vendredi 31 août 2018



حنا مينه، أو البطل الأسير

بدرالدين عرودكي 
بين حوارين أجريتهما معه، الأول بدمشق ونشرته مجلة "الطليعة" السورية عام 1970، والثاني بباريس ونشرته مجلة "اليوم السابع" الفلسطينية عام 1984، لم يكن متوقعًا أن يغيِّر حنا مينه رأيه في روايته التي بقيت، على مر السنين وتكاثر رواياته من بعدها، روايته المفضلة التي يقول، إنها "المرأة التي تزوجتُها في عنفوان الصبا ونضوج الغلمة"، وأن كل رواياته الأخرى، "قياسًا إليها بنات راهبات"! فرق شاسع، في الحقيقة، سرديًا وفنيًا وبناءً روائيًا، بين روايته الأولى المصابيح الزرق التي نشرها عام 1954 وهو في الثلاثين من عمره، وروايته الثانية الشراع والعاصفة التي صارت جوهرة عقد رواياته، والتي كتبت خلال سنوات "نضوج الغلمة" بين الثلاثين والأربعين، أي خلال السنوات الأربع التالية على الأولى، لكن مخطوطها ضاع ثلاث مرات، قبل أن تنشر في طبعتها الأولى بعد اثنتي عشر سنة من نشر روايته الأولى، أي في عام 1966. وعلى أن عدد رواياته المنشورة قارب اليوم أربعين رواية؛  لكن هذه الرواية بالذات، التي استقبلت يوم صدورها كنسمة عليلة في صيف حارّ، على غرار أولى الروايات المؤسِّسَة التي عرفتها سورية في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، كروايتي مطاع صفدي جيل القدر (1959) وثائر محترف (1961)، ورواية شكيب الجابري (ولم تكن أولى رواياته) وداعًا يا أفاميا (1960)، ورواية هاني الراهب المهزومون (1961) ورواية صدقي إسماعيل العصاة (1964)، بوجه خاص بين  محاولات أخرى، لم تحظ بالانتشار الذي عرفته، على الصعيد العربي في خمسينيات القرن الماضي، روايات نجيب محفوظ أو يوسف إدريس خصوصًا. وكان لابد من انتظار أكثر من عشرين سنة على صدورها حتى يصل اسمها واسم مؤلفها إلى عدد محدود من القراء في البلدان العربية الأخرى.
إذ على أنها الرواية التي أسست سمعة كاتبها بوصفه روائي البحر في أدب الرواية العربية، والتي كانت في صرامة بنائها الفني وفي أسلوبها قمينة أن تكون جوهرة في عقد الروايات العربية في النصف الثاني من القرن الماضي، وعلى أن حنا مينة كان أحد نوادر الكتاب العرب الذين انصرفوا إلى الرواية كليًا بالدرجة الأولى وفي المقدمة منهم نجيب محفوظ، إلا أن الاختلاف بين الكاتبين من ناحية، وجوهرتي عقد روايات حنا مينة المتمثلة في الشراع والعاصفة، وروايات نجيب محفوظ، أي ثلاثية بين القصرين/ قصر الشوق/ السكرية، من ناحية أخرى، سرعان ما يبرز واضحًا على هذين الصعيديْن. كان نجيب محفوظ قد بدأ مشروعًا روائيا تمثل في رواياته التاريخية الثلاث، لكنه سرعان ما تخلى عنه إلى مشروع رصد تطور وتدهور الطبقة الوسطى في المجتمع المصري المعاصر اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا، كان يعمل على إنجازه روائيًا في سيرورة روائية حركية تتلاءم في تطورها مع ثيمات كل رواية ومع الإشكالات التي تطرحها. وكان عماده في ذلك ما تتيحه الرواية الحديثة، منذ القرن التاسع عشر في الغرب، من قواعد في مقدمتها حرية شخوص الرواية التي يتيحها السياق والموقف في العمل الروائي من دون أي تدخل مباشر أو غير مباشر من الروائي. وهي قواعد ظل محفوظ مخلصًا لها مثلما ظل يتابع تحقيق مشروعه طوال حياته روائيًا وقصصيًا.
هذا في حين بدأ حنا مينة الكتابة مهمومًا بالكتابة والقص أساسًا لكي يسرد بواسطتهما هموم المجتمع الذي يعيش فيه انطلاقًا من مقولات مُبسّطة ومبتسرة كانت تستخدم في حلقات الحزب الشيوعي السوري عند منتصف القرن الماضي وتسلل بعضٌ منها إلى أولى رواياته. ولئن كان قد ورث موهبة القصّ عن والده، الذي عاش حياته مشرّدًا معذبًا وكان يروي كل خبر يسمعه في صيغة قصة بكل ما تتطلبه من إيقاع وتشويق، كما بدا ذلك واضحًا في روايته الأولى، إلا أنه كان مع ذلك يحتاج آنئذ، كي يروي القصص كتابة، إلى ما هو أكثر من الموهبة. وربما هذا ما يفسر، لا غياب المشروع بالمعنى الذي سعى إليه نجيب محفوظ فحسب، بل كذلك الفارق الكبير المُشار إليه، على صعيد البناء والكتابة، بين روايتيْه، الأولى الثانية. ففي الأولى، يتعثر الخيط القصصي من دون غاية محددة بين الشخصية الرئيسة والتطور الحدثي، والشخصيات الأخرى، والوصف لمدينة سورية خلال الحرب وتحت الاحتلال... هذا من دون الحديث عن الخطابات الأيديولوجية الفجّة والمقحمة فيها إلى حد التعسف؛ أما الثانية، فهي تنتظم وفق بناء شديد الصرامة والدقة والشفافية؛ وهو بناء يسمح بقراءات متعددة لكل منها مسوغها الخاص. ومع ذلك فهذا الفارق الذي يتجلى واضحًا بين الروايتيْن على صعيد البناء والسرد، سرعان ما يتلاشى على صعيد الخطاب الأيديولوجي الذي اختلفت طريقة التعبير عنه وبدت أكثر نضجًا في الشراع والعاصفة عن تلك التي رأيناها في المصابيح الزرق. بعبارة أخرى، حاول حنا مينة في روايته الثانية هذه، مخلصًا للمقولات الأيديولوجية التي كان يرى مجتمعه من خلالها، أن يتلافى المباشرة والفجاجة من خلال طبيعة علاقة أقامها بين شخصيتين في الرواية: الطروسي وكامل.
نعلم أن الشراع والعاصفة تقوم على مشروع الطروسي، البحار والربان، للعودة إلى البحر الذي اضطر للابتعاد عنه بسبب غرق سفينته. وهو مشروع يسوغ الرواية بقدر ما يسوغ شخصية الطروسي فيها على النحو الذي صُوِّرَت وفقه على امتداد صفحات الرواية، باستثناء نهايتها: رجل اشتهر بإنجازاته كبحار، اغتنى بمعارف كانت تزداد طوال سنوات حياته مع البشر وفي البحر؛ تجسدت فيه قوة الطبيعة في عنفوانها وأريحيتها وانعتاقها، في فهمه العفوي للحرية وللعدالة وللصدق، فكان لابد من أن يصير في الرواية مصدرًا للقيم النبيلة في مجتمع يرزح تحت الاحتلال وهيمنة الجشع والاستغلال. أما كامل، فهو معلم ومثقف شاب؛ مناضل شيوعي مرهف يحاول أن يغني معارفه النظرية بالتجربة التي يتيح لها أن تكيّف شخصيته وتعمق نضاله. حين يلتقي الطروسي به، يشعر نحوه بالإعجاب لأنه رأى فيه تمام وحدة السلوك والعقيدة. لكن كاملًا كان هو الآخر مأخوذًا بالطروسي الذي كانت شخصيته تزيد من توقه إلى إغناء تجربته النضالية حين يلتقي مثلاً أعلى مجسَّدًا. وإذا كان الطروسي، الذي يفيض أريحية وصدقًا وإخلاصًا، يجسِّدُ الطبيعة في نقائها وعذريتها الأخلاقية واقعًا وتاريخًا، فإن كامل كان لا يزال تنظيرًا "صناعيًا" للطبيعة، يتوق إلى أن يصير الطروسي! من يمكن أن يكون من بينهما، في هذه الحالة، مصدر القيم للآخر؟ منطق العلاقة كما رسمت في الرواية يؤدي إلى أن يكون الطروسي هو هذا المصدر. لكن منطق الروائي، وهو يتعسف في الحدّ من حرية بطله، جعل من الشاب كامل مصدر القيم لمن كان يفترض أن يكون في نظره مثله الأعلى !
لم يوافق حنا مينة على هذه القراءة حين طرحتها عليه سؤالًا خلال حوارنا الثاني عام 1984. كنت أتوقع والحق يقال إجابة تعتمد النص الروائي نفسه الذي اعتمدته هذه القراءة، لا التفسيرات التي جاءت تعكس مقاصده لا منجزه. إذ أنه بقي في إجابته ــ وهي منشورة ــ، حبيس المفاهيم الأيديولوجية والنظرية التي حاول من قبلُ انطلاقًا منها واعتمادًا عليها رسم ــ وبالتالي تأطير ــ شخوص روايته التي كانت، على غير إرادة منه، كما هو واضح، قادرة، بين الحين والآخر، على أن تفلت من أطرها وتسير حرّة في طريقها ووفق منطقها. كان حنا مينة أثناء مثل هذه الحالات، القليلة والحق يقال في أعماله الروائية، يستسلم لطبعه ــ أو لطبيعته إن شئنا، كما فعل في رواية الياطر على سبيل المثال. لكنه الاستثناء الذي كان يؤكد القاعدة التي لا يمكن لقارئ أن يخطئها في جوهرة عقد رواياته وأحبها إليه: الشراع والعاصفة.

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 31 آب / أغسطس 2018.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire