mercredi 1 mai 2013


المثقف والسلطة

قبل  الحركات الثورية في العالم العربي*

بدرالدين عرودكي


لنقل دفعة واحدة إنه خلال الأربعين سنة الأخيرة، يمكن لعلاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي أن تصاغ بالاستفهام التالي: هل من الممكن تواجد المثقف في أنظمة ذات طابع شمولي أو استبدادي؟
الحقيقة أن أية مقارنة سريعة بين هذه الفترة التي نعنيها وما سبقها تبين لنا بما لا يدع أي مجال للشك إلى أيّ حد تراجع دور المثقف النقدي منذ بداية السبعينيات. وأن ذلك يؤلف ظاهرة عامة في مجمل بلدان العالم العربي لا تتفاوت إلا في التفاصيل التي تمليها الشروط الاجتماعية والخلفية التاريخية الخاصة بكل بلد عربي.  والنتيجة التي تقود إليها هذه المقارنه بدهية بالطبع: التناقض بين الاستبداد والمثقف.
في الفترات التي شهدت الحماية الغربية أو ولادة الدول العربية اعتباراً من عشرينات القرن الماضي وحتى خمسينياته، كان وجود المثقفين ملموساً على الأصعدة جميعها: صعيد التربية، والحرية، والتثقيف، والنقد الذي وصل بأحد كبارهم، عباس محمود العقاد، إلى قضاء تسعة أشهر في السجن إثر مقال كتبه يدافع فيه بعنف عن الدستور ضد الملك. ومن الملاحظ أن تلك الفترة لم تشهد نقاشاً أو سجالاً حول دور المثقف أو وظيفته بقدر ما كانت تشهد ممارسة فاعلة ومؤثرة. ولئن ابتعدت الفترة الناصرية في مصر أو البورقيبية في تونس نسبياً عن هذا التقليد الذي كان راسخاً في البلدين، وحافظتا مع ذلك على حدّ أدنى منه، إلا أنهما لم تحققا الانعطاف الحاد الذي ستشهده فترة السبعينيات والذي ستستمر مفاعيله إلى عشية الثورات العربية ابتداءاً من تونس وانتهاء بسورية.
ذلك أن السلطة اعتباراً من بداية السبعينيات وخلال السنوات العشر التي تلتها قد تحولت بالتدريج السريع إلى سلطة مطلقة أو شبه مطلقة لا اعتماداً على شرعية منحتها الجماهير كتلك التي منحتها لعبد الناصر من قبل، بل كأمرٍ واقع وقائم. فقد سعت إلى إعادة تنظيم وهيكلة أجهزة السلطة على نحو عمودي معتمدة في ذلك على جهاز حزب واحد مهيمن وشمولي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأجهزة الأمنية. سنرى أن الطرق التي اتبعها بن علي في تونس مع التجمع الدستوري الديمقراطي، ومبارك في مصر مع الحزب الوطني، والقذافي في ليبيا مع اللجان الشعبية، وحافظ الأسد في سورية مع حزب البعث، لا تكاد تتشابه فيما بينها فحسب بل تكاد أن تتطابق. بدأ كل منهم بانفتاح شكلي على ممثلي المجتمع المدني من أحزاب أو شخصيات أو مثقفين لينتهي إلى هيمنة كاملة أو شبه كاملة على مختلف البنى الاجتماعية الفاعلة. وإذا كان ثمة تباين بين هذه الدول المذكورة فمردّه التكوين التاريخي لكل منها؛ إذ ثمة فرق بين دولة ذات تقاليد متجذرة تاريخياً في مجال الدولة والسياسة وبين دول حديثة العهد بمثل هذه التقاليد. ولا بد لنا كي ندرك أبعاد هذه الهيمنة الطارئة من أن نتخذ من الوضع السوري مثلاً يمكن أن نرد إليه نقاط التقارب والتباعد بينه وبين الأنظمة العربية المشار إليها.
في بداية استقرار حافظ الأسد رئيساً بعد قيامه بحركته التصحيحية في نهاية 1970، كانت هناك العديد من الرايات معلقة في الساحات العامة وعلى امتداد شوارع العاصمة الكبرى، كتب عليها بعض أقوال "السيد الرئيس الجامعة". يلفت النظر بوجه خاص واحدة منها كتب عليها: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير".
تجسّد هذا "الضمير" من بعدُ في أكثر من ستة عشر جهاز أمني لتغطية قطاعات حياة السوريين كلها. لكن أهم قطاعين وضعا ومنذ البداية في المقدمة كان قطاع القائمين على المساجد والصوامع والجمعيات الدينية من ناحية، وقطاع المثقفين "العلمانيين" من خلال الصحافة ودور النشر واتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين السوريين ونقابة الفنانين، من جهة أخرى، فقد قضيَ بأن يُعالجا على عجل وبلا انتظار.
نتج عن ذلك أن "النظام" استطاع بدهاء ومكر أن يكمم الطرفين بالتدريج لكي لا نقول استدراجهما للوقوف إلى جانبه. استعان، في الجانب الديني، بعدد من أكثر المفكرين الدينيين شعبية ليجعل منهم الناطق الرسمي والدعائي والمدافع عن النظام مجسداً في شخصية الرئيس. ولقد تمَّ تحييد هذا القطاع على نحو لم يستطع أشد أقطابه الآخرين شجاعة على الإعلان عن اعتراضهم على ما كان هذا الشيخ أو ذاك منهم يقوله. كانت قمة التحدي إثر مجزرة حماه عام 1982 بوجه خاص، حيث لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بالتنديد أو بالاحتجاج أو حتى بالسؤال عما جرى! أما في الجانب الصحافي والفكري العلماني، فقد أعاد النظام النظر في طريقة إدارة  مؤسستين من مؤسسات النظام "الديمقراطية" كان نظام البعث قد أنشأهما، بأن وضع على رأس كل منهما رئيساً يتجدد انتخابه في كل دورة، على غرار رئيس النظام نفسه. وظيفته السهر على "حرية الفكر" ضمن إطار "حرية الضمير"! وحدها قنوات التلفزيون والإذاعة خرجت عن هذه القاعدة نظراً لحساسيتها الشديدة ولكثرة إمكانات "الوقوع في الأخطاء الخطيرة" فوضعت تحت الرقابة المباشرة؛ إذ كان يمكن تسريح رئيسها بلا إخطار بناء على أمر مباشر من القصر. أما بالنسبة إلى الفنانين، فقد جرى التكميم على الصعيد الاقتصادي؛ إذ أن ممارسة المهنة كانت تتوقف حصراً على القطاع العام أو، من بعد ذلك، على شركات إنتاجية يملكها رجال النظام نفسه!
 هذا التكميم جعل من الحياة الثقافية والفكرية على مثال بُنى النظام ذاته: فكما أن كل شيء يوحي "من الخارج" بدولة ديمقراطية من خلال وجود المؤسسات السياسية (الدستور، فصل السلطات، رئيس جمهورية، مجلس وزراء) والمؤسسات التمثيلية: النقابات المهنية (ومنها نقابات الكتاب والصحافيين والفنانين..)، والصحافة المتعددة، والأحزاب السياسية، وكذلك وجود عدد من الصحف المنوعة، وكثرة الكتاب في الصحافة وفي القطاع السمعي البصري ونشر الكتب..إلخ. كل شيء مسموح به مادام "الضمير" يقوم بعمله في الرقابة. لكن الخطوط الحمراء غير المعلنة كانت موجودة. والواقع أنه لم يكن مقبولاً نقد القائد، أي رئيس الدولة، ولا نقد الحزب القائد، ولا نقد النظام بوصفه بنىً ونهجاً وتطبيقاً، ولا نقد سياسة الحكومة الخارجية ومواقفها. كل شيء، في ما وراء ذلك، مباح ومتاح!
لا يختلف هذا الوضع عن مثيله في تونس أو في ليبيا إلا في بعض التفاصيل، لكنه في مصر يختلف نسبياً اختلافاً أشد أهمية. فالأزهر بوصفه المرجعية الدينية الأولى، خاضع تاريخياً لسلطة الدولة المدنية. أما الحياة الثقافية والفكرية، فإن التقاليد الراسخة لم تكن تسمح بهيمنة شمولية، ومن ثم فقد كانت الأساليب المتبعة في تدجين هذه الحياة أكثر سلاسة وأدنى إلى الترغيب منها إلى الترهيب.
ذلك لن يحول دون أن ترتكب سلطات أخرى في العالم العربي ما لم تجرؤ السلطة السياسية على ارتكابه بصورة مباشرة: فقد حاولت قتل نجيب محفوظ وقتلت فرج فودة في مصر، واغتالت حسين مروة ومهدي عامل ثم سمير قصير في لبنان، وناجي العلي، الفلسطيني، في لندن..
سيؤدي هذا الوضع على كل حال واعتباراً من بداية هذه الفترة، إلى ظهور ثلاث فئات أساسية من المثقفين: المهجنون؛ المهجرون؛ المؤيدون. وستتواجد هذه الفئات في معظم بلدان الثورات العربية مع فروق تكبر أو تتضاءل حسب طبيعة السلطة وممارستها في هذا البلد أو ذاك.  ستتسم الحياة الثقافية والفكرية أيضاً بطابع النظام القائم. صحيح أن الهامش على ضيقه في مصر قد سمح بظهور أصوات أصيلة وكتابات لم يكن بالوسع السماح بمثلها في تونس بن علي أو في ليبيا القذافي حتى أو في سورية الأسد. لم يهاجر الكتاب في مصر (باستثناء فترة قصيرة أيام حكم السادات) لكي يكتب بحرية كما هاجر الكتاب التونسيون أو الليبيون أو السوريون. وكان بوسع كاتب في مصر أن يرفض جائزة تمنحها له الدولة ، أو أن يكتب آخر رواية تعري النظام الأمني والمافيوي في مصر دون أن يوضع هذا أو ذاك في السجن في اليوم التالي. لكن الكاتب المهجن موجود على الدوام، وهو يحتلُّ مقدمة المشهد الثقافي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في سورية، لم يكن نزار قباني يكتب شعره في دمشق، واضطر زكريا تامر إلى الهجرة إلى لندن. وفي ليبيا، لم يكن إبراهيم الكوني وأحمد ابراهيم الفقيه يكتبا رواياتهما في بلدهما. ومن تونس، هاجر المنصف المرزوقي المعارض أو الطاهر بكري الشاعر إلى باريس.  أما من بقي فقد كان مضطراً إلى مداراة أمره يوماً بعد يوم كلما مارس مهمته مثقفاً أو كاتباً أو فناناً. وعندما يحاول البعض الاستفادة من الهامش الذي يكتشفونه في تصدعات النظام، وينجحون، سرعان ما تكمم أفواههم بحرمانهم من الجمهور الذي يريدون الوصول إليه. فأفلام عمر أميرالاي التسجيلية التي أنتجها في سورية لم تعرض في سورية إلا في بداية الحركة الثورية الحالية (أي بعد 15 آذار 2011) وفي المركز الثقافي الفرنسي! في حين أن فيلمه الشهير الذي شاركه فيه الكاتب والمسرحي سعد الله ونوس، الحياة اليومية في قرية سورية، لم ير النور في سورية رغم أن المؤسسة العامة للسينما، وهي مؤسسة سورية من القطاع العام ، هي من أنتجه!
وعلى أن تكميم الأفواه كان هو النظام السائد في سورية مثلما كان كذلك في تونس أو في ليبيا، فإن المثقفين السوريين استطاعوا بجرأة ملحوظة أن يعبروا عن رأيهم ومعارضتهم بوضوح لا لبس فيه: ففي عام 2000 وقع 99 من المثقفين والفنانين بياناً حمل رقم عددهم يطالبون فيه بالحرية وبالإصلاح وبالديمقراطية، ثم في عام 2005 حين قام عدد من الأحزاب الممنوعة وبعض الشخصيات العامة  بتوقيع إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي. وما جرى للذين وقعوا على هذا البيان أو ذاك باتت معروفة من قبل الجميع.
خلال أربعين عاماً ونيِف، نحن كما نرى، أمام وضع أقصى، وضع لم تكن الحياة الثقافية فيه سوى حياة سطحية، يُرغم فيه المثقف على أن لا يهتم إلا بشؤون حياته اليومية!

* هذا النص الذي قدم خلال الندوة الدراسية التي عقدت يوم 30 نيسان/أبريل 2013 حول "الحركات العربية الثورية بعد سنتيْن"، والتي نظمتها جامعة ليل 1 بالتعاون مع معهد العالم العربي (فرع الشمال)، يؤلف مدخلاً لموضوع المائدة المستديرة الثانية والتي شاركت فيها إلى جانب زياد ماجد، أسامة محمد، سلام كواكبي : "دور المثقفين والفنانين".

* نشر هذا النص في مجلة "تواصل" ـ العدد الثاني، ص. : 30ـ33

http://www.syria-nass.com/tawasol/Tawasol2.pdf

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire