الجغرافيا السورية
المجهولة: بشرًا ومجتمعًا
بدرالدين عرودكي
كيف
حدث أن أسماء قرى ومدن صغيرة سورية منتشرة على المساحة السورية برزت فجأة، وبدت مع
انطلاق المظاهرات في آذار 2011 وهي تنادي بالحرية والكرامة ثم بسقوط النظام، جديدة
كل الجدة على أسماع معظم السوريين الثائرين؟ وكيف حدث أن هذا الاكتشاف لم يقتصر
على الشباب منهم، بل شمل مثقفيهم ومناضليهم بما فيهم المخضرمين منهم؟ وكيف اضطر
معظمهم إلى التفكير بأنه كان عليهم البدء في تعيين مواقع هذه القرية أو تلك
المدينة الصغيرة، التي لم تطرق مسامعهم من قبل، على الخريطة السورية؟ وكيف ظهر هذا
الشبق شديد الخجل إلى معرفة جغرافية لم يكن في حسبان هؤلاء وأؤلئك ممن كانوا، وهم يدعون إلى إدراك الواقع الاجتماعي
والتاريخي للمجتمع السوري، يجهلون حتى مدى جهلهم بما كانوا يدعون إليه؟
كان
ذلك من أوائل الوقائع الخفية التي أتاحت الثورة السورية الكشف عنها منذ يوم
انطلاقها وانتشارها في كل أرجاء سورية. لقد بدا أن عمداء النظام الأسدي كانوا أكثر
العارفين بجغرافية سورية، الطبيعية والبشرية، وإن كانت تقتصر على كل ما هو ضروري
لإحكام قبضتهم ورقابتهم؛ إذ بدا أيضًا أن كل من كانوا يعارضونهم أو يزعمون معارضتهم،
من هيئات أو أحزاب أو من أفراد الطليعة المثقفة، كانوا أكثر الجاهلين حتى بأقل
القليل!
على
أن هذا الجهل شبه المعمم لم يكن إلا تعبيرًا عن واقع خفيّ، أعمق وأشمل، يقول بعضًا
من مشكلة بقيت، على أهميتها الجوهرية، بعيدة عن اهتمامات الغالبية العظمى من
العاملين في الشأن العام، سياسيين أو مثقفين، ونعني بها ضرورة الإحاطة العميقة بمختلف
جوانب المجتمع السوري ومشكلاته في تجلياتها العديدة وفي تفاصيلها، الديموغرافية
والاقتصادية، والصحية، والتعليمية، والثقافية، أي بإيجاز: ضرورة استخدام العلوم
الاجتماعية، ولاسيما التطبيقية منها، على نطاق واسع: في التعليم أولًا من أجل تكوين
وتدريب الباحثين، ثم إنشاء مؤسسات ومراكز ضرورية تحتضنهم وتنظم عملهم في دراسة
المجتمع الذي ينتمون إليه.
من
المعروف أن سورية حُكِمَت، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الخمسينيات من
القرن الماضي، من قبل مجموعات سياسية شارك معظم أفرادها في النضال السياسي من أجل
الاستقلال الذي تحقق على أيديها. لكن الانقلابات العسكرية المتوالية لم تتح لهذه
المجموعات أن تنصرف إلى استكمال بناء الدولة الحديثة، التي كانت قمينة بتحقيقه
اعتمادًا على خبرات متنوعة كانت عديدة وغنية بالمعارف وجادة ومتاحة، لو لم تستأثر العسكريتاريا
بمسرح السلطة كي تحتكر مقاليدها من فوق خشبته مباشرة، أو من وراء ستار حزب
"مدني"، طوال ما يقارب سبعين عامًا. لم يكن منهج هذه الهيمنة إلا
الارتجال في كل شيء: سواء، على سبيل المثال، في وضع القوانين واعتمادها كما حدث
عند إقرار القانون المدني في سورية (الذي كان ترجمة حرفية للقانون المدني الفرنسي)
خلال إحدى جلسات مجلس الوزراء برئاسة الضابط الانقلابي حسني الزعيم، عام 1949، أو
في المراسيم والقرارات التي تمس مختلف الشؤون الاجتماعية والمدنية، التي كانت تُحَرَّرُ،
إما ارتجالاً في غياب أية دراسات مسبقة في
مجالاتها، وإما اعتمادًا على تجارب حكومات أخرى اطلع عليها أو سمع بها هذا الوزير
أو ذاك.
لم
يقتصر الأمر بالطبع على السلطة السياسية الممسكة بمقاليد الحكم، والتي كان بوسعها
أن تخطط وتعمل من أجل ترشيد العمل السياسي والتنظيمي من خلال إنشاء مؤسسات بحثية
ترفد الحكومة بكل ما يمكن أن يساعدها في اتخاذ قراراتها، بل شمل كذلك مختلف
الأحزاب السياسية، يسارها ويمينها معًا، والتي كان كلٍّ منها يعتمد أيديولوجية
خاصة به، مختصرة في عبارات وشعارات، من أجل التعبير عن رؤيته للواقع الاجتماعي، أو
حين تريد ــ حين يتاح لها ذلك ــ نقد ما يصدر عن الحكومة من مراسيم أو قرارات. كما
لو أن ثمة اتفاق غير معلن بين الجميع على إهمال العلوم الاجتماعية، إما جهلًا
بإمكانات إسهاماتها المعرفية والتنظيمية في مختلف الحقول، ولاسيما خلال ربع القرن
الأول الذي تلا الاستقلال، أو خوفًا من النتائج التي ستقود إليها دراسات حقيقية
ومعمقة للمجتمع السوري تكون بمثابة ناقوس خطر يهدد سلطة الاستبداد في سورية التي
استقرت مع الانقلاب العسكري البعثي في عام 1963، ثم تجذرت مع الانقلاب العسكري
الثالث الذي تقدم باسم "حركة تصحيحية" يغطي بها سوآت ما ستشهده سورية
خلال نيف وأربعين عامًا، قبل أن يخرج شبابها عام 2011 ليعلنوا مطلبهم في استعادة
الحرية والكرامة.
كان
تدريس العلوم الإنسانية (الآداب واللغات) في جامعة دمشق يحظى بالمقام الأول، في
حين لم تكن العلوم الاجتماعية ومناهجها، وخصوصًا علم الاجتماع، تدرس فيها، ثم في
الجامعات الأخرى التي أنشئت في المدن السورية الأخرى ولا سيما بحلب واللاذقية، إلا
من خلال كتب نظرية وعامة بل شديدة العمومية. فأحد فروع كلية الآداب بجامعة دمشق
مثلًا كان منذ عام 1947 وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي يحمل اسم
"الدراسات الفلسفية والاجتماعية" الذي قُسِمَ، على غرار الأقسام الأخرى
كالتاريخ والجغرافيا، ضمن التنظيم الجديد لكلية الآداب عام 1983، إلى قسمين
مستقلين: الفلسفة وعلم الاجتماع.
بعبارة
أخرى، كان لابد من انتظار ثمانين عامًا على تأسيس نواة الجامعة السورية التي صارت
من بعد جامعة دمشق، أو، إن شئنا، ستين عامًا على الانتقال من النواة إلى الجامعة
حين جمعت كلية الطب إلى كلية الحقوق عام 1923 تحت اسم الجامعة السورية، لكي يخصص
قسم مستقل لعلم الاجتماع، وفي ظل نظام كان قد أوكل حرية الفكر إلى الضمير الذي كان
بدوره مجسَّدًا في أكثر من ستة عشر فرعٍ أمني! كان التعليم خلال الفترة كلها
مقتصرًا على تاريخ علم الاجتماع ونظرياته العامة ضمن قسم الدراسات الفلسفية وا
لاجتماعية، دون أن يتجاوز ذلك إلى أي ضرب من الدراسات التطبيقية أو إلى حلقات
للبحث تسمح على أقل تقدير ببداية متواضعة من أجل إعداد جيل من الباحثين في هذا
المجال.
كما لو أنه تقليد ورثه السوريون عن سلطات الانتداب الفرنسي. فالطلبة
الذين أنجزوا دراساتهم العليا في علم الاجتماع حتى مستوى الدكتوراه بباريس خلال ثلاثينيات
القرن الماضي، مثل خالد شاتيلا الذي نشرت رسالته لنيل الدكتوراه بباريس عام 1934
مع مقدمة لها كتبها أحد كبار علماءالأنثروبولوجيا الفرنسيين، مارسيل موس، لم تتح
له فرصة تدريس المادة التي اختص بها، شأنه شأن معاصره، كاظم الداغستاني، الذي درس
هو الآخر العلوم الاجتماعية بباريس ونشرت رسالته بالفرنسية عام 1932، ثم صفوح
الأخرس، وكان قد درس العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد منها
في نهاية ستينيات القرن الماضي، وسواهم كثير ممن لا يسمح المجال هنا لتعدادهم، من الذين
لم تتح لأي منهم فرصة حقيقية من أجل الانصراف إلى إعداد جيل جديد في مجال العلوم
الاجتماعية الذي اختاروه وصرفوا سنوات من أعمارهم للتعمق فيه دراسة وبحثًا. إذ
سرعان ما ضمتهم السلطات الحكومية إلى وظائف لا علاقة لها باختصاصاتهم، أمينًا
عامًا لرئاسة الجمهورية أو مديرًا لمكتب رئيس الوزراء أو مستشارًا في القصر
الجمهوري!
لا يمكن بالطبع ختام حديث يطول حول هذا الموضوع هنا من دون الإشارة
إلى ما كان المسؤولون السياسيون، بل وكذلك معظم المسؤولين الجامعيين، يفهمونه من
دراسة علم الاجتماع أو تعليمه: علم الاجتماع النظري: مناهج علم الاجتماع ونظرياته
المختلفة؛ على أن يقتصر استخدام هذه المناهج في دراسة المجتمع السوري خلال العهود
الإسلامية أو العثمانية، دون مقاربة حاضر المجتمع السوري المعاصر.
وليس الاستبداد على صعيد نظام الحكم من جهة، والتخبط في مواجهته على
مختلف الصعد من جهة أخرى، إلا بعض علامات هذا الجهل المعمم بالجغرافيا السورية
بشرًا ومجتمعًا.
ولا يبدو أن الأمور تغيرت، أو أنها ستتغير، حتى بعد إنشاء قسم مستقل
يحمل اسم: علم الاجتماع!
** نشر
على موقع جيرون يوم الإثنين 25 حزيران 2018.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire