهرت بين ليلة وضحاها أسماء لم تكن معروفة من قبل تحكي وتكتب في الإسلام بوصفها خبيرة في الشؤون الإسلامية أو في الإرهاب أو في شؤون العالم الإسلامي ، إلخ، إلخ... في كل يوم تطبع عشرات الكتاب عن الإسلام، لا بل إنّ إحدى دور النشر الفرنسية المحترمة لم تتردّد في أن تنشر كتاباً لأحد المستشرقين يجمع له مقالات كتبت قبل زمن طويل من تفجير مركز التجارة العالمي تحت عنوان يوحي وكأن الكتاب قد كتب لتوّه.. أما برامج الإذاعة ولاسيّما التلفزيون، فحدّث ولا حرج.. وكأنما استعيدت من جديد رؤية الغرب للإسلام إبّان الحروب الصليبية، وكأنما شيئاً لم يحدث خلال قرون عشرة لا على هذه الضفة الشمالية من المتوسط ولا على الضفة الجنوبية منه.. بل إنّ عدداً من المثقفين ذي الأصل العربي أنفسهم ظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم ليبنوا مجداً شخصيّاً فإذا بهم يجارون الموجة ويهرفون حول الإسلام والقرآن بما لا يعرفون، مثلهم في ذلك مثل "خبراء يوم الأحد" كما يطلق على أدعياء الخبرة بالفرنسية الذين تنطعوا للحديث عن الإسلام في كلِّ المحافل..

في وسط هذا الصخب الإعلامي والمتعالم كان يقع على المعهد عبء كبير. حاول القيام به بقدر ما تسمح له إمكاناته وقدراته. فالندوات، والمؤتمرات، واللقاءات لم تتوقف. لكن برنامجاً تلفزيونياً واحداً يمكن أن يراه ملايين من الناس، في حين تبقى إمكانيات مركز ثقافي أياً كان حجمه محدودة بوسائل انتشاره.. وتلك هي المشكلة الأساسية. سوى أن أيّاً من العاملين في المعهد لم يفكر لحظة واحدة أنه سيغيّر الدنيا بين ليلة وضحاها، وكلنا يدرك أن عملنا عملٌ على المدى الطويل، ولا بد من أن يكون طويل النفس..

* وبم أسهمت أنت شخصيّاً في هذا المجال؟ 

** كان إسهامي الشخصي غير مباشر. أعني أنني أعطيت الكلمة لأحد كبار الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين من خلال ترجمتي، وقد أشرت إلى ذلك من قبل، لكلِّ ما كتبه بصدد تفجير مركز التجارة العالمي. بدأت بترجمة مقالته التي تحمل عنوان روح الإرهاب التي نشرت أول ما نشرت في اللوموند ثم ضمّتها بعد ذلك دفتا كتاب، ونشرت الترجمة العربية في صحيفة القدس في لندن وأخبار الأدب في القاهرة وفي مجلة الفكر العربي المعاصر في بيروت. ثمّ ترجمت بعد ذلك مقالاته التالية لها: السلطة الجهنمية: ، قناع الحرب، بورنوغرافيا الحرب، ثمّ جمعت بموافقة المؤلف هذه المقالات والدراسات في كتاب يحمل عنوان المقالة الأولى، أي روح الإرهاب، ونشرتها بين دفتي كتاب لدى المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. كما أنني أعطيت الكلمة لأحد كبار الكتّاب الفرنسيين وهو فيليب روجيه حين ترجمت كتابه الضخم الذي يحمل عنوان العدوّ الأمريكي، دراسة في أصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا. وقد نشر هذا الكتاب أيضاً في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة. 

* كيف يمكن للمثقف العربي أن ينفتح على الثقافة الأوربية من دون أن يذوب فيها؟  

        ** بجملة واحدة: حين يكون مشبعاً بثقافته العربية، متمكناً منها، وفخوراً بها..



(مقابلة كانت الزميلة خولة خلوف قد أجرتها معي في أواخر عام 2006  ولم تنشر)

مقدمة كتاب

"معك"

لسوزان طه حسين 


  

قبل نيِّفٍ وثلاثين عاماً، قام جاك بيرك، المستعرب وأستاذ التاريخ الاجتماعي والحضاري للعالم العربي في الكوليج دو فرانس،  بتخصيص سنتيْن من درسه الأسبوعي لدراسة طه حسين ودوره في تاريخ الثقافة العربية المعاصرة. كانت سنتان قد مضتا على وفاة طه حسين، وكان وقد ارتبط بعلاقة صداقة حميمة معه، يرتبط أيضاً بالعلاقة نفسها مع زوجة طه حسين، سوزان، ومع ابنه مؤنس الذي كان يعمل في اليونسكو ويعيش في باريس على الدوام. وقد كان يبدي في كلِّ مناسبة إعجابه بهذه العلاقة الفريدة من نوعها التي ربطت طه حسين إلى زوجته: مسلم ومسيحية، مصري وفرنسية، عربي الثقافة والانتماء الحضاري وأوربية في ثقافتها وانتمائها.. علاقة استمرّت أكثر من خمسين عاماً نسجها حبٌّ عميق واحترامٌ لا يقلّ عنه عمقاً. وكان أكثر ما يثير إعجابه فيها أنّ هذا الاحترام طال في حياتهما المشتركة حريّة العقيدة؛ فقد كانت مسيحية وبقيت كذلك في رفقة زوج مسلم لا يثنيها عن دينها ولا يحاول. وكان ذلك أمراً لا شديد الندرة بل فريداً في وقته وفي مجتمعه. فاقترح عليها في إحدى زياراتها إلى باريس ولقائها به بعد وفاة طه حسين، أن تكتب تجربتها هذه لتقدم طه حسين تحت أضواء لم يسبق أن سلطت عليه من قبل ولا يسع أحداً أن يقوم بذلك سواها. وأكاد أظنّ أنه أوحى لها بأنهما ماداما كانا يقومان برحلتهما السنوية التي تقودهما في بداية صيف كلِّ سنة من شواطئ الإسكندرية إلى شواطئ أوربا الإيطالية أو الفرنسية، فلتقم على صفحات كتاب بمثل هذه الرحلة، تقول خلالها طه الإنسان والأب والزوج وحياته وعلاقتها معه وعلاقته معها، مستعرضة معاركه وهمومه وأحلامه وأهدافه كاتباً ومناضلاً سياسياً وصحفياً ومربياً وجامعياً وأكاديمياً ووزيراً.. وأخبرها أنها إن كتبت هذا الكتاب فسيقترح عليها أن يقوم بترجمته كاتب سوري لكي يؤكد على البعد العربي لمشروع طه حسين الثقافي، وكنتُ من اقترح بيرك اختياره لهذه المهمة، وأن يقوم بمراجعة الترجمة كاتب مصريّ تقدّمي لكي يؤكد على البعد المستقبلي لهذا المشروع، وكان اختياره قد وقع على الصديق الأستاذ محمود أمين العالم.

ولقد جاء الكتاب فريداً من نوعه شكلاً ومضموناً كما كان يقال في لغة النقد الأدبي الكلاسيكية! فلا هو رواية على امتلاكه كثيراً من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية، ولا هو رسالة حبٍّ حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو أخيراً يوميّات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محدّدة.. وأجرؤ على القول إنّ فيه من كلّ شكل من هذه الأشكال عناصر صنعت فرادته فعلاً وجماله فعلاً وخصوصيته فعلاً.

كان همُّ السيدة سوزان طه حسين أن تتمّ ترجمة الكتاب وأن يُنشرَ بأسرع وقت ممكن لتتمكن من رؤيته يُقرأ في مصر وفيما وراء مصر في العالم العربي. ولم تكن تلق بالاً إلى نشره بالفرنسية، فقد قررت أن القارئ الفرنسي لن يحفل بمثل هذا الكتاب، وإنما القارئ العربيّ هو الأوْلى به. ومن ثمّ فقد وضعت ذات يوم بين يديّ نصّ المخطوط مضروباً على الآلة الكاتبة ومصحّحاً بخط يدها..

ذات يوم..

فقد ضرب لي مؤنس طه حسين موعداً بعد ظهيرة يوم من الأسبوع لا أذكر تاريخه للقاء والدته في بيته في باريس. كنتُ أهاب اللقاء. ها أنذا وقد عشت سنين إطلالتي على الحياة غارقاً في كتب العقاد ومسرحيّات توفيق الحكيم وروايات وكتب طه حسين، هذا الثلاثي الكبير الذي ملأ الحياة الأدبية والفكرية في مصر بل وفي العالم العربي على امتداد عشرات السنين في القرن الماضي، أقول ها أنذا وقد راسلت العقاد وراسلني وحفظت رسالته إليّ عن ظهر قلب ولا أزال دون أن ألتقي به؛ ها أنا وقد التقيتُ توفيق الحكيم في باريس بفضل مبادرة المفكر والأستاذ والصديق أنور عبد الملك وفي داره الباريسية وقضيت بصحبته ثلاث ساعات لا تنسى أمطرته خلالها بكلّ ما تراكم في راسي من تساؤلات وملاحظات حول ما كتبه من روايات ومسرحيات وما أبداه من آراء؛ ها أنذا أجد نفسي في حضرة المرأة التي أحبها طه حسين، والمرأة التي رافقت طه حسين في همومه وهواجسه ومعاركه وأفراحه ورضاه وغضبه، حتى اللحظة الأخيرة.. ها أنذا في حضرة هذه السيّدة التي لم يكتب لي أن ألتقي زوجها بل سمعته ذات يوم عن بعد وهو يلقي محاضرة على مدرج جامعة دمشق الذي كان حافلاً عن بكرة أبيه بكل ما كانت دمشق وقتئذ تضمّه من روّاد في الأدب وفي التاريخ وفي الإسلاميات وفي النقد، تستقبلني بابتسامة مبتهجة. وأعترف ساذجاً بتأثري من هذا اللقاء الذي يُتاح لي مع أقرب الناس إلى عميد الأدب العربي الذي كان يبدو لي مقيماً في سماء عسيرة  المنال. لكن مؤنس ما لبث أن أعلمني أنّ زوجته هي أيضاً حفيدة أحمد شوقي، أمير الشعراء، الذي حفظنا تلامذة وطلبة أشعاره عن ظهر قلب، نحن السوريين، والدمشقيين منهم خصوصاً، عندما انبرى في قصيدته الرائعة يغني دمشق إثر قصف الفرنسيين لها عقاباً لأهلها على مطالبتهم بالاستقلال. أعترف أنني كنت كالطفل الصغير، مبهوراً أمام هذه الأسرة الصغيرة التي رحل عنها من كان سببها وسبب وجودي في دارها الباريسية، تتزاحم في رأسي الذكريات والكتب والمقالات التي كنت أتابعها منذ أن وعيت على القراءة ووقعت على اسمه بين الأسماء التي أغنت قرننا الماضي ومنحته من المعاني ما نفتقد الكثير منها هذه الأيام.

طمأنت السيدة سوزان القلقة من تقدّمها في العمر تخشى أن ترحل عن هذه الدنيا قبل أن ترى هذا الكتاب منشوراً بالعربية التي لم تتقنها على معايشتها عميد أدبها نصف قرن كامل. أصرّتْ أن ينشره آنئذ الناشر الذي نشر كتب زوجها، لا الذي[1] كان يودّ لو فعل وأراد بهذه المناسبة أن أتحدّث باسمه إليها أسألها الموافقة.

وعدتها أن أنهي ترجمة الكتاب في أشهر معدودات. ولقد فعلت. وقام الأستاذ محمود أمين العالم بمراجعة الترجمة. وأشرف على متابعة النشر عن كثب الدكتور محمد حسن الزيات، زوج ابنتها ووزير الخارجية المصرية في ذلك الوقت. وصدر الكتاب في طبعته الأولى عن دار المعارف في القاهرة، وأرسلت لي السيدة سوزان طه حسين أول نسخة منه سعيدة مبتهجة برؤيتها الكتاب منشوراً.

فوجئت إذ وصلني الكتاب أن الغلاف لا يحمل اسم المترجم ولا المراجع. و لا كذلك صفحة العنوان الأولى. لكن الصفحة التالية كانت تحمل في أسفلها وببنط شديد الصغر إسميْنا. لم ير الناشر وقتها ضرورة وضعهما كما جرى العرف لا على صفحة الغلاف الخارجي ولا على صفحة الغلاف الداخلي. وحين نشرت الفصول الأولى من الكتاب مقتطفات في العدد الأول من مجلة أكتوبر، تمّ أيضاً تغييب اسم المترجم والمراجع معاً حتى أن مجلة عربية أسبوعية كانت تصدر في باريس نوّهت بذلك تحت عنوان طريف: "الوحدة السورية المصرية تعود من خلال تغييب اسم المترجم والمراجع في كتاب ـ معك ـ لسوزان طه حسين" أو شيء من هذا القبيل.


يقال: ربّ ضارّة نافعة! والحق أن  محاولة التغييب هذه دفعت القراء للبحث عن الاسميْن. وما أكثر الذين كسبتُ صداقتهم في مصر وودّهم بفضل هذه الترجمة التي لم تجد كما كان جاك بيرك يتمنى ومعه سوزان طه حسين طريقها إلى قراء العربية في أقطار الوطن العربي في مشرقه ومغربه.  


تلك قصة هذا الكتاب الذي يجده القارئ بين يديْه مجدداً بفضل رغبة العديد من الأصدقاء وعلى رأسهم الأستاذ الدكتور جابر عصفور الذي يتابع بجهد وأناة وبصيرة وسعة أفق ما كان طه حسين قد دعا إليه وبدأه: الانفتاح على العالم أجمع من خلال التواصل الثقافي والحضاري عبر الترجمات والتبادلات والحوارات. لا أريد أن أعلق عليه. ولا على ما جاء فيه. للقارئ أن يعيد التعايش مع مرحلة من تاريخ مصر عبر حياة واحد من كبار أبنائها عاشها مفجراً كل لحظة من لحظاتها إبداعاً ونتاجاً ومشاركة حثيثة في هموم مجتمعها وهواجسه وتطلعاته وآماله. وللقارئ الشاب بوجه خاص أن ينعم النظر في ما سيقرأ: قصة وسيرة مثلٍ في فنّ الحياة، يسعه إن شاء أن يبحث ولو أعياه البحث عن مثيل له في أيامنا هذه.


باريس ـ القاهرة،  18 نوفمبر 2008



[1]    كان الدكتور سهيل إدريس، مؤسس وصاحب دار الآداب في بيروت، وكنت مراسلاً في باريس للمجلة التي يرأس تحريرها، الآداب، قد علم بالمشروع وطلب أليّ أن أعرض على السيدة سوزان طه حسين أن يكون هو من ينشر الكتاب.

الترجمة والتبعية

أم الترجمة والاستيعاب؟[1]


                                                              بدرالدين عرودكي



من المؤكد أن ما يحملنا على الظن بشبهة التبعية في مجال الترجمة وضع استثنائي عاشه العالم العربي في القرن الماضي ولا يزال يعيشه في مستهل القرن الحالي، وضع أكدته في السنوات الأخيرة تقارير المؤسسات الأممية والدولية الخاص منها والعام، وتجلى في ضعف الإقبال على الترجمة والكتابة والنشر فيه على خلاف ما يبدو ظاهرياً بالمقارنة مع أمم وثقافات مشابهة بعضها أقرب إلينا من البعض منا.

وهو وضع استثنائي في حياة الأمم بامتياز: فقلما تعثرت نهضة ثقافة مثلما تعثرت ولا تزال تتعثر نهضة الثقافة العربية منذ أكثر من قرن ونصف. وقلما شعرت أمة بثقل دونيتها نحو ثقافة أخرى، مثلما شعرت ولا تزال تشعر به الأمة العربية إزاء الثقافة الغربية. ولأنّ خط التقدّم انتقلَ، كما لاحظ ابن خلدون في زمنه منذ نيّف وستة قرون، إلى شمال البحر المتوسط فمن الطبيعي إذن، كما يقول البعض، أن تكون ترجمة  مبدعات هذه الثقافة تحمل على خلق شعور بالانصياع، أو بالتبعية. لاسيما، كما يقول البعض دائماً، وأن لذلك أسبابه المادية التي تجلت على مدى عقود القرن الماضي في تمويل إنشاء مؤسسات ثقافية محلية وتحديد خياراتها في ما تنشره من كتب وخصوصاً في عاصمتي النشر العربي القاهرة وبيروت. لاسيما أيضاً وأنه لا تزال مؤسسات ثقافية أجنبية تشجع بالتمويل على ترجمة بعض الكتب التي ترغب في الترويج لها إلى اللغة العربية أو أنها تحض، بالتمويل أيضاً، على ترجمة بعض الأعمال الأدبية العربية دون سواها إلى اللغات الأجنبية على الرغم من فقر مبرّرات الخيارات التي تقوم بها في هذا المجال، لكن الأسباب، يقولون،  واضحة في كلا الحاليْن.

على أنّ الأمر يتجاوز هذه التبسيطات. إلى حدٍّ بعيد. ولا بدّ لاستقرائه من العودة إلى أصول المشكلة والإشكالية معاً، تعريفاً وتوصيفاً وتاريخاً، قبل الاستنتاج والتقويم.

إذا كانت الترجمة وسيلة اتصال فهي أيضاً قراءة. بالمعنى الأصولي للكلمة. ومن ثمَّ، فقد وسمت الترجمة ـ القراءة التاريخ في ميادينه على اختلافها: تاريخ الأمم مثل تاريخ ثقافاتها جميعاً، على الأقل، نظراً لامتلاكنا الوثائق حول ذلك، منذ أن عرف الإنسان الكتابة. ذلك أن الترجمة أساساً ليست إلا وسيلة ربط بين طرفين يقوم بينهما حاجز اختلاف لغتيهما. ومن ثمَّ تقوم وظيفة المترجم على إنشاء صلة الوصل بين هذين الطرفين بفعل إتقانه للغتيهما معاً. ويتيح له قيامه بهذه المهمة الوصل، والربط، وإنشاء العلاقة بين الطرفين اللذين كانا سيبقيان لولاه منفصلين، يجهل كلٌّ منهما الآخر، وربما بقيا عدوّيْن بسبب جهل أحدهما بالآخر على وجه الدقة. ومن البدهيّ أيضاً أنّه إن أتاح عمل الترجمة تسهيل التعارف والتبادل فإنه يمكن أيضاً أن يسبِّبَ سوء تفاهم قد يؤدي إلى نتائج تزداد أهميتها أو خطورتها بقدر أهمّية أو خطورة موضوع العمل المترجم.

لو تمّ الانطلاق من هذه البداهة من أجل تشخيص وضع تاريخي ما لأمكن على وجه الاحتمال إعادة الأمور إلى نصابها في ما يتعلق بقضية التبعية في الترجمة. ولن يكون هذا الوضع التاريخي إلا ذلك الذي يخصُّ العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية بأوسع معانيهما. على أنَّ استعادته لن تكون إلا على سبيل الإشارات السريعة المتصالبة تمهيداً لمناقشة الموضوع الذي يعني هذه السطور: التبعية والترجمة.

ومن المهمّ البدء من بعض الجذور وأهمّها، في القرن الثامن الميلادي، والمتمثل في ترجمة الفكر الفلسفي اليوناني إلى العربية. كان المشروع الحضاري العربي في مرحلة البناء. وما كان لأصحابه، كأيّ مشروع طموح، أن يتجاهلوا مَنْ حولهم من الأمم التي سبقتهم. هكذا فعل النبيّ العربيّ عندما استعاد ثقافة العرب وحضاراتهم السابقة كلها وحضارات من حولهم من الشعوب والقبائل ليحقق التجاوز التاريخي المتمثل في حضارة الإسلام. وهكذا سيفعل الخلفاء من بعده، ولاسيما العباسيون منهم، حينما أطلقوا العنان لعلمائهم ولمفكريهم كي يترجموا آداب الأمم الأخرى وفلسفاتها. عرف بيت الحكمة البغدادي آنئذ حملة منظمة تحت رعاية سلطة الدولة لترجمة كتب فلاسفة اليونان وعلمائهم. ولم يخلُ ذلك من سوء تفاهم أو فهم. إذ على إطلاقِ هذه الترجمات حركةً فكرية وإبداعية في مجالات اللغة والعلوم المحضة والفلسفة، وهي حركة استمرّت شديدة الحيوية حتى القرن الخامس عشر، فإنّ عدم فهم[2] معاني المآسي والهزليات أدّى، على سبيل المثال، إلى تأخر ظهور المسرح في الثقافة العربية  أكثر من أحد عشر قرناً.

لكن الغرب وقد انتقلت حركة البناء إليه من الجنوب طفق، هو الآخر، يهتمّ بثقافة العرب فبدأ أول ما بدأ في ترجمة القرآن التي نعرف اليوم أنها تمّت للمرة الأولى في القرن الثاني عشر وإن لم تنشر إلا في القرن السادس عشر[3]. وبخلاف ما كان العرب يتطلعون إليه من إطلاق حركة الترجمة التي قاموا بها في القرن الثامن، فإن الغرب، ومن خلال ممثلي الكنيسة التي كانت سلطة الحكم الأولى آنئذ، كان يتطلع إلى تعليل وتأسيس استنكاره وإنكاره للعقيدة التي كان أصحابها قد عادوا أو يعودون إلى أوربا من شرقها بعد وصولهم إليها واستقرارهم ثمانية قرون في أقصى غربها. لكنّ جهود الفهم والاستيعاب التي قامت بها حركة الترجمة العربية قد بدأت تجد صداها، على الطرف المقابل وفي حركة عكسية، في الغرب اعتباراً من القرن السابع عشر. هكذا ترجمت أعمال كبار الفلاسفة والموسوعيين العرب انطلاقاً من الأندلس إلى اللغة اللاتينية. وكان بيت الحكمة البغدادي يُستعاد بيوتاً عديدة في ليدن وموسكو وبرلين وباريس ولندن.  من أجل الفهم قطعاً. ومن أجل الاستيعاب. ذلك أنَّ إشكالية الفتوحات العربية الصاعقة شرقاً وغرباً اعتباراً من القرن السابع قد شغلت الغرب قروناً وربما لا تزال. مثلما أن إشكالية تقدم الغرب شغلت ولا تزال تشغل العرب منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، وتدعوهم إلى الفهم وإلى الاستيعاب. ذلك ما يفسّر الإقبال على الترجمة  كلما همَّ مشروع نهضوي بالبدء، منذ دولة محمد علي في مصر وانتهاء بالمشروع القومي العربي في بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وإلى محاولات النهوض المتعثرة اليوم التي تأخذ أشكالاً وصيغاً مختلف ألوانها.

هكذا، على تشابه أو تنافر التجربتين العربية والغربية في الظروف التاريخية والسياسية التي أحاطت مشروعات الترجمة فيهما على امتداد القرون، لم يكن الهمّ فيها إلا همّ معرفة الآخر. ولا يمكن بالطبع أن نستبعد من هذا الهمّ هدفاً أو أهدافاً تتعلق بالسيطرة أو الهيمنة. كان العرب في القرن الثامن يترجمون ليستوعبوا الثقافات التي سيطروا على شعوبها أو يهمون بالسيطرة عليها. وكان الغربيون يترجمون ليفهموا أولاً ثم ليستوعبوا من بعدُ قبل أن يتجهوا للهيمنة. على أنّ التبعية، وقد وجدت في الحالتين، لم تكن إلا تبعية سياسية. كانت في وجود المقاومة القومية الدائم ومنذ أقدم العصور، تحت الإرغام والهيمنة بالقوة. وبعبارة أخرى، لم تأتِ التبعية نتيجة الترجمة بقدر ما أتت نتيجة علاقات القوى المادية بين أمتين أو شعبين. فالصلة التي يُراد إقامتها بين الترجمة والتبعية صلة فاسدة من الأساس إذا كان يُراد أن يُفهم منها أن ترجمة ثقافة ما إلى لغة ثقافة أخرى سيؤدي بهذه الأخيرة إلى أن تكون تبعاً للأولى. ولا يكفي للتدليل على هذه التبعية بما يُقدَّمُ من أدلة تتمثل في تمويل المؤسسات لنشر ما يعتبر كتباً "مشبوهة" أو سوى ذلك. فليس من شأن ترجمة الكتب ونشرها أن تؤدي إلى التبعية إذا لم يكن حتى بوسع العمل العسكري العنيف المتمثل في الاحتلال والاستيطان أن يؤدي إلى ذلك. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. ولنضرب واحداً منها له معانيه التي يمكن أن تمتد لتشمل ثقافات وفضاءات أخرى. في كتابه العدو الأمريكي، أصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا، يحاول فيليب روجيه أن يبيّن أنه فيما وراء العلاقات السياسية الخارجية بين فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية، وأياً كانت حرارة هذه العلاقات، فإن نزعة معاداة أمريكا تبقى ثابتة في درجتها وفي طبيعتها لدى الفرنسيين. تعود أصول هذه النزعة إلى أكثر من قرنين وهي لا تزال مستمرّة حتى الآن، في حين أن عدد ما يترجم من الكتب الأمريكية إلى الفرنسية ليتجاوز أضعافاً مضاعفة ما يترجم منها إلى العربية. لابل أن تجدر ملاحظة أنّ "بريطانيا العظمى، ألمانيا، إسبانيا، إيطاليا، كلها دول خاضت الحرب ذات يوم ضد الولايات المتحدة الأمريكية. أما فرنسا فلم تخض ضدها حرباً على الإطلاق. لكن ذلك لا يحول دونها، كما ذكرنا بذلك ميشيل فينوك إثر الهجوم على مركز التجارة العالمي، ودون أن تكون البلد الذي " كانت فيه نزعة العداء المضادة لأمريكا ولا تزال شديدة الحدّة . ثمة مفارقة عنيفة تجعل من النزعة الفرنسية في معاداة أمريكا  دفعة واحدة لغزاً تاريخياً وثقافياً. ما السبب في أننا معادون لأمريكا على هذا النحو؟ يجدر طرح هذا السؤال لاسيما وأن نزعة معاداة أمريكا هذه تتجاوز مجرد علاقتنا الحقيقية أو الخيالية بالولايات المتحدة الأمريكية"[4].  

ذلك مثل نادر إن لم يكن مثلاً فريداً في تاريخ البشرية. إذ مع غياب الحروب والاحتلال، ومع وجود كلّ ما يمكن أن يغري في ما يسمى بالتقدّم التكنولوجي والعلمي الأمريكي، وبسعي أمريكي حثيث منذ نهاية الحرب العالمية الأولى في بدايات القرن الماضي لنشر الثقافة والقيم الأمريكية، لم يكن ثمة أثر يستحق الذكر في ما يمكن اعتباره شبهة تبعية ما لدى الفرنسيين إزاء الأمريكيين.

مثلٌ آخر من عالمنا العربي، ومن فلسطين على وجه الدقة، حيث ندر كذلك أن وجدت في تاريخ البشرية محاولة لمحو الذاكرة والتاريخ والأسماء والدلالات مثلُ تلك التي يشهدها العالم بلا مبالاة في قلب العالم العربي. لا يستطيع أحد أن ينكر أنَّ عنف وشراسة هذه المحاولة قد أنتج على وجه الاحتمال تبعية على الصعيد السياسي والإداري، لكنه لم يستطع الحيلولة دون وجود فكر وأدب عربي يرد على محو الذاكرة بإبداع الأدب (حافظ الذاكرة وضمانها أمام الزمان وأمام التاريخ)، وعلى محو التاريخ بابتكار تاريخ نقيض. وما كانت التبعية السياسية التي فرضتها علاقات القوة لتحول دون تواجد روائي كإميل حبيبي وقاص كتوفيق فياض وكشاعر كمحمود درويش أو سميح القاسم، وليس هذا إلا غيض من فيض. من الواضح أنّ الترجمة ليست هي المعنية هنا بل ما هو أشدّ وأعتى، قوة الهيمنة العمياء التي تعمل في وضح النهار على المحو، لا على التبعية فحسب.

لذلك، ليس بالوسع العثور على مثل واحد في تاريخ الثقافات الإنسانية يمكن أن يحمل بصورة جدّية على ربط الترجمة بالتبعية أو إقامة صلة ما بين هاتيْن العمليتيْن. إذ تبقى الترجمة خطوة واعية أياً كان ضعفها أو كانت كثافتها تقوم بها ثقافة ما في حركة منها نحو ثقافة أو ثقافات أخرى، تلتمس بها التعرف، والاكتشاف، والاغتناء، وتوسيع الآفاق. ولئن استخدمت الترجمة في بعض اللحظات التاريخية، أداة بين أدوات عدّة لتسهيل أو توطيد هيمنة وسلطة قوة ما على شعوب قهرت بقوة السلاح، فلا يجب أن يقودنا ذلك إلى أن نستنتج أن الترجمة والتبعية طرفان في معادلة صحيحة. لا حاجة إلى التذكير بما كان ابن خلدون يقوله عن تبعية الضعيف للقوي. إذ المسألة مسألة علاقة قوى بين اثنين أحدهما يهيمن على الآخر. ولا بدّ في هذه الحالة من أن يُعاد النظر كلياً في المعادلة التي يُقدَّمُ طرفاها على أنهما الترجمة والتبعية.

من الواضح أن التاريخ يقدم أمثلة كانت الترجمة فيها على الدوام أداة حوار وتعارف واغتناء واستيعاب، أياً كان الطرف الذي يترجم منه أو إليه قوياً أو ضعيفاً. لم تكن أوربا، عندما ترجمت عيون التراث العربي وأنشأت أجيالاً من المختصين بهذا التراث على أصعدة اللغة والتاريخ والدين والفلسفة والعلوم على امتداد أكثر من قرنيْن، تهدف إلى أن تجعل من نفسها تابعة لمن أنتج وأبدع هذا التراث. كان هذا الأخير بالنسبة إليها اكتشافاً حاولت الاستفادة منه إلى أقصى مدى: ألم تكن كتب ابن رشد تدَرّس في الكوليج دو فرانس وفي السوربون كمادة أساسية حتى نهاية القرن التاسع عشر؟ وكم عدد من وهبوا حياتهم لدراسة هذا التراث وترجمته مقارنة مع عدد الذين فعلوا الأمر نفسه في العالم العربي نفسه؟ وهل كان يمكن لولا هذه الترجمات أن يكتب لامارتين كتابه عن حياة محمد أو أن ينظم فيكتور هوغو في نبيِّ الإسلام قصيدته الشهيرة أو أن يكتب جوته ديوانه الشرقي الشهير للشاعر الغربي؟ ربما ساعدتها الترجمة بما هي أداة لفهم الآخر في بسط هيمنتها عليه. ومن ثمّ يمكن الحديث عن الترجمة والهيمنة. مثلما يمكن الحديث أيضاً عن الترجمة والمعرفة، أو عن الترجمة والحوار، أو عن الترجمة والاستيعاب. لكن الحديث لا يستقيم بأيّ حال عن الترجمة والتبعية. ذلك أن هذا الأخير لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الانغلاق على الذات خوفاً أو هرباً أو ضعفاً.

إنَّ الأمثلة التي تضرب للبرهان على علاقة الترجمة بالتبعية، ولاسيما منها تلك التي تشير إلى تمويل الترجمة وبعض المؤسسات العاملة في حقلها من بعض ممثلي القوى المُهيمنة، لا تبرهن على شيء آخر غير أنّ هناك من يحاول التشجيع بالمال وبالعتاد على نشر قيمه وقيم ثقافته وحضارته. كان ذلك شأن الجميع ولا يزال. إنَّ الربط بين الترجمة والتبعية في عصر باتت فيه الصورة المبثوثة من أبعد القارات تصل إلى غرف نوم كلّ إنسان على وجه الكرة الأرضية يفتقر إلى الجدّية التي لابدّ وأن يتسم بها الحديث عن حوار الشعوب والثقافات والحضارات.

يكفي أن ننعم النظر في مشهد الترجمة اليوم بين مختلف الثقافات واللغات: يستطيع اليوم من يقرأ الفرنسية أو الألمانية أو الإنجليزية أو الروسية أو اليابانية أن ينعم بقراءة الأعمال الكاملة لهذا الروائي أو لهذا المفكر أو ذاك من الثقافات الأخرى. بذلك يتجاوز عقبة اللغة، لأن لغته تضع بين يديه تراث العالم. وليس من قبيل الصدفة على سبيل المثال أن تحمل أشهر سلسلة أنشأتها منذ عشرينات القرن الماضي أكبر وأعرق دور النشر الفرنسية اسم من العالم كلهDu monde entier ، وأن تخصص لدى دار النشر نفسها منذ ثلاثينات القرن العشرين سلسلة فاخرة تحمل اسم الكوكبةLa Pléiade   لطبع الأعمال الكاملة لكتاب وفلاسفة الثقافات شرقيها وغربيها في طبعات محققة ومدروسة يقوم بها علماء ومحققون كرسوا قسطاً كبيراً من حياتهم العلمية لهذا الكاتب أو لهذا المفكر أو ذاك. على أن من يقرأ العربية وحدها لا يزال شديد البعد عن زميله قارئ واحدة من اللغات التي أشرنا إليها. لا بل إن طلاب الفلسفة الذين حملوا إجازتها من الجامعات العربية على اختلافها لم يقرؤوا حتى وقت قريب فيلسوفاً غربياً واحداً في نصّه الأصلي باللغة العربية. ترجمات متناثرة قامت بها مؤسسات مستنيرة كلجنة التأليف والترجمة والنشر في القاهرة التي كان وراء تأسيسها طه حسين، أو تلك التي أشرفت عليها جامعة الدول العربية في لحظة قصيرة لم يكتب لها الدوام وتحت إشراف طه حسين نفسه، أو بعض الأعمال التي ساعدت منظمة اليونسكو على ترجمتها في لحظات هي الأخر لم تتكرر، وسواها كذلك ممن كان بمبادرة من  بعض العلماء أو المفكرين الذي لا حول مادياً لهم ولا قوة مالية للقيام بمشروعات يكتب لها طول العمر ودوام الإنتاج.

لن يكون البحث في معادلات مثل معادلة الترجمة والتبعية ناجعاً إن كان يستهدف التنبيه أو التحذير أو التخويف من مغبّة بعض الترجمات التي تمولها مؤسسات أجنبية أو عمل بعض المؤسسات المحلية التي تمول منشوراتها ذات المؤسسات أو سواها. فلا بدَّ لجهد الترجمة من أن يطال كل شيء من ميادين العلم والمعرفة حتى ولو كان بل وخصوصاً إذا كان معادياً. وأنجع أن يستهدف الجهد بالدراسة والتحليل والتمحيص ما ينشر ترجمة من أجل تعميق المعرفة وإخصابها بصورة نقدية.

ولن يكون البحث في معادلات مثل معادلة الترجمة والتبعية ناجعاً إلا إذا كان يستهدف الحيلولة دون أيِّ انفتاح على العالم، وإنكار القدرة النقدية والاستيعابية لدى ثقافة عرفت كيف تجتاز العصور صعودا وهبوطاً بلا هوادة مثلما تقدم فلسطين الآن ومثلما قدمت الجزائر من قبل ومثلما قدم العالم العربي بأكمله على امتداد أكثر من أربعة قرون عثمانية المثل الأمثل على فساد هذه المعادلة التي يُراد لها أن تقوم بين الترجمة والتبعية.

الإنسان عدوّ ما يجهله. وفي عالم بات إلى وقت قريب قرية لا تستطيع أيّ ثقافة مهما فعلت أن تنطوي على نفسها تحت طائلة الموت البطيء أو السريع. كل ثقافة عريقة قادرة على أن تهضم ما ينتقل إليها إن استقبلته بالفهم وبالنقد. وعلى سوء الوضع العربي سياسياً وحضارياً في عصرنا هذا، لا تزال الثقافة العربية قادرة على الهضم وعلى الاستيعاب وعلى النقد. ولا تزال على تشاؤم هؤلاء وأؤلئك قادرة على الإبداع والإخصاب.


                                                       باريس ـ القاهرة، نوفمبر 2009


[1]   نص مداخلة قدِّمت في المؤتمر الذي نظمه المركز القومي للترجمة ومؤسسة سلطان العويس في القاهرة (تشرين الثاني/نوفمبر 2009) حول الترجمة وتحديات العصر.
[2]   هذا إذا قبلنا فرضية عدم فهم المترجمين الأوائل لمعنى المأساة والملهاة. إذ أني أميل إلى الظنّ بأن ما حال دون ترجمة المسرح اليوناني في صورتيْه المآسي والهزليات، لم يكن عدم الفهم بقدر ما كان رفض المترجمين للطابع الوثني الذي يسم المآسي بوجه خاص ولما ينطوي عليه المسرح اليوناني من تواجد الآلهة (بالجمع) على خشبة المسرح بصورة أو بأخرى.  
[3]   عمل الأب بيار لو فينيرابل Pierre Le Vénérable، كاهن كلوني، على ترجمة القرآن إلى اللاتينية في عام 1141 وانتهت الترجمة في عام 1143، وساعدته على إنكار العقيدتين اليهودية والإسلامية في كتبه التي ألفها في ما بعد، لكنها لم تنشر إلا في عام 1543 حين تطور الاهتمام بالإسلام بعد تقدم الأتراك في أوربا، وخصوصاً أن الطبع صار متاحاً بفعل وجود المطبعة اعتباراً من عام 1450.
[4]   انظر فيليب روجيه، العدوالأمريكي، أصول النزعة الفرنسية المعادية لأمريكا، ترجمة بدرالدين عرودكي،  المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2005، ص. 13.