وزن الكلمات أو
مآلاتها في السياسة!
بدرالدين عرودكي
كان
هناك ما يشبه الإجماع في سورية على وصف الحراك الثوري الذي بدأ بدرعا ودمشق في
منتصف شهر آذار 2011 معلناً رفض الشعب السوري للذل ثم معلناً مطالبه في الحرية
والكرامة ومنتهياً إلى المطالبة بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد، باعتباره ثورة
بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
هكذا
بدأ الشباب الذين ضاقت بهم شوارع مدن سورية وقراها بتنظيم الأطر الضرورية ضمن هذا
المفهوم وتحت هذه التسمية وفي هيكلة مرجعيات نشاطاتهم على اختلافها وخصوصاً ما
كانت تمليه عليهم ردود فعل النظام وقواه الأمنية من ضرورات في التنسيق وفي طبيعة
الاستجابة على مختلف الأصعدة. فأنشأوا ما عرف بالتنسيقيات في القرى وفي المدن كي تنظم
وتوجه الحراك المدني في مناطقها على كافة الأصعدة الميدانية والسياسية. وسرعان ما
اقتضت الحاجة قبل أقل من شهرين على انطلاق الحراك إلى توحيد عمل هذه التنسيقيات عبر
جمعها معاً من خلال هيئة جامعة تنسق فيما بينها وتقوم بتمثيلها على الصعيدين
السياسي والإعلامي فضلاً عن توحيد العمل على الصعيد الميداني. وكان من نتيجة ذلك
تأسيس الاتحاد في الشهر الخامس من عام انطلاق الثورة بعد اجتماع ممثلين عن
التنسيقيات المشار إليها في مدن دمشق ودرعا ودير الزور وحمص بانتظار انضمام
مثيلاتها في المدن الأخرى لاحقاً. وقد تطور الأمر بعد أشهر من تأسيس اتحاد
التنسيقيات إلى تأسيس الهيئة العامة للثورة السورية التي أعلن عنها في شهر آب 2011
والتي شملت التنسيقيات الميدانية، وممثلو التنسيقيات، ومجالس المناطق، والمجلس
الثوري، والتي باتت التعبير الأمثل والوحيد عن الثورة والثوار.
ومن
ثمَّ لم يكن الحديث آنئذ إلا عن الثورة والثوار أفراداً وجماعات وهيئات تمثيلية في
الواقع وفي الإعلام المحلي والخارجي. ولئن كان البعض يتريث قبل تبنّي كلمة
"الثورة" توصيفاً لما كان يحدث طوال عام 2011 في سورية مكتفياً باعتماد
توصيفه بالحراك الثوري أو الاحتجاجي، وخصوصاً في وسائل الإعلام الغربية على
اختلافها وكذلك في الأوساط الأكاديمية التي تناولت عبر ما نظمته من ندوات هذا
الحدث على صعيد العالم العربي بالتحليل والتقويم، إلا أنه كان مرغما على الحديث
عمن يمثل هذا الحراك الثوري أو الثورة بما سمّت نفسها به: تنسيقيات مجتمع مدني يقف
في وجه الاستبداد ويعمل على إسقاط نظامه. لكن النظام الأٍسدي وذيوله الإعلامية
داخل سورية وخارجها، وانسجاماً مع اعتماده الاستجابة الأمنية المحضة حلاً لهذا
الحراك، قرر منذ البداية أن يعتبر مؤامرة سلفية، ثم جهادية، ثم كونية حراكاً كان
يغطي المساحة السورية بكاملها. وهو ما جعله يبدأ بالقضاء على الهياكل التنظيمية لهذا
الحراك الثوري بشتى الوسائل: اعتقال الناشطين من الشباب، وقتل العديد منهم أثناء
التعذيب، وقطع طرق التواصل بين المدن والمناطق التي تتواجد فيها التنسيقيات منعاً
لأي عمل جماعي ناجع فضلاً عن الوسيلة الكلاسيكية: اختراق التنظيمات والعمل على
تفتيت عملها من الداخل.
منذئذ،
انتقل تمثيل الثورة إلى المعارضة التقليدية التي كانت، رغم عدم تواجدها في الحراك
الثوري عند انطلاقه وغياب أي إسهام لها في تنظيمه أو في توجيهه، قد بدأت العمل على
الحلول محل هذه البنى التي كانت التعبير الأصيل عن الحراك الثوري، من خلال الهياكل
التي ستخرج بها على الملأ باسم "المعارضة" وهيئات "المعارضة"
ومجالس "المعارضة" بدلاً من "تنسيقيات الثورة" و"الهيئة
العامة للثورة"، إلخ.، بدءاً بالمجلس الوطني السوري الذي أعلن باسطنبول في
بداية تشرين أول 2011 جامعاً عدداً من أطياف المعارضة بما فيها إعلان دمشق
و"الإخوان المسلمون" ومن يلوذ بهم، وهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير
الديمقراطي التي أعلنت بدمشق أيضاً في
بداية الشهر نفسه، والتي ضمت عشرة أحزاب، مروراً بالمجلس الوطني الكردي الذي أعلن
عنه بعد شهرين من ذلك ثم المنبر الديمقراطي السوري في شهر شباط 2012، وانتهاء بـ"الائتلاف
الوطني لقوى الثورة والمعارضة" في تشرين الثاني 2012. هكذا، بدت هذه الهيئات جميعها كما لو أنها تطوي
صفحة الثورة والثوار كي تصير "المعارضة" مقابل "النظام"!
وكما
هو واضح، لم ينتبه أحد إلى طبيعة ومآل الانزلاق اللغوي الذي جرى خلال هذا الانتقال
والذي أدى إلى تلاشي كلمة "الثورة" من تسميات وعناوين قوى "المعارضة
الكلاسيكية" التي احتلت مواقع الثوار وهيئاتهم وتنظيماتهم، بل وإلى تبني صفة
"المعارضة" صراحة التي ستنقسم إلى "معارضة داخلية" و
"معارضة خارجية".
كان
النظام الأسدي أول المستفيدين من هذا التغيير في الكلمات (وفي الواقع بالطبع).
فهاهو قد بات الآن أمام "معارضة" لا "ثورة". فالأخيرة كانت
كما عبر عنها إعلامه سلفية أو رجعية أو مؤامرة خارجية تطلعت إلى تدمير "نظام
الممانعة والمقاومة" الوحيد في العالم العربي. في حين أن الأولى وقد قسمت إلى
داخلية وخارجية، وبعد استبعاد الثانية "المأجورة التي تعمل وفق أجندات الدول الممولة
لها، يمكن أن يتم الحوار معها من أجل الإصلاحات الضرورية ضمن إطار النظام القائم.
نجح
النظام الأسدي إذن ، بعد أن قضى على الثوار الشباب تنكيلاً أو تعذيباً أو قتلاً أو
تهجيراً، في استبدال كلمة المعارضة بكلمة الثورة. لكن هيئات المعارضة على اختلافها،
واعية أو غير واعية، نجحت هي الأخرى أيضاً
في تسويق هذه التسمية على الصعيد المحلي والعالمي بعد نشر أعضائها سجلهم التاريخي
في معارضة النظام الأسدي داخل سجونه وخارجها لتبرير شرعية وجودهم ممثلين لحراك
ثوري لم يكن لهم يد فيه. بذلك استعاد النظام
الأسدي الذي دعت الثورة إلى إسقاطه ضرباً من الشرعية التي كان يسوِّقُ امتلاكه لها
في مختلف المحافل. وأمكن إحلال "المعارضة" محل "الثورة" بعد
اختفاء من أطلقها من المشهد العام، كي تغدو اعترافاً ضمنياً منها بشرعية النظام
الذي باتت تعارضه.
كان
طبيعياً والحالة هذه أن يُدعى الجميع إلى اعتماد حلٍّ سياسي يجري التفاوض حول
عناصره بين "نظام" لم تتخلّ عنه أية دولة من تلك التي قدمت نفسها
"صديقة للشعب السوري" أو أية مؤسسة ذات طابع دولي كالأمم المتحدة والمنظمات
التابعة لها، من ناحية، و"معارضة" أعلنت صراحة عن صفتها عبر تسميتها حين
تم تأسيس هيئة جديدة شملت معظم أطياف ما يسمى بمعارضة الخارج تحت اسم
"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"!
كان
طبيعياً أن ينتج عن ذلك تراجع مطلب "إسقاط النظام" كي يحل محله "حلٌّ
سياسيٌّ" سيبقي على النظام وسيرغمه مثلما سيرغم المعارضة على التوافق عليه.
هذا
هو في النهاية فحوى مؤتمر جنيف الأول ومضامين القرارات التي صدرت عن المؤتمرات
اللاحقة بجنيف وفيينا وكذلك عن الأمم المتحدة في مقرها الدائم.
ذلك
ما يفسر اليوم بوادر ثورة أخرى لا تستهدف النظام فحسب بل كل المؤسسات التي اعترفت
به والتي قبلت أن تتخذ لنفسها صفة "المعارضة" وأن تعمل بموجب هذه الصفة.
** نشر على موقع جيرون يوم
الخميس 12 كانون الثاني/يناير 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire