jeudi 29 septembre 2016

روسيا في سوريا: الاحتلال
بدرالدين عرودكي
بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن تتردد عند ما ترى ضرورة لذلك  في اتخاذ أي مبادرة عسكرية مباشرة ودون أي تفويض أممي، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الدولية أو المعايير الإنسانية، وفارضة قوتها المطلقة بوصفها الشرعية الوحيدة، كانت روسيا وهي تحاول استعادة مجد قوتها الضائع، وعلى غرار ميليشيات إيران المرتزقة وهي تتسلل إلى الأرض السورية، بحاجة إلى النفاق والكذب وبعض المشاهد المسرحية كي تبرر نزول قواتها المفاجئ على الساحل السوري في الثلاثين من أيلول قبل عام من خلال ما زعمته دعوة "الحكومة الشرعية بدمشق" لها لدعمها عسكرياً في "الحرب على الإرهاب" من ناحية، ونشرها إعلان الكنيسة الروسية الأرثوذكسية عن دعمها لما وصفته "المعركة المقدسة ضد الإرهاب" من ناحية أخرى!
لم تكن بحاجة إلى ذلك كله. فقد كان دعمها العسكري والسياسي والدبلوماسي للنظام الأسدي صريحاً ومباشراً وبلا حدود. ومثلما سارعت إلى حمايته دبلوماسياً في مجلس الأمن مدعومة من الصين عن طريق حق الفيتو، سارعت كذلك إلى حمايته من ضربة عسكرية أمريكية وغربية محققة إثر استخدامه الأسلحة الكيميائية، مرغمة إياه على تسليم كامل ترسانته منها. ومع ذلك فقد كان إعلانها الدخول مباشرة في "الحرب على الإرهاب" المشجب الذي قررت روسيا استخدامه أمام خصومها الغربيين الذين لم يتأخر بعضهم بالفعل عن التأييد أو على الأقل عن الصمت الفصيح في حين انقسم العالم العربي بين مؤيد صريح مع اعتماد الحجة الروسية المعلنة كدول مصر والإمارات والأردن، ومؤيد ضمني وعفوي كالعراق ولبنان، ومعارض صريح كالسعودية وقطر، ولائذ بالصمت كبقية البلدان العربية!
قيل الكثير عن أسباب الاستنكار الخجول الذي عبرت عنه الولايات المتحدة آنئذ. فسَّرَهُ البعض بأنه رغبة من هذه الأخيرة في دفع الدب الروسي إلى الغرق في وحل سورية مثلما غرق في أفغانستان من قبل. ورأى فيه آخرون موافقة ضمنية على خطوة الروس تكشف عن الموقف الأمريكي الحقيقي مما يجري في سورية والذي يقف على طرفي نقيض من تصريحات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، والذي يسعى لتحقيق هدفه النهائي: الوصول إلى حل سياسي ترضى عنه كل الأطراف طوعاً أو كرهاً حين يضمن مصالح القوتين الروسية والأمريكية. وذهب فريق ثالث اعتماداً على مقال كتبته هيلاري كلينتون عام 2009 ونشرته مجلة "السياسة الخارجية" إلى تفسير ذلك بالتحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط بعد أن تراجع اهتمامها بهذه الأخيرة لصالح جنوب شرق آسيا وضفاف المحيط الهادي الغربية. لكن مجرى الأحداث، وما آل إليه التواجد الروسي عسكرياً وسياسياً وأمنياً طوال السنة الماضية، يمكن أن يسمح باقتراب أدق من طبيعة العلاقة الروسية الأمريكية في سورية ومعرفة ما إذا كان قوامها التعاون والتواطؤ أم الاختلاف والتنافس.
هكذا، تحت عنوان الحرب على الإرهاب إذن، واعتماداً على تعريف للإرهابيين سبق للنظام الأسدي أن تبنّاه في حربه ضد شعبه يشمل كلَّ من تظاهر أو حمل السلاح ضده بهدف إسقاطه، باشرت الطائرات الروسية اعتباراً من 30 أيلول 2015 لا قصف المناطق التي احتلها تنظيم الدولة (داعش) بل المناطق والمدن والقرى التي تسيطر عليها المعارضة على اختلاف قواها بلا تمييز بين عسكريين ومدنيين، محاولة بذلك دعم الميليشيات الأسدية والإيرانية كي تتمكن من التقدم على الأرض.
لاشكَّ أن التواجد العسكري الروسي وضع حداً لانهيار النظام الأسدي ولهزيمة الميليشيات المرتزقة العاملة معه. لكنه، كما يرى البعض، لم يتمكن حتى الآن من تحقيق ما يرون فيه الهدف المنشود: قلب المعادلة العسكرية لصالح النظام كي يتمكن من فرض الحل السياسي الذي يريد بعد أن عمل طوال السنة الماضية على إعادة تأهيل النظام الأسدي ورأسه ووضعهما كلما اضطره الأمر ضمن مزادات المفاوضات السياسية التي يجريها سواء مع حلفائه أو مع خصومه. لكن السؤال هنا: هل يريد وهل يسعى فعلاً إلى ذلك، أي إلى القضاء نهائياً على المعارضة المسلحة على اختلافها والسماح بانتصار ساحق ونهائي للنظام الأسدي؟
لا يقدم مسار السلوك الروسي في سورية مع النظام الأسدي، ومع رأس النظام شخصياً، ما يسمح بتأكيد ذلك. من الممكن الإشارة إلى ثلاثة وقائع شديدة الدلالة على هذا السلوك.
أولى هذه الإشارات حين استدعي بشار الأسد يوم 20 تشرين أول 2015 إلى لقاء بوتين بموسكو وحده دون أن يرافقه وفد أو مستشار أو مترجم، وبث صور هذا اللقاء التي كانت تقول كل ما يعنيه هذا الاستدعاء لمن يفترض أنه "رئيس" دولة!
وثانيتهما، حين حاول الأسد وقد أنعشته الضربات الروسية المتلاحقة وأنقذته من الانهيار أن يصرح خلافاً للإرادة الروسية في رسم مسار الحرب والمفاوضات قائلاً "بعدم إمكان أن يكون وقف إطلاق النار ــ كما يسمونه ــ بلا هدف أو زمن" وإعلانه عن نيته "مواصلة القتال حتى استعادة كامل الأراضي" (تصريحات نشرت في 15 شباط 2016)، جاءه الرد الروسي في البداية صاعقاً على لسان فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، حين قال: "إن روسيا بذلت الكثير من الجهود في هذه الأزمة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً" وأنه بالتالي يرجو "أن يأخذ الرئيس الأسد ذلك بعين الاعتبار". ثم بوجه خاص: "إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا على الرغم من التصنيفات السياسية الداخلية وخط الدعاية السياسي التي يجب عليهم العمل بها، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعباً للغاية بما في ذلك بالنسبة لها". مذكراً بأن "الجيش السوري  ما كان بوسعه وحده الدفاع عن دمشق ودحر خصومه لولا العملية الجوية الروسية التي ساعدته في ذلك" وأنه "قد يتمكن هذا الجيش من تحرير حلب، وقد يقولون إنهم لم يعودوا في حاجة إلى الهدنة أو وقف إطلاق النار، وإنه لابد من مواصلة القتال حتى لحظة النصر، وهو ما يعني أن أمد الحرب سيطول كثيراً، وكثيراً جداً". ثم كان الرد على إصرار الأسد على ما قاله عبر تصريح وليد المعلم بأن "مقام الرئاسة" خط أحمر بإعلان بوتين عن سحب جزء كبير من القوات الجوية الروسية من سورية وأنه قد "تم إعلام الأسد بذلك"!
والإشارة الثالثة تمثلت هي الأخرى في زيارة وزير الدفاع الروسي لبشار الأسد بتاريخ 18 حزيران 2016 والذي سيصرح لزائره وهو يستقبله أمام عدسات مصوري التلفزيون الروسي عدم معرفته المسبقة بمن سيزوره ثم بث هذه الصور عبر القنوات الروسية كي تتناقلها القنوات الأخرى في العالم.
يعكس ذلك كله أساس طبيعة الموقف الروسي من النظام الأسدي مثلما يقول في الوقت نفسه  أولوياته التي، وإن كانت لا تتطابق ولا تتقاطع بالضرورة مع أولويات هذا الأخير، إلا أنها تشير بوضوح إلى طبيعة التفاهم الروسي الأمريكي حول الخطوط الأساس في المسألة السورية، على الرغم من كل المظاهر التي توحي عكس ذلك.
لا يمكن لقصف حلب غير المسبوق في الأسابيع الأخيرة بعد إعلان "سقوط" الهدنة التي قررها الروس والأمريكيون إلا أن يقدم دليلاً آخر على هذا التواطؤ الذي يقتضي توزيع الأدوار من أجل الحفاظ على مصالح الطرفين. لقد أراد بوتين أن يحتفل بمرور عام على احتلال قواته سورية كما يليق به، أي بانتصار ما على الأرض. لم يتمكن حلفاؤه السوريون والإيرانيون عبر مرتزقتهم من تحقيق ذلك على أرض حلب. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترفض الاستجابة إلى رغبته. فبعد أن نددت خلال أسبوع بالقصف الأعمى وسمحت للمرة الأولى للأمين العام للأمم المتحدة أن يقول شيئاً آخر غير قلقه، ها هي عشية مرور عام كامل على الاحتلال الروسي لسورية تهدد بوقف التعاون بينهما. وهو ما دفع بوتين إلى أن يأمر وزيري خارجيته ودفاعه بمواصلة التعاون مع الأمريكيين!
هل يمكن، في غمرة ذلك كله، تصديق أن الروس جاؤوا إلى نجدة النظام الأسدي؟


** نشر هذا المقال في موقع جيرون يوم الخميس 29 أيلول 2016.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire