أحمد الحجري
أصداءُ عوالمَ اختزلَ أزمنتَها حلمٌ بلا نهاية
بدرالدين عرودكي
لا يحصي أحمد الحجري عدد المعارض التي أقيمت لتقديم أعماله. ولا يهمه في الواقع أن يحصيها. ها هو الآن يستجيب لدعوة أصدقائه في بلده الأصلي، تونس،في نهاية شهر نيسان/أبريل، بكونفاس آر غاليري، وفي جنيف، غاليري دانييل بيسيش، طوال شهر أيار/مايو، لتقديم آخر لوحاته. معرضان في آن واحد يقدمان الأعمال التي أنجزها والتي أخفاها عن محبي فنه كي يتمكن من عرضها.
ما أسرع ما تمضي الأيام!
أربعون عاماً انقضت على تلك اللحظة التي انكشف فيها فناناً بالسليقة وبالطبيعة، ثم تبناه من اكتشفه إذ انكشف أمامه..
الطابق الثاني من المبنى 22 حي تامبل (المعبد) بالدائرة الرابعة بباريس، في مكتب المعماري رولان موران. صار اليوم مرسم أحمد الحجري. قبل أربعين عاماً، كان يجلس في زاوية منه كل يوم شابٌّ تونسي في الخامسة والعشرين من عمره، كي يقوم بعمل إضافي ساعتين يومياً يقوم على رسم مخططات كهربائية للمباني التي يصممها ربُّ عمله المعماري. لكنه كان بين الفينة والفينة يشرد عن العمل ليخربش رسوماً مختلفة على وريقات أخرى تمليها عليه سليقة طفل لا يزال شديد الحيوية والخيال في أعماقه.
ذات يوم، يدخل ربُّ العمل المكتب على حين غرة. يفاجئ الشابَّ مرتبكاً وهو يلقي على عجل ورقة في سلة المهملات. يرسله في مهمة كي يستعيد الورقة المجعدة في غيابه. يعود الشاب ليتلقى من ربِّ عمله تعنيفاً لم يكن ينتظره: لم يكن متهاوناً في القيام بعمله الذي يتناول عليه الأجر للقيام به فحسب، بل إنه يرمي رسومه الرائعة في سلة المهملات!
لن يسرِّح رولان موران، ربّ العمل، عامله المُهمِل، بل سيقدم له دفتراً للرسم وسيطلب منه أن يرسم بانتظام ولكن خارج أوقات الدوام؛ ويَعِدُهُ إن هو ملأ الدفتر بالرسوم أن يشتري له دفتراً آخر على حسابه. ما إن يملأ الشاب الدفتر الأول حتى يشتريه منه ربّ عمله بمائة فرنك فرنسي..(حوالي 250دولار بسعر أيامنا). لا يفهم الشاب معنى ذلك.. يصحبه رولان موران، إلى الفنان جان دو بوفيه. يطلع هذا الأخير على رسوم الشاب. يربت على كتفه ويقول له: سنهتم بك، رولان وأنا. ثم ما يلبث موران أن يطلب إليه الاستقالة من المصنع الذي كان يعمل فيه والذي انتشله من بؤس محقق لكي يعكف على الرسم حصراً. يتردَّدُ الشاب في البداية،"لم أكن أفهم ما الذي يحمله على ذلك". لكن إغراء الراتب الشهري يحمله على أن يقبل وقبل أن يفعل، يأتي بأخيه من تونس كي يحلَّ محله في المصنع. في الرابع من نيسان/أبريل 1974 يوقع أحمد الحجري عقد عمله كرسام: "لم أكن أفهم حقيقة ما الذي يحدث لي".
وكيف له أن يفهم ما يحدث له هو الذي عاش ربع قرن يراكم ضروب الخيبة واحداً بعد الآخر؟
لم يكن مسار أحمد الحجري طبيعياً. فقد ولد بتازركه، التي ولد فيها من قبله تونسي شهير آخر، محمود المسعدي، في أسرة فقدت عائلها ولم يكن له من العمر إلا خمس سنوات، فاضطرت الأمّ إلى تأجير خدماتها في بيوت الأسر الثرية في المدينة ومنها بيت محمود المسعدي تحديداً! فكان في غياب أمه يعيش عزلة صارت بعضَ كيانه. يستسلم للبحر وللشمس كلما سنحت له الفرصة، أو لعجوز يلجأ إليها ساعات طويلة يستمع إلى قصصها الحافلة بالمعتقدات والكائنات الخرافية وبضروب السحر والعجائب كانت في نظره، كما يقول، "أفلاماً شفهية" تغذي أحلامه ومخياله.
أمكن له بصعوبة بالغة أن يدرس صنعة تساعده على كسب العيش، وبصعوبة أكبر أيضاً أن يحصل على شهادة عامل في الكهرباء. لكنه كان لا يحلم إلا بالرحيل. تتاح له فرصة اتباع دورة تدريبية في إيطاليا، فيحصل على جواز السفر، لكنه يعزف عن الرحيل إليها. كانت فرنسا محط أمله. وها هو في ربيع عام 1968، يبحر أخيراً إلى مرسيليا وليس في جيبه أكثر من خمسين ديناراً. كان الناس يتحدثون عن أحداث باريس (أيار/مايو 1968) لكنه لم يكن يفقه عنها شيئاً. سرعان ما تبخرت ثروته البسيطة. ومن خيبة إلى أخرى تؤدي به إلى مدينة ليون التي وجد نفسه ينام فيها تحت الجسور أياماً طويلة كان من نتيجتها انهيار صحته وإصابته بأمراض ألزمته سرير المستشفى ستة أشهر كاملة، خرج بعدها ليعمل للمرة الأولى في مجال علمه: الكهرباء، وفي مدينة غرونوبل. يقترح عليه رب عمله فيها بعد لأي أن يسافر ليعمل معه في مدينة ليل بشمال فرنسا. لكن صداماً على الطريق أودى بحياة معلمه وقذف به ثانية إلى المستشفى التي سيخرج منها بعد أشهر عدّة ليعمل اعتباراً من 1973 وحتى 1974 في مصنع بكوربفوا، في ضواحي باريس عاملاً كهربائياً. في كانون الثاني/يناير 1973 يحمل له القدر وهو يتصفح إحدى الصحف إعلاناً. كتب فيه: "نبحث عن رسام كهربائي متخصص، ولو كان مبتدئاً".
كما لو كان حلماً، أو حكاية عجائبية. سيعيد هذا الإعلان رسْم مجرى حياته.
لم يكن صاحب الإعلان سوى المهندس المعماري رولان موران، أحد الفائزين في مشروع تصميم مركز جورج بومبيدو للثقافة، ومصمم متحف الفنان جان دوبوفيه آنئذ..
سيأخذ موران وقد اكتشف موهبة الشاب على عاتقه أن يكون عرّاب أحمد الحجري. ربع ساعة كل يوم يعلمه خلالها اللغة الفرنسية، ثم ساعة أخرى كي يعلمه خلالها تاريخ الفن بل وبعض مبادئ الهندسة المعمارية.. وهاهو يصطحبه خلال عام 1976 إلى إيطاليا: بريسيشيا، ميلانو، بادو.. "يكتشف الحجري تيسيان في فينيسيا، ومرغريتا دوني لرفائيل في فلورنسا، ويتحمس أمام اللوحات الجدارية في فيللا فالمارانا لتييبولو. وسيرسم من وحي هذه الرحلة لوحة حملت عنوان "الجندول في فينيسيا".
يدرك اليوم أنه ما كان بوسعه "شق الطريق كرسام وكفنان على النحو الذي جرى لولا موران". كان لإيمان هذا الرجل بموهبة الحجري ورغبته في إبراز هذه الموهبة الأثر الكبير والحاسم على تطور الشاب الذي استطاع أن يشق طريقه بعد وفاة عرّابه وأن يستقل بنفسه فناناً ومبدعاً.
"حمل لي ذات يوم قماشاً وشدّه أمامي ضمن إطار خشبي وطلب إلي أن أبدأ الرسم عليه".من الورق إلى القماش، ومن الأقلام الملونة إلى الريشة والألوان الزيتية..
سيستغرق الحجري في الرسم بلا كلل. وكلما أنجز عملاً كان موران يسارع إلى دوبوفيه يطلعه عليه. بين 1974 و1978، تراكمت اللوحات بحيث صار بوسع موران أن يفكر بتقديم هذا الفنان العجيب إلى الناس. دعا أصحاب قاعات العرض الكبرى في باريس لرؤية اللوحات.سارع توما لوغيو، صاحب غاليري ميسين الواقعة في الدائرة الثامنة بباريس، إلى الموافقة من فوره على إقامة المعرض الذي سيفتتح يوم 9 شباط/فبراير 1978.
""لدى افتتاح أول معرض أقيم للوحاتي صنعوا لي طقماً مفصلاً على مقاسي ليوم (لم أكن أدري ماذا يعني) الافتتاح.. صدقني.. كانت تلك هي المرة الأولى. لم أكن معتاداً.. ويوم الافتتاح باع صاحب الغاليري كل اللوحات بعد أن اشترى لنفسه ستاً منها. في نهاية الحفل وقبل مغادرتي، سلمني رسالة فيها شيك بمبلغ كان يساوي مبلغ راتبي الشهري خلال ثلاث أو أربع سنوات!..حملقت فيه غير مصدق عينيّ. غادرت الغاليري سيراً على قدميّ أحاول استيعاب ما يحدث لي. وكنت أمشي وأتوقف كل مائة متر تقريباً لأخرج الرسالة من جيبي وأنعم النظر في الشيك كي أتأكد من أنني لم أكن قد أخطأتُ القراءة!.."
زار هذا المعرض محمود المسعدي، الكاتب والروائي، وكان آنئذ وزير الشؤون الثقافية في تونس وفي زيارة رسمية إلى فرنسا، هذا المعرض الأول لأحمد الحجري. فقد "اصطحبه مضيفوه الفرنسيون إلى معرضي لأنني تونسي. أعجب بأعمالي، وحين عاد إلى تونس سأل أمي التي كانت تشرف على شؤون بيته: "ألكِ ابن في باريس؟". أجابته أمي: "نعم، وهو يشتغل في الضو!"(أي الكهرباء!).فقال لها: ابنك شهير وفنان كبير..لكنها لم تدرك هي الأخرى ما كان يقوله لها. وطلب إليها أن يراني ما إن أعود إلى تونس. عدت إلى تونس وطلبت إليّ أمي أن أزور سي محمود. رفضتُ في البداية وطلبت إليها أن تكف عن العمل لأنها لن تكون بحاجة إلى المال بعد ذلك اليوم. رأت أنني كنت أريد أن أحيلها على التقاعد! فرفضت، هي التي اعتادت على العمل منذ أكثر من ثلاثين سنة.."
لم يكن أحمد الحجري الوحيد الذي يقف مذهولاً أمام اهتمام الناس بما يفعل لكي يتسلى! الآخرون أيضاً. كلُّ الآخرين. ويتردد السؤال بهمس تارة وبصوت جهير تارة أخرى: "كيف استطاع شاب بخلاف الفنانين المحدثين مثل شاغال أو ماتيس ممن جهدوا بالعلم وبالتقنية كي يصيروا من جديد بدائيين، أن يبدع بسذاجة وعفوية أعمالاً تضعه، هو الذي لم يمتلك ناصية الفن الأكاديمي، مقابل فناني الفن الحديث هؤلاء؟"
لكن ذهوله هذا كان يعكس أيضاً خوفاً عميقاً من الآخرين ومن أحكامهم. يروي أحمد الحجري: "زارت ذات يوم كلارا مالرو (زوجة الكاتب الفرنسي أندريه مالرو) مع عدد من صديقاتها المرسم ورحن يقلبن لوحاتي واحدة بعد أخرى. وحين كن يتأملن لوحة "التليفون" كانت كلمة : شاغال.. شاغال..تتكرر على ألسنتهن. لكني كنت أسمعها: شاكال.. شاكال! الكلمة الفرنسية الأولى هي اسم الفنان الشهير، أما الثانية فتعني الضبع! حسبت أنهن يصفنني بالضبع. لذلك، ما إن غادرنَ مرسمي حتى أمسكت بالفرشاة وطليت بالأبيض كل اللوحات الموجودة. حين رأى موران ما فعلت، وفهم السبب، لم يقل لي شيئاً، لكني رأيت الأسف والحزن في عينيْه.بعد عدة أيام، هتف لي موران يقول لي إنه سيرسل 500 فرنكاً لتفصيل لباس رسمي لي لأننا، هو وأنا، مدعوان لحضور أوبرا "لاترافياتا" في دار الأوبرا. حينما ذهبنا إلى قصر غارنييه، مقر أوبرا باريس، وكنت أزوره للمرة الأولى في حياتي، كنت أنعم النظر في سقف القاعة الكبرى المليء برسوم هي من الجمال بحيث بقي رأسي مشدوداً إلى أعلى أنعم النظر بهذه الروائع. سألت موران: "من رسم هذا السقف؟ فأجابني:شاغال..أقول له: شاكال؟ ويجيب: لا.. شاغال..هو الاسم الذي كانت كلارا مالرو وصديقاتها يشبهن أعمالك بأعماله!.. حينئذ أدركت حماقة ما فعلت.. وأمسك موران بكتاب ضخم وقال لي: هذا هدية لك عن شاغال ما دمت قد أحببت أعماله..".
ذلك بعض ردود فعل من كانوا يشاهدون أعماله قبل أن يظهر على الملأ في معرض رسمي. لا يتوقفون عن مقارنته بكبار رواد الفن الحديث كي ينتهوا إلى الحكم، رغم كل شيء، بفرادته..وكان موران، ببصيرته، قد أدرك منذ اللحظة الأولى التي التقط خلالها الرسم من سلة المهملات، أنه أمام موهبة استثنائية، إن لم تكن، في حال أحمد الحجري، نادرة.
ومن ثمَّ، لم يكن من قبيل الصدفة أن يقوده إلى جان دوبوفيه، الذي كان مُنَظِّرّ الفن الغريزي، أو الفن الخام، أو الفن غير المصقول (حين نشر في عام 1949 كتابه حول هذا الفن) ومؤسِّسَ جماعته عام 1948 بصحبة أندريه بريتون، وأندريه مالرو، وهنري ميشو، وكلود ليفي ستروس.
لكن هل ينتمي فن الحجري إلى الفن الغريزي؟
"لا يهتم الإبداع الحقيقي بأن يكون أو لا يكون فناً"، يقول جان دو بوفيه بحق. تلك أيضاً قناعة أحمد الحجري العفوية! وإذا كان النقاد تحدثوا عندما تناولوا أعماله عن "الفن الغريزي"، إلا أن الحجري يبقى عسيراً على التصنيف، فهو، كما يقول زبير لاسرام، "يفلت من التصنيفات التقليدية الخاصة بالفن الغريزي بوصفه كذلك؛ ذلك أنه يتجاوز الموضات والفواصل. إنه ساحر، يتلاعب بعقلانيتنا الضيقة. ولا شيء يمكنه أن يحول بينه وبين الاستمرار في التطور في عالم هوائي هو عالمه، الموسوم بالنور وبالعذوبة. فمن داخل لوحاته يرقب العالم، دون أن يكف عن دعوتنا كي نتقاسم معه رؤيته الفاتنة والفريدة".
والحقيقة أننا، أينما طفنا بنظرنا في لوحات أحمد الحجري أو رسومه أو دفاتره، نعثر على صور بسيطة، ساذجة، عفوية، تتجاوز الكثير من التفاصيل محتفظة بما هو الأساس: الحلم وقد تجسَّد خيالاً أو الخيال وقد تجلى حلماً. عالم اختزنته ذاكرة جماعية اختزلت أزمنة وعصوراً ثم استقرت في لاوعي فرد تكاد من غليانها أن تنفجر فتحيله حطاماً لولا أنه عثر على أداة تتيح له أن يخرج بها على الملأ..
تلك حالة يعيها أحمد الحجري تمام الوعي: "أتعلم؟ إن ما يهمني حين أرسم يداً ما هو الحركة التي تقوم بها هذه اليد... لا عدد الأصابع. الواقع، لم أؤمن به يوماً؛ ما أنقله في لوحاتي هو عالم الأحلام، وبصورة مباشرة. وهي بالطبع أحلامي، أحلام فتى راشد يجرُّ وراءه طفولة معجونة بالآلام وبالحرمان (...) لقد بقيت اليتيم الصغير الذي يشعر بنفسه بشعاً، ونكرة، وأن العالم، كله من حوله، يجهله. (...) كانت أمي تعمل خادمة مياومة لدى أثرياء القرية. وعندما بلغت التاسعة من عمري وُضِعْتُ في ميتم وعرفت الوحدة المطلقة. فكان الحلم مهربي الوحيد. كنت أحلم مستيقظاً أو نائماً، وفي أحلامي كنت أراني، وأراني دوماً، طائراً فوق العالم الواقعي، فوق عقباته، فوق مصاعبه. أما شخصيات لوحاتي فهي تفعل الشيء نفسه، لأنها شخصيات قصص غالباً ما تكون حزينة".
منذ البداية، التقط توما غيّو هذا الجوهر في لوحات الحجري ورسوماته: "يَعْبُرُ الإنسان العالم كمحنة لا يمكن احتمال عنف قسوة مراحلها. في هذه اللحظات المأساوية ، يمكن للعودة إلى الفن أن تجعل الألم ذا دلالة. وتقوم قوة الفنان كلها على نقل الدراما الخاصة إلى مستوى جماعي، أو، وهو الأفضل، إلى مستوى عام." (...) يتحدث جيرار آزولاي بحق عن الوحي وهو يذكر رؤى الحجري الكونية. فببصيرته يمكن تشبيه الفنان بجنس (قيد الانقراض) الأنبياء ."
* * *
والحقيقة، أن لوحات الحجري، بعيداً عن الموضعة في مكان أو زمان محددين، وفي ما وراء التصنيفات، تعيدنا على الدوام إلى فكرةٍ لازمنية عن الطبيعة البشرية المتألمة تارة والفرحة تارة أخرى، لكنها في أغلب الأحيان مضطربة أو هاربة.
"حلمُ حياةِ قلبٍ نقيّ".
http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=772708C9-0EAF-406C-8274-DFD43447B620&d=20130501
http://www.aldohamagazine.com/emagazine/viewmagazine.aspx
http://www.aldohamagazine.com/emagazine/data/20130501/pdf/doha%2067%20web.pdf
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire