jeudi 20 septembre 2018



حول "ميثاق دمشق الوطني" 
بدرالدين عرودكي 
خمسون سنة من حرمان الشعب السوري من السياسة والعمل السياسي، وسبع سنوات ونصف من معركة مريرة خاضها الشعب السوري، ولا يزال، ضد نظام الاستبداد وسلطة الإجرام الأمنية، وعبَّر في كل أرجاء سورية عن رفضه له، مطالبًاً بإسقاطه، ورافعًا شعار وحدة الشعب السوري في مواجهته، وفي مواجهة الواقع الراهن الذي تعيشه سورية تحت احتلال أو هيمنة خمس قوى دولية وإقليمية، وأمام الحساب الأخير المنتظر في مدينة إدلب، التي لا يزال سكانها رغم كل المظاهر تحت الخطر، والتي تقدم أكثر الأمثلة بلاغة لا على وقوع "المعارضة" بهيئاتها ومنصاتها ومجالسها ومقاتليها في فخ أستانة ومؤتمراتها ومناطق خفض التصعيد فحسب، ولا كذلك على عدم الكفاءة الفاضح في إدارة وقيادة المعركة التي تصدت لها من أجل إسقاط النظام الاستبدادي، بل على أن الكثرة من المحاولات التي يطرحها اليوم على السوريين نتيجة ذلك مناضلون ومثقفون وسياسيون من أجل مواجهة الوضع السوري الراهن، لا تزال تشكو من عدد من الصعوبات في تحليلها وفهمها الواقع السوري اليوم تحت عناوينه الثلاثة الكبرى: الاحتلال الخماسي (إيران، روسيا، الولايات المتحدة، تركيا، إسرائيل) ــ وهو لا يذكر في معظم الأحيان إلا مجتزءًا ــ، ومأساة الشعب السوري المقيم والنازح واللاجئ والمعتقل، والبلد المُدَمَّر عمرانيًا واقتصاديًا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
آخر هذه المحاولات، تلك التي صدر عنها بيان يوم 13 أيلول الجاري، كانت مبادرة عدد من السوريين، بعد اجتماعات عقدوها طوال شهور في سبع مدن عربية وأوربية بوصفهم "الهيئة التأسيسية لكتلة دمشق الوطنية"، لمناقشة عقد سياسي ـ اجتماعي من أجل سورية صيغ في وثيقة حملت عنوان "ميثاق دمشق الوطني"، أعلنوا عنه عبر "بيان حول مؤتمر ميثاق دمشق الوطني" المشار إليه. أول ما يكتشفه كلُّ من يتلقفه، أنه يستهدف، كما ورد فيه حرفيًا، "بناء الإنسان السوري وبناء العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع السوري الواحد على أساس التعريف الدقيق والواضح للانتماء الدمشقي (...) كنواة صلبة من أجل إعادة بناء المواطنة والوحدة الوطنية السورية". وسرعان ما يتبادر السؤال عفويّا وطبيعيًّا: ما المقصود بـ "الانتماء الدمشقي"؟ مثلما يتلاشى، في الوقت نفسه، الاستقبال الطبيعي للعنوان "ميثاق دمشق الوطني"، الذي يبدو بعد قراءة الجملة السابقة، أن المقصود ليس مجرد اسم المدينة الذي أطلق على الميثاق كما قد يتبادر إلى الذهن، وكما كان الأمر في تسمية "إعلان دمشق" أو "ربيع دمشق" من قبل، بل هو التأكيد على "دمشق" بوصفها منطلقًا وانتماءً وذلك من خلال اسم المؤتمرين: "كتلة دمشق الوطنية"، واسم برنامجهم: "ميثاق دمشق الوطني" والحديث عن: "الانتماء الدمشقي" في البيان بوصفه قاعدة "لبناء المواطنة والوحدة الوطنية".
من الواضح أن البيان، الذي صيغ، كما يبدو، على عجل، يقدم موجزًا لما حدَّده الميثاق المشار إليه من أهداف أوجزت فيه بتسعة. لكنه أثار، من حيث لا يدري كاتبه، الحذرَ لمجرد استخدامه جملة لا يمكن إلا الوقوف عندها. كان يمكن، كما قد يرى البعض، مناقشة صيغته المرتبكة أو ترتيب تسلسل أفكاره وأهداف الميثاق حسب الأولويات. لكن الجملة التي تضمنها: "التعريف الدقيق والواضح للانتماء الدمشقي"، الذي لم يكن في البيان لا دقيقًا ولا واضحًا، تجعل العودة ــ بالقدر الذي تتيحه طبيعة المقال ــ إلى الميثاق نفسه بأبوابه السبعة لا غنى عنها لمعرفة الأسس التي صيغت بناء عليها هذه الأهداف من ناحية، والمعنى المراد من "الانتماء الدمشقي" بوصفه الوثيقة الأساس التي يجب أن تناقش أو تنقد نصًّا وروحًا من ناحية أخرى.
نُشِرَ "ميثاق دمشق الوطني" المؤلف من سبعة أبواب على صفحة موقع يحمل اسمه، وقُدِّمَ له على الصفحة الرئيسية  بشرح الخطوات التي أدت إليه، مع تفصيل عددٍ من الأسباب الموجبة التي حملت الهيئة التأسيسية لكتلة دمشق الوطنية على وضعه.
سنلاحظ منذ هذا التقديم "خارج النص"، ما الذي كان يعنيه اختيار اسم دمشق للميثاق من خلال مقاطع أو جُمَلٍ شديدة الدلالة: "تحرير الإرادة الدمشقية الوطنية من الإقصاء السياسي الذي عانت منه نخبها وكوادرها وما زالت تعاني"؛ تضافرت الممارسات القمعية التي قام بها النظام قبل الثورة في التعامل مع مدينة دمشق ومكوناتها المتعددة إلى خلق واقع دمشقي خلال الثورة أشد حصارًا على المدينة وأكثر تشديدًا وجورًا على أهلها"؛ "يقدم الميثاق توثيقًا تاريخيًا إنسانيًا لمعاناة الدمشقيين من الاضطهاد السياسي والاجتماعي والديني (...) ويكشف عن العوامل المسؤولة عن حجب الإرادة الدمشقية عن الساحة الوطنية والدولية"؛ "يرى ميثاق دمشق الوطني أن دمشق قد أرغمت على أن تكون المعقل الأساسي والضيق للنظام".
نحن إذن أمام "مظلومية دمشقية" كاملة الأوصاف، تصاغ ــ إن لم أكن مخطئًا ــ لأول مرة بوضوح لا لبس فيه! وهي تُقدَّم الآن بوصفها الدافع الرئيس لتأسيس "كتلة دمشق الوطنية، وطرح "ميثاق دمشق الوطني". ليس من الممكن في مقال كهذا الإفاضة في مناقشة مبررات وعناصر هذه المظلومية. إلا أن من الضرورة بمكان الإشارة إلى التذكير ببدهية وبواقع يبدو أنهما غابا عن أذهان بعض واضعي الميثاق. البدهية هي أن دمشق هي العاصمة، وأن من الطبيعي جدًا، سياسيًا، أن يضع النظام السياسي، أيُّ نظام، ثقله كله فيها لأن فقدانها يعني انهياره؛ والواقع هو أن ما عانت منه دمشق طوال خمسين عامًا لم يكن مختلفًا في حقيقته عما عانته معظم المدن والقرى في أرجاء سورية كلها. فهل من الجائز سياسيًا، وأخلاقيًا، في مشروع يتطلع إلى أن يكون سوريًا جامعًا أن يضع مظلومية مدينة ما، أيًا كانت أهميتها التاريخية أو الجغرافية، أساسًا له في الوقت الذي كانت سورية كلها تحت نير الاستبداد نفسه والقمع نفسه والتخريب نفسه؟
ذلك أن الميثاق ما إن يقرِّرَ في الباب الأول أن "الجهد السياسي في مواجهة التحديات لن يثمر إلا إذا [ما] كان مبنيًا على أساس وطني جامع"، حتى يعود إلى "المظلومية" في الباب الثاني متحدثًا عن "اضطهاد الدمشقيين وعزلهم عن الحياة العامة؛ وعن التغول على مصالحهم الاقتصادية؛ وعن بث روح التفرقة على أسس طائفية؛ وعن تغييب الإرادة الدمشقية عن الساحة الدولية وعن العمل السياسي". كيف يمكن، والهدف بدء العمل السياسي على أساس وطني جامع، التوقف عند "مظلومية" دمشق دون سائر المدن السورية الأخرى؟ ألا يمكن لكلٍّ من حماه وحمص وحلب وإدلب ودير الزور على الأقل أن تسرد قصتها مع النظام خلال نصف قرن؟
والسؤال هنا: ما معنى الإلحاح في الباب الثالث من الميثاق على "الانتماء الحر الأصيل لمدينة دمشق كعاصمة إرث حضاري إنساني فريد (...) وانتماء وثيق لتنوع الجهد الإنساني الحضاري"؟ أليس الانتماء إلى سورية كلها هو أيضًا انتماء إلى تاريخ حضاري فريد ومتنوع ومبدع؟ وهل يعمينا حب دمشق وموقعها التاريخي عن رؤية العبقرية والجمال فيما تركته أجيال السوريين خلال آلاف السنين من آثار جهدهم في مدن وقرى سورية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؟ أم هو بكل بساطة جهل أو تجاهل تاريخ سورية بكل ما يحفل به من مآثر؟
ذلك أن معظم ما ورد من أهداف في الميثاق حول العدالة الانتقالية، والمعتقلين، والدولة المدنية الديمقراطية، ودور المرأة، والحريات المدنية والصحافية والسياسية، وتفعيل أسس العدالة الاجتماعية، هو موضع إجماع في معظم ما يُطرح اليوم من مشروعات تطمح إلى تجاوز أخطاء السنوات السبع الماضية. لكن "ميثاق دمشق الوطني" هو المشروع الوحيد الذي، وهو يدعو إلى العمل الوطني الجامع، يعتمد المناطقية منطلق وأساس ومبرر وجوده!
لن يكون مقبولًا إزاء ما ذكر أن يُقال بضرورة قراءة نص الميثاق بأبوابه السبعة. إذ أن المقاطع المستشهد بها ضمن سياقها أعلاه مذكورة حرفيًا في أبواب الميثاق نفسه، ولا يمكن لكل من يقرأه أن يتجاهل أو أن يهمل دلالاتها "الدقيقة والواضحة"!. كما لا يمكن لمؤلفيها تعليل ذكرها كما وردت بأن دمشق "مدينة جامعة للسوريين جميعهم"، أو بأنها "خاضعة إلى احتلال نظام الأسد والاحتلال الخارجي والميليشيات المرتزقة التي تدعمه" كما جاء على لسان المدافعين عن "دمشقية" الميثاق. وإلا، فماذا تعني جملة "غياب الإرادة الدمشقية عن الساحة الوطنية والدولية"؟  وهل هناك تناقض ما بين "الإرادة الدمشقية" و "الإرادة السورية"؟ وأي منهما سيكون تعبيرًا عن إرادة الشعب السوري الثائر؟ أو أيّ واحدة من الإرادتيْن يجب أن تكون حاضرة وبقوة على الساحتين المذكورتيْن؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 20 أيلول/سبتمبر 2018.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire