mercredi 26 septembre 2018




صدقي  إسماعيل: 
الرواية والتاريخ 


بدرالدين عرودكي 

ربما كان الكاتب والروائي والمسرحي والمفكر السياسي صدقي إسماعيل (1924ـ1972)، أحد نوادر الكتاب العرب الذي لم يتمكنوا من أن ينشروا إلا القليل مما أنجزوه من مبدعات فنية ـ على وجه الخصوص ـ في حياتهم، وأن هذه الأعمال لم تعرف إلا بعد وفاتهم. رحل عن عالمنا وهو في الثامنة والأربعين من عمره، أي حين كان في أوج نضجه ونشاطه. ولم يكتمل نشر أعماله الكاملة إلا في عام 1977. لكن هذه الأعمال، كالتي نشر منها في حياته، لم تلق الاهتمام النقدي الذي يليق بها، لا في سورية نفسها ولا في البلدان العربية الأخرى، ولا يزال صدقي إسماعيل كاتبًا سوريًا كبيرًا ينتظر أن يكتشف من جديد بوصفه كاتبًا ساخرًا، وروائيًا، وقصصيًا، ومسرحيًا، وكاتب مقالات في الفكر السياسي لم يكن بفعل ثقافته الواسعة، يعرف الانغلاق الأيديولوجي أو العقائدي.  
لم أتوقع، حين أجريت هذا الحوار معه وأعددته للنشر في مجلة الطليعة التي كنت آنئذ محررها الثقافي، أنه لن يصل إلى يد القارئ! ذلك أنه نشر بالفعل في العدد 226 الذي صدر يوم السبت 14 تشرين الثاني/نوفمبر 1970، أي قبل أقل من ثمانية وأربعين ساعة من الإعلان عن الانقلاب الذي أضفى عليه من قام به اسم "الحركة التصحيحية"! فبدا وكأن العدد قد سحب من السوق أو أنه لم يكن قد وجد طريقه إلى أكشاك الصحف أو ــ وهو الأرجح ــ أن الناس كانوا خلال ذلك الأسبوع في شغل ابتعد بهم عن الأدب والثقافة وهم يستقبلون عهدًا لم يكونوا يعلمون آنئذ ما الذي ينتظرهم فيه على امتداد أربعين عامًا!
لقد ربطتني بصدقي إسماعيل صداقة كتلك التي ربطتني إلى زميليْه في حرفة الكتابة: أنطون مقدسي ومطاع صفدي خصوصًا. وكنت شديد السعادة أن أمكنني إجراء هذا الحوار معه وأن أكتب مقالًا طويلًا عن مجموعته القصصية "الله والفقر" نشر في المجلة ذاتها.
أتطلع بنشر هذا الحوار ثانية مع الكاتب والأستاذ والصديق صدقي إسماعيل في مثل هذا اليوم الذي رحل فيه عن عالمنا عام 1972، إلى أن يكون بمثابة تحية متواضعة له في ذكراه، وتذكيرًا بمبدعاته التي باتت جزءًا ثمينًا من تراث سورية الأدبي.  
**    ***    **
صدقي إسماعيل[1]
عن الرواية والتاريخ

كسائر أبناء جيله، كان مُطالَباً بأن يحدد موقفه منذ البداية ككاتب. وهكذا راح يكتب المقالة الفكرية والسياسية والاجتماعية قبل أن يعالج الكتابة الأدبية والروائية منها بشكل خاص. ثم أصدر كتابه عن "رامبو" عام 1952، وتابع حياته كأستاذ للفلسفة في المدارس الثانوية ومناضل في حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان ينشر بين الحين والآخر مقالات أو ترجمات لبعض الأعمال الأدبية.
وفي أوائل الستينيات، أصدر دراسته عن "العرب وتجربة المأساة"، ثم رواية "العصاة" وعاد للكتابة الأدبية، يكتب القصة والمسرحية والمقالة الفكرية والعلمية.
وعلى الرغم من كل أعماله المنشورة، فإن تجربة صدقي إسماعيل تظل أغنى من كل ما نشره. ولذلك فإنه يصعب على المرء في الحقيقة أن يتحدث عنه أو عن روايته الفكرية في عدة سطور أو بضع صفحات.
فما لم ينشره هو الذي سيحدد ــ كما يخيل إلي ــ رؤية صدقي إسماعيل للواقع العربي خلال المرحلة التاريخية التي أعقبت نكبة 1948، وبشكل خاص روايته "الحادثة" التي لم تنشر بعد، وروايته الأخرى التي يكتبها الآن، وهي "رحلة إلى الغرب".
ومع ذلك فإن هذا اللقاء ليس أكثر من محاولة التعرف على صدقي إسماعيل مباشرة لابد من أن تعقبها محاولات أخرى كثيرة بعد أن تتاح لنا فرصة قراءة أعماله التي لم ينشرها بعد، لنتمكن في ضوئها من تحديد ملامحه: مفكراً وروائياً وكاتباً مسرحياً.
** كان كتاب "رامبو: قصة شاعر متشرد" بداية حياتك الأدبية. وكان قد مضى عقد من السنوات على صدوره حين أصدرت روايتك الأولى "العصاة". ما السبب في وجود هذا الفاصل الزمني غير المألوف في نتاج الكتاب؟
*** ليس من السهل أن أستخدم عبارة "الانقطاع" عن العمل الأدبي أو وجود الفاصل الزمني الكبير أو غير المألوف بين إنتاج وآخر في تجربة الكتاب دون النظر إلى واقع الحياة الأدبية والفكرية في بلادنا، ولاسيما في نهاية الأربعينيات وأعقاب الحرب العالمية الثانية. وأول ما يبرزه هذا الواقع هو الاندماج الكلي بين التجربة القومية أو التزام القضايا الجماهيرية من ناحية، وبين تجربة الكتابة، وهي ظاهرة عامة في جميع الأقطار العربية. لقد كان على الكاتب في هذه الحقبة أن يحدد موقفاً منذ أن يشرع في الكتابة، سواء كانت السلطة تملي عليه ذلك أو "الضغط الجماهيري" أو كانت بدافع وجداني محض. ولم تكن قضية "تحديد الموقف" هذه مجرد انتماء حزبي أو سياسي أو عقائدي.. إلخ.، بل كانت نوعاً من المطالبة بالمشاركة الفعلية في الحياة العامة. وعلى الرغم من أن ظاهرة "النخبة" كانت تطبع هذه المرحلة لعدم انتشار التعليم واتصال المثقفين بتيارات الحضارة الحديثة ــ وفي مفهوم النخبة ما يشير إلى شيء من الانعزال أحياناً عن تجارب الجماهير ــ على الرغم من هذا فإن الكتابة، بألوانها المختلفة، كانت وسيلة لممارسة التأثير في الآخرين وحفزهم على التغيير.
** وقصائد الغزل، أو بالأحرى الكتابات الوجدانية بشكل عام.. هل كانت ــ في رأيك ــ وسيلة لحفز الآخرين على التغيير؟
***  حتى قصائد الغزل ووصف الطبيعة والآثار الأدبية "الوجدانية" ــ وهي في الظاهر أبعد ما تكون عن الاهتمام بمصائر الآخرين ــ كانت تنطوي على دعوة إلى مواقف جديدة من الحياة. غير أن الشكل "الأدبي" الغالب لمثل هذه "الدعوة" كان يتمثل في المقالة الفكرية أو السياسية  أو الاجتماعية أو الدينية، ولم يكن كتاب رامبو  بداية تجربتي في الكتابة، بل المقالة الملتزمة، وذلك لانتمائي منذ البداية إلى حركة البعث العربي الاشتراكي. وكانت الصحافة اليومية أو الأسبوعية وارتباطها بتلاحق الأحداث السياسية على نحو خاص، تستأثر باهتمام الأجيال الناشئة التي تكتب.. في ذلك الحين، حتى القصص والقصائد والدراسات الأدبية لم تكن تجد لها مكانًا في المناسبات المختلفة إلا على أعمدة الجرائد.
وقد كتبت رامبو على هامش المقالات الصحفية، وكتبت في الوقت نفسه كتابًا مماثلًا عن حياة الفنان فان كوخ لم ينشر حتى الآن. أما رواية العصاة، فقد كانت عملًا يوميًا استغرق عدة سنوات، نشرت خلالها دراسة عن حياة محمد علي القابسي، مؤسس النقابات التونسية، ومجموعة قصص مترجمة عن الشاعر الروسي بوشكين تحمل اسم الإعصار. أما الفواصل الزمنية فهي ترجع إلى أزمة النشر.
** لقد وضعت تحت كلمة العصاة  كلمة رواية. إلى أي حدٍّ ينطبق وصف الرواية ــ في رأيك ــ على العصاة؟ وهل كنتَ تتطلع ــ أثناء كتابتها ــ لجعلها رواية بالمعنى الفني للكلمة؟
*** لا أعرف إذا كان من الصواب أن نطلق اسم الرواية على كتاب العصاة، وهذا ما أخذه عليَّ الكثيرون. بل إن بعضهم وجدوا فيه مجموعة من القصص يغلب عليها التشتت لاتساع الفترة الزمنية التي تجري فيها الأحداث، أو تتعاقب الشخصيات. غير أن الحافز العميق لكتابتها هو أنه لابدّ من أن يكون هناك شاهد على هذه التجارب التي حرصت في عرضها على سهولة الأداء والارتباط بحرارة الوصف الواقعي، دون النظر إلى اصطناع "البناء الروائي"، وهو مما يصعب امتلاكه إلا بعد تمرس طويل في الصياغة الفنية. فقد كان تولستوي يقول في صدد الرواية: الكتاب الحق هو الذي يشعر الكاتب بأنه لابد من أن يكتب، وهو لا يعني أنه يصبح تلبية لحاجة داخلية فحسب، بل يعني أيضًا أن الكاتب قد امتلك نهائيًا أسلوبه الخاص في الأداء. ولا أعرف أين أستطيع أن أصنف "رواية" العصاة في هذا المجال، سوى أن تصوير "القلق" ورفض الواقع الفاجع و"العصيان".. إلخ.، ليس إلا شيئًا ثانويًا، أمام ترويض العبارة العربية ــ روائيًا ــ على استيعاب التجربة العربية المعاصرة في أبعادها المختلفة. هناك نصيحة كان يوجهها تولستوي نفسه" "لابد من التريث.. إن الكاتب يظن في بدايته أن له رأس عملاق، غير أنه لا يملك إلا يد طفل". وهو ما ينبغي أن يذكر بصورة خاصة أمام الواقع العربي الذي لم تمتد إليه بعد يد قوية متمكنة.
** حاولت العصاة أن تقدم صورة لمرحلة قلقة من مراحل تاريخنا المعاصر.. ورأيت في أؤلئك الرافضين للواقع الفاجع عصاة لا أكثر.. وتوقفت بهم عند حدود نكبة فلسطين. فلماذا لم تتابع؟
*** إن اعتبار "رفض الواقع" عصيانًا، كان الموقف الطبيعي لشخصيات الرواية أنفسهم. إن الذين يحملون روح الثورة والتمرد وهم يجدون أنفسهم مضطرين إلى حماية "الواقع" وتبنيه أحيانًا، لا يمثلون الرفض الحقيقي أو الثورة، بل إن الحس الأخلاقي، كثيرًا ما يدفعهم إلى معاناة الشعور بالعحز والارتياب بجدوى الرفض أو التمرد. وقد حاولت أن أصور مثل هذه المعاناة في شكلها الإيجابي من خلال علاقات إنسانية محدودة في حياة أسرة يبدأ وعيها "التاريخي" للأحداث بعد عام 1948، وهو موضوع رواية الحادثة. ولم يتح لها أن تنشر بعد لأنها تتجاوز الألف صفحة.
** يمكن القول إن كتابك العرب وتجربة المأساة خلاصة نظرية لروايتك العصاة.  ولكن الكتاب النظري لا يقدم أي شعور بالتفاؤل، في حين أن الرواية تفتح الطريق أمام أمل مفعم بالفرح.. كيف تفسر ذلك؟
*** لا علاقة لكتاب العرب وتجربة المأساة برواية العصاة. ولا أملك القول إن هناك نظرية معينة في الكتاب أو الرواية. فالكتاب ليس إلا دراسة موجزة عن موقف الإنسان من "الفاجع" في وجوده، تهدف إلى الربط بين المأساة التي يمثلها الفقر أو الموت... إلخ، وبين انهيار القيم الأخلاقية. ومنذ أن يسع الشعب أن يعي هذه العلاقة، فإنه يكون على عتبة حضارة جديدة، في حين يكون افتقاره إلى هذا الوعي مصدرًا لكثير من الأوهام تحجب عنه طريق الانبعاث والتجدد. وأحيانًا يتوهم الأنانية والانسياق الجماعي استقلالًا في الفردية والأصالة، وتارة يخيل إليه أن التغيرات السطحية العادية في حياة المجتمع ثورة حقة، وقد يجد في الأوهام ذاتها صورًا للحقيقة الراسخة. إن جميع الحضارات ــ بما فيها الحضارة العربية ــ قد نشأت عن تمثل "الفاجع" في وجود الإنسان على حقيقته؛ وكان هذا التمثل يقترن دائمًا بالتزام القيم الخلقية التي تهددها المأساة بالانهيار، وعندئذ يبرز القلق الحقيقي على المصير البشري، ويفرض على الكائن الإنساني أن يحدد في شجاعة مكانته من العالم، ويلتزم مصيره الأخلاقي. بمثل هذا الالتزام وقف الإغريق مثلًا أمام فكرة "القدر"، وكان اعترافهم بهيمنتها الطاغية بداية الوعي الحضاري؛ ووقف العرب أمام فكرة الفناء، وكان الإذعان لديهم سبيلًا للرد عليها بالجهاد في سبيل الحق الذي تجسده فكرة الخلود. ولم تبدأ الحضارة الحديثة إلا عندما "وعى" الإنسان مكانته في الطبيعة، فرد على كونه "حادثة" تحمل همَّ الوجود وتجربة الموت بالقيم الحضارية الراهنة: العمل والواجب والاكتشاف العلمي.. إلخ.
 أما المواقف "الإنسانية" التي تمثلها الشخصيات في رواية العصاة، فإنها نوع من معاناة الواقع لا يملك فيها الفرد أو الجماعة إلا "الشعور" بضرورة الاختيار بين الاستسلام الذي  يمنح الطمأنينة في الغالب وبين التحدي. إنه مجرد شعور لا أكثر. وحين يتحول إلى موقف عملي فإنه يأخذ طابع العصيان لمجرد أنه لا يستهدف إلا ما يتعلق بالمصير الشخصي.  
** قلت في رسالتك إلى القارئ في مقدمة رواية "العصاة": "حرصًا على الإطار التاريخي الذي هو الغاية من كتابة هذه الرواية، لابد من الإشارة إلى أن جميع أشخاصها هم أبناء الزمن الذي عاشوا فيه، ومن الالتباس أن يعتبروا نماذج في قليل أو كثير". هل يعني ذلك أن المرحلة التاريخية التي تحدثت عنها لم تقدم نموذجها الكامل إلا عبر عديد من الأفراد؟ وما العلاقة ــ في هذا المجال ــ بين الرواية والتاريخ؟
*** الإنسان الروائي هو في طبيعته كائن تاريخي. وهو يزداد التصاقًا بتاريخيته ــ إذا صحّت العبارة ــ كلما كانت الشروط الموضوعية صارمة في التلاعب بمصيره. في حين يبدو "النموذج" في القصة أو الرواية مظهرًا لتجاوز هذه الشروط. بل إنه يشير إلى نوع من التوجيه أو التعليم. ولذلك فهو يقترن غالبًا بفترة الالتزام. غير أن هناك فرقًا بين التزام التجربة كما يمارسها الإنسان في الواقع، وبين التزام المستقبل. مثال النمط الأول شخصية "البطل الروائي" بالنسبة لتعاليم "الواقعية الاشتراكية.  مثلًا، النموذج البروليتاري الذي يمارس النضال من أجل مجتمع جديد يمثله هو في الواقع الحي. أما النمط الآخر، فإن الشخصية "الروائية" تصور الإنسان سؤالًا كبيرًا في العالم لا سبيل فيه إلى الجواب النهائي، لأن جميع التجارب من خلاله تستعاد من جديد. لقد كتب أندريه جيد عن مارسيل بروست بعد أن أهمل طويلًا خطورة اكتشافه لتيار الوعي في فن الرواية: "إننا نشعر طوال قراءته بأنه يعيرنا رؤيته الجديدة إلى الأشياء، وما كنا نراه سقيمًا أو ركامًا في العالم، يصبح أمامنا بناءً فنيًا لا سبيل إلى التقاطه إلا بالحساسية المرهفة". في حين أن بروست كان عديم الاكتراث بمفهوم النموذج  وكان "زمنيًا" أكثر مما ينبغي، بل إنه يؤكد أن كلَّ إنسان شخصيات لا تحصى، وأن أشدّها رسوخًا ما يدعوه بالشخصية "البارومترية"، أي ذات المزاج الذي يغلب عليه التأثر السريع بتغيرات الجو. وعلى هذا النحو، فإنه رغم ذاتيته الجامحة وحرصه على "فنية" الرواية، يؤرخ لأقدم تجربة يعرفها الإنسان: مواقفه الحية اليومية من الطبيعة. إن المفهوم التقليدي للنموذج لا وجود له في الرواية، لأنه ما من شخصية روائية حية يمكن أن تخرج من إطارها التاريخي، إلا إذا فقدت حرارة التجربة التي أملتها على الكاتب. وهو ما يحدث في تحويل الروايات "الكبيرة" إلى أفلام سينمائية مثلًا. لقد استطاعت السينما الأمريكية أن تجعل من الجريمة والعقاب قصة بوليسية مثيرة، ولكنها ألغت دستويفسكي منذ أن جعلت راسكولينكوف نموذجًا للمجرم "الذكي" وجعلت "سونيا مومسًا "بريئة". لقد أخرجتهما من الشارع الذي يمثل حقيقة الشارع البشري لكي يعلقا في إطار على جدار المنزل. ومن الغريب أن محاولات الرواية العربية كانت ــ وما تزال ــ تنطلق من شيء مماثل. نريد شخصيات تتجاوز محليتها التاريخية لكي تصبح صالحة لكل جدار، كما هي الحال مثلًا في هاملت ودون كيشوت وراستينياك ومدام بوفاري.. إلخ. وعبثًا تصدر عن هذه المحاولات آثار جدية ذات طابع عالمي، قبل أن ترصد حركة الشارع في رواية فنية صادقة. وصفة "الصدق" هذه تعني الإيمان بجدارة التجارب الإنسانية  التي يعانيها الآخرون، واستيعابها قبل الإلحاح المباشر على ما هو "ذاتي" في التجربة المعنية.
 ثمة ملاحظة أخيرة عن العلاقة بين الرواية والتاريخ في التراث العربي الذي يحرص الكثيرون على التأكيد بأنه لم يحمل تجارب روائية جدية يمكن أن يستند إليها الكاتب المعاصر في إنتاجه ويتابعها، أي ينعطف بها في ميادين جديدة. صحيح أننا لا نملك في هذا المجال إلا قصص العرب القديمة، وحكايات الأدب الشعبي بما فيه ألف ليلة وليلة وغيرها. ولكن المؤرخين العرب القدامى  كانوا جميعًا ــ باستثناء ابن خلدون ــ نماذج بارعة في ما يشبه الأدب الروائي. لقد كانوا يتمثلون في سرد الوقائع رؤية غير تاريخية ــ بالمعنى الصحيح أقرب إلى الفن. ومن ثمَّ كان لكل منهم جوّه الخاص في استعادة تجارب الماضي. وهل كان فن الرواية ــ والمسرح أيضًا ــ في بداياته التقليدية  يهدف إلى أكثر من هذا عقب انحسار عصر النهضة وظهور الرواية في أوربا؟ إن جهل التاريخ "المكتوب" عن الحياة العربية ــ ولاسيما في مراحله القريبة، أعني عصور الانحطاط ــ ورفض ماله من طابع "أدبي" يمكن أن يكون منطلقًا في التجربة المعاصرة للرواية العربية، هما من أبرز عوامل الارتباك والتخلف "الفني" في هذه التجربة. مع العلم أن هذا لا يلغي  ضرورة التأثر العميق بالتراث العالمي في اتجاهاته المختلفة، على أن لا نغفل أن هناك جمهورًا نكتب الرواية من أجله، وهو يطمح إلى الحقيقة والفن معًا.
** في تعليق لك عن الرواية الجديدة تقول إنها "ترفض السرد وترغم جميع الحواس على العمل.. ترتكز على مواقف ومشاعر هي الأساس في فن الرواية". فما الذي يعنيه التجديد في أدب الرواية برأيك، وهل ثمة تجديد في الرواية العربية الحديثة؟
*** ليس من السهل أن نعرف موجة "الرواية الجديدة" في التراث العالمي المعاصر، لأن من أولى مظاهر التجديد فيها أنها ترفض الاعتراف بجميع المفردات المألوفة السابقة في التعريف بفن الرواية (من المذهبية التي حملتها الرومنسية والواقعية والنزعة الطبيعية.. إلخ.، إلى تيار الوعي والتحليل النفسي والالتزام وغير ذلك..). غير أن هذه الموجة تنحسر في محاولات الرواية العربية الحديثة عن تأثيرات واضحة لا يمكن تقييمها ببساطة ــ منها التخلي عن السرد والدمج بين التجربة الشعرية بما فيها من ارتباط بمعطيات الخيال وإرهاف الإحساسات في آن واحد وبين تجربة الأداء القصصي بالإضافة إلى اقتحام التقلبات الميتافيزيقية  ــ إذا صح التعبير ــ في تصوير الحدث الروائي. غير أن جميع هذه التأثيرات ما تزال تسبح في جو سديمي مرتبك. فهي لم تجد بعد "أرضية راسخة" لجهل ملامح الواقع العربي، سواء في شكل الأداء ــ الذي هو صلتها الحية بالجمهور ــ أو في قوة التعبير عن التجربة الحية. وهو ما يقال أيضًا في الحديث عن "الجديد" في القصة العربية المعاصرة.
** ماذا أنجزت من الأعمال القصصية، وهل لديك مشاريع روائية؟
*** إنني الآن في صدد إعداد رواية "الحادثة" للنشر بعد أن طبعت أخيرًا ثلاث قصص طويلة تؤلف كتاب الله والفقر. وقد نشر معظم ما كتبت في هذا المجال في الصحف: مسرحية سقوط الجمرة الثالثة"، وقد أخرجت للتلفزيون؛ ومسرحية عمار يبحث عن أبيه؛ ومسرحية الأحذية، إلى جانب قصص قصيرة متفرقة. وما أزال أعمل في رواية تحمل اسم رحلة إلى الغرب. إن المشروع الوحيد الجدير بالاهتمام والعناية في كل كتابة من هذا القبيل هي العمل اليومي. إن أفضل ما يكتب هو الذي يأتي أثناء الكتابة دون أن يخطط له مسبقًا بصورة نهائية. 


[1]  يشغل الآن منصب أمين المجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم الاجتماعية، كما يشغل منصب رئيس تحرير مجلة الموقف الأدبي التي تصدر عن اتحاد الكتاب العرب.








** نشرت في مجلة الطليعة، العدد 226 الصادر يوم السبت 14 تشرين ثاني/نوفمبر 1970؛ ثم نشرت بمناسبة الذكرى السادسة والأربعين على رحيل الكاتب والروائي والمفكر صدقي إسماعيل على موقع جيرون يوم الأربعاء 26 أيلول/سبتمبر 2018.

jeudi 20 septembre 2018



حول "ميثاق دمشق الوطني" 
بدرالدين عرودكي 
خمسون سنة من حرمان الشعب السوري من السياسة والعمل السياسي، وسبع سنوات ونصف من معركة مريرة خاضها الشعب السوري، ولا يزال، ضد نظام الاستبداد وسلطة الإجرام الأمنية، وعبَّر في كل أرجاء سورية عن رفضه له، مطالبًاً بإسقاطه، ورافعًا شعار وحدة الشعب السوري في مواجهته، وفي مواجهة الواقع الراهن الذي تعيشه سورية تحت احتلال أو هيمنة خمس قوى دولية وإقليمية، وأمام الحساب الأخير المنتظر في مدينة إدلب، التي لا يزال سكانها رغم كل المظاهر تحت الخطر، والتي تقدم أكثر الأمثلة بلاغة لا على وقوع "المعارضة" بهيئاتها ومنصاتها ومجالسها ومقاتليها في فخ أستانة ومؤتمراتها ومناطق خفض التصعيد فحسب، ولا كذلك على عدم الكفاءة الفاضح في إدارة وقيادة المعركة التي تصدت لها من أجل إسقاط النظام الاستبدادي، بل على أن الكثرة من المحاولات التي يطرحها اليوم على السوريين نتيجة ذلك مناضلون ومثقفون وسياسيون من أجل مواجهة الوضع السوري الراهن، لا تزال تشكو من عدد من الصعوبات في تحليلها وفهمها الواقع السوري اليوم تحت عناوينه الثلاثة الكبرى: الاحتلال الخماسي (إيران، روسيا، الولايات المتحدة، تركيا، إسرائيل) ــ وهو لا يذكر في معظم الأحيان إلا مجتزءًا ــ، ومأساة الشعب السوري المقيم والنازح واللاجئ والمعتقل، والبلد المُدَمَّر عمرانيًا واقتصاديًا واجتماعيًّا وثقافيًّا.
آخر هذه المحاولات، تلك التي صدر عنها بيان يوم 13 أيلول الجاري، كانت مبادرة عدد من السوريين، بعد اجتماعات عقدوها طوال شهور في سبع مدن عربية وأوربية بوصفهم "الهيئة التأسيسية لكتلة دمشق الوطنية"، لمناقشة عقد سياسي ـ اجتماعي من أجل سورية صيغ في وثيقة حملت عنوان "ميثاق دمشق الوطني"، أعلنوا عنه عبر "بيان حول مؤتمر ميثاق دمشق الوطني" المشار إليه. أول ما يكتشفه كلُّ من يتلقفه، أنه يستهدف، كما ورد فيه حرفيًا، "بناء الإنسان السوري وبناء العقد الاجتماعي بين مكونات المجتمع السوري الواحد على أساس التعريف الدقيق والواضح للانتماء الدمشقي (...) كنواة صلبة من أجل إعادة بناء المواطنة والوحدة الوطنية السورية". وسرعان ما يتبادر السؤال عفويّا وطبيعيًّا: ما المقصود بـ "الانتماء الدمشقي"؟ مثلما يتلاشى، في الوقت نفسه، الاستقبال الطبيعي للعنوان "ميثاق دمشق الوطني"، الذي يبدو بعد قراءة الجملة السابقة، أن المقصود ليس مجرد اسم المدينة الذي أطلق على الميثاق كما قد يتبادر إلى الذهن، وكما كان الأمر في تسمية "إعلان دمشق" أو "ربيع دمشق" من قبل، بل هو التأكيد على "دمشق" بوصفها منطلقًا وانتماءً وذلك من خلال اسم المؤتمرين: "كتلة دمشق الوطنية"، واسم برنامجهم: "ميثاق دمشق الوطني" والحديث عن: "الانتماء الدمشقي" في البيان بوصفه قاعدة "لبناء المواطنة والوحدة الوطنية".
من الواضح أن البيان، الذي صيغ، كما يبدو، على عجل، يقدم موجزًا لما حدَّده الميثاق المشار إليه من أهداف أوجزت فيه بتسعة. لكنه أثار، من حيث لا يدري كاتبه، الحذرَ لمجرد استخدامه جملة لا يمكن إلا الوقوف عندها. كان يمكن، كما قد يرى البعض، مناقشة صيغته المرتبكة أو ترتيب تسلسل أفكاره وأهداف الميثاق حسب الأولويات. لكن الجملة التي تضمنها: "التعريف الدقيق والواضح للانتماء الدمشقي"، الذي لم يكن في البيان لا دقيقًا ولا واضحًا، تجعل العودة ــ بالقدر الذي تتيحه طبيعة المقال ــ إلى الميثاق نفسه بأبوابه السبعة لا غنى عنها لمعرفة الأسس التي صيغت بناء عليها هذه الأهداف من ناحية، والمعنى المراد من "الانتماء الدمشقي" بوصفه الوثيقة الأساس التي يجب أن تناقش أو تنقد نصًّا وروحًا من ناحية أخرى.
نُشِرَ "ميثاق دمشق الوطني" المؤلف من سبعة أبواب على صفحة موقع يحمل اسمه، وقُدِّمَ له على الصفحة الرئيسية  بشرح الخطوات التي أدت إليه، مع تفصيل عددٍ من الأسباب الموجبة التي حملت الهيئة التأسيسية لكتلة دمشق الوطنية على وضعه.
سنلاحظ منذ هذا التقديم "خارج النص"، ما الذي كان يعنيه اختيار اسم دمشق للميثاق من خلال مقاطع أو جُمَلٍ شديدة الدلالة: "تحرير الإرادة الدمشقية الوطنية من الإقصاء السياسي الذي عانت منه نخبها وكوادرها وما زالت تعاني"؛ تضافرت الممارسات القمعية التي قام بها النظام قبل الثورة في التعامل مع مدينة دمشق ومكوناتها المتعددة إلى خلق واقع دمشقي خلال الثورة أشد حصارًا على المدينة وأكثر تشديدًا وجورًا على أهلها"؛ "يقدم الميثاق توثيقًا تاريخيًا إنسانيًا لمعاناة الدمشقيين من الاضطهاد السياسي والاجتماعي والديني (...) ويكشف عن العوامل المسؤولة عن حجب الإرادة الدمشقية عن الساحة الوطنية والدولية"؛ "يرى ميثاق دمشق الوطني أن دمشق قد أرغمت على أن تكون المعقل الأساسي والضيق للنظام".
نحن إذن أمام "مظلومية دمشقية" كاملة الأوصاف، تصاغ ــ إن لم أكن مخطئًا ــ لأول مرة بوضوح لا لبس فيه! وهي تُقدَّم الآن بوصفها الدافع الرئيس لتأسيس "كتلة دمشق الوطنية، وطرح "ميثاق دمشق الوطني". ليس من الممكن في مقال كهذا الإفاضة في مناقشة مبررات وعناصر هذه المظلومية. إلا أن من الضرورة بمكان الإشارة إلى التذكير ببدهية وبواقع يبدو أنهما غابا عن أذهان بعض واضعي الميثاق. البدهية هي أن دمشق هي العاصمة، وأن من الطبيعي جدًا، سياسيًا، أن يضع النظام السياسي، أيُّ نظام، ثقله كله فيها لأن فقدانها يعني انهياره؛ والواقع هو أن ما عانت منه دمشق طوال خمسين عامًا لم يكن مختلفًا في حقيقته عما عانته معظم المدن والقرى في أرجاء سورية كلها. فهل من الجائز سياسيًا، وأخلاقيًا، في مشروع يتطلع إلى أن يكون سوريًا جامعًا أن يضع مظلومية مدينة ما، أيًا كانت أهميتها التاريخية أو الجغرافية، أساسًا له في الوقت الذي كانت سورية كلها تحت نير الاستبداد نفسه والقمع نفسه والتخريب نفسه؟
ذلك أن الميثاق ما إن يقرِّرَ في الباب الأول أن "الجهد السياسي في مواجهة التحديات لن يثمر إلا إذا [ما] كان مبنيًا على أساس وطني جامع"، حتى يعود إلى "المظلومية" في الباب الثاني متحدثًا عن "اضطهاد الدمشقيين وعزلهم عن الحياة العامة؛ وعن التغول على مصالحهم الاقتصادية؛ وعن بث روح التفرقة على أسس طائفية؛ وعن تغييب الإرادة الدمشقية عن الساحة الدولية وعن العمل السياسي". كيف يمكن، والهدف بدء العمل السياسي على أساس وطني جامع، التوقف عند "مظلومية" دمشق دون سائر المدن السورية الأخرى؟ ألا يمكن لكلٍّ من حماه وحمص وحلب وإدلب ودير الزور على الأقل أن تسرد قصتها مع النظام خلال نصف قرن؟
والسؤال هنا: ما معنى الإلحاح في الباب الثالث من الميثاق على "الانتماء الحر الأصيل لمدينة دمشق كعاصمة إرث حضاري إنساني فريد (...) وانتماء وثيق لتنوع الجهد الإنساني الحضاري"؟ أليس الانتماء إلى سورية كلها هو أيضًا انتماء إلى تاريخ حضاري فريد ومتنوع ومبدع؟ وهل يعمينا حب دمشق وموقعها التاريخي عن رؤية العبقرية والجمال فيما تركته أجيال السوريين خلال آلاف السنين من آثار جهدهم في مدن وقرى سورية شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا؟ أم هو بكل بساطة جهل أو تجاهل تاريخ سورية بكل ما يحفل به من مآثر؟
ذلك أن معظم ما ورد من أهداف في الميثاق حول العدالة الانتقالية، والمعتقلين، والدولة المدنية الديمقراطية، ودور المرأة، والحريات المدنية والصحافية والسياسية، وتفعيل أسس العدالة الاجتماعية، هو موضع إجماع في معظم ما يُطرح اليوم من مشروعات تطمح إلى تجاوز أخطاء السنوات السبع الماضية. لكن "ميثاق دمشق الوطني" هو المشروع الوحيد الذي، وهو يدعو إلى العمل الوطني الجامع، يعتمد المناطقية منطلق وأساس ومبرر وجوده!
لن يكون مقبولًا إزاء ما ذكر أن يُقال بضرورة قراءة نص الميثاق بأبوابه السبعة. إذ أن المقاطع المستشهد بها ضمن سياقها أعلاه مذكورة حرفيًا في أبواب الميثاق نفسه، ولا يمكن لكل من يقرأه أن يتجاهل أو أن يهمل دلالاتها "الدقيقة والواضحة"!. كما لا يمكن لمؤلفيها تعليل ذكرها كما وردت بأن دمشق "مدينة جامعة للسوريين جميعهم"، أو بأنها "خاضعة إلى احتلال نظام الأسد والاحتلال الخارجي والميليشيات المرتزقة التي تدعمه" كما جاء على لسان المدافعين عن "دمشقية" الميثاق. وإلا، فماذا تعني جملة "غياب الإرادة الدمشقية عن الساحة الوطنية والدولية"؟  وهل هناك تناقض ما بين "الإرادة الدمشقية" و "الإرادة السورية"؟ وأي منهما سيكون تعبيرًا عن إرادة الشعب السوري الثائر؟ أو أيّ واحدة من الإرادتيْن يجب أن تكون حاضرة وبقوة على الساحتين المذكورتيْن؟

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 20 أيلول/سبتمبر 2018.



vendredi 14 septembre 2018



محنة رواية  

بدرالدين عرودكي

لم يعرف تاريخ الأدب الروائي رواية عاشت محنة وجودها حتى قبل أن تُقرأ كتلك التي عاشتها وعانتها رواية نجيب محفوظ أولاد حارتنا. محنة اضطهاد، ومحاكمات رسمية وغير رسمية، وحملات صحفية عدائية استهدفت تأليب الرأي العام عليها وعلى مؤلفها والتشهير بها وبه، وصولًا، لا إلى الإفتاء بقتله فحسب، بل إلى دفع القتلة لمحاولة التنفيذ الفعلي..
محنة شارك في مفاقمتها كل من قرأ في الرواية (أو ظن أنه يقرأ فيها) استهدافه مباشرة: السلطات السياسية والأمنية والدينية والثقافية والصحفية وأصحاب النفوس المريضة الغارقة في الجهل أو المصابة بلوثة التعصب الديني الأعمى؛ محنة تعكس صورة مرحلة تاريخية لا تزال عناصرها المقوّمة حيّة وفاعلة حتى اليوم في مجتمعاتنا العربية.
  وهو ينشر بمناسبة الذكرى الثامنة لرحيل نجيب محفوظ في صحيفة أخبار الأدب المصرية (آب/أغسطس 2014)، ملفًا أعده عن رواية أولاد حارتنا تحت عنوان رواية الرواية، لم يكن محمد شعير، الكاتب والصحفي، يظن أن ما كتبه، بوصفه فصلًا في كتاب يعمل على تأليفه عن أيام نجيب محفوظ، سيحمله على إعادة النظر في مشروعه وطرح الأسئلة التي كان لابد من طرحها والبحث عن إجاباتها، وتفسير أو شرح المواقف التي اتخذتها مختلف الهيئات السياسية والاجتماعية والثقافية من الرواية التي كاد مؤلفها يدفع حياته ثمنًا لها. هكذا قضى عددًا من السنوات بحثًا عن إجابات للأسئلة التي أثارها موضوع بحثه في جوانبه المختلفة، يستجوب شهود الحقبة والمحنة، ويراجع الصحف والكتابات التي نشرت اعتبارًا من عام 1959، عام نشر الرواية في صحيفة الأهرام يوميًا خلال ستة وتسعين يومًا بين 21 أيلول/سبتمبر و25 كانون أول/ديسمبر1959 وحتى نشر الرواية ضمن كتاب لأول مرة بمصر، بعد رحيل مؤلفها.
وجد محمد شعير نفسه بعد أن استكمل جمع كل ما وسعه لمواد بحثه من وثائق مكتوبة أو مقابلات مع كل من كان له دور بهذا القدر أو ذاك في أحداث هذه المحنة، أمام مادة روائية مذهلة. كان قد أدرك ذلك عندما عنون ملفًا في صحيفة أخبار الأدب رواية الرواية، سيصير بعد ثلاث سنوات كتابًا يوقعه منشورًا لدى دار العين بالقاهرة تحت عنوان سيرة الرواية المُحرَّمَة.
رواية أم سيرة؟ كلا الوصفيْن يقولان هذه الرواية غير المسبوقة في تاريخ الرواية عمومًا والعربية خصوصًا. إذ على كثرة شخوصها المادية والمعنوية، لم يكن البطل الرئيسي فيها بشرًا بل عملًا أدبيًا في شكل رواية. رواية الرواية إذن. وحسنًا فعل محمد شعير أن اختار شكل الرواية،  أو السيرة، لتأريخ هذه المحنة التي عرفتها وعاشتها رواية تعتبر قمة الإبداع الروائي المحفوظي، وبأكثر من معيار إحدى أهم قمم المبدعات الروائية العربية حتى اليوم.
يرسم محمد شعير، بضربات ريشة سريعة، الجو العام بمصر والعالم العربي من حولها الذي سبق ورافق ظهور رواية أولاد حارتنا إلى العلن عام 1959 بعد أن توقف نجيب محفوظ طوال خمس سنوات (1952ـ1957) عن الكتابة؛ ويتوقف قليلًا عند تصريح وزير الثقافة المركزي أيام الوحدة السورية المصرية، صلاح الدين البيطار، الذي قال إن أدبنا "لا يعبر تعبيرًا كافيًا عن آمال العرب القومية" والذي أثار دويًا في الأوساط الأدبية بمصر. لم يكن نجيب محفوظ مهمومًا بقضايا القومية العربية آنئذ لاسيما وأن همَّه ــ بعد أن استقر في المشهد الأدبي بمصر والعالم العربي روائيًا فذًا إثر نشر ثلاثيته بين القصرين، قصر الشوق، السكرية، وصمته الطويل مقرّرًا بل ومعلنا عزوفه النهائي عن الكتابة، ومنتهيًا إلى العودة إلى القلم ــ كان الرواية التي بدأ آنئذ كتابتها والتي كان يتحدث عنها بين الحين والآخر ذاكرًا عنوانها الذي اختاره لها من دون أن يفصح عن مضمونها أو عن موضوعها.
لم يكن من عادة نجيب محفوظ الحديث بإسهاب عن موضوع رواياته قبل أن ينتهي منها. وكان لديه من الأسباب الإضافية الخاصة بموضوع الرواية الجديدة وشكلها ما يحول بينه وبين الإدلاء بأية كلمة عنها. سوى أن ردَّ الفعل جاء على عكس ما ينتظره بعد هذا الصمت الطويل لاسيما وأنها، كما سيكتشف الجميع، ستمثل منعطفًا في مبدعه الروائي شكلًا وموضوعًا ومقاربة، وستكون مثار تخمين أو تعريض، على صعيد الصحافة أولًا، لاسيما حين بدأ نشرها في جريدة الأهرام بعد أن قرر رئيس تحريرها يومئذ، محمد حسنين هيكل، نشرها على حلقات يومية لا أسبوعية. وكما قال نجيب محفوظ، بعد أن نشرت "جريدة الجمهورية خبرًا يلفت النظر إلى أن الرواية التي تنشرها الأهرام  "فيها تعريض بالأنبياء"، وأنه "بعد هذا الخبر المثير، بدأ البعض، ومن بينهم أدباء للأسف، في إرسال عرائض وشكاوى يطالبون فيها بوقف نشر الرواية وتقديمها إلى المحاكمة، وبدأ هؤلاء يحرضون الأزهر ضدي على أساس أن الرواية تتضمن كفرًا صريحًا، وأن الشخصيات الموجودة في الرواية ترمز إلى الأنبياء."
سيستمر الهجوم الصحفي سنوات بعد نشر الرواية في الأهرام للحيلولة دون نشرها بين دفتي كتاب في مصر. فمن غاضب لنشر الرواية في الأهرام بدلًا من مجلة الإذاعة التي كان يرأس تحريرها حلمي سلام والتي بدأت بالتعرض زورًا وعدوانًا على أخلاقيات نجيب محفوظ، إلى رافض للرواية بوصفها استعارة فنية من الرؤية الماركسية للتاريخ تحاول التوفيق بين الرؤيتين الدينية والعلمية، إلى عادل كامل الذي رأى أن نجيب محفوظ قد وجد قمته عندما كتب أولاد حارتنا "تلك القمة الشاهقة الباردة الرائعة". لكن الذي افتتح المعركة على صعيد المؤسسات الدينية كانت "لجنة الدفاع عن الإسلام" التي كان أحد أعضائها الشيخ محمد الغزالي والتي حضر أحد اجتماعاتها الكاتب القصصي سليمان فياض، الموظف في وزارة الأوقاف، بوصفه كاتب الجلسة التي كان "محورها مخصصًا لمناقشة كيفية التصدي  لرواية أولاد حارتنا". لكن ارتعاش يديه، وهو يسمع ما يقوله أعضاء اللجنة عن الرواية، حمل الشيخ الغزالي على أن يطلب منه التوقف عن الكتابة وأنه هو من سيكتب التقرير النهائي الذي تضمن "نقدًا حادًّا لمحفوظ وإدانة له". حصل سليمان فياض على نسختين من هذا التقرير، أعطى إحداهما إلى نجيب محفوظ والأخرى إلى الناقد غالي شكري. كانت هذه إدانة رجال ينتمون إلى تيار في الإخوان المسلمين مناهض لسيد قطب ــ كما روى سليمان فياض لمحمد شعير ــ استطاع "خداع جهاز الأمن يومها وعمل على نشر أفكار الإخوان بين أئمة المساجد من وراء عبد الناصر".  
لم يكن مسلسل الرواية قد نشر كاملًا في الأهرام على كل حال حين كانت الاحتجاجات ضد نشر الرواية ترسل إلى عبد الناصر الذي كان، وهو يتابع قراءة الرواية يومًا بعد يوم، قد أعطى تعليماته باستكمال نشرها. كانت الاحتجاجات ترسل من قبل رجال الدين، كالشيخ محمد الغزالي نفسه، الذي اعترف بذلك فيما بعد، ومن قبل سياسيين، ومثقفين، مطالبين بتقديم الرواية ومؤلفها إلى المحاكمة. وثمة تقارير ضد الرواية لا تزال، كما قال سامي شرف، مدير مكتب عبد الناصر، محفوظة في أرشيف رئاسة الجمهورية في قصر عابدين. بل إن غضب عبد الحكيم عامر من الرواية دفعه ــ حسب ما قاله نجيب محفوظ للناقد رجاء النقاش ــ إلى إصدار قرار بالقبض على مؤلفها، وتحركت القوة بالفعل للقيام بذلك. على أن رواية أخرى سردها محمد سلماوي، اعتمادًا على ما حكاه له سامي شرف، تقول إن قرار عامر بالقبض على محفوظ جاء بعد نشر روايته ثرثرة فوق النيل. لكن محمد شعير سأل سامي شرف حول الموضوع فأكد له هذا الأخير أنَّ أمْرَ القبض على محفوظ "حدث بعد أولاد حارتنا وحدث أيضًا بعد ثرثرة فوق النيل، وأن عبد الناصر أوقف أي إجراءات ضد محفوظ." كتب سلماوي: "روى لي السيد سامي شرف، سكرتير الرئيس عبد الناصر آنذاك أنه كان إلى جوار الرئيس وهو يتحدث إلى عبد الحكيم عامر ويطلب منه غاضبًا أن يوقف فورًا إجراءات القبض على محفوظ. فقال له عامر: إن القوة قد تحركت بالفعل وأنها في طريقها إلى منزله الآن للقبض عليه. فقال له عبد الناصر بالحرف الواحد: "زي ما طلعتها ترجعها.. إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟!"
لن تنتهي محنة أولاد حارتنا التي استمرت طوال نيف وخمسة وأربعين عامًا بعد نشرها في الأهرام. إذ كلما طرح موضوع نشرها ضمن كتاب، سارعت مؤسسة دينية في الأزهر أو من خارجه تعلن اعتراضها القاطع على نشرها، كما يعكس ذلك التقرير الأول الذي نشره مجمع البحوث الإسلامية في أيار/مايو 1985 والتقرير الثاني المنشور في كانون الأول/ديسمبر 1988 على إثر فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل.، الذي اختتم بقرار "حظر تداولها أو نشرها مقروءة أو مسموعة أو مرئية، وكذلك حظر دخولها بناء على هذا التقرير وعلى تقارير الأجهزة الرقابية الأخرى"، وقد نشر محمد شعير في ملحق كتابه هذين التقريريْن.
والحقيقة أن غضب الهيئات الدينية التي تركت لها حرية التعبير عنه ضد أولاد حارتنا كان يعكس غضب ورفض النظام السياسي الذي كان أول من أدرك مرامي الرواية وأنه كان مستهدفًا بها، لكنه تخلى ــ كما قال نجيب محفوظ نفسه ــ عن استهداف الرواية لقوة أشد عنفًا يمكن أن تهدمها، هي قوة المؤسسات الدينية. فقد قال محفوظ حول ذلك: "... هذا عمل سياسي في المقام الأول، عمل يقدم رؤية سياسية، والمقصودون بالعمل فهموا معناه، وعرفوا مَنِ المقصود بالفتوات، لذلك أرجح أنهم كانوا وراء تحويل الأمر إلى الناحية الدينية لكي أقع في شر أعمالي".
لم يكن غريبًا والحالة هذه أن يقوم أحدهم برفع "دعوى ضد نجيب محفوظ بتهمة إضافة اسم جديد لأسماء الله الحسنى: الجبلاوي!"وحين سئل المُدَّعي عما إذا كان قد قرأ الرواية أجاب "حاشا لله أن أقرأها لما تنطوي عليه من خروج!" كما لم يكن غريبًا أن يصرح "عمر عبد الرحمن، ، مفتي الجماعة الإسلامية بمصر، بعد ثلاثين سنة من نشر أولاد حارتنا، في صحيفة الأنباء الكويتية نيسان/أبريل 1989 عن رأيه في رواية  سلمان رشدي، الآيات الشيطانية، فأجاب: لو أن الحكم بالقتل نفذ في نجيب محفوظ حين كتب أولاد حارتنا، لكان ذلك بمثابة درس بليغ لسلمان رشدي. وقد حاولت الجماعة المذكورة بالفعل مباشرة هذا القتل يوم 14 تشرين أول/أكتوبر 1994. ولم يكن من أوكلت له مهمة التنفيذ قد قرأ الرواية لكنه اكتفى بالفتوى. سوى أن فشل التنفيذ قاد مع ذلك إلى فرض رقابة شمولية على نجيب محفوظ حين ألغي بحجج واهية تدريس روايته كفاح طيبة أو خطابه بمناسبة جائزة نوبل.
كان التفسير السياسي الذي قدمه محفوظ لروايته واحدًا من التفسيرات "المتعددة، المتقاطعة أحيانًا، والمتعارضة أحيانًا أخرى، على مدى فترات زمنية مختلفة بعد نجاته من محاولة الاغتيال"، كما يكتب محمد شعير. لكن التفسيرات المتباينة كانت قد امتدت أيضًا إلى عدد من النقاد. ذلك كله لا يحول دون الإقرار بأن جو المحنة، الذي لازم الرواية منذ نشرها والتي كان وراءها بالتكافل والتضامن غير المعلن النظام السياسي والمؤسسات الدينية الرسمية وغير الرسمية والمؤسسات الإعلامية على اختلاف مواقف مسؤوليها وأيديولوجياتهم المعلنة أو الخفية، أدّى بالضرورة إلى قراءة الرواية تحت تأثير مختلف ردود الفعل الأيديولوجية التي صدرت عن أؤلئك الذين لم يقرؤوا الرواية أصلًا بل ورفضوا قراءتها لكنهم لم يتوانوا عن المسارعة إلى إدانتها.
بعبارة أخرى، اليوم، وبعد ما سيقارب ستين عامًا من نشرها، لا تزال رواية أولاد حارتنا، بحاجة إلى قراءة أخرى بمعزل عن محنتها وعن كل ما شابها واعتور مسيرتها من عمى ثقافي وديني وسياسي، أو من سوء فهم، بوصفها رواية، أي بوصفها عملًا فنيًّا كامل الأوصاف. ظن نجيب محفوظ أن روايته رسالة إلى ضباط حركة 23 تموز/يوليو 1952: "أمامكم طريقان، إما أن تكونوا فتوّات أو أنبياء". لكنه، من ناحية أخرى، ربما كان على حق حين يعتبر أن أولاد حارتنا ليست إلا إعادة كتابة للثلاثية.. بل هما رواية واحدة!
تلك هي فضيلة كتاب محمد شعير: متعة فكرية قصوى، وحضّ على التفكير بما يليق بمرحلة من تاريخنا، نحن العرب، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.

** نشر على موقع جيرون يوم الجمعة 14 أيلول 2018.



jeudi 6 septembre 2018



مواجهة احتلال سورية أوّلًا 
بدرالدين عرودكي 
في غمرة المحاولات المستميتة التي  قام ولا يزال يقوم بها البعض من منطلق "الوطنية" أو "العقلانية" أو "الواقعية السياسية" من أجل تبرير صيغة ما للتعاون مع المحتل الروسي أو الإيراني أو التركي أو الأمريكي لسورية اليوم، يبدو إلحاح رياض الترك، الذي برز في إجاباته عن أسئلة محمد علي الأتاسي في المقابلة معه التي نشرتها صحيفة القدس العربي، على مسألة "الاحتلال" أيًا كانت جنسيته بوصفه "الحلقة الرئيسية اليوم في النضال في كافة الأشكال من أجل إخراج هذه القوى الأجنبية" من سورية، لا ردًّا على مثل هذه المحاولات بل كما لو أنه دقات ناقوس خطر مشكلة التهديد الوجودي الأولى والأساس في أي عمل أو مبادرة أو تفكير يقوم به السوريون اليوم من أجل مستقبل سورية.
لم يكن هذا الإلحاح بالطبع هو الوحيد الذي يمكن أن يخرج منه القراء من هذا اللقاء. لكن صدوره عن رجل عكست مواقفه المبدئية، على الصعيد الفردي والثمن الذي دفعه بسببها، صدق قناعاته الوطنية، يمكن أن يعني الكثير في هذه الظروف التي يعيشها السوريون تمزقًا واصطفافًا. إذ لا يبدو أن هناك إجماعًا سوريًا صريحًا وعلنيًا على تحديد طبيعة الوجود الأجنبي في سورية، سواء على ذلك الذي يزعم وجوده مشرعنًا من "الحكومة السورية" (إيران وروسيا) أو على ذلك الذي فرض وجوده بالقوة دفاعًا عن مصالحه أو حماية لها (الولايات المتحدة وتركيا)، ومن ثمَّ لا وجود لإجماع  صريح من أجل البناء على هذا التحديد.
هناك من جهة، الصمت الذي يلوذ به معظم ممثلي المعارضة على اختلاف فصائلها ومنصاتها إزاء ما يحدث في سورية أو ما يُقرَّر  بصددها أو ما ينتظر السوريين الذين لا يزالون في سورية بلا أي غطاء أمني حقيقي يكفل لهم بقاءهم على قيد الحياة؛ صمتٌ يقول ارتباكًا أصاب الجميع إزاء المآلات الخطيرة التي وصل إليها الحدث السوري، والتي لم يعد بوسع أحد منهم استخلاص نتائجها على المدى المتوسط أو البعيد، بعد أن استُبْعِدوا بالخدعة أو بالخبث أو بالقوة من مركز القرار الذي تدهورت قدرتهم على التأثير فيه تدريجيًا طوال السنوات السبع الماضية.  وهناك، من جهة أخرى، عدد كبير من المواطنين، مفكرين ومثقفين مستقلين وأحرارًا، من المهمومين بشؤون بلدهم والذين يتداعون بين الحين والآخر لتدارس ما يجري تحليلًا واستنتاجًا، مستهدفين الوصول إلى صوغ رؤية أو خطة طريق يمكن أن تجتمع نخبة السوريين من حولها، ثمَّ تبدأ في وضعها موضع التنفيذ. كلا الطرفين، مع ذلك، لا يكاد يتوقف عند هذه المشكلة الأخطر التي باتت تفقأ العيون: الاحتلال الإيراني الذي يعزز تغلغله الخبيث في نسيج المجتمع والجغرافيا السوريين بوجود عسكري ثقيل يكفل استمراره ويحمي مكتسباته؛ والاحتلال الروسي الذي بات يمسك بمقاليد السلطة السياسية والعسكرية والأمنية في البلد ولم يعد "النظام الأسدي" سوى دمية يحركها متى يشاء كيف يشاء كلما احتاج إلى ضرب من "الشرعنة" التي تبرر وجوده؛ والاحتلال الأمريكي الذي يتواجد لمراقبة شركائه الروس عن كثب وهم ينجزون ما تم التواطؤ على إنجازه دون أن يتوانى عن استخدام كل من لبسته أوهام الاستقواء به من الفصائل السورية المختلفة؛ والاحتلال التركي الذي يجهد في أن يحول دون قيام أي كيان كردي على حدوده يمكن أن يؤدي إلى قيام كيان مماثل آخر على أراضيه، متنقلًا على حذر بين الأمريكيين، حلفاء الأمس خصوم اليوم، والروس خصوم الأمس حلفاء اليوم. ومن المؤسف أن كل ذلك يتم تجاوزه من قبل الفريق الثاني المشار إليه بلا حرج وهو يصوغ تشخيصًا يتناول واقع سورية ومستقبلها، وكأن هذا الاحتلال لا يؤلف جزءًا رئيسًا من هذا الواقع، أو كأنه سيتلاشى ما إن تتحقق "معجزة" الحل السياسي المنتظر!
إذا كانت الأوهام تزين للنظام الأسدي ولأتباعه اعتبار الوجود الروسي والوجود الإيراني في سورية شرعيًا مادام قد تحقق بإرادة "الحكومة السورية" وأنه سيكف بالتالي عن الوجود بفعل الإرادة نفسها، لكنهم مقابل ذلك لا يملكون إلا استنكار وجود القوات الأمريكية والتركية في شرق وشمال سورية واعتباره احتلالًا، فلا يجب أن يدهشنا واقع غياب الإجماع بين القوى التي تنتمي إلى "المعارضة" حول تحديد طبيعة الوجود الأجنبي في سورية وتسميته احتلالًا، علنًا وصراحة، وهي التي عجزت عن تحقيق أدنى درجة من الوحدة في مواجهتها النظام الاستبدادي طوال سبع سنوات، وقبلت خلالها هيمنة مختلف القوى الإقليمية أو الدولية على خططها وقراراتها ومواقفها، فاقدة بذلك حرية الحركة والقرار، وهو ما أدى بها إلى ما تعانيه اليوم من عجز في التخطيط وفي الحركة وفي الفعل. لاسيما وأن الحل السياسي الذي تعمل روسيا، بمعونة حليفيها الإيراني والتركي، على الإعداد له وتسويقه، ستجري محاولة فرضه بالقوة على السوريين، وبالتعاون مع أؤلئك الذين سيتشدقون بمختلف المبررات التي حملتهم على القبول به: "الواقعية السياسية"، أو ممارسة "سياسة الممكن"، بعد أن سبق ورفضوا اعتبار الوجود الروسي احتلالًا، مُفضلين النظر إليه بوصفه "وصاية"، لم يجرؤ حتى المعنيُّ بالأمر أن يزعمها لنفسه! ذلك يعني أن الاحتلال في مختلف وجوهه وممثليه، سيسجل لنفسه "شرعية جديدة" تتجاوز إن لم تتفوق على تلك التي كان مصدرها النظام الأسدي، ولن تكون مواجهته آنئذ إلا أشد مرارة وصعوبة مما هي عليه الآن لو تمت.  
أليس من الضروري والحالة هذه أن تبدأ المواجهة، من الداخل ومن الخارج السورييْن معًا، بالاجتماع على هذا التوصيف أولًا، والبناء عليه ثانيَا لدى الإقدام على كل فعل أو نشاط تستدعيه ظروف الحدث السوري اليوم، في كل هيئة أو فضاء سياسي؟ ألا  يؤدي ذلك، إن تحقق، إلى الخروج من الشرذمة التي طبعت فصائل النضال السوري السياسية والعسكرية خلال السنوات السبع الماضية، والوصول إلى إنجاز وحدة لا بد منها بين مختلف القوى التي تعمل من أجل مستقبل سورية؟ ألن يتطلب ذلك بكل وضوح: العمل جماعة على الخروج من التنظير إلى اعتماد الآليات الضرورية لمواجهة هذا الاحتلال في السلوك وفي العمل، وعلى كل الصعد، سياسيًا وإعلاميًا بوجه خاص؟ ألن يفتح ذلك كله إمكان فرض الاعتراف بممثلين حقيقيين للشعب السوري لمواجهة المحتلين الذين اختصروه بنظام مجرم أسبغوا عليه شرعيتهم ويحاولون اليوم أن يعيدوا إليه أهليته؟
أسئلة يفرضها المآل الراهن للحدث السوري بكل ما ينطوي عليه من تعقيد ورهانات إقليمية ودولية حول سورية راهنًا ومستقبلًا في غياب من يمكن بالفعل أن يمثل الشعب السوري حقًا وأصولًا وشرعًا. ولا مفر من الإجابة عليها تحت طائلة مساءلة التاريخ.

**  نشر على موقع جيرون، يوم الخميس 6 أيلول 2018.