صدقي إسماعيل:
ربما
كان الكاتب والروائي والمسرحي والمفكر السياسي صدقي إسماعيل (1924ـ1972)، أحد
نوادر الكتاب العرب الذي لم يتمكنوا من أن ينشروا إلا القليل مما أنجزوه من مبدعات
فنية ـ على وجه الخصوص ـ في حياتهم، وأن هذه الأعمال لم تعرف إلا بعد وفاتهم. رحل
عن عالمنا وهو في الثامنة والأربعين من عمره، أي حين كان في أوج نضجه ونشاطه. ولم
يكتمل نشر أعماله الكاملة إلا في عام 1977. لكن هذه الأعمال، كالتي نشر منها في
حياته، لم تلق الاهتمام النقدي الذي يليق بها، لا في سورية نفسها ولا في البلدان
العربية الأخرى، ولا يزال صدقي إسماعيل كاتبًا سوريًا كبيرًا ينتظر أن يكتشف من
جديد بوصفه كاتبًا ساخرًا، وروائيًا، وقصصيًا، ومسرحيًا، وكاتب مقالات في الفكر
السياسي لم يكن بفعل ثقافته الواسعة، يعرف الانغلاق الأيديولوجي أو العقائدي.
لم
أتوقع، حين أجريت هذا الحوار معه وأعددته للنشر في مجلة الطليعة التي كنت آنئذ
محررها الثقافي، أنه لن يصل إلى يد القارئ! ذلك أنه نشر بالفعل في العدد 226 الذي
صدر يوم السبت 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، أي قبل أقل من ثمانية وأربعين ساعة من
الإعلان عن الانقلاب الذي أضفى عليه من قام به اسم "الحركة التصحيحية"!
فبدا وكأن العدد قد سحب من السوق أو أنه لم يكن قد وجد طريقه إلى أكشاك الصحف أو
ــ وهو الأرجح ــ أن الناس كانوا خلال ذلك الأسبوع في شغل ابتعد بهم عن الأدب
والثقافة وهم يستقبلون عهدًا لم يكونوا يعلمون آنئذ ما الذي ينتظرهم فيه على
امتداد أربعين عامًا!
لقد
ربطتني بصدقي إسماعيل صداقة كتلك التي ربطتني إلى زميليْه في حرفة الكتابة: أنطون
مقدسي ومطاع صفدي خصوصًا. وكنت شديد السعادة أن أمكنني إجراء هذا الحوار معه وأن
أكتب مقالًا طويلًا عن مجموعته القصصية "الله والفقر" نشر في المجلة
ذاتها.
أتطلع بنشر هذا الحوار
ثانية مع الكاتب والأستاذ والصديق صدقي إسماعيل في مثل هذا اليوم الذي رحل فيه عن
عالمنا عام 1972، إلى أن يكون بمثابة تحية متواضعة له في ذكراه، وتذكيرًا بمبدعاته
التي باتت جزءًا ثمينًا من تراث سورية الأدبي.
** *** **
صدقي
إسماعيل[1]
عن
الرواية والتاريخ
كسائر
أبناء جيله، كان مُطالَباً بأن يحدد موقفه منذ البداية ككاتب. وهكذا راح يكتب المقالة
الفكرية والسياسية والاجتماعية قبل أن يعالج الكتابة الأدبية والروائية منها بشكل
خاص. ثم أصدر كتابه عن "رامبو" عام 1952، وتابع حياته كأستاذ للفلسفة في
المدارس الثانوية ومناضل في حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان ينشر بين الحين
والآخر مقالات أو ترجمات لبعض الأعمال الأدبية.
وفي
أوائل الستينيات، أصدر دراسته عن "العرب وتجربة المأساة"، ثم رواية
"العصاة" وعاد للكتابة الأدبية، يكتب القصة والمسرحية والمقالة الفكرية
والعلمية.
وعلى
الرغم من كل أعماله المنشورة، فإن تجربة صدقي إسماعيل تظل أغنى من كل ما نشره.
ولذلك فإنه يصعب على المرء في الحقيقة أن يتحدث عنه أو عن روايته الفكرية في عدة
سطور أو بضع صفحات.
فما
لم ينشره هو الذي سيحدد ــ كما يخيل إلي ــ رؤية صدقي إسماعيل للواقع العربي خلال
المرحلة التاريخية التي أعقبت نكبة 1948، وبشكل خاص روايته "الحادثة"
التي لم تنشر بعد، وروايته الأخرى التي يكتبها الآن، وهي "رحلة إلى
الغرب".
ومع
ذلك فإن هذا اللقاء ليس أكثر من محاولة التعرف على صدقي إسماعيل مباشرة لابد من أن
تعقبها محاولات أخرى كثيرة بعد أن تتاح لنا فرصة قراءة أعماله التي لم ينشرها بعد،
لنتمكن في ضوئها من تحديد ملامحه: مفكراً وروائياً وكاتباً مسرحياً.
**
كان كتاب "رامبو: قصة شاعر متشرد" بداية حياتك الأدبية. وكان قد مضى عقد
من السنوات على صدوره حين أصدرت روايتك الأولى "العصاة". ما السبب في
وجود هذا الفاصل الزمني غير المألوف في نتاج الكتاب؟
***
ليس من السهل أن أستخدم عبارة "الانقطاع" عن العمل الأدبي أو وجود
الفاصل الزمني الكبير أو غير المألوف بين إنتاج وآخر في تجربة الكتاب دون النظر
إلى واقع الحياة الأدبية والفكرية في بلادنا، ولاسيما في نهاية الأربعينيات وأعقاب
الحرب العالمية الثانية. وأول ما يبرزه هذا الواقع هو الاندماج الكلي بين التجربة
القومية أو التزام القضايا الجماهيرية من ناحية، وبين تجربة الكتابة، وهي ظاهرة
عامة في جميع الأقطار العربية. لقد كان على الكاتب في هذه الحقبة أن يحدد موقفاً
منذ أن يشرع في الكتابة، سواء كانت السلطة تملي عليه ذلك أو "الضغط
الجماهيري" أو كانت بدافع وجداني محض. ولم تكن قضية "تحديد الموقف"
هذه مجرد انتماء حزبي أو سياسي أو عقائدي.. إلخ.، بل كانت نوعاً من المطالبة
بالمشاركة الفعلية في الحياة العامة. وعلى الرغم من أن ظاهرة "النخبة"
كانت تطبع هذه المرحلة لعدم انتشار التعليم واتصال المثقفين بتيارات الحضارة
الحديثة ــ وفي مفهوم النخبة ما يشير إلى شيء من الانعزال أحياناً عن تجارب
الجماهير ــ على الرغم من هذا فإن الكتابة، بألوانها المختلفة، كانت وسيلة لممارسة
التأثير في الآخرين وحفزهم على التغيير.
**
وقصائد الغزل، أو بالأحرى الكتابات الوجدانية بشكل عام.. هل كانت ــ في رأيك ــ
وسيلة لحفز الآخرين على التغيير؟
***
حتى قصائد الغزل ووصف الطبيعة والآثار
الأدبية "الوجدانية" ــ وهي في الظاهر أبعد ما تكون عن الاهتمام بمصائر
الآخرين ــ كانت تنطوي على دعوة إلى مواقف جديدة من الحياة. غير أن الشكل
"الأدبي" الغالب لمثل هذه "الدعوة" كان يتمثل في المقالة
الفكرية أو السياسية أو الاجتماعية أو
الدينية، ولم يكن كتاب رامبو بداية
تجربتي في الكتابة، بل المقالة الملتزمة، وذلك لانتمائي منذ البداية إلى حركة
البعث العربي الاشتراكي. وكانت الصحافة اليومية أو الأسبوعية وارتباطها بتلاحق
الأحداث السياسية على نحو خاص، تستأثر باهتمام الأجيال الناشئة التي تكتب.. في ذلك
الحين، حتى القصص والقصائد والدراسات الأدبية لم تكن تجد لها مكانًا في المناسبات
المختلفة إلا على أعمدة الجرائد.
وقد
كتبت رامبو على هامش المقالات الصحفية، وكتبت في الوقت نفسه كتابًا مماثلًا
عن حياة الفنان فان كوخ لم ينشر حتى الآن. أما رواية العصاة، فقد كانت
عملًا يوميًا استغرق عدة سنوات، نشرت خلالها دراسة عن حياة محمد علي القابسي،
مؤسس النقابات التونسية، ومجموعة قصص مترجمة عن الشاعر الروسي بوشكين تحمل اسم الإعصار.
أما الفواصل الزمنية فهي ترجع إلى أزمة النشر.
**
لقد وضعت تحت كلمة العصاة كلمة رواية. إلى
أي حدٍّ ينطبق وصف الرواية ــ في رأيك
ــ على العصاة؟ وهل كنتَ تتطلع ــ أثناء كتابتها ــ لجعلها رواية بالمعنى الفني
للكلمة؟
***
لا أعرف إذا كان من الصواب أن نطلق اسم الرواية على كتاب العصاة، وهذا ما
أخذه عليَّ الكثيرون. بل إن بعضهم وجدوا فيه مجموعة من القصص يغلب عليها التشتت
لاتساع الفترة الزمنية التي تجري فيها الأحداث، أو تتعاقب الشخصيات. غير أن الحافز
العميق لكتابتها هو أنه لابدّ من أن يكون هناك شاهد على هذه التجارب التي حرصت في
عرضها على سهولة الأداء والارتباط بحرارة الوصف الواقعي، دون النظر إلى اصطناع
"البناء الروائي"، وهو مما يصعب امتلاكه إلا بعد تمرس طويل في الصياغة
الفنية. فقد كان تولستوي يقول في صدد الرواية: الكتاب الحق هو الذي يشعر الكاتب
بأنه لابد من أن يكتب، وهو لا يعني أنه يصبح تلبية لحاجة داخلية فحسب، بل يعني
أيضًا أن الكاتب قد امتلك نهائيًا أسلوبه الخاص في الأداء. ولا أعرف أين أستطيع أن
أصنف "رواية" العصاة في هذا المجال، سوى أن تصوير "القلق"
ورفض الواقع الفاجع و"العصيان".. إلخ.، ليس إلا شيئًا ثانويًا، أمام
ترويض العبارة العربية ــ روائيًا ــ على استيعاب التجربة العربية المعاصرة في
أبعادها المختلفة. هناك نصيحة كان يوجهها تولستوي نفسه" "لابد من
التريث.. إن الكاتب يظن في بدايته أن له رأس عملاق، غير أنه لا يملك إلا يد
طفل". وهو ما ينبغي أن يذكر بصورة خاصة أمام الواقع العربي الذي لم تمتد إليه
بعد يد قوية متمكنة.
**
حاولت العصاة أن تقدم صورة لمرحلة قلقة من مراحل تاريخنا المعاصر.. ورأيت في أؤلئك
الرافضين للواقع الفاجع عصاة لا أكثر.. وتوقفت بهم عند حدود نكبة فلسطين. فلماذا
لم تتابع؟
***
إن اعتبار "رفض الواقع" عصيانًا، كان الموقف الطبيعي لشخصيات الرواية
أنفسهم. إن الذين يحملون روح الثورة والتمرد وهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى حماية
"الواقع" وتبنيه أحيانًا، لا يمثلون الرفض الحقيقي أو الثورة، بل إن
الحس الأخلاقي، كثيرًا ما يدفعهم إلى معاناة الشعور بالعحز والارتياب بجدوى الرفض
أو التمرد. وقد حاولت أن أصور مثل هذه المعاناة في شكلها الإيجابي من خلال علاقات
إنسانية محدودة في حياة أسرة يبدأ وعيها "التاريخي" للأحداث بعد عام
1948، وهو موضوع رواية الحادثة. ولم يتح لها أن تنشر بعد لأنها تتجاوز
الألف صفحة.
**
يمكن القول إن كتابك العرب وتجربة المأساة خلاصة نظرية لروايتك العصاة. ولكن الكتاب النظري لا يقدم أي شعور بالتفاؤل،
في حين أن الرواية تفتح الطريق أمام أمل مفعم بالفرح.. كيف تفسر ذلك؟
***
لا علاقة لكتاب العرب وتجربة المأساة برواية العصاة. ولا أملك القول
إن هناك نظرية معينة في الكتاب أو الرواية. فالكتاب ليس إلا دراسة موجزة عن موقف
الإنسان من "الفاجع" في وجوده، تهدف إلى الربط بين المأساة التي يمثلها
الفقر أو الموت... إلخ، وبين انهيار القيم الأخلاقية. ومنذ أن يسع الشعب أن يعي
هذه العلاقة، فإنه يكون على عتبة حضارة جديدة، في حين يكون افتقاره إلى هذا الوعي
مصدرًا لكثير من الأوهام تحجب عنه طريق الانبعاث والتجدد. وأحيانًا يتوهم الأنانية
والانسياق الجماعي استقلالًا في الفردية والأصالة، وتارة يخيل إليه أن التغيرات
السطحية العادية في حياة المجتمع ثورة حقة، وقد يجد في الأوهام ذاتها صورًا للحقيقة
الراسخة. إن جميع الحضارات ــ بما فيها الحضارة العربية ــ قد نشأت عن تمثل
"الفاجع" في وجود الإنسان على حقيقته؛ وكان هذا التمثل يقترن دائمًا
بالتزام القيم الخلقية التي تهددها المأساة بالانهيار، وعندئذ يبرز القلق الحقيقي
على المصير البشري، ويفرض على الكائن الإنساني أن يحدد في شجاعة مكانته من العالم،
ويلتزم مصيره الأخلاقي. بمثل هذا الالتزام وقف الإغريق مثلًا أمام فكرة
"القدر"، وكان اعترافهم بهيمنتها الطاغية بداية الوعي الحضاري؛ ووقف
العرب أمام فكرة الفناء، وكان الإذعان لديهم سبيلًا للرد عليها بالجهاد في سبيل
الحق الذي تجسده فكرة الخلود. ولم تبدأ الحضارة الحديثة إلا عندما "وعى"
الإنسان مكانته في الطبيعة، فرد على كونه "حادثة" تحمل همَّ الوجود
وتجربة الموت بالقيم الحضارية الراهنة: العمل والواجب والاكتشاف العلمي.. إلخ.
أما المواقف "الإنسانية" التي تمثلها
الشخصيات في رواية العصاة، فإنها نوع من معاناة الواقع لا يملك فيها الفرد
أو الجماعة إلا "الشعور" بضرورة الاختيار بين الاستسلام الذي يمنح الطمأنينة في الغالب وبين التحدي. إنه
مجرد شعور لا أكثر. وحين يتحول إلى موقف عملي فإنه يأخذ طابع العصيان لمجرد أنه لا
يستهدف إلا ما يتعلق بالمصير الشخصي.
**
قلت في رسالتك إلى القارئ في مقدمة رواية "العصاة": "حرصًا على
الإطار التاريخي الذي هو الغاية من كتابة هذه الرواية، لابد من الإشارة إلى أن
جميع أشخاصها هم أبناء الزمن الذي عاشوا فيه، ومن الالتباس أن يعتبروا نماذج في
قليل أو كثير". هل يعني ذلك أن المرحلة التاريخية التي تحدثت عنها لم تقدم
نموذجها الكامل إلا عبر عديد من الأفراد؟ وما العلاقة ــ في هذا المجال ــ بين
الرواية والتاريخ؟
***
الإنسان الروائي هو في طبيعته كائن تاريخي. وهو يزداد التصاقًا بتاريخيته ــ إذا
صحّت العبارة ــ كلما كانت الشروط الموضوعية صارمة في التلاعب بمصيره. في حين يبدو
"النموذج" في القصة أو الرواية مظهرًا لتجاوز هذه الشروط. بل إنه يشير
إلى نوع من التوجيه أو التعليم. ولذلك فهو يقترن غالبًا بفترة الالتزام. غير أن
هناك فرقًا بين التزام التجربة كما يمارسها الإنسان في الواقع، وبين التزام المستقبل.
مثال النمط الأول شخصية "البطل الروائي" بالنسبة لتعاليم "الواقعية
الاشتراكية. مثلًا، النموذج البروليتاري
الذي يمارس النضال من أجل مجتمع جديد يمثله هو في الواقع الحي. أما النمط الآخر،
فإن الشخصية "الروائية" تصور الإنسان سؤالًا كبيرًا في العالم لا سبيل
فيه إلى الجواب النهائي، لأن جميع التجارب من خلاله تستعاد من جديد. لقد كتب
أندريه جيد عن مارسيل بروست بعد أن أهمل طويلًا خطورة اكتشافه لتيار الوعي في فن
الرواية: "إننا نشعر طوال قراءته بأنه يعيرنا رؤيته الجديدة إلى الأشياء، وما
كنا نراه سقيمًا أو ركامًا في العالم، يصبح أمامنا بناءً فنيًا لا سبيل إلى
التقاطه إلا بالحساسية المرهفة". في حين أن بروست كان عديم الاكتراث بمفهوم
النموذج وكان "زمنيًا" أكثر مما
ينبغي، بل إنه يؤكد أن كلَّ إنسان شخصيات لا تحصى، وأن أشدّها رسوخًا ما يدعوه
بالشخصية "البارومترية"، أي ذات المزاج الذي يغلب عليه التأثر السريع
بتغيرات الجو. وعلى هذا النحو، فإنه رغم ذاتيته الجامحة وحرصه على
"فنية" الرواية، يؤرخ لأقدم تجربة يعرفها الإنسان: مواقفه الحية اليومية
من الطبيعة. إن المفهوم التقليدي للنموذج لا وجود له في الرواية، لأنه ما من شخصية
روائية حية يمكن أن تخرج من إطارها التاريخي، إلا إذا فقدت حرارة التجربة التي
أملتها على الكاتب. وهو ما يحدث في تحويل الروايات "الكبيرة" إلى أفلام
سينمائية مثلًا. لقد استطاعت السينما الأمريكية أن تجعل من الجريمة والعقاب
قصة بوليسية مثيرة، ولكنها ألغت دستويفسكي منذ أن جعلت راسكولينكوف نموذجًا للمجرم
"الذكي" وجعلت "سونيا مومسًا "بريئة". لقد أخرجتهما من
الشارع الذي يمثل حقيقة الشارع البشري لكي يعلقا في إطار على جدار المنزل. ومن
الغريب أن محاولات الرواية العربية كانت ــ وما تزال ــ تنطلق من شيء مماثل. نريد
شخصيات تتجاوز محليتها التاريخية لكي تصبح صالحة لكل جدار، كما هي الحال مثلًا في هاملت
ودون كيشوت وراستينياك ومدام بوفاري.. إلخ. وعبثًا تصدر عن
هذه المحاولات آثار جدية ذات طابع عالمي، قبل أن ترصد حركة الشارع في رواية فنية
صادقة. وصفة "الصدق" هذه تعني الإيمان بجدارة التجارب الإنسانية التي يعانيها الآخرون، واستيعابها قبل الإلحاح
المباشر على ما هو "ذاتي" في التجربة المعنية.
ثمة ملاحظة أخيرة عن العلاقة بين الرواية
والتاريخ في التراث العربي الذي يحرص الكثيرون على التأكيد بأنه لم يحمل تجارب
روائية جدية يمكن أن يستند إليها الكاتب المعاصر في إنتاجه ويتابعها، أي ينعطف بها
في ميادين جديدة. صحيح أننا لا نملك في هذا المجال إلا قصص العرب القديمة، وحكايات
الأدب الشعبي بما فيه ألف ليلة وليلة وغيرها. ولكن المؤرخين العرب
القدامى كانوا جميعًا ــ باستثناء ابن
خلدون ــ نماذج بارعة في ما يشبه الأدب الروائي. لقد كانوا يتمثلون في سرد الوقائع
رؤية غير تاريخية ــ بالمعنى الصحيح أقرب إلى الفن. ومن ثمَّ كان لكل منهم جوّه
الخاص في استعادة تجارب الماضي. وهل كان فن الرواية ــ والمسرح أيضًا ــ في
بداياته التقليدية يهدف إلى أكثر من هذا
عقب انحسار عصر النهضة وظهور الرواية في أوربا؟ إن جهل التاريخ
"المكتوب" عن الحياة العربية ــ ولاسيما في مراحله القريبة، أعني عصور
الانحطاط ــ ورفض ماله من طابع "أدبي" يمكن أن يكون منطلقًا في التجربة
المعاصرة للرواية العربية، هما من أبرز عوامل الارتباك والتخلف "الفني"
في هذه التجربة. مع العلم أن هذا لا يلغي
ضرورة التأثر العميق بالتراث العالمي في اتجاهاته المختلفة، على أن لا نغفل
أن هناك جمهورًا نكتب الرواية من أجله، وهو يطمح إلى الحقيقة والفن معًا.
**
في تعليق لك عن الرواية الجديدة تقول إنها "ترفض السرد وترغم جميع الحواس على
العمل.. ترتكز على مواقف ومشاعر هي الأساس في فن الرواية". فما الذي يعنيه
التجديد في أدب الرواية برأيك، وهل ثمة تجديد في الرواية العربية الحديثة؟
***
ليس من السهل أن نعرف موجة "الرواية الجديدة" في التراث العالمي
المعاصر، لأن من أولى مظاهر التجديد فيها أنها ترفض الاعتراف بجميع المفردات
المألوفة السابقة في التعريف بفن الرواية (من المذهبية التي حملتها الرومنسية
والواقعية والنزعة الطبيعية.. إلخ.، إلى تيار الوعي والتحليل النفسي والالتزام
وغير ذلك..). غير أن هذه الموجة تنحسر في محاولات الرواية العربية الحديثة عن
تأثيرات واضحة لا يمكن تقييمها ببساطة ــ منها التخلي عن السرد والدمج بين التجربة
الشعرية بما فيها من ارتباط بمعطيات الخيال وإرهاف الإحساسات في آن واحد وبين
تجربة الأداء القصصي بالإضافة إلى اقتحام التقلبات الميتافيزيقية ــ إذا صح التعبير ــ في تصوير الحدث الروائي.
غير أن جميع هذه التأثيرات ما تزال تسبح في جو سديمي مرتبك. فهي لم تجد بعد
"أرضية راسخة" لجهل ملامح الواقع العربي، سواء في شكل الأداء ــ الذي هو
صلتها الحية بالجمهور ــ أو في قوة التعبير عن التجربة الحية. وهو ما يقال أيضًا
في الحديث عن "الجديد" في القصة العربية المعاصرة.
**
ماذا أنجزت من الأعمال القصصية، وهل لديك مشاريع روائية؟
***
إنني الآن في صدد إعداد رواية "الحادثة" للنشر بعد أن طبعت أخيرًا ثلاث
قصص طويلة تؤلف كتاب الله والفقر. وقد نشر معظم ما كتبت في هذا المجال في
الصحف: مسرحية سقوط الجمرة الثالثة"، وقد أخرجت للتلفزيون؛ ومسرحية عمار
يبحث عن أبيه؛ ومسرحية الأحذية، إلى جانب قصص قصيرة متفرقة. وما أزال
أعمل في رواية تحمل اسم رحلة إلى الغرب. إن المشروع الوحيد الجدير
بالاهتمام والعناية في كل كتابة من هذا القبيل هي العمل اليومي. إن أفضل ما يكتب
هو الذي يأتي أثناء الكتابة دون أن يخطط له مسبقًا بصورة نهائية.
[1] يشغل
الآن منصب أمين المجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم الاجتماعية، كما يشغل
منصب رئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب.
** نشرت في مجلة الطليعة، العدد 226 الصادر يوم السبت 14 تشرين ثاني/نوفمبر 1970؛ ثم نشرت بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين على رحيل الكاتب والروائي والمفكر صدقي إسماعيل على موقع جيرون يوم الأربعاء 26 أيلول/سبتمبر 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire