بدرالدين عرودكي
حين
أنهى عمر أميرالاي أول فيلم وثائقي طويل أخرجه وشاركه في تصميمه وكتابته سعد الله
ونوس، الفيلم الذي حمل عنوان: الحياة اليومية في قرية سورية، لم يكن مع
شريكه قد درسا علم الاجتماع، ولا اطلعا أو تدربا في مدرسة عليا أو في جامعة من قبلُ
على ممارسة الدراسات الاجتماعية في ميادينها المختلفة. كان سينمائيًّا وكان شريكه
كاتبًا مسرحيًّا، لكنهما، مع ذلك، أو ربما لأنهما كانا على وعي حادٍّ بإمكانات الأداة
السينمائية وبخطورتها، أنجزا أول وأهم دراسة اجتماعية سياسية جديرة بهذه الصفة، عبر
وثيقة سمعية/بصرية لا تزال تنطوي على شهادات ثمينة ندر أن انطوى عليها عمل سينمائي
أو فني أو أدبي أو بحث في العلوم الاجتماعية في تاريخ سورية الحديث.
كانت
النسخة الأولى التي أنجزاها من الفيلم بمثابة الطبعة الأولى التي كانا ينويان
إجراء التعديل عليها وإغناءها بالملاحظات
التي سيبديها بعد رؤية الفيلم أبطاله أنفسهم، الذين لم يكونوا ممثلين محترفين في
فيلم روائي تخييلي، بل كانوا يعيشون حياتهم التي كان هدف الفيلم الوثائقي نقلها
صورًا يمكن لكل مواطنيهم في سورية أولًا، لا أن يروها فحسب، بل أن يعيشوها مكثفة
خلال ما يقارب تسعين دقيقة. كان أبطال الفيلم الذين لم يسبق لهم أن عرفوا السينما
من قبل يؤدون إذن دورهم الحقيقي، أي يستمرون في العيش أمام الكاميرا دون سيناريو
مسبق. وكان عليهم أن يروا الفيلم قبل أن يراه الجمهور، وأن يقولوا، أمام من قاما
بتشخيصهم وبتصويرهم وبتحديد مواقعهم في هذا القطاع من المجتمع السوري، وفي لحظة
تاريخية محددة، ما كان يبدو لهم في الفيلم من واقعي، أو كاذب، أو مزيِّف، أو مفتقر
إلى الدقة. ومن ثمَّ، كان من المأمول أن يضاف إلى الفيلم الأصلي ملحق يشمل والحالة
هذه رأي أبطال الفيلم أنفسهم فيما رأوه. سوى أن صانعيْ الفيلم، ما إن انتهيا منه،
وقدمته المؤسسة العامة للسينما (التي كان يديرها آنئذ حميد مرعي والذي أخذ على
عاتقه بصفته هذه إنتاج هذا الفيلم) إلى الرقابة لإجازته، حتى صدر قرار الرفض
القاطع لعرضه على الجمهور. وكان هذا القرار بمثابة حكم بالإعدام على هذه المبادرة
الجريئة وغير المسبوقة في تاريخ السينما العربية؛ فقد اعتبرت السلطات المسؤولة هذا
العمل الرائد ــ "كما نقل عن وزير الثقافة آنئذ ــ "شتيمة للدولة التي موَّلت أنتاج هذا الفيلم".
والحقيقة
أن أحدًا لم ينتبه، عند صدور هذا القرار، إلى المعنى الخفي الذي ينطوي عليه، والذي
يمكن تلخيصه بجملة بسيطة يمكن أن تصاغ بطرق مختلفة: لا مجال للحديث عن المجتمع
الراهن في سورية بأية طريقة كانت؛ أو: لا مكان للدراسات الاجتماعية في سورية، أيًا
كانت وجهتها أو غاياتها؛ بل وقبل ذلك كله: لا مكان كذلك لتدريس العلوم الاجتماعية
التطبيقية من أجل إعداد باحثين أكفاء في مختلف ميادين البحث الاجتماعي في بلد
كسورية؛ هذا التدريس الذي كان من المفروض أن يكون الأولوية الأولى في مشروعات كل
من تصدوا لحمل المسؤولية السياسية أو الحزبية أو الثقافية فيها.
كنا
لا نزال يومئذ في السنة الأولى من
سبعينيات القرن الماضي. وكان ذلك يعني استمرارية "تقليد" سارت عليه
الحكومات المتعاقبة في سورية، مدنية وعسكرية، طوال ما لا يقل عن نصف قرن. لكن هذا
"التقليد" سيرقى طوال عهد الأسد، أبًا وابنًا، إلى مقام "المحرَّمَ"،
أي ما يشبه التحريم المطلق، والصامت، لأي دراسة اجتماعية وصفية حقيقية تتناول
مشكلة اجتماعية راهنة. ذلك ما يفسر في جانب جوهري تحريم عرض أفلام عمر أميرالاي
التالية لفيلمه الطويل الأول "الحياة اليومية في قرية سورية": "الدجاج"
و"طوفان في بلاد البعث"؛ هذا التحريم الذي كان أبلغ تعبير عن
"السياسة الثقافية" للعهدين الأسديين، أي طوال ما يقارب نصف قرن.
لا
بد من الإشارة إلى أن أصول هذا "التحريم" الذي لم يكن يقول اسمه إن صحَّ
التعبير، كانت تتواجد في "تراثنا الثقافي/السياسي منذ العقد الثاني من القرن
العشرين. وقد استمر الوضع على هذا النحو حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي،
لكنه تطور مع العهد الأسدي وصار بليغ التعبير منذ بداية السبعينيات ولا يزال كذلك
حتى اليوم.
في
مقال سابق حول الثيمة ذاتها، جرى الحديث عن غياب علم الاجتماع ودراساته التطبيقية
في التعليم الجامعي السوري، وأشير فيه إلى أن إعادة تعميد قسم الفلسفة والدراسات
الاجتماعية من خلال قسمين مستقلين أحدهما للفلسفة والآخر لعلم الاجتماع لم، ولن
يغير من الأمر شيئًا، مادام التحريم لا يزال يطال الدراسات التطبيقية لمختلف
المظاهر والمشكلات الاجتماعية الراهنة، لكنه يسمح فيما وراء ذلك، أي دراسة كل ما
ينتمي إلى الماضي.
هكذا
بقيت المكتبة العربية شديدة الفقر بالدراسات الاجتماعية التطبيقية حول المجتمع
السوري المعاصر. وستبقى الدراسة الفريدة، التطبيقية والميدانية، في العلوم
الاجتماعية التي أنجزت عن بلاد الشام، تلك التي قام بها رفيق التميمي ومحمد بهجت
في بداية العقد الثاني من القرن الماضي، استثناء يؤكد القاعدة؛ فقد أجريا دراستهما
الميدانية التي حملت عنوان ولاية بيروت، وتناولا فيها الساحل السوري
واللبناني والقسم الشمالي من الساحل الفلسطيني عشية الحرب العالمية الأولى، وقدما دراسة
تفصيلية ودقيقة باتت الآن وثيقة شديدة الأهمية لمختلف جوانب الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية في
ساحل البلدان الثلاثة، ولاسيما التركيب السكاني فيها، إثنيًا وطائفيًا وثقافيًا.
لن
نعثر على مثيل تلك الدراسة في الدراسات الأخرى في العلوم الاجتماعية عامة، وعلم
الاجتماع خاصة، التي تناولت المجتمع السوري الحديث منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى
اليوم. سوف نعثر على دراسات قيمة ولا شك،
لكنها لا يمكن أن تندرج في عداد الدراسات الاجتماعية التطبيقية بقدر ما يمكن أن
تصنف ضمن أبحاث التاريخ الاجتماعي، الوصفي أو العام، لقطاعات محددة من المجتمع
السوري، في مراحل زمنية تغطي، على سبيل المثال، فترات محددة خلال القرنين، الثامن
عشر والتاسع عشر، ككتاب يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق 1772 ـ 1840؛ أو
كتاب عبد الله حنا، حركات العامة ـ الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر،
وكتابه الآخر العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران 1850 ـ 1918.
لا
شك أن جهد عبد الله حنا البحثي في مجال التاريخ الاجتماعي هائل في هذا المجال، إلا
أنه لم يكن يتجاوز هذا الإطار (وما كان عليه بالضرورة أن يتجاوزه بحكم اختصاصه
الأساس كمؤرخ) إلى مجال الدراسات الاجتماعية التطبيقية التي نعنيها. على أن الدلالة
الأشد بلاغة في هذا المجال، كان غياب مركز بحث وطني ينتج الأبحاث والدراسات. لم
تبادر أية حكومة لإنشاء مثل هذا المركز، ولم تبادر أية صحيفة ــ وكلها رسمية كما
نعلم ــ إلى إنشاء مركز دراسات خاص بها كما فعلت مؤسسات صحفية كبرى في العالم
العربي وخصوصًا في مصر، كما فعلت مؤسسة الأهرام حين أنشأت مركز الدراسات
الاستراتيجية مثلًا.
هكذا
بقي المجتمع السوري المعاصر ذلك المجهول الذي لم يسمح لأحد بدراسته أو محاولة
معرفته. وكما أن أفلام عمر أميرالاي التي حاولت اختراق هذه المحرمات قد منعت
وحرِّم على السوريين رؤيتها، كذلك حيل بين كل من تسول له نفسه من الباحثين ــ إذا
ما وجدوا داخل سورية أو خارجها ــ وبين مباشرة مثل هذه المحاولات.
** نشر على موقع جيرون، يوم الجمعة 29 حزيران 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire