لقاء
مع بدرالدين عرودكي
* بدأت نشاطك الثقافي كاتباً وناقداً في مجال الأدب
والمسرح والسينما، ومع أنك تابعت هذه الاهتمامات في السنوات الأولى من وجودك في
فرنسا إلا أنك بدوت وكأنك تخليت عنها منذ بداية عملك في معهد العالم العربي في
باريس..
** لم يكن هناك أيّ تخلٍّ على الإطلاق. لكن الأمور سارت
في منحىً آخر أو لنقل إنها أخذت صورة أخرى. صحيح أنني بدأت ناقداً أدبياً ولاسيّما
في مجال الرواية والمسرح وفي النقد السينمائي، وكذلك في ترجمة الأعمال الأدبية إلى
اللغة العربية، ولقد كتبت عشرات المقالات والدراسات في هذه المجالات مثلما ترجمت
عدداً من الأعمال الأدبية كقصيدة الحدّاد لرامبو وقصة الغرفة
السرّية لآلان روب غريّيه، إلا أنّه كانت لي إلى جانب ذلك هواية أخرى موازية
هي ما يطلق عليه التنشيط الثقافي. ولقد تمثل ذلك في تحمّلي مسؤولية رئاسة النادي
السينمائي بدمشق الذي نشط بصورة خاصة في عامي1971 و1972 على صعيد المدينة كلها،
فقد بلغ عدد أعضائه آنئذ عشرة آلاف عضو مسجل، كما أنّه قدم مجموعة من أهم الأفلام
السينمائية العالمية ودعا إلى دمشق واحتفل بأعمالهم عدداً من كبار السينمائيين:
بييرو باولو بازوليني، وأندريه فايدا، وجاك تاتي.. أريد أن أقول، كما لو أنّ عملي في دمشق في
نهاية الستينات وبداية السبعينات كان يستبق ما سأقوم به في بداية الثمانينات في
باريس، وخاصة منذ أن استلمت عملي في معهد العالم العربي في باريس في نهاية عام 1983.. لكني قبل ذلك في باريس،
كنت أكتب وأراسل المجلات الثقافية العربية وخاصة مجلة الآداب في بيروت في
السبعينات، ومجلة المعرفة في دمشق التي كنت أكتب فيها ولاسيّما عندما كان رئيس
تحريرها القصّاص الكبير زكريا تامر.. وأمين تحريرها الناقد خلدون الشمعة..
* ما الذي حملك على البقاء في باريس والعمل في معهد
العالم العربي؟
** لم أكن أنوي البقاء في باريس على الإطلاق. سببان
متضافران ومتوازيان في القيمة حملاني على اختيار البقاء: أولهما أنني أدركت أن
التعليم الجامعي في مجال علم الاجتماع، وهو الاختصاص الذي توفرت عليه في دراساتي
العليا في جامعة باريس، كما حلمت أن أمارسه لم يكن من الممكن أن يُتاح لي في جامعة
دمشق آنئذ، ولا سيّما في مجال علم الاجتماع. أقنعني بذلك حديث دار بيني وبين
أستاذي المرحوم الدكتور بديع الكسم الذي كان أستاذ الفلسفة الحديثة في كلية
الآداب، خلال زيارتي له أثناء دراستي، في دمشق، في أواخر السبعينات، أي قبيل
مناقشتي لرسالة الدكتوراه في جامعة باريس. أما السبب الثاني فكان قبول ابنتي، ولم
يكن لها من العمر إلا أحد عشر عاماً، في المعهد القومي العالي للموسيقى في باريس
لدراسة عزف البيانو، وكانت الأولى بين 253 مرشحاً تقدّموا لكي يتمّ اختيار أحد عشر
تلميذة وتلميذ منهم فقط. لم يكن بوسعي تركها في باريس لوحدها، كما لم يكن من
الممكن أن أتخلى عن هذه الفرصة التي أتيحت لها ولم تتح لغيرها من الفتيات العربيات
من قبل أبداً، فكان أن قررت البقاء في باريس ولاسيّما بعد أن رفضت وزارة التعليم
العالي آنئذ منحي إجازة للبقاء في باريس لمدّة محددة..
* هل كنت تعمل آنئذ في
معهد العالم العربي؟
** جاء العمل في المعهد بعد ذلك بسنتين. الحقيقة أنني لم
أكن أعرف ما الذي كنت سأفعله على الصعيد المهني. فكرت في العمل في جامعة باريسية
أو في مدن فرنسا الأخرى وقدّمت ترشيحي للعمل في بعض منها. كان المعهد قد تأسس في
عام 1980، ولم يبدأ العمل الحقيقي إلا في عام 1981/1982، بعد انتخاب فرنسوا ميتران
للرئاسة واختيار المكان الحالي لبناء مقر المعهد الذي كان بناء على اقتراح جاك
شيراك الذي كان آنئذ عمدة مدينة باريس. وفي أيار 1983، عرض عليّ رئيس المعهد آنذاك،
الأستاذ فيليب آردان، العمل في المعهد، وبدأت العمل في الأول من كانون الأوّل
1983، كرئيس مساعد لمديرية التنشيط الثقافي.
* وتخلّيت عن الكتابة!
** أبداً.. عن الكتابة أبداً، عن النشر، نسبياً. كان من
المفروض أن أبدأ عملي في معهد العالم
العربي في بداية شهر تشرين الأول كما طلب مني آنئذ رئيس المعهد، لكني اعتذرت
طالباً أن أبداً العمل في بداية شهر كانون الأول، لأنني في تلك الفترة التي كنت
أفاوض فيها من أجل عملي في المعهد، كنت، في الوقت نفسه، أعمل إلى جانب الأستاذ
بلال الحسن من أجل تأسيس مجلة اليوم السابع التي صدر عددها الأول في
بداية تشرين الأول 1983. كان بلال الحسن يريد أن يعهد إليّ بالقسم الثقافي في
المجلة، لكنني وجدت نفسي بحكم الضرورة مضطراً إلى أن أتحمّل أعباء العمل الإداري
اللازم لإدارة مجلة عربية تصدر في باريس. مما جعله يصرف النظر هو الآخر عن اقتراحه
الأولي. على أنني لم أتأخر عن الكتابة كلما سنحت لي الفرصة في الصفحات الثقافية في
اليوم السابع، مثلما أنني ساهمت بدعوة كبار كتابنا للمشاركة في المجلة من أمثال
محمد عابد الجابري وأنور عبد الملك وهشام جعيط والطاهر بن جلون إلى جانب الكتاب
الطبيعيين للمجلة كالمرحوم إميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم.
* أي أنك كنت تعمل في آن واحد في
معهد العالم العربي وفي مجلة اليوم السابع؟
** في مجلة اليوم السابع واعتباراً من أول تشرين الأول
1983 عملت مديراً للمؤسسة التي تصدرها والتي كنا أطلقنا عليها اسم "الأندلس
الجديدة" ـ برنامج كامل كما ترين! ـ ، أما في معهد العالم العربي، فقد كان
الإعداد للانتقال إلى مقر المعهد القائم حالياً والذي وضع حجر أساسه في اللحظة
نفسها التي بدأت فيها العمل في المعهد، أي
في كانون الأول 1983، وكان من نصيبي أن أعدّ للنشاطات الثقافية المرافقة للافتتاح.
* وما هي النشاطات التي أعددتها
وتمّ تنفيذها؟
** كان من المفروض أن يتمّ افتتاح المعهد
في عام 1986، لكن المصاعب المالية (منذ ذلك الوقت!) استدعت تأجيل الافتتاح حتى عام
1987. ومن ثم اضطررنا إلى تأجيل كلِّ ما
أعددنا له من نشاطات. منذ البداية، انصبّ اهتمامي على أن تكون النشاطات الثقافية
التي أنظمها أو أقترح تنظيمها جسوراً بين الثقافة العربية والثقافة الفرنسية
خصوصاً والأوربية عموماً. وبوسعك أن تلاحظي أنني لم أخرج عن هذا الخط أبداً في
كلِّ ما حمل اسمي من نشاط. كان من نصيبي أن أعدّ لمعرض عن اليمن، وندوة عن "وجود
الثقافة العربية في فرنسا"، وندوة أخرى كانت اقتراحي الشخصي عرفت باسم
"الإبداع الروائي اليوم، لقاء الروائيين العرب والفرنسيين"، إلى جانب
ندوة دولية بالتعاون مع جامعة هارفارد ومؤسسة آغا خان للفنون الإسلامية حول
"تطوير وإعادة بناء الأحياء في المدن الكبرى". ولقد تم تنفيذ هذه
النشاطات كلها، وافتتح الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران بناء المعهد في 30 نوفمبر
1987، واستقبلته عند مدخل القاعة التي أقيم فيها هذا معرض اليمن لأقدمه له. ويومها
كانت فرقة التلفزيون الكويتية التي كان وزير الإعلام الكويتي آنئذ ورئيس الوزراء
حالياً قد أرسلها لاحتفالات افتتاح المعهد قد اصطفت في قاعة الأعمدة في صفين يرسمان
طريقاً اجتازه الرئيس ميتران وأنا برفقته.
أما الندوات الأخرى فقد لاقت نجاحاً
جماهيرياً هائلاً. لقد امتلأت قاعة الندوات في المعهد والتي تتسع لأربعمائة شخص
على مدى ثلاثة أيام كاملة بالحضور لمتابعة أول لقاء من نوعه يحدث بين روائيين عرب
وروائيين فرنسيين.. نخبة من الروائيين من الثقافتين يلتقون للحديث عن الإبداع
الروائي كلٌّ من وجهة نظره ووجهة نظر الثقافة التي ينتمي إليها..
*
والجمهور؟ هل كان عربياً أم فرنسيّاً أم مختلطاً في مثل هذه الندوات؟
** كان مختلطاً. كان هناك الفرنسيون والعرب أو من كان
أصلهم عربياً.. على أن التغطية الإعلامية كانت شديدة الأهمية. على سبيل المثال، لم
تبق صحيفة فرنسية أو أوربية لم ترسل مندوبيها لحضور لقاء الروائيين، لا بل إن
الإذاعات كانت تبث على مدار أيام الندوة الثلاثة التعليقات والمقابلات مع مختلف
الكتاب المشاركين أو الحاضرين..
* هل اقتصر الأمر على المعارض والندوات؟
** بالتأكيد لا. لكني أريد أن أسترعي الانتباه إلى أن
النشاط الثقافي الذي كنا نقوم به كان يوازيه نشاط إعلامي لا يقلّ أهمية عنه. حين
بدأت الإعداد مثلاً للقاء الروائيين العرب والفرنسيين، طلبت إلى جان جاك بروشييه،
الذي كان آنئذ رئيس تحرير مجلة الماغازين ليتيرير المختصة بالآداب والتي توزع من
خلال مشتركيها فقط سبعين ألف نسخة، أن يكون عضواً في اللجنة التنظيمية لهذا اللقاء
وقد قبل بذلك، وسألته في الوقت نفسه إن كان من الممكن العمل على إصدار عدد خاص عن
الأدب العربي المعاصر ينشر في الشهر الذي يعقد فيه لقاء الروائيين، أي في شهر آذار
(مارس) 1988. فقبل على الفور وسألني أن أقوم بالتحضير لهذا العدد حسب منهج المجلة
كرئيس تحرير زائر.. وهذا ما فعلته، حيث صدر عدد هذه المجلة في شهر آذار 1988 يحمل
عنوان الكاتب العربي اليوم، ويقدّم لأول مرة في فرنسا بانوراما
متكاملة وليست حصرية بالطبع للإبداع الأدبي العربي المعاصر في مختلف المجالات
الأدبية. وقد بقي هذا العدد للأسف يتيماً شأن لقاء الروائيين العرب والفرنسيين؛
تلك مسألة يمكن التعرض إليها في مناسبة أخرى. من ناحية ثانية، كانت هناك السينما وكانت هناك أيضاً بدايات نشاط
مسرحي. في مجال السينما، حاولت بصيغة أخرى أن أعيد تجربة النادي السينمائي بدمشق،
فأطلقت على النشاط السينمائي في المعهد اسم سينما معهد العالم العربي الذي صار
باستخدام الأحرف الثلاثة الأولى من اسم المعهد بالفرنسية مع الأحرف الثلاثة الأولى
من كلمة سينما سينِ ـ إيما، وبالدمج "سينما"، وكان النشاط الافتتاحيّ
الذي قمنا به تكريم الممثل الكبير عمر الشريف من خلال تقديمنا نخبة من الأفلام
التي مثل أدوار البطولة فيها سواء منها المصرية أو سواها من الإنتاج العالمي،
الأمريكي أو الأوربي.. وهذا ما دفع وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى وخاصة التلفزيون
ليعلن عن هذا الحدث الذي يقام بمناسبة افتتاح سينما معهد العالم العربي!
أما في المسرح، فقد قام مشروعي آنئذ على أن أعطي الحريّة
(كارت بلانش كما يقولون) لثلاثة مخرجين مسرحيين (كان أحدهم في الواقع مصمم رقصات
باليه ومخرجاً في آن واحد) في العمل على نصوص شعرية لثلاثة شعراء عرب حديثين:
أدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وعبد الوهاب البياتي.. جان لوك بورغ أخذ أشعار
أدونيس، وريناتا سكانت أشعار حجازي، أما وليد عوني فقد أخذ أشعار البياتي.. وقد
كانت نتيجة العمل ثلاثة أحداث مسرحية كبيرة من المؤسف أنها لم تقدم إلا مرّة
واحدة، باستثناء عمل وليد عوني الذي حاز على الجائزة الدولية الثانية المخصصة
لتصميم الرقص الحديث، وقدم ثانية في مدينة أوتريخت بهولندا ضمن إطار تكريم الشاعر
عبد الوهاب البياتي فيها آنئذ..
* لكن ذلك لم يستمرّ.. وفق المنهج نفسه الذي وضعته
لهذه النشاطات..
** صحيح. كنت بالفعل أريد أن أستتبع لقاء الروائيين
الفرنسيين والعرب الأول بلقاء بين الروائيين العرب والأوربيين.. وبدأت الاتصالات
في هذا المجال ولا سيما حين عقد مؤتمر للكاتب في أوربا في مدينة ستراسبورغ في
فرنسا.. لكن إدارة المعهد عهدت إليّ بعد عام واحد من افتتاحه في مقره على ضفاف
السين بمهمات ومسؤوليات أخرى منها مهمة تنظيم المعارض الكبرى، مما أثر على مسار
ونوع النشاطات التي أقوم بها. كان المعرض الكبير الأول الذي نظمناه قد خصص لمصر في
فترات تاريخها الكبرى: الفرعونية القديمة، والقبطية، والإسلامية وحمل عنوان: مصر
عبر كل العصور، وقد افتتح هذا المعرض الرئيس حسني مبارك وحضره آنئذ أكثر
من عشرة رؤساء دول كانوا يتواجدون في باريس في الفترة نفسها للاحتفال بالمائة
الثانية للثورة الفرنسية.. كان ذلك في عام 1989؛ وكنا على وشك الإعداد لمعرض ثان
كبير يحمل عنوان: ملوك وفلاسفة وحرفيّون حول المغرب الأقصى، لولا أن
حالت الظروف آنئذ (وكنا في نهاية عام 1990 وبداية عام 1991) دون تنفيذه.
* ومشروعات الترجمة..
** هناك ما يخصّ المعهد وهناك ما يخصني شخصيّاً. في ما
يخصّ المعهد، كان هناك، قبل انتقال المعهد إلى مقرّه وأثناء الإعداد لهذا
المقرّ، مشروع ترجمة دزينة من الأعمال
الروائية العربية تجلى هدفه في أمرين: الأول ترجمة مجموعة من الروايات العربية
الهامة إلى الفرنسية ونشرها بواسطة ناشر فرنسيّ قادر على توزيعها على نطاق واسع،
والثاني، التوصل من خلال ذلك إلى إثارة اهتمام الناشرين الفرنسيين بالأدب العربي
الحديث بحيث تترجم الأعمال الأدبية إلى الفرنسية بصورة عفوية ويحتل الأدب العربي
مكانه اللائقة به بين الآداب الأجنبية المترجمة إلى الفرنسية وخصوصاً أن يُطبع
العمل الأدبي العربي في طبعات شعبية ليباع في أكشاك الكتب في محطات القطارات!...
كان ذلك في عامي 1983 و1984 حلماً من الأحلام المجنّحة.. عُهِدَ إليّ في المعهد
بالإشراف على سلسلة الآداب العربية التي أنشئت لهذا الغرض بالتعاون مع دار نشر
لاتيس التي كانت مجموعة هاشيت تقوم بتوزيع منشوراتها.. وكان بين من ترجمنا لهم
بشير الخريف التونسي وعبد السلام العجيلي السوري وجبرا ابراهيم جبرا الفلسطيني
ويوسف إدريس المصري .. وثلاثية نجيب محفوظ التي كانت تترجم للمرّة الأولى إلى لغة
غير العربية، أعني اللغة الفرنسية.. وحين حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل في عام
1988، كان عدد الأعمال الأدبية العربية المترجم إلى الفرنسية يكاد يقتصر على ما
تمّ نشره من خلال مشروع معهد العالم العربي إلى جانب عدد من الأعمال المبعثرة
نشرتها آنئذ منشورات سوي أو آرليا وبصورة خاصة منشورات سندباد التي أسسها المرحوم
بيير برنارد. لكن كان هناك أساس سمح مع حصول محفوظ على نوبل أن يكون منطلقاً لكي
يتركز الاهتمام منذئذ على الأدب العربي المعاصر رواية وشعراً، وصرنا بعد أقلِّّ من
خمسة عشر سنة على ذلك التاريخ نرى الأعمال الأدبية العربية تنشر في طبعات شعبية
وتباع في محطات القطارات! كما صرنا نرى صور الكتاب العرب الكبار، الشعراء منهم
والروائيون، معلقة في معارض الكتب في فرنسا أو في فرنكفورت إلى جانب كتاب العالم
الكبار وشعرائه من الشرق ومن الغرب..
أما في ما يخصّ الترجمات الشخصيّة فقد كان أكثرها من
اللغة الفرنسية إلى العربية. لقد نشرت ترجمة مذكرات زوجة عميد الأدب العربي طه
حسين، سوزان طه حسين، إلى العربية تحت عنوان معكَ ، التي نشرتها دار
المعارف.. ولهذه الترجمة قصة جديرة أن تحكى: فقد كتبت سوزان طه حسين هذا الكتاب
بناء على اقتراح من جاك بيرك، كبير المستشرقين والمستعربين الفرنسيين الذي خصص
دروسه خلال سنة كاملة في الكوليج دو فرانس للحديث عن طه حسين. وقال لمؤنس طه حسين
إنه يودّ لو أن مترجماً سوريّا يقوم بترجمة الكتاب إلى العربية لإعطاء طه حسين
بعده العربي الذي يستحقه أدبه، وأن يراجع الترجمة كاتب مصريّ تقدّمي لإعطاء أدب طه
حسين بعده التقدمي والمستقبلي الذي يستحق. وهكذا، اقترح جاك بيرك اسمي كمترجم،
واقترح اسم الأستاذ محمود أمين العالم كمراجع.. لكن أنيس منصور الذي كان رئيس مجلس
إدارة دار المعارف التي نشرت الكتاب آنئذ، والذي لم يكن فيما يبدو يطيق لا
السوريين ولا التقدّميين، لم يقتصر على إخفاء إسميْ المترجم والمراجع بوضعهما في
بنط صغير في أسفل الصفحة الثانية شبه غير المقروءة فحسب، بل إنه حين نشر مقاطع من
الكتاب مختارة في أول عدد من مجلة أكتوبر التي كان يرأس تحريرها قد
حذف ببساطة اسميْ المترجم والمراجع معاً، مما حمل إحدى المجلات العربية على
التعليق الساخر قائلة إن الوحدة السورية المصرية تعود من جديد بحذف اسم المترجم
السوري واسم المراجع المصري من كتاب سوزان طه حسين الفرنسيّة!!
لكني أيضاً ترجمت كتاباً لأنور عبد الملك قمت بإعداده
انطلاقاً من دراسات عميقة نشرها بالفرنسية حول الفكر العربي الحديث والمعاصر،
وقامت بنشره دار الآداب، كما نشرت كتاب لوسيان غولدمان، كبير علماء اجتماع الأدب،
الخاص بعلم اجتماع الرواية.. مثلما كنت أنشر في المجلات العربية عددا من الدراسات
في مجال الفكر الفلسفي والسياسي والأدبي.. وقد استمر هذا النشاط في الترجمة من دون
توقف تقريباً، فمن بين الكتب العشرين التي ترجمتها حتى الآن، ترجمت كتاب ميلان
كونديرا فن الرواية الذي كان قد صدر في عام 1986، (ومنذ أشهر أتممت ترجمة الجزءيْن
الآخريْن اللذين صدرا بعد ذلك، أعني الوصايا المغدورة والستار، وسيقوم المجلس الأعلى للثقافة
في القاهرة بنشر الكتب الثلاثة في مجلد واحد يحمل عنواناً اختاره كونديرا نفسه
للطبعة العربية هو ثلاثيّة حول الرواية). كما ترجمت في أوقات أخرى
كتاب العدو الأمريكي، حول أصول النزعة الفرنسية في معاداة أمريكا،
لفيليب روجيه، وكتاب روح الإرهاب للفيلسوف الفرنسي جان بودريّار، وهو
مجموعة من الكتيّبات كان الكاتب قد نشرها على إثر تفجير برجيْ مركز التجارة
العالمي في نيويورك في 11 سبتمبر 2001.. إلخ، إلخ..
* لنعد إلى نشاطك في المعهد.. يبدو أن الاحتفال
بتنظيم المعارض قد صرفك عن مهنة النقد الأدبي التي كتبت في مجاله عشرات وعشرات من
الدراسات والمقالات في السبعينات والثمانينات..
** هنا أيضاً اتخذ مجال النقد منحىً آخر، فبعد أن أسست
مكتبة معهد العالم العربي لتكون المكتبة المرجع في مجال اختصاصها في فرنسا بل وفي
أوربا، أسستُ ما يسمى أربعاءات المقهى الأدبي التي هي بمثابة صالون أدبي على
الطريقة الفرنسية، أدعو فيها كاتباً من الكتاب الفرنسيين الذين كتبوا في مجال
الثقافة العربية أياً كان مجال كتابته، أو كاتباً عربياً بمناسبة ترجمة عمل من
أعماله إلى اللغة الفرنسية، وذلك لحوار معي ومع الجمهور يستمر ساعة ونصف وأحيانا
ساعتين ونيّف.. ولقد راقت هذه اللقاءات للكتاب وللجمهور معاً، على الرغم من أنني
لا أقوم بأية دعاية حقيقية لهذه الجلسات.. ولقد استقبلت فيها على امتداد أكثر من
مائتيْ جلسة نظمت حتى الآن سياسيين كباراً من أمثال رئيس وزراء فرنسا السابق بيير
مسمير أو أمين عام الأمم المتحدة بطرس بطرس غالي أو وزير خارجية فرنسا الأسبق
هوبير فيدرين أو وزير الاقتصاد اللبناني السابق جورج قرم أو وزير الثقافة اللبناني
غسان سلامة، مثلما استقبلت الروائي الفرنسي أوليفييه رولان، والمستعرب أندريه
ميكيل، والفنان رشيد قريشي والروائيين جمال الغيطاني وحسن داوود وصنع الله ابراهيم
وواسيني الأعرج وسواهم من الكتاب والفلاسفة الفرنسيين أو غير الفرنسيين من مختلف
بلدان أوربا.. أعني بذلك مدى التنوع في الأشخاص وفي الموضوعات التي طالتها هذه
الأربعاءات.. إنه النقد من خلال الحوار الحيّ المباشر مع المؤلف كما تريْن..
* من وكيف يتم اختيار
الكتاب والكاتب؟ ..
** كان هذا النشاط، ولا يزال، مبادرة شخصية لم يخصص لها
المعهد أية ميزانية. وبناء على ذلك، وعلى الرغم من أنّه صار يحتل مكاناً متميزاً
في نشاطات المعهد، فقد بقي محتفظاً بالطابع الشخصي الذي تميّز به منذ البداية: يجب
أن يستوقفني الكتاب بموضوعه أو بطريقة معالجته بصورة قويّة لكي أدعو كاتبه أو
كاتبته لجلسة من جلسات الأربعاء.. يتمُّ عرض الكتاب ونقده من خلال الأسئلة التي
أطرحها على المؤلف ومن خلال بعض التعليقات التي أقوم بها أحياناً، يشاركني في ذلك
جمهور المقهى الذي صار يحضر خصيصاً، وهو جمهور مختلط ينتمي إلى مختلف الفئات
الاجتماعية والمهنية مثلما ينتمي إلى مختلف فئات الأعمار..
* لكنك أيضاً بادرت
إلى نشاط آخر يتعلق بالشعر..
** استقبلت في أربعاءات المقهى الأدبي عدداً من الشعراء
العرب والفرنسيين في مناسبات مختلفة.. لكني حين أنشأت ما يسمى الآن بمدينة معهد
العالم العربي، وهو فضاء صُمِّمَ ليوحي بجوِّ مدينة عربية، أو سوق في مدينة عربية،
خصصت مقهى أطلقت عليه مقهى أبي نواس، احتفالاً بالشاعر الكبير. وهو ما حملني على
أن أخصّه بما أطلقت عليه أمسيات أبي نواس الشعرية، وهي أمسيات شهرية كلٌّ منها
يحييها شاعر عربي، وأحيانا شعراء فرنسيون إلى جانبه، يقرأ فيها أشعاره بالعربية
كما تقرأ أشعاره وقد ترجمت إلى الفرنسية من قبل ممثلين فرنسيين.. وذلك كله في صحبة
عزف موسيقي على العود أو على آلة موسيقية أخرى..
ذات يوم شارك أحد كبار الشعراء الفرنسيين في إحدى هذه
الأمسيات، وهو الشاعر جاك لاكاريير. وكان من إعجابه بالأمسية وبالجو أنه نوى
الاحتفال بعيد ميلاده الثمانين في مقهى أبي نواس بالذات. لم يقل ذلك لي. وإنما
قاله لزوجته. لكن الموت عاجله قبيْل بلوغه الثمانين. فحضرت زوجته آنئذ تعلمني بما
كان يرغب فيه زوجها.. وهكذا نفذنا هذه الرغبة بأن احتفلنا بعيد ميلاده الثمانين في
أمسية شعرية لا تنسى أحياها شعراء عرب وفرنسيون إلى جانب الموسيقيين الذين جاؤوا
من تركيا أو من اليونان ليشاركوا في عيد الميلاد هذا الذي أحييناه بعد رحيل جاك لاكاريير
ولكن في حضور كثيف رائع لشعره الذي كان والشعراء الحاضرون جميعاً يقرؤونه، يملأ
المكان والفضاء بحضور الشاعر..
* من هو جمهور هذه الندوات واللقاءات؟ هل يقتصر على
العرب
** إنه جمهور الندوات في كل
مكان في باريس أو في سواها من المدن الفرنسية، أعني أنه لا يقتصر على طائفة دون
أخرى ولا على فئة دون أخرى: إننا نجد المتقاعدين إلى جانب الشباب، الفرنسيين إلى
جانب العرب، وما أكثر المرات التي كنت ألتقي فيها عدداً من غير الفرنسيين والعرب،
أي البلجيكيين والألمان وأحياناً الإيطاليين ممن يتكلمون الفرنسية بالطبع بما أن
لغة الحوار هي هذه اللغة.. يأتي الجمهور ليلتقي الكاتب أحياناً، أو لاهتمامه
بموضوع الكتاب موضوع اللقاء تارة أخرى، أو للاثنيْن معاً.. الأمر الذي يجعل من هذا
الجمهور متجدّداً باستمرار، ومتزايد العدد باستمرار..
* كما نرى، لقد عشتَ عمراً وأنت تتنقل بين
الثقافتين، العربية والفرنسية. إلى أيّ حدٍّ تشعر بأنك بعيد عن الثقافة العربية،
وهل تشعر بالغربة وأنت في قلب الثقافة الفرنسية؟
** إنني لم أبتعد عن الثقافة العربية لحظة واحدة. لا
جسداً ولا روحاً. لقد سمحت لي طبيعة عملي أن أزور البلاد العربية كلها إلا
واحداً.. لم تسمح الظروف لي بزيارته. ولي علاقات قائمة ومستمرة مع العاملين
الأساسيين في المجال الثقافي والفني في مختلف هذه البلدان، كما أنني أتابع قراءة
نتاجهم في مجال الإبداع الأدبي والفكري مثلما هو الأمر في مجال الإنتاج السينمائي
أو في مجال الفنون التشكيلية.. والزيارات العديدة التي أقوم بها لثلاثة أو أربعة
بلدان عربية سنوياً لأسباب متعدّدة تضعني في صلة دائمة مع المناخ ومع الجو اللذيْن
تنمو فيهما الثقافة العربية وتتطور.. أتصوّر أنّ مردّ ذلك كله النشأة الثقافية
الأساسية التي كانت نشأتي. حين جئت إلى باريس، كنت قد تشبّعت بأصول الثقافة
العربية الكلاسيكية والحديثة مثلما كنت على صلة، وإن كان ذلك عن طريق اللغة
العربية، بالثقافة الغربية عموماً وبالثقافة الفرنسية خصوصاً. كان عليّ أن أعمّق
معرفتي بالثقافة الأوربية من خلال إتقان اللغة الفرنسية إتقاناً يسمح لي مثلاً
بقراءة كاتب مثل بروست أو ستندال أو سيلين، لا بل أن أتمكن مثلاً من ترجمة أعمالهم
إلى العربية من دون الوقوع في الأخطاء المضحكة التي وقعت فيها كثرة ممن تعرّضوا
بجرأة عجيبة لترجمة هذه الأعمال أو ما يماثلها؛ أريد أن أقول إن الهدف كان الوصول
إلى فهم مفاصل الثقافة الفرنسية وبدءاً منها تنوعات الثقافة الأوربية حتى يمكن
الانتقال بسهولة، ومن دون أي عقد نفسية، بين الثقافتيْن. إن الشرط الأوليّ في أي
حوار هو التكافؤ بين الطرفين، ولا يمكن لهذا التكافؤ أن يتواجد بالنسبة للمثقف
العربي وعلى صعيده على الأقل ـ لأن الخلل موجود أصلاً على صعيد الثقافتيْن أساساً،
ما لم يكن متمثلاً ثقافته العربية في أصولها وفي فروعها.. وواعياً مشكلاتها..
* كيف عاش المعهد ما
بعد تفجير مركز التجارة العالمي في 11 سبتمبر؟
** استطاع المعهد في سنوات قليلة أن يحتلّ موقعاً يليق
بمطامحه في المشهد الثقافي الباريسي والفرنسي، فقد شرط بناؤه الحديث نشاطه وأساليب
عمله؛ وحملت رغبة رؤية الجمهور الفرنسي في أرجائه على العمل بطريقة تجذب بواسطتها
هذا الجمهور إلى نشاطاته على تنوّعها. ولأنّه لا يقتصر في تعبيره الثقافي على بلد
عربي واحد وإنما يعبر عن مختلف الأصوات والنبرات الثقافية في مختلف البلدان
العربية فقد اكتسب قدرة وحرية في الحركة ليست متاحة للمراكز الثقافية الخاصة بكل
بلد على حدة استخدمها في التوجّه إلى هذا الجمهور وفي التفنن في طرق اجتذابه إلى
نشاطات المعهد. وهكذا صار عدد زواره سنوياً أكثر من مليون شخص يترددون على معارضه
وندواته وحفلاته وعروضه..
وحين حدث تفجير الحادي عشر من أيلول، نظر الكثير إلى
المعهد بوصفه الأداة المثلى للشرح، وللفهم، وللحوار، ولانتزاع الأفكار المسبقة أو
التي ولدها ولا يزال يولدها الجهل بالآخر. ليس الغربيون فقط من يجهلوننا، بل نحن
العرب أيضاً من يجهلهم. وإذا كنا نتهمهم بأنهم يختصروننا في صيغ ملفقة ومبتسرة لا
تعني في النهاية شيئاً، فإن التهمة ذاتها يمكن وببساطة أن توجَّه إلينا.
برزت لدى الفرنسيين بصورة عامة رغبة متلهفة لمعرفة
الإسلام والقرآن والتاريخ الإسلامي.. وظهرت بين ليلة وضحاها أسماء لم تكن معروفة
من قبل تحكي وتكتب في الإسلام بوصفها خبيرة في الشؤون الإسلامية أو في الإرهاب أو
في شؤون العالم الإسلامي ، إلخ، إلخ... في كل يوم تطبع عشرات الكتاب عن الإسلام،
لا بل إنّ إحدى دور النشر الفرنسية المحترمة لم تتردّد في أن تنشر كتاباً لأحد
المستشرقين يجمع له مقالات كتبت قبل زمن طويل من تفجير مركز التجارة العالمي تحت
عنوان يوحي وكأن الكتاب قد كتب لتوّه.. أما برامج الإذاعة ولاسيّما التلفزيون،
فحدّث ولا حرج.. وكأنما استعيدت من جديد رؤية الغرب للإسلام إبّان الحروب
الصليبية، وكأنما شيئاً لم يحدث خلال قرون عشرة لا على هذه الضفة الشمالية من
المتوسط ولا على الضفة الجنوبية منه.. بل إنّ عدداً من المثقفين ذي الأصل العربي
أنفسهم ظنوا أن الفرصة قد سنحت لهم ليبنوا مجداً شخصيّاً فإذا بهم يجارون الموجة
ويهرفون حول الإسلام والقرآن بما لا يعرفون، مثلهم في ذلك مثل "خبراء يوم
الأحد" كما يطلق على أدعياء الخبرة بالفرنسية الذين تنطعوا للحديث عن الإسلام
في كلِّ المحافل..
في وسط هذا الصخب الإعلامي والمتعالم كان يقع على المعهد
عبء كبير. حاول القيام به بقدر ما تسمح له إمكاناته وقدراته. فالندوات،
والمؤتمرات، واللقاءات لم تتوقف. لكن برنامجاً تلفزيونياً واحداً يمكن أن يراه
ملايين من الناس، في حين تبقى إمكانيات مركز ثقافي أياً كان حجمه محدودة بوسائل
انتشاره.. وتلك هي المشكلة الأساسية. سوى أن أيّاً من العاملين في المعهد لم يفكر
لحظة واحدة أنه سيغيّر الدنيا بين ليلة وضحاها، وكلنا يدرك أن عملنا عملٌ على
المدى الطويل، ولا بد من أن يكون طويل النفس..
* وبم أسهمت أنت شخصيّاً في هذا المجال؟
** كان إسهامي الشخصي غير مباشر. أعني أنني أعطيت الكلمة
لأحد كبار الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين من خلال ترجمتي، وقد أشرت إلى ذلك من قبل،
لكلِّ ما كتبه بصدد تفجير مركز التجارة العالمي. بدأت بترجمة مقالته التي تحمل
عنوان روح الإرهاب التي نشرت أول ما نشرت في اللوموند ثم ضمّتها بعد
ذلك دفتا كتاب، ونشرت الترجمة العربية في صحيفة القدس في لندن وأخبار
الأدب في القاهرة وفي مجلة الفكر العربي المعاصر في بيروت.
ثمّ ترجمت بعد ذلك مقالاته التالية لها: السلطة الجهنمية: ، قناع
الحرب، بورنوغرافيا الحرب، ثمّ جمعت بموافقة المؤلف هذه
المقالات والدراسات في كتاب يحمل عنوان المقالة الأولى، أي روح الإرهاب،
ونشرتها بين دفتي كتاب لدى المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة. كما أنني أعطيت
الكلمة لأحد كبار الكتّاب الفرنسيين وهو فيليب روجيه حين ترجمت كتابه الضخم الذي
يحمل عنوان العدوّ الأمريكي، دراسة في أصول النزعة الفرنسية
المعادية لأمريكا. وقد نشر هذا الكتاب أيضاً في المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة.
* كيف يمكن للمثقف العربي أن ينفتح على الثقافة
الأوربية من دون أن يذوب فيها؟
** بجملة واحدة: حين يكون مشبعاً بثقافته
العربية، متمكناً منها، وفخوراً بها..
(مقابلة
كانت الزميلة خولة خلوف قد أجرتها معي في أواخر عام 2006 ولم تنشر)