jeudi 14 juin 2018




الترجمة قراءة وتأويلًا 
بدرالدين عرودكي 
للمَرَّة الأولى دومًا مذاق خاص: بكارة الاكتشاف، أيًا كان موضوعه. واكتشاف رواية فذٌّة خلال قراءتها للمرة الأولى، متعة تتلاشى ما إن تطوى الصفحة الأخيرة فيها. متعة لا تتكرر حتى مع العودة إلى قراءتها ثانية بعد سنوات. ثمة، مع ذلك، ضرب من الروايات التي تملك عنصرًا، لا يمكن تحديده على وجه الدقة، يجعلها قادرة على أن تنبعث جديدة، في كل مرة تقرأ فيها، وكأنها المرة الأولى. ويبدو أن من نوادر مثل هذه الروايات، تلك الرواية التي كتبها الصحافي البريطاني المولود في الهند جورج أورويل (1903ـ1950) ونشرها قبل تسعة وستين عامًا، في عام 1949، تحت عنوان 1984، والتي تملك على وجه التحديد هذا العنصر، إذا ما نظرنا إلى الرقم المتصاعد لمبيعات هذه الرواية حتى اليوم، ولاسيما في البلدان الناطقة بالإنكليزية، لغة كاتب الرواية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
فهذا النص الذي كتب قبل خمسة وثلاثين عامًا من الموعد الذي حدّده عنوانه للقارئ يبدو مع مرور الأيام وكأنه عرض نبؤة لاستمرارية نسق ونظام وجهاز مفهومي تشخصه الرواية، شهده النصف الأول من القرن العشرين في روسيا السوفياتية، وفي ألمانيا النازية، وفي إيطاليا الفاشية، وفي إسبانيا المزيج من كل ذلك بعد الحرب الأهلية فيها. لكن القارئ العربي الذي عاش نظم الاستبداد في مختلف بلدان العالم العربي التي يعيش فيها منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، أي منذ نشر الرواية بالإنكليزية وقبل أن تنقل إلى العربية بزمن طويل، والقارئ السوري بوجه خاص، يكاد يرى في الرواية تجسيدًا لواقع تخييلي ينازعه على موقع الصدارة واقع حقيقي قائم، جسدته نظم كثيرة، ولاسيما منها النظام الأسدي، بوجه خاص، منذ عام 1970، ولا يزال مستمرًا في سورية وفي سواها من بلدان العالم العربي وسواه في آسيا وفي أفريقيا وإلى وقت قريب في أمريكا اللاتينية.
مناسبة هذا الحديث صدور ترجمة فرنسية جديدة مؤخرًا لهذه الرواية تطرح، ككل عمل جاد، عددًا من المسائل الإشكالية في مجالها، بما هي من حيث المبدأ قراءة "أخرى" للنص، تنطوي على تأويل جديد لا يمكن إلا أن يختلف عن القراءة السابقة عليه، تلك التي نشرت عبر ترجمتها في فرنسا على يد آميلي أوديبرتي، في السنة التالية لنشر الرواية، أي عام 1950.
ففي مقابلة جرت معها ونشرها ملحق الكتب بصحيفة اللوموند، تطرح صاحبة هذه الترجمة الجديدة، جوزيه كامون، التي أبدعت في ترجماتها التي عرفها القارئ الفرنسي لروايات الكاتب الأمريكي فيليب روث، إحدى أهم إشكاليات الترجمة عمومًا ــ وربما معضلتها الأساس ــ ولاسيما إعادة الترجمة: خيار المترجم أمام النص. فهي ترى أن هناك المترجم المتزمت، أي من يريد "العثور على حقيقة النص انطلاقًا من فكرة وجود حقيقة نهائية ووحيدة، شيء أشبه بالمطلق الإلهي"، وعلى هذا النحو تجري مقاربة ترجمة كل نص له صفة القدسية؛ وهناك المترجم اللاأدري، أي "ذلك الذي لا يملك، باعترافه، هذه الحقيقة لوحده، طالما أن كلَّ نصٍّ مصنوعٌ من إنتاجه ومن استقباله معًا؛ وفي هذا السياق، ينبني معنى النص مع كل قراءة متعاقبة، تشارك فيها بطبيعة الحال الترجمات" التي تجري له. ولكن ما الذي يبرر إعادة ترجمة مُبْدع أدبي اشتهر بسبب بعده السياسي الذي غطى على جوانبه الأدبية المحضة؟  هل كانت، أو هل باتت، الترجمة القديمة عاجزة عن أن تقول النص في كل أبعاده، الأدبية والسياسية؟ وما الحافز الذي يحمل مترجمًا على أن يستعيد نصّا بُذِلَ في سبيل ترجمته ما يكفي من الجهد؟ أم هي القراءة الجديدة التي يفرضها النص بفعل ما تراكم عليه وحوله خلال عشرات السنين من تأويلات وتعليقات وضروب مختلفة من سوء الفهم أو التفاهم؟ لعل الأقرب إلى الواقع هو كل ما سبق ذكره، وسواه أيضًا مما يمت بصلة إلى طبيعة وهدف القراءة التي يقوم بها من يقرر إعادة الترجمة.
في نقد الترجمة الأولى التي قامت بها آميلي أوديبرتي، تقول جوزيه كامون إنها لم تراع تباين ضروب مستويات اللغة المختلفة في تمثيلها للفوارق الطبقية القائمة بين مختلف الانتماءات الاجتماعية والسياسية لشخوص الرواية. فلغة الترجمة الأولى نموذجية لدى شخوص الرواية، متشابهة بينهم على اختلافهم، ومن ثمَّ فهي لا تقول ما قصد إليه أورويل في نصِّه. ذلك ما أدى في الحقيقة إلى طمس الجوانب الأدبية المحضة في الرواية على صعيد البناء وطريقة التأليف، بقدر ما أسهمت في إخفائها أيضًا الأبعاد السياسية. إذ مما يسترعي الانتباه هنا، أنه كان بوسع جورج أورويل، الصحافي والكاتب السياسي، لو أراد، أن يقول المضمون السياسي لروايته بطرق أخرى تتيحها له مهنته ككاتب. لكنه اختار الرواية شكلًا. ولم يكن خياره عبثًا. ذلك أنه طور، كما تقول جوزيه كامون بحق، استراتيجية أدبية محضة في مجال التأليف تجلت في "الصور، والجو، والقوة البصرية في وصف لندن المنكوبة، والمقصوفة، والمهدّمة.." ولأن ثمة، فضلًا عن ذلك، "عنصر رثاء نادرًا ما لوحظ في هذه الرواية" فقد حان الوقت كي يُعثر من جديد في هذا النص "ومن وجهة نظر أدبية، على كثافته،  وعلى غموضه".
لكن الخيار الأهم الذي يميِّز هذه الترجمة عن سابقتها يتمثل في اختيار زمن الفعل المستخدم في الرواية. فالترجمة السابقة لجأت إلى الزمن التقليدي المستخدم في الغالبية العظمى من القصص والروايات، أي الماضي البسيط في الفرنسية (رغم أن ألبير كامو كسر هذا التقليد في روايته "الغريب" (1942)  حين استخدم فيها زمن الماضي المركب ــ ومن المؤسف أن الترجمة العربية لهذه الرواية لم تتمكن من بيان ذلك ــ ). لكن جوزيه كامون قررت استخدام زمن الحاضر، مبررة خيارها بما تراه في كتابة أورويل من "كتابة عصبية، وأسلوب خال من الزخرفة، ومحدد المقاطع، وقاطع". وأنها لكي تقول هذا الجانب الزاهد في نثره وتعبر عن "الإلحاح" في أسلوب الرواية، اختارت الابتعاد عن الماضي البسيط بالفرنسية الذي يبدو بعيدًا عن العفوية، وعن الماضي المعروف بالإنكليزية "prétérit" المستخدم في كل أشكال القصص المألوفة والشفهية والملحمية.
من الممكن لهذه الحرية المشروطة بطبيعة القراءة التي يقوم بها المترجم أن تبعث من جديد مُبدعًا يبدو للبعض وكأن الزمن قد عفا عليه، أو أن تستجيب لإلحاح الواقع القائم في عالمنا المعاصر والذي سبق لمِثلِهِ أن أملى على الكاتب هذه الرواية التي لابد من أن تعاد قراءتها، لكنها، بخياراتها الجمالية، يمكن أن تعيد إلى الرواية رونقها، وتبعث في الوقت نفسه عناصرها المقومة في السخرية الباردة وفي الغرابة وفي الرعب. وكما يشير بيير دو كروزيه في مقاله عن الترجمة الجديدة، كانت رواية 1984 أشبه "بوجه صديق لم نعد نميز ملامحه؛ لم نعد نرى رواية 1984، معتبرين أنه لم يعد من الضروري قراءتها. لكن الترجمة الجديدة تقنعنا بالعكس تمامًا."
كم كان مأمولًا، في غياب ترجمة عربية انطوت على مثل هذه الحرية المشروطة، أن تقنعنا ترجمة جديدة أخرى لرواية 1984 بمثل هذه الضرورة في قراءة رواية سيرى فيها أي سوري عانى سلطة النظام الأسدي الاستبدادي، التشخيص الدقيق الأمثل لهذا الأخير في مقوماته كما في ممارساته.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 14 حزيران/يونيو 2018



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire