ونحن نبدأ السنة
السابعة
بدرالدين عرودكي
غداة
هزيمة حزيران 967 واحتلال إسرائيل كامل أراضي فلسطين التاريخية فضلاً عن سيناء
المصرية والجولان السوري، وبينما كنا جميعاً نعيش هول الحدث المريع، قارن بعض من
يمكن وصف حسهم السياسي بحس الحذاء: "سوف تضطر إسرائيل إلى الانسحاب كما فعلت
عام 1956، لن يسمح لها العالم بذلك". لكن محي الدين صبحي، وكان ناقداً أدبياً
وقارئاً نهماً وحصيفاً، قال ببساطة مفجعة قراءته لما حدث ولم يكن يتنبأ:
"ستمضي عشرات السنين قبل أن نستعيد هذه الأراضي...". وها نحن بعد ما
يقارب خمسين عاماً نشهد مآل الأراضي التي لا تزال محتلة. وحدها مصر استعادت سيناء،
لكنها دفعت ثمن ذلك غالياً: خروجَها الكامل من المشهد العربي بعد أن كانت فيه الرائد
والقائد، وكذلك خروجها من المشهد الإقليمي والدولي بعد أن كان من المستحيل تجاهلها
في عواصم دول القرار الدولي.
أكثر
ما يُخشى اليوم أن يتكرر الأمر بالنسبة إلى الثورة السورية. لم يكن أحد، ودون أي
استثناء فردي أو جماعي، يتوقع مآل الحراك الثوري العربي الذي نشهده اليوم. كما لم
يكن الجميع وبلا استثناء أيضاً يتوقعون هذا المشهد السوري الفاجع اليوم: شعب يعاني
منذ ست سنوات القتل والقمع والتشريد والتهجير والإفقار، لم يعد يرى أمامه إلا أفقاً
مظلماً أو مسدوداً حيثما كان؛ وبلد قَطَّعت أوصالَه شراذمُ القادمين من إيران
وأفغانستان والعراق ولبنان يقاتلون دفاعاً عن بشار الأسد أو تحت شعار "لبيك
يا حسين" أو "يا زينب"، وشراذم أخرى تُقاتل وتَقتلُ باسم وكالة
مزعومة من السماء شاركت النظام الأسدي وحلفاءه في تشويه الثورة وفي طمس شعاراتها
ومراميها، لكنه أيضاً وخصوصاً بلدٌ محتلٌّ بكل ما تعنيه كلمة الاحتلال من معنى.
والمحتل، روسيا، دولة كبرى جاءت حماية لمصالحها لتنقذ نظاماً متهاوياً سياسياً
وعسكرياً رغم كل الدعم العسكري والسياسي الذي حاولت ولا تزال إيران ومرتزقتها تقديمه
على الأرض، لا إعجاباً بمواهبه بل ضماناً لمطامحها المتجددة في المنطقة العربية
ولاسيما بين حدودها الغربية والبحر المتوسط.
وفي
مواجهة هذا المشهد: غياب كامل لردّ فعلٍ يُفترض أن تستثيره بعض عناصر فجيعته. إذ وقع.
ما لم يكن متوقعاً وفي كل ميدان. فالنظام الأسدي الذي يدافع عن استمراره مهما كان
الثمن، حتى لقاء بيع البلاد والعباد وهو ما فعله فعلاً، حتى استحال وكيلاً معتمداً
لمن يدافع عن استمراره، وإن كان لا يزال يناور
من أجل تحسين شروط العمالة والوكالة بين إيران وروسيا. والمقاتلون على الأرض،
المختلفون في راياتهم وفي أهدافهم، لا يستطيعون إلا أن ينصاعوا إلى من يمولهم ما
داموا على عهد الفرقة والتشرذم بل والتصادم بين الحين والآخر ولا سيما في اللحظات
الحرجة دفاعاً عن مصالح يمكن أن تمت إلى كل شيء باستثناء هدف إسقاط النظام. ومصيرٌ
بات يتقرر في أي عاصمة أوربية أو آسيوية في غياب جميع من يعنيهم هذا المصير، أياً
كانوا.
هذا
هو الواقع الذي نبدأ به العام السابع من عمر الثورة التي رغم كل ما يقال عن
انتهائها أو هزيمتها سرعان ما تذكِّرُ بنفسها وبوجودها شعوراً ومشروعاً وإرادة عبر
مظاهرات تملأ الشوارع ما إن يغيب صوت القنابل والبراميل. واقعٌ مأساوي بكل
المعايير، وملامحُ حلٍّ يبدو أن تصميمه تمّ جملة وتفصيلاً بعيداً عمَّن يهمه الأمر،
وستبدأ من بعد محاولة فرضه عليهم عبر قرارات يمكن أن يخرج بها مؤتمر يملك الحسم
فيه كل من لا يملك أي شرعية ولو شكلية في تقرير مصير سورية، باستثناء "القوة"
التي يحاول بها حسم الأمور على الأرض أو في الجو. من المؤكد أن ذلك لن يتم بين
ليلة وضحاها، لكن يبدو أن ثمة إجماع في هذه السنة السابعة على إعادة تصميم الحدث
السوري بما يكفل مصالح كل من انخرط فيه من الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي،
تحت رعاية الدولة الأهمِّ فيه، أي روسيا، وليس في غياب الولايات المتحدة الأمريكية
بكل تأكيد.
لن
يكون من شأن هذا "الحلِّ" المُصَمَّم على كل حال، حتى لو أمكن تقريره
وفرضه، أن يحلّ المشكلات الكبرى وغير المسبوقة تاريخياً التي سيخلفها النظام
الأسدي وراءه: النازحون السوريون واللاجئون والمشردون وهم بالملايين، والفقر الذي
أصاب الغالبية الساحقة من السوريين حيثما كانوا. كما لن يكون من شأنه أيضاً، وهو
أمر رئيس أيضاً، أن يضع الحدث السوري على طريق يمكن أن يلتقي مع ما خرج السوريون
يطالبون به قبل ست سنوات. ذلك أن الهدف المنشود اليوم ممن يزعمون الرغبة في حل ما
يسمونه "الأزمة السورية" هو استمرار الوضع الحالي بصيغ مختلفة لا تتاح بموجب
أيٍّ منها للسوريين التقاط أنفاسهم من شدة غرقهم في هذا الوضع الكارثي الذي
يعيشونه اليوم، أي بعبارة أخرى: وضع القضية السورية على خط القضية الفلسطينية:
مفاوضات بلا نهاية، وحرب لا تتوقف، ومستقبل غامض وشعب يدفع الثمن.
وفي
ضوء ذلك كله، تتجلى المشكلة الراهنة الأساس لنا جميعاً في هذا الغياب الفاجع اليوم،
ومنذ 2012، أي منذ كفَّ الحديث العام عن الثورة وحل محله الحديث عن المعارضة، لوحدة
التمثيل السوري الذي كان يسعه أن يؤدي إلى إمكان وضع مشروعٍ ثوري يستعيد صياغة
ومفهمة وتمثيل مطامح السوريين جميعاً سياسياً ويسمح بأن يتخذ انطلاقاً منه قرار
وطني جامع وفاعل. وهو غياب يعكس للأسف هذا العجز الذي تجلى منذ خمس سنوات لدى
مختلف الجماعات السورية التي تصدت للعمل الوطني وهي تتبنى مطالب الثورة السورية.
بعيداً
عن كل مآلات التحركات الروسية/التركية الحالية، من المؤكد أنه لا معنى لأي حديث يتناول
مراجعة أخطاء السنوات الست الماضية إن لم يكن يستهدف في الوقت نفسه محاولة وضع
عناصر المسار الضروري اليوم في مواجهة قوى احتلال عاتية تتجاوز في إجرامها بما لا
يقاس إجرام النظام الأسدي. ولا شك آن آليات العمل اليوم وغداً في ضوء ما يجري على
الساحة السورية ومن حولها تختلف كل الاختلاف. فقد عادت سورية دولة محتلة، ويحاول
المحتلون فيها على اختلاف مصالحهم إعادة تشكيلها سكانياً وجغرافياً وسياسياً.
وللمحتلين وكيل يتجسد في نظام مافيوي الطابع يزرقونه كل يوم بكل ما يتيح له البقاء
على قيد الحياة مقابل تنازلات قانونية يحملونه على تثبيتها قانوناً ويراد لها أن
تكبِّل أيدي وتحدد طبيعة قرارات أي حاكم يأتي من بعده.
لكن
أيّ خطة في العمل توضع بعيداً عن السوريين، وبالتالي وفق الطرق التي اتبعت بعد
استبدال المعارضة بالثورة خلال السنوات الخمس الماضية، لا تأخذ بعين الاعتبار
مصالحهم الآنية والبعيدة، وبالتالي لا تكتسب شرعيتها من موافقتهم، لن تؤدي إلا إلى
مفاقمة مأساتهم وعذاباتهم، ولن تخرج بهم من النفق الذي أدخلتهم فيه مصالح القوى
الإقليمية والدولية ومطامعها.
أما
على من يقع عبء ذلك، فهو موضوع آخر لا بد من العودة إليه.
** نشر على موقع جيرون يوم
الخميس 19 كانون الثاني 2017.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire