jeudi 1 décembre 2016




هل الإسلام علمانيّ؟ 
بدرالدين عرودكي 
مفهوم العلمانية الذي عرفته أوربا واعتمدته دولها في نظمها السياسية في العصر الحديث هو في أبسط وأدق معانيه تاريخياً وعملياً مبدأ الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية في الدولة وحياد هذه الأخيرة إزاء مختلف الأديان والطوائف. بعبارة أخرى، لا يمكن لمؤسسات الدولة إلا أن تكون مدنية خالية من أي طابع ديني. وبالتالي لا يقبل مبدأ العلمانية بهذا المعنى أن يكون للدولة دين ما. هذا يعني أن الدولة "العلمانية" تقف على مسافة واحدة من الأديان كلها في مجتمعها تاركة حرية المعتقد لجميع مواطنيها بلا استثناء. كما يعني أيضاً أن العلمانية تخص المؤسسات لا الأفراد، وأنها نهج في الحكم وصفة نظام سياسي وليست عقيدة يعتنقها الأفراد مثلما يعتنقون ديناً ما، أياً كان هذا الدين. 
لكن مفهوم العلمانية في العالم العربي بات خلال السنوات الأخيرة يُقال على معانٍ كثيرة لم تكن في غالبيتها تمتُّ إلى معناه الأساس بصلة. وكان معظم من حمّله هذه المعاني ينتمون إلى الجماعات الإسلامية على اختلاف مشاربها واتجاهاتها، في حربهم الجارية بضراوة ضد محاولات الديمقراطيين التأكيد على ضرورة السير بوضوح لا لبس فيه في نهج فصل الدين عن السلطة السياسية في الدولة الذي يعنيه مفهوم "العلمانية" نظراً وتطبيقاً. وكانت دعوى هذه الجماعات أن الإسلام لا يقبل في جوهر رسالته هذا الفصل الذي تمّ في العالم المسيحي بين الكنيسة والسلطة السياسية نظراً لأنه كان على الدوام ديناً سياسياً بامتياز لا مجال فيه للتمييز بين أمور الدين وأمور الدنيا.
ولعلّ أخطر المعاني التي روَّجها هؤلاء لكلمة "العلمانية" أنهم جعلوا منها في أقوالهم ومنشوراتهم، جهلاً منهم بدلالاتها الحقيقية أو خبثاً في تحويرها عمداً، عقيدة أو ديناً مقابل الأديان الأخرى. هكذا صار هناك "العلماني" الذي يوضع مقابل المسلم أو المسيحي أو اليهودي. وهو بناء على ذلك لا يعتبر مسلماً ولا مسيحياً ولا يهودياً في الوقت الذي يمكن له أن يتمتع بكونه أحد هؤلاء مع دعوته إلى العلمانية. هو "كافر" في كلِّ حال مادام "دين العلمانية" دينه! الأخطر من ذلك أن الأفراد العاديين باتوا في دعواهم رفض الأديان أياً كانت يتخذون من هذه الكلمة صفة لهم ويقولون عن أنفسهم إنهم علمانيون كي يميزوا أنفسهم عن المسلمين خصوصاً، كما أن المسلمين بدورهم باتوا على قناعة بأن من يقولون عن أنفسهم علمانيين كفرة!
لكن أحداً من الدعاة إلى العلمانية، سواء من اليسار بكافة فروعه أو من الليبراليين، لم يحاجج القائلين بالتعارض بين الإسلام والعلمانية عبر التدليل على أن الطابع العلماني يتواجد في في صلب النظام الإسلامي منذ بداية نواة ما كان يُطلق عليه أول دولة في الإسلام، أو جمهورية المدينة المنورة.  
ليس من السهل البرهنة والحق يقال على أن الإسلام علماني الطابع. لا تتعلق السهولة هنا بمفردات المحاججة في صلب الموضوع بقدر ما تتعلق بمفردات القبول السياسي والاجتماعي لمجرد نقاش موضوع علمانية الإسلام أو الفصل بين سلطة الدين وسلطة السياسة. ولدينا في محاولة علي عبد الرازق وفي طريقة استقبال كتابه "الإسلام وأصول الحكم" الذي يدلل فيه على هذا الفصل، أي على علمانية الإسلام، دليلاً على انتفاء هذه السهولة. لكن ذلك لا يجب أن يحول دون طرح هذه المسألة على بساط البحث مجدداً واستئناف المحاججة التي بدأها علي عبد الرازق قبل حوالي تسعين عاماً مادامت الظروف قد تغيرت وكذلك الضرورات.
لا شك أن مناهضي العلمانية يحتجون بجمع الرسول بين الصفتين الدينية والسياسية. لكنهم يتناسون أو يتجاهلون أن الرسول نفسه ترك عموماً إدارة شؤون الناس الدنيوية إليهم : "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، وأن خلفاء الرسول الذين تمت مبايعتهم، أي القبول بهم، من قبل جمهور المسلمين، لم يزعموا لأنفسهم هاتين الصفتيْن الدينية والسياسية، بعد أن انتهى عهد الوحي بوفاة الرسول، وأنهم، في غياب أي دليل قرآني أو حديث نبوي يخص شؤون الحكم والسياسة من بعد الرسول، حاولوا الاجتهاد شيئاً فشيئاً بعد استقرار الدولة في عهد الخليفة الثاني واتساع أراضيها من أجل وضع قواعد الدولة الجديدة وتنظيم شؤونها بالتدريج، لا استمراراً بالضرورة لما كان جارياً العمل عليه في عهد الرسول وخليفته الأول الذي انصرف اهتمامه إلى توطيد جمهورية الرسول بعد وفاته بل استجابة لمتطلبات الظروف غير المسبوقة التي طرأت نتيجة اتساع رقعة الدولة وتنوع أجناس رعاياها وأديانهم. إذ كانت الاستجابة لتغير الظروف أو الأوضاع الاجتماعية والسياسية خلال فترة الوحي التي دامت خلال ما يقرب من ثلاثة وعشرين عاماً تتمُّ بواسطة الوحي عبر نسخ بعض الآيات وما اقتضته من أحكام ونزول آيات تقتضي أحكاماً أخرى جديدة تحل محلها. لكن نهاية الوحي فرضت على الخلفاء الذين اختارتهم الأمة أن يجتهدوا وأن يستجيبوا حسب قدرات كل منهم إلى حاجات عصرهم.
من الممكن التدليل في القرآن ــ مع الأخذ بعين الاعتبار تسلسل نزول الآيات ــ على وجود بذور الفصل بين شؤون الدين والسياسة بالآيات التي تترك حرية العقيدة الدينية لعامة الناس: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" (سورة القصص)؛ "أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين" (سورة النمل)؛ أو بتلك التي تشير بوضوح إلى مهمة الرسول ودوره: "وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً" (سورة الإسراء)؛ "وما على الرسول إلا البلاغ المبين" (سورة النور)؛ "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً" (سورة الأحزاب). 
كانت شؤون الدنيا هذه إذن في صلب اهتمامات الخليفة الثاني عمر بن الخطاب حين بدأ بوضع مؤسسات هذه الدولة الجديدة التي تمثلت في مجموعة من المؤسسات التي لم يعرفها عهد النبي ولا عهد خليفته الأول مثلما لم ينص القرآن عليها أو يشير الحديث إليها والتي تمثلت في الدوواين ــ مثل ديوان الحسبة وديوان العطاء وديوان الجند وديوان الخزانة وسواها ــ الأشبه بالوزارات في عصرنا. فإذا كانت الضرورة قد أدت ولما يمض على وفاة الرسول بضع سنوات إلى إنشاء مؤسسات واعتماد قواعد جديدة في الحكم وفي نهجه، أفلا يعني ذلك أن الإسلام يقبل هذا الفصل بين أمور الدين والدنيا كما جسدته أفعال أحد أهم صحابة الرسول منذ بداية الرسالة؟ وكيف لا يمكن بعد نيف وأربعة عشر قرناً من التقويم الهجري قبول هذا الفصل الذي تم في الواقع العملي في بداية القرن الأول منه؟
هل الإسلام علماني؟
سعى معظم الفقهاء حثيثاً طوال العصور الغابرة على إغفال هذا الجانب الهام في ثقافة الإسلام الأول والسنن التي شرع بها، فأسهموا بذلك في إنشاء مفهوم إسلام لا يقبل الفصل بين العقيدة التي تخصُّ الأفراد حصراً والسياسة التي تهم الفرد والجماعة بما هم بشر. ولم تكن محاولة علي عبد الرازق ــ شأنها شأن محاولة طه حسين في كتابه "في الشعر الجاهلي" إلا فاتحة جهد لم يتح لأحد من بعده أن يتابعه ولا أن يستأنفه من جديد بسبب التنكيل الذي ناله جراء محاولته. لكن استعادة جهده تبدو اليوم أكثر إلحاحاً وأشدَّ ضرورة من أي وقت مضى.
ذلك أن الإسلام العلماني يستحق أن يستعاد في أبهى حلله وأكثرها إحساساً بتغير الأزمان الذي يقتضي بالضرورة تغير الأحكام. 


** نشر هذا المقال على موقع جيرون، الخميس 1 كانون الأول 2016



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire