هل يحاول الإسلاميون مصادرة طه حسين بعد 41 عاماً على رحيله؟*
بدرالدين عرودكي
داليا عاصم، صحيفة الشرق الأوسط
1)
هل
يحتاج طه حسين في ذكرى رحيله الـ 41 لإنصاف من تهمة الردة عن الاسلام؟
2)
من
خلال دراستك العميقة لسيرته الذاتية، كيف ترى تقسيم مشروعه الفكري إلى أربعة مراحل
آخرها "عودته للإسلام واعترافه بفضل القرآن والسنة" بعد اتهامه
بتنكره للتراث الاسلامي وطعنه في الثوابت الدينية؟ واتهامه باثارة الشبهات في
القرآن الكريم؟
3)
هل
ترى أن سوزان طه حسين أثرت على قناعاته الفكرية مما أثر على مشروعه الفكري؟
4)
ولماذا
يصر البعض على وصفه بأنه كان مستشرقا يعيش في مصر وأنه كان بعيد كل البعد عن
الحضارة العربية والإسلامية برغم مؤلفاته الكثيرة التي تنتصر لهما؟
بدرالدين عرودكي
1)
تهمة
الردة عن الإسلام؟
أعترف أنني لا أفهم كيف يمكن لأي إنسان في هذا العالم
أن يزعم امتلاك الحق بتكفير الناس أو بمنحهم الغفران "لأنهم تابوا" أو
لآنهم صاروا "أوابين". بتكليف ممَّن؟ أو باسم مَنْ؟
لأقل بوضوح، ليست محاولات الحديث عن "كفر"
طه حسين ثم عن "عودته" للإيمان إلا جهوداً بائسة من أجل إقناع الناس
بأنه تراجع عن آرائه وعن مشروعه الحقيقي
الذي احتل بفضله مكانته الكبيرة لا في قلوب العرب الذين لقبوه بالعميد فحسب
بل وفي التاريخ أيضاً، تاريخ العرب وتاريخ الإنسانية.
إذ بدلاً من مناقشة أفكاره مناقشة موضوعية وتفنيدها،
ثم قبولها أو رفضها، كما هي التقاليد العريقة في النقاش الفكري والعقلي، يلجأ
هؤلاء إلى مسألة لا علاقة لها على الإطلاق بما كتبه طه حسين طوال حياته، أعني
مسألة كفر طه حسين أو إيمانه أو عودته إلى الإيمان والتي هي مسألة شخصية محضة؛ وهم
لا يتورعون عن استخدام كلمات ذات وقع خاص ومؤثر لدى عامة الناس من بسطاء المؤمنين من
أجل التجريم: الردة، أو من أجل الغفران: أوّاب.
وتلك حرب شنها هؤلاء على طه حسين منذ أن نشر عام 1926
كتابه الشهير "في الشعر الجاهلي" فجروه إلى المحاكم، وهددوه بالقتل،
وحاولوا بكل ما لديهم من الوسائل بما في ذلك الكذب والخداع والتضليل والتشويه
وتقويله ما لم يقل ثم تكفيره وإعلانه مرتداً
أن يحطوا من عزيمته وأن يحملوه على التراجع. لكنه صمد أمام كل هؤلاء، ومضى
في طريقه الذي شقه بالعمل الدؤوب والفكر المستنير والشجاعة الأخلاقية. لذلك أرى أن
تهمة الردة غير ذات موضوع أساساً.
2) مشكلة التقسيم الذي
يقيمه محمد عمارة لمشروع طه حسين الفكري أنه ينطلق من مقياس الاعتراف بحاكمية
الإسلام أو ما يسميه "الرجوع عن الطعن في الثوابت الدينية". وذلك مقياس
لا علاقة له البتة بمشروع طه حسين الفكري والثقافي. لم يكن هذا المشروع يقوم على
فحص الثوابت الدينية كما لم يكن ذلك همّه. بل قام على إعادة قراءة التراث، كل
التراث الأدبي والفكري العربي، قراءة عقلانية تعتمد التمحيص والدراسة وطرح الأسئلة
على كل ما اعتبر خلال قرون مسلمات لا جدال فيها. ولم يكن من قبيل الصدفة أنه اختار
موضوعاً لرسالة الدكتوراه في باريس أول مؤرخ واجتماعي بالمعنى الحديث للكلمة في
تراثنا، وأعني ابن خلدون. كما أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون الموضوع الذي
اختاره لرسالة الدكتوراه الأولى في الجامعة المصرية َيدور حول أبي العلاء المعري
وذلك قبل أن يسافر إلى باريس وقبل أن يطلع على مبدعات الثقافة الغربية. هذا يعني
أن المنهج العقلاني كان الطريق الذي اختاره طه حسين منذ أن كان على مقاعد الدراسة
في الأزهر. ولهذا السبب لم يحصل على العالمية من الأزهر بعد ثماني سنوات من
الدراسة الدؤوبة لا لأنه لا يستحقها أو لأنه لم يكن جديراً بها، ولكن لأن شيخ
الأزهر آنذاك كان قد قرر عدم منحه العالمية وأمر اللجنة الفاحصة بألا تمنحه إياها
مما دفع الرئيس المقرر لهذه اللجنة إلى أن يستقيل وألى أن يطلب إلى آخر أكثر
خنوعاً أن يرأس اللجنة. لا بل إن فكره النقاد والفاحص حمله على نقد أستاذه المشرف
على رسالته في الجامعة المصرية أثناء دفاعه عنها مما جعل هذا الأخير لا يصوت على
منحه درجة الامتياز كاسراً بذلك الإجماع الضروري لمنحها.
لم
يكن الإحجام عن منحه العالمية في الأزهر أو درجة الامتياز في الجامعة المصرية بسبب
الكفر أو الردة أو الطعن في الدين أو في الثوابت الدينية بل لأنه كان يقدم نموذجاً
للباحث المفكر العقلاني الذي لم يكن مقبولاً آنذاك في المؤسسات العلمية والجامعية.
هذا مافعلوه بطه حسين قبل أن ينهل من الثقافة الغربية أو أن يطلع على المناهج
الغربية في الدراسة وفي البحث. وسيتابعون ما فعلوه حين نشر كتابه في الشعر
الجاهلي. وكانت حربهم ضد فكره وضد عقلانيته تشبه الحرب التي شنوها على علي عبد
الرازق حين نزعوا عنه بقرار صفة العالم وسرحوه من عمله كقاض في المحاكم الشرعية.
لكن العالَم لا يزال يذكر علي عبد الرازق باحترام شديد و يحتقر من أساؤوا إليه
تماماً كما أن العالَم لا يزال وسيظلّ يذكر باحترام وتقدير طه حسين ويسخر من كل
منتقديه ومكفريه وممن زعموا لأنفسهم حق منحه الغفران!
3) كيف يمكن لعقل بسعة
وصرامة عقل طه حسين أن تؤثر زوجته على قناعاته بحيث يؤدى ذلك إلى التأثير على
مشروعه الفكري؟ أضحك كثيراً كلما قرأت هذه المزاعم ـ التي لا يمكن أن تصدر إلا عن
جاهل ـ القائلة بتأثير زوجته "المسيحية" عليه. لقد أحب طه حسين امرأة
مثقفة وأحبته. وآية قصة حبهما الحقيقي والنادر ـ وهو ما لا قِبَلَ لمنتقديه أن
يفهموه أو أن يستطيعوا استيعابه ـ أن كلاً منهما احترم دين الآخر وقناعاته العميقة،
ذلك لأن علاقتهما كانت علاقة إنسانين ندّيْن في الإنسانية لا علاقة تابع كما يفهم
هؤلاء العلاقة الزوجية. لنلاحظ أنها كتبت
كتابها الوحيد عنه تحت عنوان: معك..وفي هذا العنوان كل المعاني التي لا يفهمها
هؤلاء! ثم إنَّ من يقرأ كتابات طه حسين حول التراث الأدبي والفكري الغربي سيرى كيف
أنه يناقش ويفند ويقبل ويرفض هذا العمل أو
ذاك مثلما كان يناقش ويفند ويقبل ويرفض هذه المقولة أو هذا الزعم في التراث
والتاريخ العربيين أو الإسلاميين. نحن
أمام عقل نقدي صارم بل وشديد الصرامة، وما كان بوسع أحد أن يجعله يحيد عن قناعاته.
ولقد كانت زوجته أكبر شاهد على ذلك طوال حياتهما المشتركة التي دامت نيفاً ونصف
قرن.
4) هؤلاء الذين أرادوا
تكفيره ثم اتهامه بالردة ثم الحكم عليه بأنه آب إلى الإيمان هم أنفسهم من وصفه
بالمستشرق وبالبعد عن الحضارة العربية والإسلامية. ذلك لأنهم لم يمتلكوا ما امتلكه
طه حسين من ثقافة جمعت إلى الثقافة الكلاسيكية العربية والإسلامية التي نهلها من
الأزهر الثقافة الغربية الكلاسيكية والحديثة بعد أن تعلم وأتقن اللغتين اللتين كتبت بهما
المصادر الأولى للتراث الثقافي الغربي القديم وأعني اللغة اليونانية القديمة
واللغة اللاتينية. وهي ثقافة سمحت له أن يطوف ويتجوّل بسهولة وبساطة في مبدعات الثقافتين
وأن يكتب بلغتيهما وأن يخاطب جمهوريهما بثقة وقدرة لم يضاهه بها أحدٌ من المثقفين
العرب بعده حتى الآن. وهو ما يفتقر إلى أقل من القليل منه أؤلئك الذين يجادلون في
إيمانه وفي كفره أو في أوبته إلى الإيمان.
لقد
كان مشروع طه حسين مشروعاً حضارياً ومستقبلياً يطال مجال الفكر والعمل في آن واحد،
وهو مشروع لايزال علينا أن نستعيده للخروج من ظلمات هؤلاء الذين يريدون العودة بنا
إلى الوراء باسم الدين تارة وباسم الثوابت الدينية تارة أخرى.
* نشر ضمن تحقيق حول محاولة الإسلاميين مصادرة طه حسين في صحيفة الشرق الأوسط بتاريخ 6 تشرين الثاني/نوفمبر 2014.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire