مواجهة احتلال سورية أوّلًا
بدرالدين عرودكي
في غمرة المحاولات المستميتة التي قام ولا
يزال يقوم بها البعض من منطلق "الوطنية" أو "العقلانية" أو
"الواقعية السياسية" من أجل تبرير صيغة ما للتعاون مع المحتل الروسي أو
الإيراني أو التركي أو الأمريكي لسورية اليوم، يبدو إلحاح رياض الترك، الذي برز في
إجاباته عن أسئلة محمد علي الأتاسي في المقابلة معه التي نشرتها صحيفة القدس
العربي، على مسألة "الاحتلال" أيًا كانت جنسيته بوصفه "الحلقة
الرئيسية اليوم في النضال في كافة الأشكال من أجل إخراج هذه القوى الأجنبية"
من سورية، لا ردًّا على مثل هذه المحاولات بل كما لو أنه دقات ناقوس خطر مشكلة
التهديد الوجودي الأولى والأساس في أي عمل أو مبادرة أو تفكير يقوم به السوريون
اليوم من أجل مستقبل سورية.
لم
يكن هذا الإلحاح بالطبع هو الوحيد الذي يمكن أن يخرج منه القراء من هذا اللقاء.
لكن صدوره عن رجل عكست مواقفه المبدئية، على الصعيد الفردي والثمن الذي دفعه
بسببها، صدق قناعاته الوطنية، يمكن أن يعني الكثير في هذه الظروف التي يعيشها
السوريون تمزقًا واصطفافًا. إذ لا يبدو أن هناك إجماعًا سوريًا صريحًا وعلنيًا على
تحديد طبيعة الوجود الأجنبي في سورية، سواء على ذلك الذي يزعم وجوده مشرعنًا من
"الحكومة السورية" (إيران وروسيا) أو على ذلك الذي فرض وجوده بالقوة
دفاعًا عن مصالحه أو حماية لها (الولايات المتحدة وتركيا)، ومن ثمَّ لا وجود
لإجماع صريح من أجل البناء على هذا
التحديد.
هناك
من جهة، الصمت الذي يلوذ به معظم ممثلي المعارضة على اختلاف فصائلها ومنصاتها إزاء
ما يحدث في سورية أو ما يُقرَّر بصددها أو ما ينتظر السوريين الذين لا يزالون في
سورية بلا أي غطاء أمني حقيقي يكفل لهم بقاءهم على قيد الحياة؛ صمتٌ يقول ارتباكًا
أصاب الجميع إزاء المآلات الخطيرة التي وصل إليها الحدث السوري، والتي لم يعد بوسع
أحد منهم استخلاص نتائجها على المدى المتوسط أو البعيد، بعد أن استُبْعِدوا
بالخدعة أو بالخبث أو بالقوة من مركز القرار الذي تدهورت قدرتهم على التأثير فيه
تدريجيًا طوال السنوات السبع الماضية.
وهناك، من جهة أخرى، عدد كبير من المواطنين، مفكرين ومثقفين مستقلين وأحرارًا،
من المهمومين بشؤون بلدهم والذين يتداعون بين الحين والآخر لتدارس ما يجري تحليلًا
واستنتاجًا، مستهدفين الوصول إلى صوغ رؤية أو خطة طريق يمكن أن تجتمع نخبة
السوريين من حولها، ثمَّ تبدأ في وضعها موضع التنفيذ. كلا الطرفين، مع ذلك، لا
يكاد يتوقف عند هذه المشكلة الأخطر التي باتت تفقأ العيون: الاحتلال الإيراني الذي
يعزز تغلغله الخبيث في نسيج المجتمع والجغرافيا السوريين بوجود عسكري ثقيل يكفل
استمراره ويحمي مكتسباته؛ والاحتلال الروسي الذي بات يمسك بمقاليد السلطة السياسية
والعسكرية والأمنية في البلد ولم يعد "النظام الأسدي" سوى دمية يحركها
متى يشاء كيف يشاء كلما احتاج إلى ضرب من "الشرعنة" التي تبرر وجوده؛
والاحتلال الأمريكي الذي يتواجد لمراقبة شركائه الروس عن كثب وهم ينجزون ما تم
التواطؤ على إنجازه دون أن يتوانى عن استخدام كل من لبسته أوهام الاستقواء به من
الفصائل السورية المختلفة؛ والاحتلال التركي الذي يجهد في أن يحول دون قيام أي
كيان كردي على حدوده يمكن أن يؤدي إلى قيام كيان مماثل آخر على أراضيه، متنقلًا
على حذر بين الأمريكيين، حلفاء الأمس خصوم اليوم، والروس خصوم الأمس حلفاء اليوم. ومن
المؤسف أن كل ذلك يتم تجاوزه من قبل الفريق الثاني المشار إليه بلا حرج وهو يصوغ تشخيصًا
يتناول واقع سورية ومستقبلها، وكأن هذا الاحتلال لا يؤلف جزءًا رئيسًا من هذا
الواقع، أو كأنه سيتلاشى ما إن تتحقق "معجزة" الحل السياسي المنتظر!
إذا
كانت الأوهام تزين للنظام الأسدي ولأتباعه اعتبار الوجود الروسي والوجود الإيراني
في سورية شرعيًا مادام قد تحقق بإرادة "الحكومة السورية" وأنه سيكف
بالتالي عن الوجود بفعل الإرادة نفسها، لكنهم مقابل ذلك لا يملكون إلا استنكار
وجود القوات الأمريكية والتركية في شرق وشمال سورية واعتباره احتلالًا، فلا يجب أن
يدهشنا واقع غياب الإجماع بين القوى التي تنتمي إلى "المعارضة" حول
تحديد طبيعة الوجود الأجنبي في سورية وتسميته احتلالًا، علنًا وصراحة، وهي التي
عجزت عن تحقيق أدنى درجة من الوحدة في مواجهتها النظام الاستبدادي طوال سبع سنوات،
وقبلت خلالها هيمنة مختلف القوى الإقليمية أو الدولية على خططها وقراراتها
ومواقفها، فاقدة بذلك حرية الحركة والقرار، وهو ما أدى بها إلى ما تعانيه اليوم من
عجز في التخطيط وفي الحركة وفي الفعل. لاسيما وأن الحل السياسي الذي تعمل روسيا،
بمعونة حليفيها الإيراني والتركي، على الإعداد له وتسويقه، ستجري محاولة فرضه
بالقوة على السوريين، وبالتعاون مع أؤلئك الذين سيتشدقون بمختلف المبررات التي
حملتهم على القبول به: "الواقعية السياسية"، أو ممارسة "سياسة
الممكن"، بعد أن سبق ورفضوا اعتبار الوجود الروسي احتلالًا، مُفضلين النظر
إليه بوصفه "وصاية"، لم يجرؤ حتى المعنيُّ بالأمر أن يزعمها لنفسه! ذلك
يعني أن الاحتلال في مختلف وجوهه وممثليه، سيسجل لنفسه "شرعية جديدة"
تتجاوز إن لم تتفوق على تلك التي كان مصدرها النظام الأسدي، ولن تكون مواجهته آنئذ
إلا أشد مرارة وصعوبة مما هي عليه الآن لو تمت.
أليس
من الضروري والحالة هذه أن تبدأ المواجهة، من الداخل ومن الخارج السورييْن معًا،
بالاجتماع على هذا التوصيف أولًا، والبناء عليه ثانيَا لدى الإقدام على كل فعل أو
نشاط تستدعيه ظروف الحدث السوري اليوم، في كل هيئة أو فضاء سياسي؟ ألا يؤدي ذلك، إن تحقق، إلى الخروج من الشرذمة التي
طبعت فصائل النضال السوري السياسية والعسكرية خلال السنوات السبع الماضية، والوصول
إلى إنجاز وحدة لا بد منها بين مختلف القوى التي تعمل من أجل مستقبل سورية؟ ألن يتطلب
ذلك بكل وضوح: العمل جماعة على الخروج من التنظير إلى اعتماد الآليات الضرورية
لمواجهة هذا الاحتلال في السلوك وفي العمل، وعلى كل الصعد، سياسيًا وإعلاميًا بوجه
خاص؟ ألن يفتح ذلك كله إمكان فرض الاعتراف بممثلين حقيقيين للشعب السوري لمواجهة
المحتلين الذين اختصروه بنظام مجرم أسبغوا عليه شرعيتهم ويحاولون اليوم أن يعيدوا
إليه أهليته؟
أسئلة
يفرضها المآل الراهن للحدث السوري بكل ما ينطوي عليه من تعقيد ورهانات إقليمية
ودولية حول سورية راهنًا ومستقبلًا في غياب من يمكن بالفعل أن يمثل الشعب السوري
حقًا وأصولًا وشرعًا. ولا مفر من الإجابة عليها تحت طائلة مساءلة التاريخ.
** نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 6 أيلول 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire