samedi 22 novembre 2014


"معك"
سوزان  طه   حسين

بدرالدين عرودكي


 

                                                                                                
                                       

ترجمتُ هذا الكتاب قبل أكثر من ستة وثلاثين سنة ونشرته للمرة الأولى دار المعارف عام 1979 ثم نشره المركز القومي للترجمة بالقاهرة عام 2009 مع مقدمة كتبتها له توضح ظروف تأليفه وترجمته. لكن الطبعة الجديدة التي ستظهر على الملأ ستختلف عن الطبعات السابقة جميعها. إذ أن الكتاب صدر باللغة الفرنسية للمرة الأولى عام 2011، أي بعد صدور ترجمته العربية بثلاث عقود ونصف. وقد تضمنت هذه الطبعة كل الأبحاث التي قام بها ناشراها الفرنسيان، زينا ويجان وبرونو رونفار، وتمثلت في هوامش وشروحات وتعريفات بأسماء المعالم وخصوصاً الأعلام الذين ورد ذكرهم في الكتاب فضلاً عن مقدمة وتذييل شديدي الأهمية بالنسبة للقارئ الفرنسي، بل وللقارئ العربي أيضاً.. فقمت بترجمة ذلك كله كي تأتي الطبعة العربية جديدة بكل معنى الكلمة بما تضيفه من معلومات تسهم في تقدير النص الأصلي حق قدره. 

لم تكن سوزان بريسّو التي حملت منذ اقترانها به اسم طه حسين تتطلع إلى أن تكون كاتبة ولم تحاول. فقد اقتصر نشاطها الكتابي على ما كانت تكتبه لزوجها من رسائل كلما غابت عنه، وكان يمكن لنا ألا نسمع عنها أكثر مما سمعه معاصرو زوجها الأقربين لولا أنها حزمت أمرها واستجابت في آن واحد لنداء داخلي كي تكتب رسالتها الأخيرة له بعد أن رحل عن عالمنا، ولاقتراح جاك بيرك الذي كان صديقهما المشترك أن تحكي في هذه الرسالة رحلتهما معاً، على غرار الرحلة السنوية التي كانا يقومان بها كل عام من الإسكندرية حتى جبال الألب في إيطاليا ثم إلى فرنسا، كي تسرد كل ما لا يمكن لمن أحبوا طه حسين أو كرهوه، من قدّروه أو من حاولوا النيل منه، من ساروا على نهجه أو من قاوموا هذا النهج، أن يعرفوا طه حسين الزوج، والعاشق، والأب الحنون، والإنسان الذي اتحد في شخصه السلوك والعقيدة ودفع ثمن هذا الاتحاد كلما رفض النفاق أو الكذب أو الرقص على الحبال..

هكذا كتبت سوزان طه حسين كتاب "معك" تحاول وقد غاب عنها الرجل الذي ملأ عليها حياتها أن تستحضره في الغياب. كتابٌ لا هو بالرواية على امتلاكه كثيراً من عناصرها، ولا هو قصة طويلة على وجود شخصية رئيسية أساسية فيها، ولا هو رسالة حبٍّ حميمة على ما ينطوي عليه من فصول ومقاطع يسود فيها ضمير المخاطب: منها إليه أو منه إليها، ولا هو تأريخ على ما فيه من سرد لحوادث كبرى عرفتها مصر خلال حياة طه حسين، ولا هو أخيراً يوميّات على ما تضمنه من ضبط إيقاع الكتاب تارة بناء على تواريخ معينة، وتارة بناء على مواقع محدّدة.. من الممكن القول بلا مبالغة  إنّ فيه من كلّ شكل من هذه الأشكال عناصر صنعت فرادته فعلاً وجماله فعلاً وخصوصيته فعلا.

لسوف تتيح لنا في هذا الكتاب الوحيد الذي وضعته أن نقرأ فيه لا مجرد حكاية رحلة علاقة دامت حوالي ثمانية وخمسين عاماً قامت على حبٍّ لا يلغي أحدَ طرفيه لحساب الآخر حين يحترم فيه فرديته وخصوصيته واستقلاله واختلافه في مجتمع كانت لا تزال المرأة تناضل فيه من أجل الاعتراف على الأقل في حقها برفع الحجاب، بل كذلك أن نرى بعينيها وبأمّ أعيننا كيف تمكن إنسان حرمه فقدان البصر من أن يصير أكثر بصيرة من المبصرين، وكيف كان هذا الإنسان وهو لا يتوقف عن قول ما يراه الحق في أوضاع بلده السياسية والإنسانية والاجتماعية والثقافية والتربوية عن أن يستمر في الشك وفي الحيرة وفي إعادة النظر بكل ما يمكن أن يساعده على تصويب خطواته، وكيف أن عمله الدائب في التعليم وفي الكتابة وفي القراءة وفي البحث لم يحل بينه وبين أن يكون أباً يسهر على مداعبة أولاده وتربيتهم أطفالاً ثم كباراً. ذلك كله في صحبة هذه الزوجة الحبيبة والصديقة التي بات يرى بعينيها ويسكن إليها ويستمد منها القوة والعزم في كل ما يفعله.

سنرى فضلاً عن ذلك في هذا الكتاب مشاهد شديدة الأهمية من تاريخ مصر في الأرباع الثلاثة الأولى من القرن الماضي: تاريخ مصر السياسي، والاجتماعي،  وسنلتقي خلال ذلك كله بعض شخصيات هذه التاريخ ممن كانوا يصنعون الأحداث آنئذ لكننا سنكون معهم خلف الحجب أو الأقنعة التي تفرضها السياسة أو المناصب. وسنعيش، خصوصاً، لحظات المحنة التي واجهها طه حسين إثر نشر كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أملاه خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 1926، والتي تمثلت في جرّه إلى المحكمة بعد مصادرة الكتاب، وحملت له الكثير من الآلام. لم يفهم طه حسين الذي اتهم آنئذ زوراً بالكفر والإلحاد ما كان يراه من "الأحكام البليدة" و"التحيز الأخرق" و"الحقد الحاسد" و"الرياء" مما عكسته الحملات الصحافية والشتائم والتهديد بالموت وخذلان الأصدقاء، ومع ذلك "احتمل كل شيء بصلابة ورأس مرفوع، وعندما أعلن ردّ الدعوى بعد ذلك بعدة شهور، لم يكن قد تراجع خطوة واحدة".  

كما سنستعيد فيه ما أنجزه طه حسين فيما وراء دراساته وأبحاثه ومعاركه الفكرية على صعيد الثقافة والتربية في مصر خصوصاً ومن أجل ولحساب مصر، وفيما وراءها الثقافة العربية عامة، في عدد من الدول الأوربية : تأسيس جامعة الإسكندرية، وتطوير التعليم الجامعي، وإنشاء معاهد البحث ومراكز الفنون في مدريد وفي روما، وأخيراً وليس آخراً إقرار مجانية التعليم في مصر حين كان وزيراً للمعارف قبيل عام 1952.

وما أكثر الأسماء التي سنشهد أصحابها يلتقون طه حسين في بلدانهم أو يحجون إلى بيته بالقاهرة كلما جاؤوا في زيارة إلى مصر. أسماء لامعة في مجالات الفكر والفنون والآداب: لويس ماسينيون وجاك بيرك ورابندرانات طاغور، جاك كوكتو وأندريه جيد، علال الفاسي وجيورجيو لابيرا، إميل برهييه وبول جريندور وإيتيامبل.. إلخ، إلخ..
وسنكون فيما وراء هذا وذاك شهوداً على قصة الحب الخارقة التي بعد أن عاشتها هذه المرأة الاستثنائية لحظة بعد لحظة ويوماً بعد يوم بأبعادها كلها تكتبها رسالة حميمية تستحضر فيها اللحظات السعيدة والحزينة، والأمكنة البهية، والأصوات الجميلة، والوجوه العزيزة حاضرة أو غائبة..
كانت سوزان طه حسين التي تطلعت إلى أن أنجز ترجمة كتابها قبل أن تلحق بحبيبها سعيدة وهي تتلقى الطبعة الأولى منه أن تتمكن عندئذ من الرحيل للقاء حبيبها بعد أن قالت له حبّها كله هي التي كانت تظن أنها لم تفعل!
 
 
** نشر هذا المقال في صحيفة "العربي الجديد" ـ ملحق الكتب، زاوية "قرأت مؤخراً"، العدد الأول، 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2014

 

 


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire