jeudi 26 janvier 2017


عن جوائزهم  وجوائزنا 
 بدرالدين عرودكي 
لا يحلُّ موسم الجوائز الأدبية التي تمنح في فرنسا أو في بعض البلدان العربية للإبداع الروائي اعتباراً من خريف كل عام دون أن يثير كل مرة الكثير من الشجون والتساؤلات ويدفع إلى عقد المقارنات حول وضع الجوائز وبيئتها الثقافية في فرنسا وفي عالمنا العربي.
ففي فرنسا مثلاً، يصير اسم كاتبة أو كاتب في مقتبل حياتها أو حياته  الأدبية بين ليلة وضحاها ملء السمع والبصر حين يمنح عن آخر رواية كتبها، وقد تكون الأولى أو الثانية، أعرق جائزة تمنح للرواية في فرنسا، جائزة غونكور، لا تتجاوز قيمتها النقدية عشرة يورو! لكنها بعد إعلان الفائز بها تدفع بالناشر إلى طبع عدد من نسخ الرواية يصل إلى وربما يتجاوز في الغالبية العظمى من الحالات ثلاثمائة ألف نسخة استجابة لطلب غير مسبوق من قبل عشرات الآلاف من القراء الذين يقبلون على شراء الرواية الفائزة وقراءتها. هكذا تكون الجائزة متعددة الأهداف. فهي أولاً وأساساً وبالنظر إلى مصداقيتها التي اكتسبتها مع السنين تحمل عدداً هائلاً وفورياً من القراء على قراءة مُبدع الكاتب من جهة، وتفتح للكاتب الفائز ثانياً أفق حرية ذات أساس اقتصادي إذ يصير كاتباً محترفاً من جهة ثانية، وتدر على من تلقاها ثالثاً، بفعل ما يكتسبه من حقوقه الأدبية التي نص عليها العقد بينه وبين الناشر، دخلاً يعفيه من هموم الحياة المادية اليومية ويمنحه كذلك حرية الانصراف إلى عمله وقد تخلص من قلق أيام الشهر الأخيرة.
إلا أنه ما كان لهذه الأهداف أن تتحقق على النحو المشار إليه لولا تضافر عمل مجموعة من العناصر التي تؤلف في نهاية الأمر البيئة الثقافية التي تحضن هذه الجائزة الأشهر وسواها من أمثالها مما بات يتصدر مشهد الحياة الأدبية الفرنسية.
ذلك أن مفهوم الجائزة في فرنسا يستدعي بيئة تعمل وفق قوانين وأعراف يقوم ضمنها المعنيون كلٌّ في مجاله بعمل يشارك به الجهد الجماعي : من الناشر إلى صاحب المكتبة إلى القارئ مروراً بالكاتب والصحفي والقارئ.
تنظم القوانين معايير النشر وحقوق الناشر والكاتب المحفوظة بموجبها بعد إبرام العقد الذي يحدد التزامات وواجبات طرفيْه. وتحول الرقابة المالية دون أي محاولة التفاف على تطبيق القانون. هكذا لا يحتاج الكاتب للمطالبة بحقوقه؛ فهي تصله دورياً وبانتظام مع كشوف رسمية بالمبيعات وحصته العقدية منها التي تحول آلياً إلى حسابه المصرفي. بذلك تسمح الجائزة لجميع عناصر هذه السلسلة الاستفادة من جائزة منحت أصلاً لكاتب، لكنها في حقيقة الأمر تمنح أيضاً ـ كمردود مالي ـ إلى الناشر والموزع وصاحب المكتبة وكل منهم ينال حصته من الجائزة على الصعيد المالي. هذا المردود عابر أيضاً للحدود الفرنسية حين يأتي من الخارج بعد أن تسارع دور النشر في العالم إلى شراء حقوق ترجمة الرواية الفائزة التي ستصل إلى قراء ما لا يقل عن خمسة وعشرين لغة في العالم.
تنظم معظم هذه الجوائز وتمنحها مؤسسات خاصة. لكن القوانين العامة توجِّه مختلف العلاقات التي يستدعيها منحها. أما المعايير المتبعة، فهي تتسق وتنسجم بطبيعة الحال مع الأهداف التي تود تحقيقها المؤسسة أو المنظمة التي تنشئ الجائزة وتضع قواعد منحها ودوريتها واللجنة المناط بها تقرير الفائزين بها.
إذا كانت هذه هي الصورة الوصفية الإجمالية لجائزة الرواية خصوصاً في فرنسا وللمشهد الأدبي الذي يرتسم بسببها سنوياً، فإن الصورة الوصفية المقابلة لجوائز الرواية في العالم العربي تختلف اختلافاً يكاد يكون جذرياً.
كان أول بلد عربي خصص منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي ما عرف بجائزة الدولة التقديرية في الآداب تمنح سنوياً لكبار المفكرين والعلماء والأدباء والفنانين عن مجمل إنتاجهم هو مصر. وهي جائزة تكريمية تمنح تقديراً لمسيرة فكرية أو أدبية طويلة فاعلة وفعالة في المشهد الثقافي المصري والعربي، أي أن آثارها تبقى محصورة ضمن حدود الأهداف المنشودة منها والتي تقتصر بطبيعة الحال على من ينالها دون أيِّ أثر حقيقي آخر على المشهد الثقافي أو الأدبي. بعد ذلك توالى إنشاء جوائز رسمية في دول عربية أخرى حملت بوجه خاص أسماء ملوك وأمراء وخصصت لمختلف مجالات النتاج الأدبي. لكنها هي الأخرى بقيت ذات طابع تكريمي وقاصرة بالتالي عن إحداث أي تأثير في المشهد الثقافي داخل البلد الذي يمنحها أو خارجه في المجال العربي العام.
أما الرواية، ولأنها، وإن دخلت بين الأجناس الأدبية العربية على حذر مع مطلع القرن الماضي، لم تنتشر كجنس أدبي حديث في الأدب العربي المعاصر إلا مع منتصف القرن، ولم تنتشر كتابتها في معظم الدول العربية إلا في السنوات العشرين الأخيرة من القرن الماضي، فلم يكن من الممكن أن تنشأ جوائز خاصة بها إلا قبل سنوات معدودات، وكانت أول جائزة منحت لرواية عربية هي جائزة البوكر في عام 2007، أي قبل عشر سنوات، أي بعد ما يزيد عن قرن على إنشاء جائزة الغونكور (1903).
لاشك أن من أهم أهداف هذه الجائزة الإنكليزية الأصل والتي تبنتها الإمارات العربية المتحدة من أجل الرواية العربية والتشجيع على انتشار هذا الفن في أدبنا المعاصر وعلى قراءته ثم على ترجمة الأعمال الفائزة إلى اللغة الإنكليزية التي ستفتح الطريق أمام ترجمتها إلى لغات أخرى. وقد اتبع منظمو الجائزة مساراً يجعل منها موضع اهتمام المجتمع الثقافي العربي طوال فترة تبدأ من الإعلان عن القائمة الطويلة ثم القائمة القصيرة وأخيراً بإعلان الفائز بالجائزة. لكن الملاحظ أن هذا الاهتمام اقتصر على بيئة صغيرة تضمّ عدداً من الكتاب المعنيين وأصحاب دور النشر ومحرري الصفحات الثقافية.
لكن العناصر الأخرى في البيئة الثقافية العربية التي تستقبل الجائزة وتنشر آثارها لا تزال تفتقر إلى معظم ما يمكن أن يجعلها تقوم بوظيفتها على نحو يتلاءم ويتكامل مع أهداف الجائزة المعلنة. ففي محاولة لتقويم عشر سنوات من منح هذه الجائزة، لا يمكن لأحد أن يعثر على  إحصائيات صحيحة أو قريبة من الصحة عن عدد النسخ المطبوعة من الرواية الفائزة وعدد النسخ المباعة. وبالتالي فلا نعلم عدد القراء الذين قرؤوا الرواية والبلدان التي ينتمون إليها أو المناطق التي يعيشون فيها ببلدانهم. ولا شيء كذلك يفيد عن الحصيلة المالية الناتجة عن مبيعاتها. لاشيء أيضاً عن قراءة الرواية باللغة العربية في العالم العربي أو خارجه. فشروط توزيع الكتاب العربي خارج حدود الدولة التي نشر فيها والمنحصرة في بيعها بأعداد تبقى محدودة خلال معارض الكتب المتوالية في مدن العالم العربي تشير إلى بؤس ما فرضته أنظمة الرقابة في مجال الكتاب العربي وانتشاره!
عشرات السنين والناشرون العرب يجهدون للاعتراف بمهنتهم من قبل السلطات العامة. وقد نجحوا نسبياً في ذلك. لكنهم لا يزالون حتى الآن عاجزين عن فرض احترام حقوق النشر على أعضاء اتحادهم أو على اعتماد هذه الحقوق من قبل الدولة بواسطة قوانين تسري على الجميع، الحقوق التي تخص الكاتب مثل تلك التي تخص الناشر. وعشرات السنين ولا يزال احترام هذه الحقوق مبادرة من الناشر وعلى استحياء وليس تطبيقاً لقانون. لا نعني هنا احترام حقوق دور النشر الأجنبية عند ترجمة الأعمال التي نشرتها. فقد مهدت المكاتب الثقافية إلى احترام هذه الحقوق عن طريق الدعم المالي تارة والقضاء تارة أخرى. بل نعني حقوق الكاتب العربي نفسها والتي بات إنكارها أو تجاهلها عرفاً سائراً.
ذلك ما يجعل من جائزة الرواية أو سواها في العالم العربي قاصرة عن أداء وظيفتها الأساس واقتصارها بالضرورة على فعل تكريم مالي لهذا الروائي أو ذاك، حتى بدا وكأن كتابة الرواية في السنوات العشر الأخيرة لا تستهدف إلا الجائزة بوصفها وسيلة إلى ثراء فرديّ عابر وسريع.
ولا أمل في الواقع من إمكان تحقيق هذه الجوائز ما تسعى إليه على الأقل من أهداف معلنة في غياب البيئة الثقافية والاجتماعية الحاضنة والضرورية. بيئة تسهم في وجودها مؤسسات رسمية وخاصة، وقوانين ناظمة، ومعايير صارمة.
وبدون ذلك كله، تبقى جوائزهم بعيدة كل البعد عن جوائزنا هنا..

** نشر على موقع جيرون، الخميس 26 كانون الثاني 2017.
 


jeudi 19 janvier 2017



ونحن نبدأ السنة السابعة 
بدرالدين عرودكي 
غداة هزيمة حزيران 967 واحتلال إسرائيل كامل أراضي فلسطين التاريخية فضلاً عن سيناء المصرية والجولان السوري، وبينما كنا جميعاً نعيش هول الحدث المريع، قارن بعض من يمكن وصف حسهم السياسي بحس الحذاء: "سوف تضطر إسرائيل إلى الانسحاب كما فعلت عام 1956، لن يسمح لها العالم بذلك". لكن محي الدين صبحي، وكان ناقداً أدبياً وقارئاً نهماً وحصيفاً، قال ببساطة مفجعة قراءته لما حدث ولم يكن يتنبأ: "ستمضي عشرات السنين قبل أن نستعيد هذه الأراضي...". وها نحن بعد ما يقارب خمسين عاماً نشهد مآل الأراضي التي لا تزال محتلة. وحدها مصر استعادت سيناء، لكنها دفعت ثمن ذلك غالياً: خروجَها الكامل من المشهد العربي بعد أن كانت فيه الرائد والقائد، وكذلك خروجها من المشهد الإقليمي والدولي بعد أن كان من المستحيل تجاهلها في عواصم دول القرار الدولي.
أكثر ما يُخشى اليوم أن يتكرر الأمر بالنسبة إلى الثورة السورية. لم يكن أحد، ودون أي استثناء فردي أو جماعي، يتوقع مآل الحراك الثوري العربي الذي نشهده اليوم. كما لم يكن الجميع وبلا استثناء أيضاً يتوقعون هذا المشهد السوري الفاجع اليوم: شعب يعاني منذ ست سنوات القتل والقمع والتشريد والتهجير والإفقار، لم يعد يرى أمامه إلا أفقاً مظلماً أو مسدوداً حيثما كان؛ وبلد قَطَّعت أوصالَه شراذمُ القادمين من إيران وأفغانستان والعراق ولبنان يقاتلون دفاعاً عن بشار الأسد أو تحت شعار "لبيك يا حسين" أو "يا زينب"، وشراذم أخرى تُقاتل وتَقتلُ باسم وكالة مزعومة من السماء شاركت النظام الأسدي وحلفاءه في تشويه الثورة وفي طمس شعاراتها ومراميها، لكنه أيضاً وخصوصاً بلدٌ محتلٌّ بكل ما تعنيه كلمة الاحتلال من معنى. والمحتل، روسيا، دولة كبرى جاءت حماية لمصالحها لتنقذ نظاماً متهاوياً سياسياً وعسكرياً رغم كل الدعم العسكري والسياسي الذي حاولت ولا تزال إيران ومرتزقتها تقديمه على الأرض، لا إعجاباً بمواهبه بل ضماناً لمطامحها المتجددة في المنطقة العربية ولاسيما بين حدودها الغربية والبحر المتوسط.
وفي مواجهة هذا المشهد: غياب كامل لردّ فعلٍ يُفترض أن تستثيره بعض عناصر فجيعته. إذ وقع. ما لم يكن متوقعاً وفي كل ميدان. فالنظام الأسدي الذي يدافع عن استمراره مهما كان الثمن، حتى لقاء بيع البلاد والعباد وهو ما فعله فعلاً، حتى استحال وكيلاً معتمداً لمن  يدافع عن استمراره، وإن كان لا يزال يناور من أجل تحسين شروط العمالة والوكالة بين إيران وروسيا. والمقاتلون على الأرض، المختلفون في راياتهم وفي أهدافهم، لا يستطيعون إلا أن ينصاعوا إلى من يمولهم ما داموا على عهد الفرقة والتشرذم بل والتصادم بين الحين والآخر ولا سيما في اللحظات الحرجة دفاعاً عن مصالح يمكن أن تمت إلى كل شيء باستثناء هدف إسقاط النظام. ومصيرٌ بات يتقرر في أي عاصمة أوربية أو آسيوية في غياب جميع من يعنيهم هذا المصير، أياً كانوا.
هذا هو الواقع الذي نبدأ به العام السابع من عمر الثورة التي رغم كل ما يقال عن انتهائها أو هزيمتها سرعان ما تذكِّرُ بنفسها وبوجودها شعوراً ومشروعاً وإرادة عبر مظاهرات تملأ الشوارع ما إن يغيب صوت القنابل والبراميل. واقعٌ مأساوي بكل المعايير، وملامحُ حلٍّ يبدو أن تصميمه تمّ جملة وتفصيلاً بعيداً عمَّن يهمه الأمر، وستبدأ من بعد محاولة فرضه عليهم عبر قرارات يمكن أن يخرج بها مؤتمر يملك الحسم فيه كل من لا يملك أي شرعية ولو شكلية في تقرير مصير سورية، باستثناء "القوة" التي يحاول بها حسم الأمور على الأرض أو في الجو. من المؤكد أن ذلك لن يتم بين ليلة وضحاها، لكن يبدو أن ثمة إجماع في هذه السنة السابعة على إعادة تصميم الحدث السوري بما يكفل مصالح كل من انخرط فيه من الدول على الصعيدين الإقليمي والدولي، تحت رعاية الدولة الأهمِّ فيه، أي روسيا، وليس في غياب الولايات المتحدة الأمريكية بكل تأكيد.
لن يكون من شأن هذا "الحلِّ" المُصَمَّم على كل حال، حتى لو أمكن تقريره وفرضه، أن يحلّ المشكلات الكبرى وغير المسبوقة تاريخياً التي سيخلفها النظام الأسدي وراءه: النازحون السوريون واللاجئون والمشردون وهم بالملايين، والفقر الذي أصاب الغالبية الساحقة من السوريين حيثما كانوا. كما لن يكون من شأنه أيضاً، وهو أمر رئيس أيضاً، أن يضع الحدث السوري على طريق يمكن أن يلتقي مع ما خرج السوريون يطالبون به قبل ست سنوات. ذلك أن الهدف المنشود اليوم ممن يزعمون الرغبة في حل ما يسمونه "الأزمة السورية" هو استمرار الوضع الحالي بصيغ مختلفة لا تتاح بموجب أيٍّ منها للسوريين التقاط أنفاسهم من شدة غرقهم في هذا الوضع الكارثي الذي يعيشونه اليوم، أي بعبارة أخرى: وضع القضية السورية على خط القضية الفلسطينية: مفاوضات بلا نهاية، وحرب لا تتوقف، ومستقبل غامض وشعب يدفع الثمن.
وفي ضوء ذلك كله، تتجلى المشكلة الراهنة الأساس لنا جميعاً في هذا الغياب الفاجع اليوم، ومنذ 2012، أي منذ كفَّ الحديث العام عن الثورة وحل محله الحديث عن المعارضة، لوحدة التمثيل السوري الذي كان يسعه أن يؤدي إلى إمكان وضع مشروعٍ ثوري يستعيد صياغة ومفهمة وتمثيل مطامح السوريين جميعاً سياسياً ويسمح بأن يتخذ انطلاقاً منه قرار وطني جامع وفاعل. وهو غياب يعكس للأسف هذا العجز الذي تجلى منذ خمس سنوات لدى مختلف الجماعات السورية التي تصدت للعمل الوطني وهي تتبنى مطالب الثورة السورية.
بعيداً عن كل مآلات التحركات الروسية/التركية الحالية، من المؤكد أنه لا معنى لأي حديث يتناول مراجعة أخطاء السنوات الست الماضية إن لم يكن يستهدف في الوقت نفسه محاولة وضع عناصر المسار الضروري اليوم في مواجهة قوى احتلال عاتية تتجاوز في إجرامها بما لا يقاس إجرام النظام الأسدي. ولا شك آن آليات العمل اليوم وغداً في ضوء ما يجري على الساحة السورية ومن حولها تختلف كل الاختلاف. فقد عادت سورية دولة محتلة، ويحاول المحتلون فيها على اختلاف مصالحهم إعادة تشكيلها سكانياً وجغرافياً وسياسياً. وللمحتلين وكيل يتجسد في نظام مافيوي الطابع يزرقونه كل يوم بكل ما يتيح له البقاء على قيد الحياة مقابل تنازلات قانونية يحملونه على تثبيتها قانوناً ويراد لها أن تكبِّل أيدي وتحدد طبيعة قرارات أي حاكم يأتي من بعده.  
لكن أيّ خطة في العمل توضع بعيداً عن السوريين، وبالتالي وفق الطرق التي اتبعت بعد استبدال المعارضة بالثورة خلال السنوات الخمس الماضية، لا تأخذ بعين الاعتبار مصالحهم الآنية والبعيدة، وبالتالي لا تكتسب شرعيتها من موافقتهم، لن تؤدي إلا إلى مفاقمة مأساتهم وعذاباتهم، ولن تخرج بهم من النفق الذي أدخلتهم فيه مصالح القوى الإقليمية والدولية ومطامعها.
أما على من يقع عبء ذلك، فهو موضوع آخر لا بد من العودة إليه.  

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 19 كانون الثاني 2017.



jeudi 12 janvier 2017



وزن الكلمات أو مآلاتها في السياسة!
بدرالدين عرودكي
كان هناك ما يشبه الإجماع في سورية على وصف الحراك الثوري الذي بدأ بدرعا ودمشق في منتصف شهر آذار 2011 معلناً رفض الشعب السوري للذل ثم معلناً مطالبه في الحرية والكرامة ومنتهياً إلى المطالبة بإسقاط النظام ورحيل بشار الأسد، باعتباره ثورة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.
هكذا بدأ الشباب الذين ضاقت بهم شوارع مدن سورية وقراها بتنظيم الأطر الضرورية ضمن هذا المفهوم وتحت هذه التسمية وفي هيكلة مرجعيات نشاطاتهم على اختلافها وخصوصاً ما كانت تمليه عليهم ردود فعل النظام وقواه الأمنية من ضرورات في التنسيق وفي طبيعة الاستجابة على مختلف الأصعدة. فأنشأوا ما عرف بالتنسيقيات في القرى وفي المدن كي تنظم وتوجه الحراك المدني في مناطقها على كافة الأصعدة الميدانية والسياسية. وسرعان ما اقتضت الحاجة قبل أقل من شهرين على انطلاق الحراك إلى توحيد عمل هذه التنسيقيات عبر جمعها معاً من خلال هيئة جامعة تنسق فيما بينها وتقوم بتمثيلها على الصعيدين السياسي والإعلامي فضلاً عن توحيد العمل على الصعيد الميداني. وكان من نتيجة ذلك تأسيس الاتحاد في الشهر الخامس من عام انطلاق الثورة بعد اجتماع ممثلين عن التنسيقيات المشار إليها في مدن دمشق ودرعا ودير الزور وحمص بانتظار انضمام مثيلاتها في المدن الأخرى لاحقاً. وقد تطور الأمر بعد أشهر من تأسيس اتحاد التنسيقيات إلى تأسيس الهيئة العامة للثورة السورية التي أعلن عنها في شهر آب 2011 والتي شملت التنسيقيات الميدانية، وممثلو التنسيقيات، ومجالس المناطق، والمجلس الثوري، والتي باتت التعبير الأمثل والوحيد عن الثورة والثوار.   
ومن ثمَّ لم يكن الحديث آنئذ إلا عن الثورة والثوار أفراداً وجماعات وهيئات تمثيلية في الواقع وفي الإعلام المحلي والخارجي. ولئن كان البعض يتريث قبل تبنّي كلمة "الثورة" توصيفاً لما كان يحدث طوال عام 2011 في سورية مكتفياً باعتماد توصيفه بالحراك الثوري أو الاحتجاجي، وخصوصاً في وسائل الإعلام الغربية على اختلافها وكذلك في الأوساط الأكاديمية التي تناولت عبر ما نظمته من ندوات هذا الحدث على صعيد العالم العربي بالتحليل والتقويم، إلا أنه كان مرغما على الحديث عمن يمثل هذا الحراك الثوري أو الثورة بما سمّت نفسها به: تنسيقيات مجتمع مدني يقف في وجه الاستبداد ويعمل على إسقاط نظامه. لكن النظام الأٍسدي وذيوله الإعلامية داخل سورية وخارجها، وانسجاماً مع اعتماده الاستجابة الأمنية المحضة حلاً لهذا الحراك، قرر منذ البداية أن يعتبر مؤامرة سلفية، ثم جهادية، ثم كونية حراكاً كان يغطي المساحة السورية بكاملها. وهو ما جعله يبدأ بالقضاء على الهياكل التنظيمية لهذا الحراك الثوري بشتى الوسائل: اعتقال الناشطين من الشباب، وقتل العديد منهم أثناء التعذيب، وقطع طرق التواصل بين المدن والمناطق التي تتواجد فيها التنسيقيات منعاً لأي عمل جماعي ناجع فضلاً عن الوسيلة الكلاسيكية: اختراق التنظيمات والعمل على تفتيت عملها من الداخل.
منذئذ، انتقل تمثيل الثورة إلى المعارضة التقليدية التي كانت، رغم عدم تواجدها في الحراك الثوري عند انطلاقه وغياب أي إسهام لها في تنظيمه أو في توجيهه، قد بدأت العمل على الحلول محل هذه البنى التي كانت التعبير الأصيل عن الحراك الثوري، من خلال الهياكل التي ستخرج بها على الملأ باسم "المعارضة" وهيئات "المعارضة" ومجالس "المعارضة" بدلاً من "تنسيقيات الثورة" و"الهيئة العامة للثورة"، إلخ.، بدءاً بالمجلس الوطني السوري الذي أعلن باسطنبول في بداية تشرين أول 2011 جامعاً عدداً من أطياف المعارضة بما فيها إعلان دمشق و"الإخوان المسلمون" ومن يلوذ بهم، وهيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي التي أعلنت بدمشق  أيضاً في بداية الشهر نفسه، والتي ضمت عشرة أحزاب، مروراً بالمجلس الوطني الكردي الذي أعلن عنه بعد شهرين من ذلك ثم المنبر الديمقراطي السوري في شهر شباط 2012، وانتهاء بـ"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" في تشرين الثاني 2012.  هكذا، بدت هذه الهيئات جميعها كما لو أنها تطوي صفحة الثورة والثوار كي تصير "المعارضة" مقابل "النظام"!
وكما هو واضح، لم ينتبه أحد إلى طبيعة ومآل الانزلاق اللغوي الذي جرى خلال هذا الانتقال والذي أدى إلى تلاشي كلمة "الثورة" من تسميات وعناوين قوى "المعارضة الكلاسيكية" التي احتلت مواقع الثوار وهيئاتهم وتنظيماتهم، بل وإلى تبني صفة "المعارضة" صراحة التي ستنقسم إلى "معارضة داخلية" و "معارضة خارجية".
كان النظام الأسدي أول المستفيدين من هذا التغيير في الكلمات (وفي الواقع بالطبع). فهاهو قد بات الآن أمام "معارضة" لا "ثورة". فالأخيرة كانت كما عبر عنها إعلامه سلفية أو رجعية أو مؤامرة خارجية تطلعت إلى تدمير "نظام الممانعة والمقاومة" الوحيد في العالم العربي. في حين أن الأولى وقد قسمت إلى داخلية وخارجية، وبعد استبعاد الثانية "المأجورة التي تعمل وفق أجندات الدول الممولة لها، يمكن أن يتم الحوار معها من أجل الإصلاحات الضرورية ضمن إطار النظام القائم.
نجح النظام الأسدي إذن ، بعد أن قضى على الثوار الشباب تنكيلاً أو تعذيباً أو قتلاً أو تهجيراً، في استبدال كلمة المعارضة بكلمة الثورة. لكن هيئات المعارضة على اختلافها، واعية أو غير واعية،  نجحت هي الأخرى أيضاً في تسويق هذه التسمية على الصعيد المحلي والعالمي بعد نشر أعضائها سجلهم التاريخي في معارضة النظام الأسدي داخل سجونه وخارجها لتبرير شرعية وجودهم ممثلين لحراك ثوري لم يكن لهم يد فيه.  بذلك استعاد النظام الأسدي الذي دعت الثورة إلى إسقاطه ضرباً من الشرعية التي كان يسوِّقُ امتلاكه لها في مختلف المحافل. وأمكن إحلال "المعارضة" محل "الثورة" بعد اختفاء من أطلقها من المشهد العام، كي تغدو اعترافاً ضمنياً منها بشرعية النظام الذي باتت تعارضه. 
كان طبيعياً والحالة هذه أن يُدعى الجميع إلى اعتماد حلٍّ سياسي يجري التفاوض حول عناصره بين "نظام" لم تتخلّ عنه أية دولة من تلك التي قدمت نفسها "صديقة للشعب السوري" أو أية مؤسسة ذات طابع دولي كالأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، من ناحية، و"معارضة" أعلنت صراحة عن صفتها عبر تسميتها حين تم تأسيس هيئة جديدة شملت معظم أطياف ما يسمى بمعارضة الخارج تحت اسم "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة"!
كان طبيعياً أن ينتج عن ذلك تراجع مطلب "إسقاط النظام" كي يحل محله "حلٌّ سياسيٌّ" سيبقي على النظام وسيرغمه مثلما سيرغم المعارضة على التوافق عليه.
هذا هو في النهاية فحوى مؤتمر جنيف الأول ومضامين القرارات التي صدرت عن المؤتمرات اللاحقة بجنيف وفيينا وكذلك عن الأمم المتحدة في مقرها الدائم.
ذلك ما يفسر اليوم بوادر ثورة أخرى لا تستهدف النظام فحسب بل كل المؤسسات التي اعترفت به والتي قبلت أن تتخذ لنفسها صفة "المعارضة" وأن تعمل بموجب هذه الصفة.

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 12 كانون الثاني/يناير 2017.



mercredi 11 janvier 2017




لحظات من الذاكرة مع علي الجندي
"شهادة"
بدرالدين عرودكي
ليس من السهل استعادة لحظات أو ساعات من الحياة تعود إلى فترة لا تقلّ عن خمسة وأربعين عاماً. لكن تلك التي كنتُ ألتقي خلالها علي الجندي في المقهى، أو في سهرة لدى صديق، أو في مكتب العمل بالمجلة التي كنتُ أعمل فيها، عسيرة على النسيان. لا بسبب حدث استثنائي طبعها بل بسبب هذه الشخصية التي فاجأتني منذ اللحظة الأولى لأول لقاء لي معه في مقهى الغاردينيا بدمشق (وكان في ستينيات القرن الماضي ملتقى الكتاب والصحفيين).
كنت جالساً مع لؤي كيالي حين دخل المقهى. يقدمه لؤي حين أدرك أنني لم أكن أعرفه: "شاعرنا علي الجندي". ودون أن يترك فرصة لتقديمي يفاجئني: ستعاني مشكلات كثيرة مع النساء يا عزيزي! سألته أن يشرح قليلاً ما يعنيه. لكنه اكتفى بالقول: ستكتشف بنفسك وستذكر دوماً ما قلته لك!
حين قلت له بعد ذلك اسمي، أجابني: أعرف. ولكن كيف؟ يقول له لؤي: هل قرأت عموده اليوم في جريدة الثورة؟ ويهز علي برأسه إيجاباً دون أن ينبس بأية كلمة! كنت سعيداً برضا لؤي عما كتبت تحت عنوان: "لا!" وكنت أتوقع رضاً مماثلاً من الشاعر الذي قرأ. لكنَّ تعليقه الوحيد تمثل في الجملة التي بادرني بها عند وصوله.
وأعترف أن فراسة علي الجندي بصرف النظر عن صحتها أو خطئها هي ما جعله دائم الحضور في عالمي، كما لو أن جملته كانت تنبيهاً دائماً لي كي أتلافى المشكلات كلما كنت في حضرة المرأة! والحقيقة أنني في غياب أي تفسير من قبله لما قاله رحتُ أبحث في كل ما يكتبه عن معنى ممكن لهذه الجملة! وأذكر أن أول ما قرأت له من الشعر كان ديوانه أو بالأحرى قصيدته الطويلة: "في البدء كان الصمت"، وكان آخر ما قرأته ديوانه التالي: "الحمى الترابية".
كنتُ شديدَ النوسان بين علي الجندي الإنسان الذي كنت ألتقيه بين الحين والآخر وبين علي الجندي الشاعر الذي كنت أحاول سبره فيما أقرؤه في قصائده التي كانت مجلة "الطليعة" السورية خصوصاً تنشره له في أواخر الستينيات وفي مجموعتيه الشعريتين المذكورتيْن. ففي الحياة اليومية، كان علي يبدو لي ولكثيرين غيري من الأصدقاء آنذاك ممثلاً لشخصية الفنان في أبهى حلله: عصيّاً على الفهم في ما يبدو لاعقلانية سلوكه وتصرفاته، أو لاأباليته إزاء المواضعات الاجتماعية تارة أو جموحه غالباً إلى كسرها تارة أخرى. هذا، على دماثته ورقته حتى لا أقول هشاشته الطفولية حين يتواجد في بيئة آمنة من الأصدقاء الذين تربطه إليهم علاقة حميمة. حينئذ يتجلى علي الجندي إنساناً شديد البساطة، والسماحة، متميزاً حقاً ولكن في احتفاظه بشيء من براءة الطفولة لا تزال كما كنت أراه من ناحيتي، تسم تعابير وجهه ممتزجة بسِماتٍ أخرى أقرب إلى الخوف من شيء مجهول.
أما في عالم الشعر، حين يَغرَق ويُغرِق من يقرؤه مثلي فيه، فقد كنتُ أكتشف أنني إزاء إنسان آخر يكاد لا يمت بصلة إلى ذلك الذي أعرفه في التفاصيل اليومية. مذهلٌ أن تكتشف فجأة في علي الجندي شاعراً أن عالم الطفولة والبراءة والرقة والسماحة يستحيل عالماً من رعب دفين يتلبسه كما لو كان يقف على شفا حفرة يمكن لأي عثرة أن تلقي به فيها. وأنّ همّه، وهاجسه، ووسواسه الأول، لا بل والوجودي في الأساس، كان أن يعثر على طريق الإبداع المطلق، أو بالأحرى الخلق؛ وأن هذا الهمّ يكاد يقضي عليه إذ تتجلى له ضروب الاستحالة في تحقيق أو بلوغ ما يرمي إليه. ذلك أن الخلق من عدم فعلٌ في الأساس غير إنساني؛ لكنه، وهو يستقرئ حرارة الواقع عيشاً وألماً وسعادة وكآبة وفرحاً وقلقاً، يستطيع بلوغ وإنجاز الفعل الإنساني بامتياز: الإبداع. لا إبداع من عدم؛ والأفكار على قارعة الطريق، كما كان الجاحظ يقول. وإنما في صياغة وسبك وتقديم هذه الأفكار بدءاً من الغوص حتى الرقبة في حمأة نثر الحياة اليومية، وفيه إنما يمكن العثور على الشعر. ذلك أن "الشعراء لا يخترعون القصائد" كما قال الشاعر التشيكي جان سكاسيل، إذ أنَ:
 "القصيدة موجودة في مكان ما..هناك
منذ زمن طويل جداً، هي هناك
ولا يفعل الشاعر شيئاً سوى أن يكشف عنها"
تلك في الحقيقة حكاية مجموعته الشعرية الأولى التي هي قصيدة طويلة، شأن السوناتة، من ثلاث حركات، تتوالى فيها هذه المحاولة الشعرية/الوجودية من اكتشاف الاستحالة إلى العثور على الإمكان.
من المؤسف أنَّ مُبدَعَ علي الجندي الشعري، لم يحظَ، شأنه في الحقيقة شأن الغالبية العظمى من المبدعين السوريين الكبار، بما يستحقه من اهتمام. وتلك ظاهرة ثقافية غريبة جديرة بأن تنال نصيبها من التحليل. ولذلك أرى أنَّ كل محاولة لاستعادة الشعر والشاعر والإنسان في مُبْدَعِ علي الجندي بالذات هي تحية تقدير وعرفان لشاعر عمل بكل كيانه على أن يعثر على "القصيدة الموجودة في مكان ما.." واستطاع أن يعثر عليها.

** كتبت استجابة إلى طلب من الصديق مازن أكثم سليمان..




jeudi 5 janvier 2017





هل هُزِمَت الثورات العربية؟ 
بدرالدين عرودكي 
كثيرة هي الكتابات، العربية خصوصاً، التي تتحدث اليوم عن هزيمة الثورات العربية بعد ست سنوات من انطلاقها. معظمها كتب بصياغة يقينية تتناسب والكتابة العربية السائرة التي لا تتسع بطبيعة نحوها لأفعال تنطوي على إمكان آخر غير الإمكان الذي تقوله، كما هو حال الأفعال الشرطية في لغات أخرى كاللغة الفرنسية مثلاً.
وكان مؤلفو هذه الكتابات أنفسهم، قبل ست سنوات وعلى امتداد الثلاث الأوائل منها على الأقل، ومعهم أيضاً من تصدوا لتمثيل هذه الثورة متخذين لأنفسهم ــ ويا للمفارقـة ــ صفة المعارضة لنظام لا علاقة له بالديمقراطية أساساً حتى يعارضونه، يتحدثون عن انتصار هذه الثورات بلا جدال بعد أن شهد العالم مصعوقاً ــ أو هكذا بدا ــ هرب بن علي من تونس وتنازل مبارك عن منصبه ونهاية القذافي الشنيعة مع الأمل بأن يلحق بهم بطريقة أو بأخرى صالح في اليمن وبشار الأٍسد بدمشق.
ومع ذلك، وباستثناء الحالة التونسية، من الواضح أن شيئاً من ذلك لم يتحقق في بلديْ الانتفاضة الثورية اللذين أطلقا الأمل: مصر وليبيا. ففي مصر، ذهب مبارك حقاً، لكن النظام انتصر على محاولة تجربة ديمقراطية لم تكد تبدأ على عجرها وبجرها حتى أتاحت هي نفسها المجال لإسقاطها بإخراجٍ اتخذ من الموافقة الشعبية سنداً له لتوطيد النظام الذي كان الشعب قد طالب بإسقاطه، مجدداً، وبشرعية استعادت صوريتها القديمة هي الأخرى. أما في ليبيا، فقد قتل القذافي وسجن ورثته من أبنائه، لكن البلاد لا تزال تتعثر على الطريق بين من يحاول إعادة النظام القديم أيضاً بحلية جديدة ذات طابع "ثوري"، وبين شراذم طفيلية تلبس لبوس الإسلاموية المُحدثة نمت خلال السنوات الماضية وتحاول جاهدة أن تشق طريقاً لتثبيت وجودها على الأرض بقوة السلاح والإرهاب، وبين سياسيين مدنيين يحاولون تثبيت المفاهيم التي انطلقت على أساسها الثورة ضد القذافي ونظامه والتي تعتمد الحلّ الديمقراطي أساساً، فضلاً بالطبع عن كل القوى الخارجية ذات المصلحة، بما فيها الأمم المتحدة، التي تحاول دعم هذا الطرف أو ذاك والدفع على كل حال في اتجاه إنهاك الأطراف كلها حتى يبقى الحل الوحيد هو العودة إلى بيت الطاعة وقد أعيد ترميمه وطلاؤه.
أما في البلدين اللذين كان الكثير يرى أنهما، بحكم خصوصية نظام كل منهما: سورية واليمن، عسيرين على رؤية انطلاق انتفاضة ثورية فيهما، فقد كذبت الأحداث عام 2011 ظنَّ الجميع، وانطلق في كل منهما حراك شعبي سرعان ما استحال ثورة عارمة. لكن مواجهتها اتخذت عبر معالجة النظام فيهما لها من أجل محاولة سحقها طرقاً وصيغاً مختلفة في كلٍّ من البلدين؛ على أن هذه الطرق وهذه الصيغ التقت في وجود عناصر خارجية مؤثرة تمثلت أولاً في إيران طرفاً أساساً مباشرة وكذلك عبر ذيولها المحلية والإقليمية أوكلاهما معاً وإلى جانبها، في لقاء مصالح مختلفة كما هو الأمر في سورية، قوة دولية تمثلت في روسيا التي باتت اليوم القوة المحتلة الأولى في سورية بعد أن أحالت رئيس النظام إلى مجرد وكيل محليّ لها. ولهذا، لم يكن غريباً من أجل إلغاء أي توصيف ثوري له أن يتخذ الحدث اليمني في مفهوم الإعلام العربي والعالمي صورة حرب أهلية تؤججها مصالح قوتيْن إقليميتيْن: إيران والسعودية؛ كما لم يكن مستحيلاً على النظام الأٍسدي في سورية للغاية ذاتها أن عمل منذ البداية على تشويه الثورة بتوصيفها سلفية في البداية كي ينتهي مستخدماً كل الوسائل إلى إلغائها وإحلال الإرهاب محلها جامعاً من حوله ولأجله قوى العالم شرقاً وغرباً، رافعاً شعار "محاربة الإرهاب"، واصماً به كل من ثار عليه، بعد أن بات شماعة الجميع لإخفاء مصالحهم السياسية والعسكرية والأمنية.
هل يصح القول والحالة هذه أن الثورات العربية "هزمت" حقاً وطويت صفحتها نهائياً؟ السؤال هنا بالطبع عن "الهزيمة" بما توحيه من دلالات، وليس محاولة إضفاء معان أخرى على مجموعة الأحداث التي شهدها عدد من البلدان العربية اعتباراً من نهاية عام 2010  من أجل تلافي المعنى الحقيقي لكلمة "الهزيمة" التي تبدو، مع ذلك، شبه كاملة.
فبقدر ما كانت رؤية "النصر" منجزاً في الثلث الأول من عام 2011 بعيدة عن فهم ما كان يحدث فعلاً على الصعيد المحلي والإقليمي والعالمي، بقدر ما يمكن أيضاً أن يعتور رؤية "الهزيمة" اليوم ضرب من العزوف الإرادي أو اللاإرادي عن رؤية ما يحدث في سياقه التاريخي وما يمكن أن يؤدي ذلك إليه من نتائج لا يتسق معها وصف "الهزيمة" للثورة أو "الانتصار" للاستبداد.
ذلك أن انفجارات الوضع العربي قبل ست سنوات لا تزال جارية بصورة أو بأخرى في كل البلدان التي أضيفت لها صفة الربيع العربي. وإذا كانت الأصوات خافتة في بعضها، فإنها ملعلعة في بعضها الآخر في الوقت نفسه الذي تعمُّ فيه أصوات القصف أرجاء اثنين منها رغم ضروب الهدنة المتواليات. لهذا، ولأن "الهزيمة" لم تنجز في نظر الفاعلين والمنخرطين في هذا الحراك الثوري على اختلاف مواقعهم ومشاربهم، فقد استؤنف طرح أسئلة تتفق في عناوينها الأساس مثلما تشترك في تواني معظم من تصدوا لتمثيل الثورة عن طرحها خلال كل هذه السنوات. أسئلة عنوانها ثلاثي: لماذا وكيف ومتى؟
ترفض هذه الأسئلة في صياغتها مفهوم الهزيمة، لكنها تنطلق من واقع الفشل الماثل أمام الجميع مثلما هو ماثلٌ أيضاً وبالقوة ذاتها أنَّ ما بدأ في بداية عام 2011  لم ينته بعد، وأنه لا يزال قائما، وأنه، اليوم، يواجه بالضرورة عواقب الخلل في مجمل العمل الثوري وكذلك في السلوك والأداء السياسييْن فضلاً عن الآثار المدمرة نتيجة ذلك على امتداد ست سنوات. وبالتالي فهي إذ تنطلق من هذا الواقع المعقد بكل ثقله، لا يمكن لها إلا أن تدعو بفروعها الثلاثة إلى ضرب من نقد ذاتي صارم يتيح أن يُبْنى عليه المسار الآنيُّ والقادم معاً.
فهذا الحراك الشعبي العربي الهائل، الذي حطم جدران الخوف جميعاً ولاسيما في سورية التي استأثر بها نظام مافيوي يتفوق في خبثه وفي شراسته على أعتى ضروب الأنظمة الاستبدادية التي عرفها تاريخ المنطقة العربية من قبل، لم يكن معركة عسكرية تنتهي بانتصار طرف وهزيمة الطرف الآخر، بل ثورة شعوب عانت من الاستبداد طوال أكثر من نصف قرن وقررت جميعها في لحظة تاريحية واحدة أن تتخلص منه. ومن ثمَّ لم يكن من الممكن، رغم كل الأخطاء، أن تهزم ثورة قام بها شعب رفعت ثورته شعارين: الحرية والكرامة. ولا تزال ترفعهما.
هذا هو القول الفصل.  وسيبقى.


** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 5 كانون الثاني.يناير 2017.