vendredi 29 juin 2018



المعرفة المحرّمة!


بدرالدين عرودكي 
حين أنهى عمر أميرالاي أول فيلم وثائقي طويل أخرجه وشاركه في تصميمه وكتابته سعد الله ونوس، الفيلم الذي حمل عنوان: الحياة اليومية في قرية سورية، لم يكن مع شريكه قد درسا علم الاجتماع، ولا اطلعا أو تدربا في مدرسة عليا أو في جامعة من قبلُ على ممارسة الدراسات الاجتماعية في ميادينها المختلفة. كان سينمائيًّا وكان شريكه كاتبًا مسرحيًّا، لكنهما، مع ذلك، أو ربما لأنهما كانا على وعي حادٍّ بإمكانات الأداة السينمائية وبخطورتها، أنجزا أول وأهم دراسة اجتماعية سياسية جديرة بهذه الصفة، عبر وثيقة سمعية/بصرية لا تزال تنطوي على شهادات ثمينة ندر أن انطوى عليها عمل سينمائي أو فني أو أدبي أو بحث في العلوم الاجتماعية في تاريخ سورية الحديث.
كانت النسخة الأولى التي أنجزاها من الفيلم بمثابة الطبعة الأولى التي كانا ينويان إجراء  التعديل عليها وإغناءها بالملاحظات التي سيبديها بعد رؤية الفيلم أبطاله أنفسهم، الذين لم يكونوا ممثلين محترفين في فيلم روائي تخييلي، بل كانوا يعيشون حياتهم التي كان هدف الفيلم الوثائقي نقلها صورًا يمكن لكل مواطنيهم في سورية أولًا، لا أن يروها فحسب، بل أن يعيشوها مكثفة خلال ما يقارب تسعين دقيقة. كان أبطال الفيلم الذين لم يسبق لهم أن عرفوا السينما من قبل يؤدون إذن دورهم الحقيقي، أي يستمرون في العيش أمام الكاميرا دون سيناريو مسبق. وكان عليهم أن يروا الفيلم قبل أن يراه الجمهور، وأن يقولوا، أمام من قاما بتشخيصهم وبتصويرهم وبتحديد مواقعهم في هذا القطاع من المجتمع السوري، وفي لحظة تاريخية محددة، ما كان يبدو لهم في الفيلم من واقعي، أو كاذب، أو مزيِّف، أو مفتقر إلى الدقة. ومن ثمَّ، كان من المأمول أن يضاف إلى الفيلم الأصلي ملحق يشمل والحالة هذه رأي أبطال الفيلم أنفسهم فيما رأوه. سوى أن صانعيْ الفيلم، ما إن انتهيا منه، وقدمته المؤسسة العامة للسينما (التي كان يديرها آنئذ حميد مرعي والذي أخذ على عاتقه بصفته هذه إنتاج هذا الفيلم) إلى الرقابة لإجازته، حتى صدر قرار الرفض القاطع لعرضه على الجمهور. وكان هذا القرار بمثابة حكم بالإعدام على هذه المبادرة الجريئة وغير المسبوقة في تاريخ السينما العربية؛ فقد اعتبرت السلطات المسؤولة هذا العمل الرائد ــ "كما نقل عن وزير الثقافة آنئذ ــ  "شتيمة للدولة التي موَّلت أنتاج هذا الفيلم".
والحقيقة أن أحدًا لم ينتبه، عند صدور هذا القرار، إلى المعنى الخفي الذي ينطوي عليه، والذي يمكن تلخيصه بجملة بسيطة يمكن أن تصاغ بطرق مختلفة: لا مجال للحديث عن المجتمع الراهن في سورية بأية طريقة كانت؛ أو: لا مكان للدراسات الاجتماعية في سورية، أيًا كانت وجهتها أو غاياتها؛ بل وقبل ذلك كله: لا مكان كذلك لتدريس العلوم الاجتماعية التطبيقية من أجل إعداد باحثين أكفاء في مختلف ميادين البحث الاجتماعي في بلد كسورية؛ هذا التدريس الذي كان من المفروض أن يكون الأولوية الأولى في مشروعات كل من تصدوا لحمل المسؤولية السياسية أو الحزبية أو الثقافية فيها.
كنا لا نزال يومئذ  في السنة الأولى من سبعينيات القرن الماضي. وكان ذلك يعني استمرارية "تقليد" سارت عليه الحكومات المتعاقبة في سورية، مدنية وعسكرية، طوال ما لا يقل عن نصف قرن. لكن هذا "التقليد" سيرقى طوال عهد الأسد، أبًا وابنًا، إلى مقام "المحرَّمَ"، أي ما يشبه التحريم المطلق، والصامت، لأي دراسة اجتماعية وصفية حقيقية تتناول مشكلة اجتماعية راهنة. ذلك ما يفسر في جانب جوهري تحريم عرض أفلام عمر أميرالاي التالية لفيلمه الطويل الأول "الحياة اليومية في قرية سورية": "الدجاج" و"طوفان في بلاد البعث"؛ هذا التحريم الذي كان أبلغ تعبير عن "السياسة الثقافية" للعهدين الأسديين، أي طوال ما يقارب نصف قرن.  
لا بد من الإشارة إلى أن أصول هذا "التحريم" الذي لم يكن يقول اسمه إن صحَّ التعبير، كانت تتواجد في "تراثنا الثقافي/السياسي منذ العقد الثاني من القرن العشرين. وقد استمر الوضع على هذا النحو حتى نهاية الستينيات من القرن الماضي، لكنه تطور مع العهد الأسدي وصار بليغ التعبير منذ بداية السبعينيات ولا يزال كذلك حتى اليوم.  
في مقال سابق حول الثيمة ذاتها، جرى الحديث عن غياب علم الاجتماع ودراساته التطبيقية في التعليم الجامعي السوري، وأشير فيه إلى أن إعادة تعميد قسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية من خلال قسمين مستقلين أحدهما للفلسفة والآخر لعلم الاجتماع لم، ولن يغير من الأمر شيئًا، مادام التحريم لا يزال يطال الدراسات التطبيقية لمختلف المظاهر والمشكلات الاجتماعية الراهنة، لكنه يسمح فيما وراء ذلك، أي دراسة كل ما ينتمي إلى الماضي.  
هكذا بقيت المكتبة العربية شديدة الفقر بالدراسات الاجتماعية التطبيقية حول المجتمع السوري المعاصر. وستبقى الدراسة الفريدة، التطبيقية والميدانية، في العلوم الاجتماعية التي أنجزت عن بلاد الشام، تلك التي قام بها رفيق التميمي ومحمد بهجت في بداية العقد الثاني من القرن الماضي، استثناء يؤكد القاعدة؛ فقد أجريا دراستهما الميدانية التي حملت عنوان ولاية بيروت، وتناولا فيها الساحل السوري واللبناني والقسم الشمالي من الساحل الفلسطيني عشية الحرب العالمية الأولى، وقدما دراسة تفصيلية ودقيقة باتت الآن وثيقة شديدة الأهمية لمختلف  جوانب الحياة الاقتصادية والحياة الاجتماعية في ساحل البلدان الثلاثة، ولاسيما التركيب السكاني فيها،  إثنيًا وطائفيًا وثقافيًا. 
لن نعثر على مثيل تلك الدراسة في الدراسات الأخرى في العلوم الاجتماعية عامة، وعلم الاجتماع خاصة، التي تناولت المجتمع السوري الحديث منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى اليوم. سوف نعثر على  دراسات قيمة ولا شك، لكنها لا يمكن أن تندرج في عداد الدراسات الاجتماعية التطبيقية بقدر ما يمكن أن تصنف ضمن أبحاث التاريخ الاجتماعي، الوصفي أو العام، لقطاعات محددة من المجتمع السوري، في مراحل زمنية تغطي، على سبيل المثال، فترات محددة خلال القرنين، الثامن عشر والتاسع عشر، ككتاب يوسف جميل نعيسة، مجتمع مدينة دمشق 1772 ـ 1840؛ أو كتاب عبد الله حنا، حركات العامة ـ الدمشقية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكتابه الآخر العامية والانتفاضات الفلاحية في جبل حوران 1850 ـ 1918.
لا شك أن جهد عبد الله حنا البحثي في مجال التاريخ الاجتماعي هائل في هذا المجال، إلا أنه لم يكن يتجاوز هذا الإطار (وما كان عليه بالضرورة أن يتجاوزه بحكم اختصاصه الأساس كمؤرخ) إلى مجال الدراسات الاجتماعية التطبيقية التي نعنيها. على أن الدلالة الأشد بلاغة في هذا المجال، كان غياب مركز بحث وطني ينتج الأبحاث والدراسات. لم تبادر أية حكومة لإنشاء مثل هذا المركز، ولم تبادر أية صحيفة ــ وكلها رسمية كما نعلم ــ إلى إنشاء مركز دراسات خاص بها كما فعلت مؤسسات صحفية كبرى في العالم العربي وخصوصًا في مصر، كما فعلت مؤسسة الأهرام حين أنشأت مركز الدراسات الاستراتيجية مثلًا.
هكذا بقي المجتمع السوري المعاصر ذلك المجهول الذي لم يسمح لأحد بدراسته أو محاولة معرفته. وكما أن أفلام عمر أميرالاي التي حاولت اختراق هذه المحرمات قد منعت وحرِّم على السوريين رؤيتها، كذلك حيل بين كل من تسول له نفسه من الباحثين ــ إذا ما وجدوا داخل سورية أو خارجها ــ وبين مباشرة مثل هذه المحاولات.

** نشر على موقع جيرون، يوم الجمعة 29 حزيران 2018.


lundi 25 juin 2018



الجغرافيا السورية المجهولة: بشرًا ومجتمعًا 
بدرالدين عرودكي
كيف حدث أن أسماء قرى ومدن صغيرة سورية منتشرة على المساحة السورية برزت فجأة، وبدت مع انطلاق المظاهرات في آذار 2011 وهي تنادي بالحرية والكرامة ثم بسقوط النظام، جديدة كل الجدة على أسماع معظم السوريين الثائرين؟ وكيف حدث أن هذا الاكتشاف لم يقتصر على الشباب منهم، بل شمل مثقفيهم ومناضليهم بما فيهم المخضرمين منهم؟ وكيف اضطر معظمهم إلى التفكير بأنه كان عليهم البدء في تعيين مواقع هذه القرية أو تلك المدينة الصغيرة، التي لم تطرق مسامعهم من قبل، على الخريطة السورية؟ وكيف ظهر هذا الشبق شديد الخجل إلى معرفة جغرافية لم يكن في حسبان هؤلاء وأؤلئك ممن  كانوا، وهم يدعون إلى إدراك الواقع الاجتماعي والتاريخي للمجتمع السوري، يجهلون حتى مدى جهلهم بما كانوا يدعون إليه؟
كان ذلك من أوائل الوقائع الخفية التي أتاحت الثورة السورية الكشف عنها منذ يوم انطلاقها وانتشارها في كل أرجاء سورية. لقد بدا أن عمداء النظام الأسدي كانوا أكثر العارفين بجغرافية سورية، الطبيعية والبشرية، وإن كانت تقتصر على كل ما هو ضروري لإحكام قبضتهم ورقابتهم؛ إذ بدا أيضًا أن كل من كانوا يعارضونهم أو يزعمون معارضتهم، من هيئات أو أحزاب أو من أفراد الطليعة المثقفة، كانوا أكثر الجاهلين حتى بأقل القليل!
على أن هذا الجهل شبه المعمم لم يكن إلا تعبيرًا عن واقع خفيّ، أعمق وأشمل، يقول بعضًا من مشكلة بقيت، على أهميتها الجوهرية، بعيدة عن اهتمامات الغالبية العظمى من العاملين في الشأن العام، سياسيين أو مثقفين، ونعني بها ضرورة الإحاطة العميقة بمختلف جوانب المجتمع السوري ومشكلاته في تجلياتها العديدة وفي تفاصيلها، الديموغرافية والاقتصادية، والصحية، والتعليمية، والثقافية، أي بإيجاز: ضرورة استخدام العلوم الاجتماعية، ولاسيما التطبيقية منها، على نطاق واسع: في التعليم أولًا من أجل تكوين وتدريب الباحثين، ثم إنشاء مؤسسات ومراكز ضرورية تحتضنهم وتنظم عملهم في دراسة المجتمع الذي ينتمون إليه.   
من المعروف أن سورية حُكِمَت، بعد الحرب العالمية الثانية وحتى نهاية الخمسينيات من القرن الماضي، من قبل مجموعات سياسية شارك معظم أفرادها في النضال السياسي من أجل الاستقلال الذي تحقق على أيديها. لكن الانقلابات العسكرية المتوالية لم تتح لهذه المجموعات أن تنصرف إلى استكمال بناء الدولة الحديثة، التي كانت قمينة بتحقيقه اعتمادًا على خبرات متنوعة كانت عديدة وغنية بالمعارف وجادة ومتاحة، لو لم تستأثر العسكريتاريا بمسرح السلطة كي تحتكر مقاليدها من فوق خشبته مباشرة، أو من وراء ستار حزب "مدني"، طوال ما يقارب سبعين عامًا. لم يكن منهج هذه الهيمنة إلا الارتجال في كل شيء: سواء، على سبيل المثال، في وضع القوانين واعتمادها كما حدث عند إقرار القانون المدني في سورية (الذي كان ترجمة حرفية للقانون المدني الفرنسي) خلال إحدى جلسات مجلس الوزراء برئاسة الضابط الانقلابي حسني الزعيم، عام 1949، أو في المراسيم والقرارات التي تمس مختلف الشؤون الاجتماعية والمدنية، التي كانت تُحَرَّرُ، إما ارتجالاً  في غياب أية دراسات مسبقة في مجالاتها، وإما اعتمادًا على تجارب حكومات أخرى اطلع عليها أو سمع بها هذا الوزير أو ذاك.
لم يقتصر الأمر بالطبع على السلطة السياسية الممسكة بمقاليد الحكم، والتي كان بوسعها أن تخطط وتعمل من أجل ترشيد العمل السياسي والتنظيمي من خلال إنشاء مؤسسات بحثية ترفد الحكومة بكل ما يمكن أن يساعدها في اتخاذ قراراتها، بل شمل كذلك مختلف الأحزاب السياسية، يسارها ويمينها معًا، والتي كان كلٍّ منها يعتمد أيديولوجية خاصة به، مختصرة في عبارات وشعارات، من أجل التعبير عن رؤيته للواقع الاجتماعي، أو حين تريد ــ حين يتاح لها ذلك ــ نقد ما يصدر عن الحكومة من مراسيم أو قرارات. كما لو أن ثمة اتفاق غير معلن بين الجميع على إهمال العلوم الاجتماعية، إما جهلًا بإمكانات إسهاماتها المعرفية والتنظيمية في مختلف الحقول، ولاسيما خلال ربع القرن الأول الذي تلا الاستقلال، أو خوفًا من النتائج التي ستقود إليها دراسات حقيقية ومعمقة للمجتمع السوري تكون بمثابة ناقوس خطر يهدد سلطة الاستبداد في سورية التي استقرت مع الانقلاب العسكري البعثي في عام 1963، ثم تجذرت مع الانقلاب العسكري الثالث الذي تقدم باسم "حركة تصحيحية" يغطي بها سوآت ما ستشهده سورية خلال نيف وأربعين عامًا، قبل أن يخرج شبابها عام 2011 ليعلنوا مطلبهم في استعادة الحرية والكرامة.
كان تدريس العلوم الإنسانية (الآداب واللغات) في جامعة دمشق يحظى بالمقام الأول، في حين لم تكن العلوم الاجتماعية ومناهجها، وخصوصًا علم الاجتماع، تدرس فيها، ثم في الجامعات الأخرى التي أنشئت في المدن السورية الأخرى ولا سيما بحلب واللاذقية، إلا من خلال كتب نظرية وعامة بل شديدة العمومية. فأحد فروع كلية الآداب بجامعة دمشق مثلًا كان منذ عام 1947 وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي يحمل اسم "الدراسات الفلسفية والاجتماعية" الذي قُسِمَ، على غرار الأقسام الأخرى كالتاريخ والجغرافيا، ضمن التنظيم الجديد لكلية الآداب عام 1983، إلى قسمين مستقلين: الفلسفة وعلم الاجتماع.
بعبارة أخرى، كان لابد من انتظار ثمانين عامًا على تأسيس نواة الجامعة السورية التي صارت من بعد جامعة دمشق، أو، إن شئنا، ستين عامًا على الانتقال من النواة إلى الجامعة حين جمعت كلية الطب إلى كلية الحقوق عام 1923 تحت اسم الجامعة السورية، لكي يخصص قسم مستقل لعلم الاجتماع، وفي ظل نظام كان قد أوكل حرية الفكر إلى الضمير الذي كان بدوره مجسَّدًا في أكثر من ستة عشر فرعٍ أمني!  كان التعليم خلال الفترة كلها مقتصرًا على تاريخ علم الاجتماع ونظرياته العامة ضمن قسم الدراسات الفلسفية وا لاجتماعية، دون أن يتجاوز ذلك إلى أي ضرب من الدراسات التطبيقية أو إلى حلقات للبحث تسمح على أقل تقدير ببداية متواضعة من أجل إعداد جيل من الباحثين في هذا المجال.
كما لو أنه تقليد ورثه السوريون عن سلطات الانتداب الفرنسي. فالطلبة الذين أنجزوا دراساتهم العليا في علم الاجتماع حتى مستوى الدكتوراه بباريس خلال ثلاثينيات القرن الماضي، مثل خالد شاتيلا الذي نشرت رسالته لنيل الدكتوراه بباريس عام 1934 مع مقدمة لها كتبها أحد كبار علماءالأنثروبولوجيا الفرنسيين، مارسيل موس، لم تتح له فرصة تدريس المادة التي اختص بها، شأنه شأن معاصره، كاظم الداغستاني، الذي درس هو الآخر العلوم الاجتماعية بباريس ونشرت رسالته بالفرنسية عام 1932، ثم صفوح الأخرس، وكان قد درس العلوم الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية وعاد منها في نهاية ستينيات القرن الماضي، وسواهم كثير ممن لا يسمح المجال هنا لتعدادهم، من الذين لم تتح لأي منهم فرصة حقيقية من أجل الانصراف إلى إعداد جيل جديد في مجال العلوم الاجتماعية الذي اختاروه وصرفوا سنوات من أعمارهم للتعمق فيه دراسة وبحثًا. إذ سرعان ما ضمتهم السلطات الحكومية إلى وظائف لا علاقة لها باختصاصاتهم، أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية أو مديرًا لمكتب رئيس الوزراء أو مستشارًا في القصر الجمهوري!
لا يمكن بالطبع ختام حديث يطول حول هذا الموضوع هنا من دون الإشارة إلى ما كان المسؤولون السياسيون، بل وكذلك معظم المسؤولين الجامعيين، يفهمونه من دراسة علم الاجتماع أو تعليمه: علم الاجتماع النظري: مناهج علم الاجتماع ونظرياته المختلفة؛ على أن يقتصر استخدام هذه المناهج في دراسة المجتمع السوري خلال العهود الإسلامية أو العثمانية، دون مقاربة حاضر المجتمع السوري المعاصر. 
وليس الاستبداد على صعيد نظام الحكم من جهة، والتخبط في مواجهته على مختلف الصعد من جهة أخرى، إلا بعض علامات هذا الجهل المعمم بالجغرافيا السورية بشرًا ومجتمعًا.
ولا يبدو أن الأمور تغيرت، أو أنها ستتغير، حتى بعد إنشاء قسم مستقل يحمل اسم: علم الاجتماع!

** نشر على موقع جيرون يوم الإثنين 25 حزيران 2018.


jeudi 14 juin 2018




الترجمة قراءة وتأويلًا 
بدرالدين عرودكي 
للمَرَّة الأولى دومًا مذاق خاص: بكارة الاكتشاف، أيًا كان موضوعه. واكتشاف رواية فذٌّة خلال قراءتها للمرة الأولى، متعة تتلاشى ما إن تطوى الصفحة الأخيرة فيها. متعة لا تتكرر حتى مع العودة إلى قراءتها ثانية بعد سنوات. ثمة، مع ذلك، ضرب من الروايات التي تملك عنصرًا، لا يمكن تحديده على وجه الدقة، يجعلها قادرة على أن تنبعث جديدة، في كل مرة تقرأ فيها، وكأنها المرة الأولى. ويبدو أن من نوادر مثل هذه الروايات، تلك الرواية التي كتبها الصحافي البريطاني المولود في الهند جورج أورويل (1903ـ1950) ونشرها قبل تسعة وستين عامًا، في عام 1949، تحت عنوان 1984، والتي تملك على وجه التحديد هذا العنصر، إذا ما نظرنا إلى الرقم المتصاعد لمبيعات هذه الرواية حتى اليوم، ولاسيما في البلدان الناطقة بالإنكليزية، لغة كاتب الرواية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية.
فهذا النص الذي كتب قبل خمسة وثلاثين عامًا من الموعد الذي حدّده عنوانه للقارئ يبدو مع مرور الأيام وكأنه عرض نبؤة لاستمرارية نسق ونظام وجهاز مفهومي تشخصه الرواية، شهده النصف الأول من القرن العشرين في روسيا السوفياتية، وفي ألمانيا النازية، وفي إيطاليا الفاشية، وفي إسبانيا المزيج من كل ذلك بعد الحرب الأهلية فيها. لكن القارئ العربي الذي عاش نظم الاستبداد في مختلف بلدان العالم العربي التي يعيش فيها منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، أي منذ نشر الرواية بالإنكليزية وقبل أن تنقل إلى العربية بزمن طويل، والقارئ السوري بوجه خاص، يكاد يرى في الرواية تجسيدًا لواقع تخييلي ينازعه على موقع الصدارة واقع حقيقي قائم، جسدته نظم كثيرة، ولاسيما منها النظام الأسدي، بوجه خاص، منذ عام 1970، ولا يزال مستمرًا في سورية وفي سواها من بلدان العالم العربي وسواه في آسيا وفي أفريقيا وإلى وقت قريب في أمريكا اللاتينية.
مناسبة هذا الحديث صدور ترجمة فرنسية جديدة مؤخرًا لهذه الرواية تطرح، ككل عمل جاد، عددًا من المسائل الإشكالية في مجالها، بما هي من حيث المبدأ قراءة "أخرى" للنص، تنطوي على تأويل جديد لا يمكن إلا أن يختلف عن القراءة السابقة عليه، تلك التي نشرت عبر ترجمتها في فرنسا على يد آميلي أوديبرتي، في السنة التالية لنشر الرواية، أي عام 1950.
ففي مقابلة جرت معها ونشرها ملحق الكتب بصحيفة اللوموند، تطرح صاحبة هذه الترجمة الجديدة، جوزيه كامون، التي أبدعت في ترجماتها التي عرفها القارئ الفرنسي لروايات الكاتب الأمريكي فيليب روث، إحدى أهم إشكاليات الترجمة عمومًا ــ وربما معضلتها الأساس ــ ولاسيما إعادة الترجمة: خيار المترجم أمام النص. فهي ترى أن هناك المترجم المتزمت، أي من يريد "العثور على حقيقة النص انطلاقًا من فكرة وجود حقيقة نهائية ووحيدة، شيء أشبه بالمطلق الإلهي"، وعلى هذا النحو تجري مقاربة ترجمة كل نص له صفة القدسية؛ وهناك المترجم اللاأدري، أي "ذلك الذي لا يملك، باعترافه، هذه الحقيقة لوحده، طالما أن كلَّ نصٍّ مصنوعٌ من إنتاجه ومن استقباله معًا؛ وفي هذا السياق، ينبني معنى النص مع كل قراءة متعاقبة، تشارك فيها بطبيعة الحال الترجمات" التي تجري له. ولكن ما الذي يبرر إعادة ترجمة مُبْدع أدبي اشتهر بسبب بعده السياسي الذي غطى على جوانبه الأدبية المحضة؟  هل كانت، أو هل باتت، الترجمة القديمة عاجزة عن أن تقول النص في كل أبعاده، الأدبية والسياسية؟ وما الحافز الذي يحمل مترجمًا على أن يستعيد نصّا بُذِلَ في سبيل ترجمته ما يكفي من الجهد؟ أم هي القراءة الجديدة التي يفرضها النص بفعل ما تراكم عليه وحوله خلال عشرات السنين من تأويلات وتعليقات وضروب مختلفة من سوء الفهم أو التفاهم؟ لعل الأقرب إلى الواقع هو كل ما سبق ذكره، وسواه أيضًا مما يمت بصلة إلى طبيعة وهدف القراءة التي يقوم بها من يقرر إعادة الترجمة.
في نقد الترجمة الأولى التي قامت بها آميلي أوديبرتي، تقول جوزيه كامون إنها لم تراع تباين ضروب مستويات اللغة المختلفة في تمثيلها للفوارق الطبقية القائمة بين مختلف الانتماءات الاجتماعية والسياسية لشخوص الرواية. فلغة الترجمة الأولى نموذجية لدى شخوص الرواية، متشابهة بينهم على اختلافهم، ومن ثمَّ فهي لا تقول ما قصد إليه أورويل في نصِّه. ذلك ما أدى في الحقيقة إلى طمس الجوانب الأدبية المحضة في الرواية على صعيد البناء وطريقة التأليف، بقدر ما أسهمت في إخفائها أيضًا الأبعاد السياسية. إذ مما يسترعي الانتباه هنا، أنه كان بوسع جورج أورويل، الصحافي والكاتب السياسي، لو أراد، أن يقول المضمون السياسي لروايته بطرق أخرى تتيحها له مهنته ككاتب. لكنه اختار الرواية شكلًا. ولم يكن خياره عبثًا. ذلك أنه طور، كما تقول جوزيه كامون بحق، استراتيجية أدبية محضة في مجال التأليف تجلت في "الصور، والجو، والقوة البصرية في وصف لندن المنكوبة، والمقصوفة، والمهدّمة.." ولأن ثمة، فضلًا عن ذلك، "عنصر رثاء نادرًا ما لوحظ في هذه الرواية" فقد حان الوقت كي يُعثر من جديد في هذا النص "ومن وجهة نظر أدبية، على كثافته،  وعلى غموضه".
لكن الخيار الأهم الذي يميِّز هذه الترجمة عن سابقتها يتمثل في اختيار زمن الفعل المستخدم في الرواية. فالترجمة السابقة لجأت إلى الزمن التقليدي المستخدم في الغالبية العظمى من القصص والروايات، أي الماضي البسيط في الفرنسية (رغم أن ألبير كامو كسر هذا التقليد في روايته "الغريب" (1942)  حين استخدم فيها زمن الماضي المركب ــ ومن المؤسف أن الترجمة العربية لهذه الرواية لم تتمكن من بيان ذلك ــ ). لكن جوزيه كامون قررت استخدام زمن الحاضر، مبررة خيارها بما تراه في كتابة أورويل من "كتابة عصبية، وأسلوب خال من الزخرفة، ومحدد المقاطع، وقاطع". وأنها لكي تقول هذا الجانب الزاهد في نثره وتعبر عن "الإلحاح" في أسلوب الرواية، اختارت الابتعاد عن الماضي البسيط بالفرنسية الذي يبدو بعيدًا عن العفوية، وعن الماضي المعروف بالإنكليزية "prétérit" المستخدم في كل أشكال القصص المألوفة والشفهية والملحمية.
من الممكن لهذه الحرية المشروطة بطبيعة القراءة التي يقوم بها المترجم أن تبعث من جديد مُبدعًا يبدو للبعض وكأن الزمن قد عفا عليه، أو أن تستجيب لإلحاح الواقع القائم في عالمنا المعاصر والذي سبق لمِثلِهِ أن أملى على الكاتب هذه الرواية التي لابد من أن تعاد قراءتها، لكنها، بخياراتها الجمالية، يمكن أن تعيد إلى الرواية رونقها، وتبعث في الوقت نفسه عناصرها المقومة في السخرية الباردة وفي الغرابة وفي الرعب. وكما يشير بيير دو كروزيه في مقاله عن الترجمة الجديدة، كانت رواية 1984 أشبه "بوجه صديق لم نعد نميز ملامحه؛ لم نعد نرى رواية 1984، معتبرين أنه لم يعد من الضروري قراءتها. لكن الترجمة الجديدة تقنعنا بالعكس تمامًا."
كم كان مأمولًا، في غياب ترجمة عربية انطوت على مثل هذه الحرية المشروطة، أن تقنعنا ترجمة جديدة أخرى لرواية 1984 بمثل هذه الضرورة في قراءة رواية سيرى فيها أي سوري عانى سلطة النظام الأسدي الاستبدادي، التشخيص الدقيق الأمثل لهذا الأخير في مقوماته كما في ممارساته.

** نشر على موقع جيرون، الخميس 14 حزيران/يونيو 2018



jeudi 7 juin 2018



هل تنسحب إيران من سورية؟ 
بدرالدين عرودكي 
ما إن أعلن ترامب، وهو ينسحب من الاتفاق النووي معها، عن ضرورة خروج إيران من سورية، حتى تكاثرت التوقعات حول بداية انحسار التمدد الإيراني في المنطقة العربية بدءًا بسورية، مادام إنهاء وجودها فيها بات أحد شروط الولايات المتحدة الأمريكية الرئيسة لتطبيع علاقاتها مع إيران. وتزامن مع هذا الإعلان  صدور نتائج الانتخابات العراقية من جهة، واللبنانية من جهة أخرى التي كانت مناسبة ظهور ضروب التناقض المختلفة في هذه التوقعات، لاسيما وأن الأولى بدت وكأنها تؤكد بداية العد العكسي للوجود الإيراني في العراق، في حين كانت الثانية تشير إلى تثبيت وتعزيز الهيمنة الإيرانية على لبنان دولة وسياسة.
لكن معظم هذه التوقعات تبدو أقرب إلى التفكير الرغبي منها إلى استخلاص النتائج من تحليل واقعي، سواء لتطور التواجد الإيراني في البلدان الثلاثة، أو لاستغلال إيران الوضع اليمني كي تؤسس لوجود دائم ومؤثر لها في جنوب الجزيرة العربية؛ هذا دون تجاهل محاولاتها التغلغل في البلدان العربية الأخرى بدءًا بمصر وانتهاء بالمغرب.
ذلك أن السبل التي تتبعها إيران، منذ استحواذ آيات الله على ثورة الشعب الإيراني عام 1979، في محاولاتها استعادة طموحاتها الإمبراطورية من أجل تحقيقها، تختلف جذريًا عن سابقاتها عبر التاريخ. لم يعد سبيلها إلى الهيمنة اليوم هو القوة العسكرية وحدها. كما أن الهدف الذي تعمل على تحقيقه لم يعد يقتصر على، أو يتطلب ضمان وجودها المادي في هذا البلد أو ذاك من خلال جنودها وضباطها، بل بات يتجسَّد في الهيمنة على مركز القرار السياسي والعسكري في البلدان التي سعت إليها والتي أعلنت بصفاقة أن عواصمها باتت تحت سيطرتها، وذلك من خلال قوة محلية خاضعة كليًا لمشيئتها، تؤسسها، وتسلحها، وتطور قوتها، وتدعم مساعيها لوضع يدها على مراكز القرار، سياسيًا وعسكريًا. وها هو حزب الله في لبنان يقدم المثل البليغ الذي صارت تعمل، انطلاقًا من نجاحه طوال السنوات الماضية وصولًا إلى نتائج الانتخابات الأخيرة، على إعادة إنتاجه في البلدان العربية الأخرى: العراق وسورية واليمن.
وعلى أن القوى الدولية والإقليمية لا تزال تعتبر أن إيران تحتل سورية عسكريًا، شأنها في ذلك شأن روسيا، وأن هذين الاحتلاليْن سينتهيان بطريقة أو بأخرى مع الوصول إلى "حلٍّ سياسي" لـ"الحرب السورية"، إلا أن أيًا منها لا يميز بين طبيعة هذين الاحتلاليْن، لا على صُعُدِ قوة وأهداف ومصالح كل منهما التي تبدو واضحة للجميع، بل على الصعيد الأهم هنا: صعيد الكيفية التي يسعى كل منهما بواسطتها إلى تحقيق تطلعاته منه. هكذا رأينا كيف أن "الوجود العسكري الإيراني" في سورية هو المستهدف بالدرجة الأولى سواء على لسان رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، أو عبر الضربات العسكرية شبه اليومية التي لا تتوقف إسرائيل عن توجيهها لكل ما تعتبره وجودًا عسكريًا إيرانيًا في سورية. إذ بقدر ما صار الوجود العسكري الروسي يعتبر مقبولًا، بوصفه تكليفًا دوليًا غير معلن لروسيا من أجل حلّ المسألة السورية، بقدر ما اعتبر الوجود العسكري الإيراني مرفوضًا مادام يمكن له أن يهدد أمن إسرائيل؛ وهو  ما حمل الجميع، إقليميًا ودوليًا، على الصمت عن، أو حتى الاعتراض على، قيام هذه الأخيرة، بما فيهم روسيا المتواجدة في سورية، عن تدمير المنشآت الإيرانية العسكرية في مختلف المناطق السورية. وإذا كان موقف الدول الأوربية، منفردة أو مجتمعة في الاتحاد الأوربي، معارضًا لانسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ويستهدف، حفظًا لمصالحه الاقتصادية، الإبقاء على هذا الأخير مع بعض التعديلات، إلا أنه كان على اتفاق معها في ضرورة إنهاء وجودها العسكري في سورية خصوصًا.
هكذا بدت مطالبة بوتين بخروج كافة القوات العسكرية الأجنبية من سورية ما إن يبدأ تفعيل الحل السياسي وكأنه يمس القوات الإيرانية بوجه خاص، بغض النظر عن طبيعة التواجد الآخر الذي يُبنى ويؤسس بلا صخب في مختلف المناطق السورية. سارعت إيران على طريقتها في الاستغباء، إلى نفي أي وجود عسكري لها، متجاهلة القواعد العسكرية في جنوب دمشق أو في القلمون، أو في سواهما من المناطق، باستثناء وجود "المستشارين" الذين صار يقتل منهم العشرات شهريًا، إما خلال المعارك مع ما تبقى من المعارضة المسلحة، أو بعد الضربات الإسرائيلية لقواعدها بالذات؛وكذلك سارع من يحاول إثبات استعادته أهليته في حكم سورية إلى مثل هذا النفي حرفيًا.
لم يكن للدول العربية في كل هذه المساومات والمفاوضات حول الوضع السوري عمومًا والاحتلال الإيراني والروسي خصوصًا، أي حضور حقيقي. وما كانت وسائل الإعلام تتناقله من تصريحات هذا الوزير العربي أو ذاك حول موقف بلاده من النظام السوري، لم تكن تعبيرًا عن إرادة الدولة التي يمثلها بقدر ما كانت تعبيرًا عن إرادة الدولة التي لا يمكن لبلده أن يخرج عن إرادتها. أما السوريون، وبعد أن سيقت المعارضة السياسية إلى الصمت، وأرغمت المعارضة العسكرية على قبول الاستسلام والنزوح، فهم غائبون أو مغيّبون عن كل هذه المساومات والأهداف، ولاسيما بعد أن بات اليوم قاتلهم ومدمِّرَ بلدهم، ومن سبق أن فرض عليهم بالتوريث وبالتزييف من قبل، ثم أعيد تأهيله بالقوة العسكرية والنفاق الدولي، هو الوحيد المعترف به من القوى الفاعلة على الأرض، ناطقًا باسمهم، و"معبرًا عن تطلعاتهم"!
 يعلم الروس قبل غيرهم أن وجود إيران في سورية ورم سرطاني، يتغلغل بثبات وعناد في الجسم السوري بمساعدة ودعم وتواطؤ النظام الأسدي. قد يقبل الإيرانيون، بعد مساومات لا نهاية لها، بسحب قواتهم العسكرية شكليًا من سورية، لكن ذلك لن يتحقق عيانًا على الأرض قبل أن يكون توأم حزب الله في سورية قد نشأ وترعرع وأمسك بمقاليد القرار السياسي الذي سيكون في سورية قرارًا إيرانيًا بامتياز. ومن هنا نفهم الأسباب التي حملت إيران، عبر ميليشياتها متعددة الجنسيات، اللبنانية والعراقية والأفغانية والإيرانية بطبيعة الحال، على تبرير تدخلها لدعم النظام الأسدي، بحماية العتبات المقدسة التي لم يمسها أحد طوال قرون من قبلُ في سورية. كانت تلك رسالة إلى قسم من الشعب السوري تتوسل بها تأييده ودعمه لوجودها.
لم تظهر آثار هذا التدخل على الأرض إلا عندما بدأ تهجير السكان بدءًا من قرى الغوطة الغربية وانتهاءًا بالغوطة الشرقية. نُسِب القيام بذلك إلى النظام الأسدي، لكن إيران هي التي كانت، ولا تزال، وراء هذه السياسة السكانية الجديدة بعد أن هُجِّر نصف سكان سورية وأرغم على النزوح داخلها ما لا يقل عن أربعة ملايين سوري.
ترغم هذه السياسة الإيرانية على التذكير بالسياسة الصهيونية  في اثنين من عناصرها المقومة: الخرافات التاريخية لتبرير احتلال فلسطين من شتات اليهود في العالم، ثم استملاك بيوت وأراضي الفلسطينيين الذين أرغموا على الهجرة، ما إن أعلن قيام الدولة الإسرائيلية قبل سبعين عامًا. هكذا، وبخلاف الاحتلال الروسي الأقرب إلى الاستعمار التقليدي في هيمنته بالقوة العسكرية المحضة، يتجلى الاحتلال الإيراني، في ظل استدعاء شعارات تاريخية وهمية ذات طابع ديني وطائفي، احتلالًا استيطانيًا تتم هندسته بالتغييرات الديموغرافية وبالتهجير أو بالنزوح القسري، ويتخذ من قسم من أبناء البلد قوامه الجوهري، بعد توطين وتجنيس العديد من الميليشيات متعددة الجنسيات وذات الانتماء الطائفي الواحد. فإذا ما تمكنت إيران ــ وهي الآن تعمل على ذلك فعليًا ــ من تحقيق مشروعها كاملًا، وأنشأت القوى الرديفة على غرار ما فعلته في لبنان من خلال حزب الله خصوصًا، ومن بعد في العراق من خلال الحشد الشعبي وسواه من الميليشيات المسلحة، فلن يضيرها والحالة هذه أن تعلن انسحابها العسكري الكامل، بما في ذلك من تسميهم "المستشارين"، مادام الطابور الخامس الممثل لها يمسك بمراكز القرار والحل والعقد في سورية.
أدرك السوريون وقد فاجأتهم ذات يوم مظاهرات اللطم تعبر سوق الحميدية بدمشق ما كان يعنيه ذلك. عرفوا أنها ليست مجرد ظاهرة فولكلورية مثيرة للفضول. مثلما فهموا دلالاتها ومعانيها بل ومآلاتها المنشودة.  
فهل ستنسحب إيران من سورية؟ عسكريًا، ربما. لكنها ستبقى مقيمة ومهيمنة على القرار السياسي والاقتصادي. ولن يكون من سعى للبقاء بأي ثمن إلا دمية بيدها تحركها كيف تشاء.
أما الانسحاب النهائي، فلن يتحقق إلا على أيدي السوريين الذين ثاروا إذا ما تمكنوا من  تحقيق حلمهم باستعادة بلدهم .

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 7 حزيران 2018.