samedi 1 juin 2013


الأمير الصغير

في السبعين من عمره
 

بدرالدين عرودكي


ضمير المتكلم مباشرٌ، عنيدٌ، شديدُ الفردانية حقاً، لكنه من خفة وقعه يصير أنتَ، ونحن، وأنتم. يصير الضمائر جميعاً. تماماً، مثلُ أنا طفلٍ في السادسة من عمره، أنا الأطفال جميعاً، انانا الذي ما أكثر ما نراه في أنفسنا، وأحياناً في الآخرين..
هل يمكن لأحد أن يقرر كيف ولد الأمير الصغير في وجدان أنطوان دي سانت إكزوبري. في وجدانه، قطعاً، لا في عقله، أو في رأسه، و لا حتى في قلبه. إذ أن المولود جاء بلا أيّ شك من كل ما يفيض عما ذكر. ولا يمكن أن يجمع ما ذكر ويفيض عنه سوى الوجدان.
طيّار مدني في الحادية والعشرين ينقل البريد عبر المدن والبلدان والقارات والبحار، تجلى للملأ كاتباً في الخامسة والعشرين تغذي مهنتُه كتابته، وتضعه على حافة الهلاك في كل مرة يجلس وراء مقود طيارته، لكنها تغمره بغبطة الطفل كلما أشبع دهشته اكتشافٌ جديد ما.
وكان هذا الطفل حاضراً على الدوام، في كل لحظة، لا يغادره. نراه مرسوماً على هوامش رسائله، وفي ثنايا مخطوطات مقالاته، يسكن كوكبه الخاص به، عالمه،  وحيداً، متأملاً، مستفهماً باستمرار.
وعندما استحال هذا الطفل كتابَ حكاية تحكي الطفولة بالرسوم وبالكلمات، وانتشر في أرجاء المعمورة الأربع مترجماً إلى اللغات كلها واللهجات جميعها، مقروءاً من الصغار ومن الكبار بعد أن حمّله صاحبه اسم الأمير الصغير.. تساءل الكثيرون عن لحظة التكوين، لحظة الولادة، لحظة تجلي هذا الأمير الصغير في عالم أنطوان دي سانت إكزوبري القصصي.  
ذهب البعض، كي يجيب، يسأل قصصاً كتبها من قبلِهِ أندرسن مستشهداً بحكاية جنية البحر الصغيرة التي قرأتْها عليه ذات يوم كي تسَلّيه وهو يتعافى في المستشفى صديقته الممثلة آنابيلا. أو يبحث عن اللحظة والمكان اللذين شهدا بداية انصراف الكاتب إلى الكتابة، معتمداً على رغبته في الخلاص من كآبة استحوذت عليه في منفاه الأمريكي الذي لجأ إليه منذ إعلان الهدنة إثر دخول الألمان باريس، أو يرى في "طلبية" دار نشر أمريكية كتاباً للأطفال بمناسبة عيد الميلاد عام 1942 أصل فكرة الكتاب ومدعاة كتابته!
قد يكون بعض الأصل في كل ذلك أو في بعضه. لكنه سيعني الاكتفاء في البحث عن تكوين مُبْدَع أدبيّ ينطوي على مثل هذه الأهمية بكل ما لا يمت إلى تكوين العملية الإبداعية في حدِّ ذاتها بسبب! لاسيما وأن مصدر هذه التساؤلات كلها يتمثل في الدهشة أمام عمل أدبي خارق لا في بساطته وفي عمقه وفي قدرته الكامنة على مخاطبة الصغار والكبار في آن واحد فحسب، بل كذلك في هذا الاستقبال الجامع الذي لقيه ولا يزال يلقاه في كل زمان وفي كل مكان وفي كل اللغات مبدعٌ لا يزال بعد سبعين سنة من صدوره في أوج شبابه.
غير أن العودة إلى المُبْدِع بحثاً عن تكوين المُبْدَع هي الأنجع سبباً ووسيلة.  
من الممكن التساؤل مثلاً: هل الرسوم التي لم يكن يكف عن بثها في أوراقه وعلى هوامش مخطوطاته وفي ذيول رسائله والتي استحالت رسوماً للكتاب نفسه صدفة؟ أو، هل امّحى بهذه السهولة رعب السقوط في قلب الصحراء وعطش الساعات التسعة عشر الذي عاناه فيها قبل أن يطفئه بدويٌّ تجلى له وجهه "في وجه البشر جميعاً"؟ أو، هل بقي موت الأب وهو في الرابعة من عمره بلا أثر؟ أم أن الأخ الصغير، فرنسوا، الذي كان يحبه كثيراً ويناديه كلما كانا يلعبان معاً: "الملك الشمس" بات هو بطله وقد صار "الأمير الصغير" مادام دي سانت إكزوبري قد استعاده إثر حادثة سقوط طائرته في  صحراء ليبيا ليلة 30/31 كانون الأول/ديسمبر 1935، أي قبل سبع سنوات من انصرافه لكتابة هذه القصة؟ كذلك، ماذا يعني أنَّ تلك الرسوم التي صارت جزءاً لا يتجزأ من الكتاب كانت، وهو حدث لم يعرفه تاريخ الأدب من قبلُ، سابقة على الحكاية لا تالية لها، ترسم إطارها وعالمها قبل أن تولد الحكاية كلمات وجملاً ومعان؟
في مقالة حملت عنواناً جديداً في وسط الصحراء، استحالت فصلاً في كتاب أرض البشر الذي نشر في بداية عام 1939، بعد أن جمعت سلسلة من ست مقالات نشرت على التتالي تحت عنوان جامع "الطيران المُحَطم، سجن الرمل" في نهاية شهر كانون الثاني/يناير وبداية شباط/فبراير 1936، أي بعد شهر من سقوط طائرة دي سانت إكزوبري في صحراء ليبيا، نعثر على عبارات سنقرأ مثيلاتها في الأمير الصغير بعد سبع سنوات من ذلك. نعثر مثلاً على ما يمكن أن يُسمى: استعادة البراءة الأولى أمام أشياء العالم. كيف تستحيل اليقينيات الراسخة أسئلة ملحّة لا تعثر بالضرورة على جواب عنها؛ أو كيف تتلقف قطرات الندى الصباحية لتبلل بها الشفتيْن، أو كيف تكتشف وقد تقاسمتَ مع صاحبك برتقالة وحيدة عثر عليها بعد ساعات من ظمأ شديد ما يعنيه البرتقال: "لا يعرف البشر ماهية برتقالة ما...(...) حمل إليَّ نصف البرتقالة هذا الذي أضمُّه بيدي واحداً من أكبر ضروب الفرح في حياتي..". أو كيف رأى البدويّ الليبيّ الذي أنقذه وصاحبه: "نظر إلينا العربي بكل بساطة. ضغط بيده على أكتافنا فأطعناه. لقد تمدّدنا. لم يعد ثمة هنا لا جنس، ولا لغة، ولا تقسيم... هناك هذا البدوي الفقير الذي وضع على أكتافنا يديْ ملاك." هذا البدوي الذي أتاح له أن يرى العلاقات البشرية كما يمكن لبراءة الطفولة أن تراها، فيخاطبه: "لمْ تنعمِ النظرَ في وجوهنا ومع ذلك عرفتنا. أنتَ الأخ المحبوب، وبدوري، سأتعرفك في كل البشر"(...) كلُّ أصدقائي، كلُّ أعدائي  فيكَ يسيرون نحوي، ولم يعد لي عدوٌّ واحدٌ في العالم" (أرض البشر).
هنا في وحشة الصحراء التي كان يحبها مع ذلك عندما تكون خياراً لا ضرورة، أو في "سجن الرمل" كما أطلق عليه، كانت المعاني تتجلى له في أصولها الأولى. وفي أصولها الأولى كانت تتجسد في هذا الكائن الصغير الذي استقر في حياته منذ زمن بعيد، متجلياً تارة في ملامح طفل ذي أجنحة محلقاً فوق الأرض، وتارة في صورة صبيٍّ يتربع فوق سحابة بيضاء، أو ينظر إلى البعيد من فوق هضبة معشوشبة. كأنما هو، أو هو بالذات، قرينه الدائم لا يفارقه في حله ولا في ترحاله، الساكن في عزلته، يُعينه على احتمال وطأة ثقل العالم المحيط به، ويحثه على أن يقدِّمَ لمعاصريه ضرباً من حكاية/أسطورة تستعيد القواعد المؤَسِّسَة الأولى للعلاقات البشرية في هذا العالم.
تستحيل كل هذه المعاني أخيراً كلمات تصوغ طفلاً سكنه ورافقه ثم تجسد أمامه في حلم لحظة عابر؛ تصوغ طفلاً، مثله، لا يكف عن التساؤل، وإذا سأل فإنه لن يتخلَّ أبداً عن سؤال سبق له أن طرحه. وينتظر بلا كلل جواباً عنه. مع أنه يدرك بعفوية من بين ما يدركه، وما أكثره، أن "اللغة مصدر سوء التفاهم"،  وأن ما نراه جيداً فبالقلب نراه، وأن ما هو جوهري في الحياة "لا يُرى من قبلِ العينيْن" أو أن "ما هو مهمٌّ لا يُرَى"! أو أن أمراً ما لابد أن يكون "مفيداً حقاً بما أنه جميل"! (الأمير الصغير).
لم تكن صدفة إذن أن تكون قصة الأمير الصغير في أبسط تجلياتها "حكاية كتبها طيار عن حادث تعطل طائرته في الصحراء يلتقي خلاله صبياً صغيراً يستثير اهتمامه"؛ وليس صدفة أيضاً أن تستعيد القصة وتسجل منذ الفصل الثاني فيها قصة هذا التعطل في قلب الصحراء الذي حدث "قبل ست سنوات" منذ بدء كتابة الكتاب في صيف عام 1942. صار الحدث سبباً، أو مناسبة، كي يتجلى هذا الأليف، أو هذا القرين، أو هذا المِثلُ، مُجَسَّداً، بعد أن كان رسوماً، جمَلاً وكلمات في الأمير الصغير. ثمة بين اللحظتيْن، لحظة هبوط الطائرة في قلب الصحراء ولحظة تحرير الكتاب، ما يقارب سبع سنوات، نضج فيها الكتاب وعثر على صورته ووسيلته. ذلك صحيح لا مراء فيه. لكن من الصحيح أيضاً أن الأمير الصغير سابق على اللحظتيْن معاً أو إن شئت أعرق منهما معاً. تجد عراقته الحقيقية في الإهداء الذي قدم به أنطوان دي سانت إكزوبري كتابه:
"إلى ليون فيرث
أطلب العفو من الأطفال لإهدائي هذا الكتاب إلى شخص كبير. ولديَّ عذر حقيقي: فهذا الشخص الكبير هو أفضل صديق لي في العالم. لديَّ عذر آخر: هذا الشخص الكبير يستطيع أن يفهم كل شيء، حتى الكتب الخاصة بالأطفال. لديَّ عذر ثالث: هذا الشخص الكبير يسكن في فرنسا حيث يجوع ويعاني البرْد. فهو بأشد الحاجة إلى المواساة. وإذا لم تكف هذه الأعذار كلها، إذن أودُّ أن أهدي هذا الكتاب إلى الطفل الذي كانه هذا الشخص الكبير قديماً. كل الأشخاص الكبار كانوا أولاً أطفالاً. (لكن قلة منهم تتذكر ذلك). أصحِّحُ إذن إهدائي:
إلى ليون فيرث
حين كان صبياً صغيراً."
هنا تتواجد عراقة الكتاب، أو أصله أو تكوينه الأساس. قد يكون الأمير الصغير إذن أنطوان دي سانت أكزوبري، أو أخوه  فرنسوا، أو صديقه  ليون فيرث.. لكنه لا يمكن إلا أن يكون في كل حال هؤلاء الأشخاص الكبار الذين كانوا أطفالاً من قبل ولا يزالوا يتذكرون أنهم كذلك إن لم يكونوا قد ظلوا كذلك رغم تقدمهم في العمر. وهؤلاء لم يولدوا في وجدان الكاتب في قلب الصحراء، بل كانت هذه الأخيرة سبباً لانبعاثهم في هذه الشخصية الجميلة. هنا يتجلى سحر الكتاب، في هذه الطفولة دائمة البراءة والدهشة والحب.
وعلى أن دي سانت إكزوبري كتبَ الأمير الصغير مثلما كتبَ من قبل سائر كتبه خارج فرنسا، وفي نيويورك على وجه التحديد، فإن هذا الكتاب الأخير، بخلاف سائر كتبه الأخرى، هو الوحيد الذي نشر وقرئ في القارة الأمريكية قبل أن يقرأ في فرنسا! فقد بدأت كتابته في صيف 1942 وتمَّ نشره باللغتين الفرنسية والإنكليزية لدى منشورات رينال وهتشكوك وصدرت طبعته الأولى في السادس من نيسان/أبريل 1943، قبل خمسة عشر يوماً من مغادرة دي سانت إكزوبري نيويورك للمرة الأخيرة كي يلتحق بقوات فرنسا الحرة. ولم تصدر طبعته الفرنسية لدى ناشره الفرنسي منذ عام 1929، غاليمار، إلا عام 1946، أي بعد عامين على رحيله.
ذلك أن أنطوان دي سانت إكزوبري، وتلك هي المفارقة المأساوية،  لن يشهد استقبال أميره الصغير ونجاحه في أن يسحر ويلمس قلوب الصغار والكبار في أرجاء العالم كلها. سيطويه الموت في الرابعة والأربعين من عمره بعد أن ترك وراءه مبدعاً قل نظير جماله بين مبدعات الأدب الفرنسي في القرن العشرين.
كأنما أراد هذا الطيار/ الكاتب أن يجمع في مُبْدَعِهِ الأخير هذا عصارة ما كتبه من قبلُ وقبلَ أن يطويه البحر في غياهبه بعد سنة واحدة من نشر الكتاب.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire