من وحي الشيخ
مصطفى إسماعيل
بدرالدين عرودكي
"ويحبون أن يُحمَدوا بما لم
يفعلوا..". ما
عليك! دع المعاني تسري في خلاياكَ عبرَ مساماتك.
تسْتقرُّ فيكَ وتندهشُ أنكَ مُدْركَها وما أنت مدركها بجهدٍ عقليٍّ بذلته. فما الذي يحدث إذن؟
هوذا .. هوذا الصوتُ ينطلق، حنوناً، مترفقاً، يداري حرفاً بعد حرفٍ وكلمة بعد كلمة ثم جملة بعد جملة.
يتوقف هنا هنيهة ليستأنف من ثمَّ على قوة وثقة. يترفق حيث يتوجبُ الرفقُ فتترفق. يتراقصُ جذلاً من فرحٍ مُستوجبٍ فإذا بك تتراقصُ معه على استحياءٍ وتخشى، حاشَ، من أنْ.. ثمَّ لا تجدُ في ذلك مأخذا.
يتألمُ إذ يرقُّ وهو يمدُّ الياءَ في أليم فتتألمُ الألمَ تستقرؤه كيفَ يستقرُّ شحنة معنىً لا تنضب في كل حرف من الحروف الأربعة وكيف تتلاشى الحدودُ بين الصوتِ والكلمةِ والحروف عندما يدرك الميم ويرتاح عند سكونها ليتدفق المعنى.
هوذا.. يدهشك أنه إذ يغنّي لا يغنّي بل يتغنى.
"فلا تذهب نفسُكَ عليهم حسرات"..
وأنت تستمعُ إليه يعيدها مرة ثانية وثالثة مترفقَ الخطاب والصوت تذرفُ دموعاً لا تدري كيف أتتكَ على أجنحة السنوات الأربعين تجتاز في طرفة عين كل ما عشته من أيام وليال لتتدفق من جديد كالمرة الأولى حارة وافرة..
ما
إن افتتح الشيخ قراءته من جديد، حتى انتقل إلى عالم آخر قوامه المسجد الأموي بدمشق
(ما أكثر ما أطفأ حنينه إليه بزياراته المتعددة إلى المسجد الجامع في مدينة قرطبة)
وأبوه وأصدقاؤه وطفل كان يسعى إلى أن يكون كالشيخ (كما رآه في السادسة من عمره في
مسجد جامعة دمشق) في قوامه وفي قامته وفي لباسه وفي صوته!
كان
يلاحق المعاني في ترجمة جاك بيرك الفرنسية
مقارناً النصّيْن دون أن ينتبه كثيراً، آنئذ، إلى قدرة بيرك الشعرية الهائلة التي
كانت تتجلى له في محاولته أداء المعاني القرآنية. ذلك أنه ما إن وصل إلى قول يعقوب مستسلماً لرواية إخوة يوسف عن أكل الذئب
له: "فصبرٌ جميل".. وإلى أداء بيرك له بالفرنسية: "Patience
est belle…"
وإلى ركونه إلى أنه لم يُوَفق هنا، حتى أعاد الكتاب الجميل إلى علبته الأنيقة
ووضعه على رف المكتبة إلى جانبه، ليستغرق في متابعة صوت لم يعرف القرن العشرون له
مثيلاً ولا أداء بمستوى أدائه سوى صوت وأداء الشيخ محمد رفعت (ترتسم فجأة في
ذاكرته صفحة من مجلة المصور المصرية خصصت لرثاء الشيخ إثر وفاته عاتم 1951
والكلمات التي كتبت تحت رسم له وهو يتلو القرآن مغمض العينيْن: "صوت كنسمات
الفجر أو كدعاء الكروان..." ثم راح يستمع بإنعام وركون إلى هذا الأداء
الموسيقي الرفيع لأروع ما أنتجته الشعرية العربية: مبدع فني آخر من طراز فريد.
معاني القرآن في لغته الخارقة تتأدى بصوت إذا ما بلغ قمته وتجلى صار جزءاً من
إعجازها. ولن ينسى ما حدث له يوم كان في طريقه إلى مكتبه يقود سيارته ويستمع إلى
تسجيل صوت الشيخ على مسجل السيارة يقرأ سورة يوسف ذاتها. كان قد وصل إلى ذروة
أدائه في هذا التسجيل عند تلاوته الآية: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه
وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله" عندما بلغ نهاية شارع ديفور توقف
عند الإشارة الحمراء قبل أن ينعطف في اتجاه جادة السان جيرمان. كان مستسلماً
لتموجات الصوت وهو يفسر عبر ثلاث قراءات وثلاث أداءات متباينة لجزء من الآية: "وغلقت الأبواب وقالت: هِيتَ لك" أو "هِئتُ لك"
أو هَيْتَ لك"، ثم ليستعيد الآية كلها من أولها "وراودته" إلى
"معاذ الله" في نفس واحد متصاعداً
بصوته تدريجياً حتى يصل الذروة الحاسمة المُفَسِّرة لكل الموقف. ذروة في سلم
التعبير مثلما هي ذروة في التبيين
والتعيين من خلال الصوت وطريقة الأداء. وعندما بدأ بإعادة القراءة المتعددة ثانية،
وكان لا يزال في الذروة التي حُمِلَ إليها، خيل
له أن المطر بدأت تهطل وذلك من
خلال القطرات التي ارتسمت أمام عينيه على زجاج السيارة. فحرك المسّاحتيْن ليتبيَّن
الطريق أمامه لكنهما أحدثتا صوت انزلاق حادٍّ على الزجاج. إذ لا مطر هناك ولا ما
يحزنون! بل هي دموع كانت تملأ عينيه من شدّة التأثر وامرأة فارعة القامة، ساحرة الجمال
والخفة، كانت تحدق به وهي تجتاز الشارع أمامه وترتسم على وجهها ابتسامة عجب وتساؤل
(هل كانت حقاً امرأة رآها أم كانت خيال امرأة ابتكرتها مخيلته وهو في أقصى
النشوة؟). حدث ذلك كله في ثوان معدودات بدت له وكأنها الأبدية ليستيقظ على زعيق
أبواق السيارات من ورائه تحثه على الحركة وهو لا يسمعها فيما بدا له شرطي المرور
ينقر بأصابعه على الزجاج يريد أن يكلمه ويستفهمه عن سبب توقفه. "لا شيء
ياسيدي، سوى أن محرك السيارة توقف..." وكان قد توقف فعلاً، و "هو يرفض الآن
أن ينطلق من جديد..".
لا
يدري كيف قضى ذلك النهار في عمله. كان غارقاً في نشوة لم يعرفها منذ يفاعته، أي
منذ أن كان قادراً على الاستغراق في أحلام عن مستقبل يكيِّفه كما يشاء، سوى أنها
نشوة تعيد له زمناً مضى بأشخاصه، وأمكنته، ونوادره، وأتراحه، وأفراحه، وفي القلب
منه، في نقطة المركز، يتربع الشيخ مصطفى إسماعيل.
** نشر هذا النص في
صحيفة أخبار الأدب بالقاهرة، حزيران/يونيو 1999.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire