mercredi 11 janvier 2017




لحظات من الذاكرة مع علي الجندي
"شهادة"
بدرالدين عرودكي
ليس من السهل استعادة لحظات أو ساعات من الحياة تعود إلى فترة لا تقلّ عن خمسة وأربعين عاماً. لكن تلك التي كنتُ ألتقي خلالها علي الجندي في المقهى، أو في سهرة لدى صديق، أو في مكتب العمل بالمجلة التي كنتُ أعمل فيها، عسيرة على النسيان. لا بسبب حدث استثنائي طبعها بل بسبب هذه الشخصية التي فاجأتني منذ اللحظة الأولى لأول لقاء لي معه في مقهى الغاردينيا بدمشق (وكان في ستينيات القرن الماضي ملتقى الكتاب والصحفيين).
كنت جالساً مع لؤي كيالي حين دخل المقهى. يقدمه لؤي حين أدرك أنني لم أكن أعرفه: "شاعرنا علي الجندي". ودون أن يترك فرصة لتقديمي يفاجئني: ستعاني مشكلات كثيرة مع النساء يا عزيزي! سألته أن يشرح قليلاً ما يعنيه. لكنه اكتفى بالقول: ستكتشف بنفسك وستذكر دوماً ما قلته لك!
حين قلت له بعد ذلك اسمي، أجابني: أعرف. ولكن كيف؟ يقول له لؤي: هل قرأت عموده اليوم في جريدة الثورة؟ ويهز علي برأسه إيجاباً دون أن ينبس بأية كلمة! كنت سعيداً برضا لؤي عما كتبت تحت عنوان: "لا!" وكنت أتوقع رضاً مماثلاً من الشاعر الذي قرأ. لكنَّ تعليقه الوحيد تمثل في الجملة التي بادرني بها عند وصوله.
وأعترف أن فراسة علي الجندي بصرف النظر عن صحتها أو خطئها هي ما جعله دائم الحضور في عالمي، كما لو أن جملته كانت تنبيهاً دائماً لي كي أتلافى المشكلات كلما كنت في حضرة المرأة! والحقيقة أنني في غياب أي تفسير من قبله لما قاله رحتُ أبحث في كل ما يكتبه عن معنى ممكن لهذه الجملة! وأذكر أن أول ما قرأت له من الشعر كان ديوانه أو بالأحرى قصيدته الطويلة: "في البدء كان الصمت"، وكان آخر ما قرأته ديوانه التالي: "الحمى الترابية".
كنتُ شديدَ النوسان بين علي الجندي الإنسان الذي كنت ألتقيه بين الحين والآخر وبين علي الجندي الشاعر الذي كنت أحاول سبره فيما أقرؤه في قصائده التي كانت مجلة "الطليعة" السورية خصوصاً تنشره له في أواخر الستينيات وفي مجموعتيه الشعريتين المذكورتيْن. ففي الحياة اليومية، كان علي يبدو لي ولكثيرين غيري من الأصدقاء آنذاك ممثلاً لشخصية الفنان في أبهى حلله: عصيّاً على الفهم في ما يبدو لاعقلانية سلوكه وتصرفاته، أو لاأباليته إزاء المواضعات الاجتماعية تارة أو جموحه غالباً إلى كسرها تارة أخرى. هذا، على دماثته ورقته حتى لا أقول هشاشته الطفولية حين يتواجد في بيئة آمنة من الأصدقاء الذين تربطه إليهم علاقة حميمة. حينئذ يتجلى علي الجندي إنساناً شديد البساطة، والسماحة، متميزاً حقاً ولكن في احتفاظه بشيء من براءة الطفولة لا تزال كما كنت أراه من ناحيتي، تسم تعابير وجهه ممتزجة بسِماتٍ أخرى أقرب إلى الخوف من شيء مجهول.
أما في عالم الشعر، حين يَغرَق ويُغرِق من يقرؤه مثلي فيه، فقد كنتُ أكتشف أنني إزاء إنسان آخر يكاد لا يمت بصلة إلى ذلك الذي أعرفه في التفاصيل اليومية. مذهلٌ أن تكتشف فجأة في علي الجندي شاعراً أن عالم الطفولة والبراءة والرقة والسماحة يستحيل عالماً من رعب دفين يتلبسه كما لو كان يقف على شفا حفرة يمكن لأي عثرة أن تلقي به فيها. وأنّ همّه، وهاجسه، ووسواسه الأول، لا بل والوجودي في الأساس، كان أن يعثر على طريق الإبداع المطلق، أو بالأحرى الخلق؛ وأن هذا الهمّ يكاد يقضي عليه إذ تتجلى له ضروب الاستحالة في تحقيق أو بلوغ ما يرمي إليه. ذلك أن الخلق من عدم فعلٌ في الأساس غير إنساني؛ لكنه، وهو يستقرئ حرارة الواقع عيشاً وألماً وسعادة وكآبة وفرحاً وقلقاً، يستطيع بلوغ وإنجاز الفعل الإنساني بامتياز: الإبداع. لا إبداع من عدم؛ والأفكار على قارعة الطريق، كما كان الجاحظ يقول. وإنما في صياغة وسبك وتقديم هذه الأفكار بدءاً من الغوص حتى الرقبة في حمأة نثر الحياة اليومية، وفيه إنما يمكن العثور على الشعر. ذلك أن "الشعراء لا يخترعون القصائد" كما قال الشاعر التشيكي جان سكاسيل، إذ أنَ:
 "القصيدة موجودة في مكان ما..هناك
منذ زمن طويل جداً، هي هناك
ولا يفعل الشاعر شيئاً سوى أن يكشف عنها"
تلك في الحقيقة حكاية مجموعته الشعرية الأولى التي هي قصيدة طويلة، شأن السوناتة، من ثلاث حركات، تتوالى فيها هذه المحاولة الشعرية/الوجودية من اكتشاف الاستحالة إلى العثور على الإمكان.
من المؤسف أنَّ مُبدَعَ علي الجندي الشعري، لم يحظَ، شأنه في الحقيقة شأن الغالبية العظمى من المبدعين السوريين الكبار، بما يستحقه من اهتمام. وتلك ظاهرة ثقافية غريبة جديرة بأن تنال نصيبها من التحليل. ولذلك أرى أنَّ كل محاولة لاستعادة الشعر والشاعر والإنسان في مُبْدَعِ علي الجندي بالذات هي تحية تقدير وعرفان لشاعر عمل بكل كيانه على أن يعثر على "القصيدة الموجودة في مكان ما.." واستطاع أن يعثر عليها.

** كتبت استجابة إلى طلب من الصديق مازن أكثم سليمان..




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire