هل تنسحب إيران
من سورية؟
بدرالدين عرودكي
ما
إن أعلن ترامب، وهو ينسحب من الاتفاق النووي معها، عن ضرورة خروج إيران من سورية، حتى
تكاثرت التوقعات حول بداية انحسار التمدد الإيراني في المنطقة العربية بدءًا
بسورية، مادام إنهاء وجودها فيها بات أحد شروط الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسة
لتطبيع علاقاتها مع إيران. وتزامن مع هذا الإعلان صدور نتائج الانتخابات العراقية من جهة،
واللبنانية من جهة أخرى التي كانت مناسبة ظهور ضروب التناقض المختلفة في هذه التوقعات،
لاسيما وأن الأولى بدت وكأنها تؤكد بداية العد العكسي للوجود الإيراني في العراق،
في حين كانت الثانية تشير إلى تثبيت وتعزيز الهيمنة الإيرانية على لبنان دولة
وسياسة.
لكن
معظم هذه التوقعات تبدو أقرب إلى التفكير الرغبي منها إلى استخلاص النتائج من تحليل
واقعي، سواء لتطور التواجد الإيراني في البلدان الثلاثة، أو لاستغلال إيران الوضع
اليمني كي تؤسس لوجود دائم ومؤثر لها في جنوب الجزيرة العربية؛ هذا دون تجاهل محاولاتها
التغلغل في البلدان العربية الأخرى بدءًا بمصر وانتهاء بالمغرب.
ذلك
أن السبل التي تتبعها إيران، منذ استحواذ آيات الله على ثورة الشعب الإيراني عام
1979، في محاولاتها استعادة طموحاتها الإمبراطورية من أجل تحقيقها، تختلف جذريًا
عن سابقاتها عبر التاريخ. لم يعد سبيلها إلى الهيمنة اليوم هو القوة العسكرية وحدها.
كما أن الهدف الذي تعمل على تحقيقه لم يعد يقتصر على، أو يتطلب ضمان وجودها المادي
في هذا البلد أو ذاك من خلال جنودها وضباطها، بل بات يتجسَّد في الهيمنة على مركز
القرار السياسي والعسكري في البلدان التي سعت إليها والتي أعلنت بصفاقة أن عواصمها
باتت تحت سيطرتها، وذلك من خلال قوة محلية خاضعة كليًا لمشيئتها، تؤسسها، وتسلحها،
وتطور قوتها، وتدعم مساعيها لوضع يدها على مراكز القرار، سياسيًا وعسكريًا. وها هو
حزب الله في لبنان يقدم المثل البليغ الذي صارت تعمل، انطلاقًا من نجاحه طوال
السنوات الماضية وصولًا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، على إعادة إنتاجه في
البلدان العربية الأخرى: العراق وسورية واليمن.
وعلى
أن القوى الدولية والإقليمية لا تزال تعتبر أن إيران تحتل سورية عسكريًا، شأنها في
ذلك شأن روسيا، وأن هذين الاحتلاليْن سينتهيان بطريقة أو بأخرى مع الوصول إلى
"حلٍّ سياسي" لـ"الحرب السورية"، إلا أن أيًا منها لا يميز
بين طبيعة هذين الاحتلاليْن، لا على صُعُدِ قوة وأهداف ومصالح كل منهما التي تبدو
واضحة للجميع، بل على الصعيد الأهم هنا: صعيد الكيفية التي يسعى كل منهما بواسطتها
إلى تحقيق تطلعاته منه. هكذا رأينا كيف أن "الوجود العسكري الإيراني" في
سورية هو المستهدف بالدرجة الأولى سواء على لسان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية،
أو عبر الضربات العسكرية شبه اليومية التي لا تتوقف إسرائيل عن توجيهها لكل ما
تعتبره وجودًا عسكريًا إيرانيًا في سورية. إذ بقدر ما صار الوجود العسكري الروسي يعتبر
مقبولًا، بوصفه تكليفًا دوليًا غير معلن لروسيا من أجل حلّ المسألة السورية، بقدر
ما اعتبر الوجود العسكري الإيراني مرفوضًا مادام يمكن له أن يهدد أمن إسرائيل؛ وهو
ما حمل الجميع، إقليميًا ودوليًا، على
الصمت عن، أو حتى الاعتراض على، قيام هذه الأخيرة، بما فيهم روسيا المتواجدة في
سورية، عن تدمير المنشآت الإيرانية العسكرية في مختلف المناطق السورية. وإذا كان
موقف الدول الأوربية، منفردة أو مجتمعة في الاتحاد الأوربي، معارضًا لانسحاب
الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ويستهدف، حفظًا لمصالحه الاقتصادية، الإبقاء
على هذا الأخير مع بعض التعديلات، إلا أنه كان على اتفاق معها في ضرورة إنهاء
وجودها العسكري في سورية خصوصًا.
هكذا
بدت مطالبة بوتين بخروج كافة القوات العسكرية الأجنبية من سورية ما إن يبدأ تفعيل
الحل السياسي وكأنه يمس القوات الإيرانية بوجه خاص، بغض النظر عن طبيعة التواجد
الآخر الذي يُبنى ويؤسس بلا صخب في مختلف المناطق السورية. سارعت إيران على
طريقتها في الاستغباء، إلى نفي أي وجود عسكري لها، متجاهلة القواعد العسكرية في
جنوب دمشق أو في القلمون، أو في سواهما من المناطق، باستثناء وجود "المستشارين"
الذين صار يقتل منهم العشرات شهريًا، إما خلال المعارك مع ما تبقى من المعارضة
المسلحة، أو بعد الضربات الإسرائيلية لقواعدها بالذات؛وكذلك سارع من يحاول إثبات
استعادته أهليته في حكم سورية إلى مثل هذا النفي حرفيًا.
لم
يكن للدول العربية في كل هذه المساومات والمفاوضات حول الوضع السوري عمومًا
والاحتلال الإيراني والروسي خصوصًا، أي حضور حقيقي. وما كانت وسائل الإعلام
تتناقله من تصريحات هذا الوزير العربي أو ذاك حول موقف بلاده من النظام السوري، لم
تكن تعبيرًا عن إرادة الدولة التي يمثلها بقدر ما كانت تعبيرًا عن إرادة الدولة
التي لا يمكن لبلده أن يخرج عن إرادتها. أما السوريون، وبعد أن سيقت المعارضة
السياسية إلى الصمت، وأرغمت المعارضة العسكرية على قبول الاستسلام والنزوح، فهم غائبون
أو مغيّبون عن كل هذه المساومات والأهداف، ولاسيما بعد أن بات اليوم قاتلهم
ومدمِّرَ بلدهم، ومن سبق أن فرض عليهم بالتوريث وبالتزييف من قبل، ثم أعيد تأهيله
بالقوة العسكرية والنفاق الدولي، هو الوحيد المعترف به من القوى الفاعلة على الأرض،
ناطقًا باسمهم، و"معبرًا عن تطلعاتهم"!
يعلم الروس قبل غيرهم أن وجود إيران في سورية
ورم سرطاني، يتغلغل بثبات وعناد في الجسم السوري بمساعدة ودعم وتواطؤ النظام
الأسدي. قد يقبل الإيرانيون، بعد مساومات لا نهاية لها، بسحب قواتهم العسكرية
شكليًا من سورية، لكن ذلك لن يتحقق عيانًا على الأرض قبل أن يكون توأم حزب الله في
سورية قد نشأ وترعرع وأمسك بمقاليد القرار السياسي الذي سيكون في سورية قرارًا
إيرانيًا بامتياز. ومن هنا نفهم الأسباب التي حملت إيران، عبر ميليشياتها متعددة
الجنسيات، اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية بطبيعة الحال، على تبرير
تدخلها لدعم النظام الأسدي، بحماية العتبات المقدسة التي لم يمسها أحد طوال قرون
من قبلُ في سورية. كانت تلك رسالة إلى قسم من الشعب السوري تتوسل بها تأييده ودعمه
لوجودها.
لم
تظهر آثار هذا التدخل على الأرض إلا عندما بدأ تهجير السكان بدءًا من قرى الغوطة
الغربية وانتهاءًا بالغوطة الشرقية. نُسِب القيام بذلك إلى النظام الأسدي، لكن
إيران هي التي كانت، ولا تزال، وراء هذه السياسة السكانية الجديدة بعد أن هُجِّر
نصف سكان سورية وأرغم على النزوح داخلها ما لا يقل عن أربعة ملايين سوري.
ترغم
هذه السياسة الإيرانية على التذكير بالسياسة الصهيونية في اثنين من عناصرها المقومة: الخرافات
التاريخية لتبرير احتلال فلسطين من شتات اليهود في العالم، ثم استملاك بيوت وأراضي
الفلسطينيين الذين أرغموا على الهجرة، ما إن أعلن قيام الدولة الإسرائيلية قبل
سبعين عامًا. هكذا، وبخلاف الاحتلال الروسي الأقرب إلى الاستعمار التقليدي في
هيمنته بالقوة العسكرية المحضة، يتجلى الاحتلال الإيراني، في ظل استدعاء شعارات
تاريخية وهمية ذات طابع ديني وطائفي، احتلالًا استيطانيًا تتم هندسته بالتغييرات
الديموغرافية وبالتهجير أو بالنزوح القسري، ويتخذ من قسم من أبناء البلد قوامه
الجوهري، بعد توطين وتجنيس العديد من الميليشيات متعددة الجنسيات وذات الانتماء
الطائفي الواحد. فإذا ما تمكنت إيران ــ وهي الآن تعمل على ذلك فعليًا ــ من تحقيق
مشروعها كاملًا، وأنشأت القوى الرديفة على غرار ما فعلته في لبنان من خلال حزب
الله خصوصًا، ومن بعد في العراق من خلال الحشد الشعبي وسواه من الميليشيات
المسلحة، فلن يضيرها والحالة هذه أن تعلن انسحابها العسكري الكامل، بما في ذلك من
تسميهم "المستشارين"، مادام الطابور الخامس الممثل لها يمسك بمراكز
القرار والحل والعقد في سورية.
أدرك
السوريون وقد فاجأتهم ذات يوم مظاهرات اللطم تعبر سوق الحميدية بدمشق ما كان يعنيه
ذلك. عرفوا أنها ليست مجرد ظاهرة فولكلورية مثيرة للفضول. مثلما فهموا دلالاتها
ومعانيها بل ومآلاتها المنشودة.
فهل
ستنسحب إيران من سورية؟ عسكريًا، ربما. لكنها ستبقى مقيمة ومهيمنة على القرار
السياسي والاقتصادي. ولن يكون من سعى للبقاء بأي ثمن إلا دمية بيدها تحركها كيف
تشاء.
أما
الانسحاب النهائي، فلن يتحقق إلا على أيدي السوريين الذين ثاروا إذا ما تمكنوا من تحقيق حلمهم باستعادة بلدهم .
** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 7 حزيران 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire