mardi 13 décembre 2016



صادق العظم: تقنية الرأي الشجاع 
بدرالدين عرودكي 


منذ محاضرته الأولى عن "مأساة إبليس" التي قدمها أمام جمهور عربي بدمشق عام 1963، قبل أن ينشرها مفصلة في كتابه "نقد الفكر الديني" رسم صادق جلال العظم مسار طريقه بوضوح لا لبس فيه: موضوعاً ومنهجاً وتقنية وسيسير عليه طوال نيف وخمسين عاماً دون أن يحيد عنه قيد أنملة.
لم يكن منتظراً أن يعود شابٌّ من الولايات المتحدة أو من أي بلد غربي بعد حصوله على درجة دكتوراه في الفلسفة نالها بناء على رسالة قدمها حول الفلسفة الفرنسية المعاصرة من خلال فلسفة الأخلاق لدى الفيلسوف هنري برغسون أن يبدأ مساره كاتباً ومفكراً بتناول موضوعات لا تمتُّ بصلة إلى هذه الفلسفة خصوصاً ولا إلى الفلسفة الغربية عموماً، ولم يسبق لها كذلك أن طُرِحَت على بساط البحث انطلاقاً من نظرة خارجة عن المألوف أو عما يمكن تسميته بالتقاليد التي هيمنت على مقاربة الموضوعات الدينية خصوصاً والسياسية عموماً في بلدان سبق لها أن أوشكت على سجن طه حسين لمجرد أنه شكك في انتماء الشعر الجاهلي إلى عصر الجاهلية، إي إلى عصر ما قبل الإسلام، ونزعت صفة العالم عن الشيخ علي عبد الرازق، العالم الأزهري، الذي حاول الاجتهاد من خلال كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في موضوع  ديني/سياسي لا سلطة للخوض فيه إلا لما تقرره السلطة السياسية عبر المؤسسات الدينية الخاضعة لها.
كانت دراسة طه حسين في الأزهر ثم في الجامعة المصرية خصوصاً دون الحديث عن دراسته في الجامعة الفرنسية تتيح له بلا عناء شديد الحديث في موضوعات لا يمكن لأحد أن يماري في قدرته وأهليته الفكرية لمقاربتها؛ وكانت مثلها دراسة الشيخ علي عبد الرازق الأزهرية التي سمحت له الخوض في موضوع خلافي أساساً عبر مقاربة موضوعات كانت تؤلف قوام المواد الدراسية لطلاب الأزهر. على أن ما لم يكن مسموحاً به كما تبين آنذاك من ردود الفعل الرسمية من قبل المؤسسات الدينية والسياسية والناطقين باسمها بوجه خاص كان الخروج على تقاليد البحث أو ما يمكن أن نطلق عليه "المحرّمات"، وكان مثل هذا الخروج يعتبر تحدياً تضفي عليه المؤسسة الدينية ومسؤوليها صفة خطيرة يمكن أن تصل إلى حدِّ الاتهام بالكفر وتستنجد في سبيل إقرارها بالسلطة السياسية لقمع من يقوم به بصورة أو بأخرى. كان ذلك يضع حداً لأي نقاش أو سجال. ومن هنا كُتِمَ أهمُّ صوتين عرفتهما بداية الربع الثاني من القرن الماضي ولم يجرؤ بعدهما أحد على السير على هديهما أو أن يستأنف مجدداً العمل في إطار مشروعهما.  
فأن يختار صادق العظم بناء على ذلك في أول لقاء له بالجمهور في بلاده ثيمة قرآنية وموضوعاً إسلامياً بامتياز لم يكن يبدو أنه كان مهيّأً لمقاربته خلال مساره الدراسي والعلمي كان والحق يقال يعبِّر عن جرأة سرعان ما استحالت بسبب تكوينه العلمي بالذات والطريقة والتقنية اللتين اتبعهما في كتاباته  شجاعة سوف تسم مقارباته التالية كلها أياً كانت ثيمتها أو ميادينها.
ذلك أن قوام مشروع صادق العظم الذي سيتكشف بالتدريج عبر دراساته المتوالية منذ تلك المحاضرة يتجلى في نقد نسق متكامل من العادات الفكرية والطرق السائدة في التفكير الغيبي وغياب المنهجية والعقلانية في المقاربات سواء في تلك التي تنظر في النصوص القديمة أو تلك التي تحاول فهمها ثم تعمل على تأويلها أو خصوصاً في ضروب تطويعها على أيدي مختلف السلطات السياسية على صعيد الممارسات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. بهذا المعنى، لم تكن الثيمات التي اختارها من مختلف ميادين التفكير الديني أو السياسي أو الأدبي ثيمات من أجل بناء فكري جديد ومتماسك يماثل مشروع طه حسين في نقده الجذري للشعر الجاهلي أو علي عبد الرازق في إعادة قراءته للتاريخ السياسي للإسلام عبر منظومة مفهوم الدولة فيه، وهما المشروعان اللذان أُجْهِضا ما إن نَشِرا على الملأ، بقدر ما كانت تستهدف في مقاربتها تحريك المياه الآسنة من خلال الخوض في عدد المحرمات الأساس في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية، وفي مقدمتها المحرمات الدينية والسياسية.
وإذا لم يكن هذا الاختيار لميدان نشاطه الفكري يتطلب استعداداً علمياً شاملاً، دينياً أو سياسياً، يشرعن خياراته أو يمنحها على الأقل قاعدة صلبة تستند إليها مقارباته، فإن ما كان ما يحتاج إليه بالدرجة الأولى تقنية شديدة الدقة قوامها الأساس المنهج العقلاني، منهج كان في دراسته للفلسفة قد امتلك ناصيته بحيث بات جزءاً من سلوكه اليومي.
تجلت تفاصيل هذه التقنية في كتابات صادق العظم على اختلافها، بدءاً من مقالات "نقد الفكر الديني" وانتهاءً بمقالاته التي تضمنها كتاباه "ذهنية التحريم" و "ما بعد ذهنية التحريم، وطريقة قبوله مختلف ضروب النقد الذي وجه إليها وطريقة ردوده عليه وحرصه على نشرها كاملة ضمن كتبه المذكورة. يتجلى أهمُّ عناصرها في دراسة عميقة وشاملة للثيمة المعالجة لا تترك أية ثغرة في مراجعها والوثائق المتعلقة بها فضلاً عن كل ما كتب عنها قديماً أو حديثاً وفي مختلف المجالات،  وكذلك في تفاصيل معالجتها التي ستؤلف موضوع النقد.
لم يُنقد صادق العظم فيما كتبه من دراسات في كتابه "نقد الفكر الديني" ولاسيما حول "مأساة إبليس" أو "معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان" على ما بينهما من اختلاف في طبيعة الموضوع ومصادر كل منهما، لنقص في معارفه. كان معظم النقد موجهاً إلى تجاوزه الحدود المرسومة التي اخترقتها دراساته، وهي حدود كان تجاوزها هو الهدف الأساس في معظم ما كتبه في مجال نقد الفكر الديني أو الفكر السياسي أو الاجتماعي. ولذلك كان يرى خلافاً للغالبية العظمى من الكتاب أمثاله أن عليه أن يلاحق كل ردود الأفعال على ما يكتبه وأن يرد على ما يوجه إليه من نقد بالتفصيل، ثم أن يقوم بنشر نصوص النقد كلها وردوده عليه مع النص الأساس بحيث تتاح للقارئ فرصة النظر والمقارنة واستخلاص النتيجة التي تؤدي إليها مجمل هذه السجالات من حول الدراسة الأساس. 
هكذا كان لا بد لهذه الجرأة كي تستحيل شجاعة من استخدام هذه التقنية في مقاربة موضوعات كانت تودي بكل من يقاربها خارج الحدود إلى التهلكة. ولقد تجلى ذلك أيضاً وعلى نحو أكثر وضوحاً في معالجته لقضية سلمان رشدي وروايته "الآيات الشيطانية" التي كانت سبباً في "حكم عابر للقارات" كما وصفه العظم أصدره الخميني على الروائي بقتله مقابل جائزة مالية سخية. لم يكن من السهل في ذلك الحين أن يتبنى مثقف عربي موقفاً كذلك الذي تبناه صادق العظم في بلده سورية مدافعاً عن حرية الكاتب في الكتابة وفي التفكير في إطار ما سماه "ذهنية التحريم وعقلية التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع". هنا أيضاً نشر صادق العظم ثلاثة وعشرين مقالاً أو دراسة نقدية لدراسته حول سلمان رشدي قام بالرد عليها بطريقة تثير الإعجاب في هدوئها وفي منهجها في تفنيد الأفكار أو الطريقة دون المساس بشخص الكاتب أو الناقد.  
فتحت هذه الطريقة، منهجاً وتقنية، المجال واسعاً لجيل كامل من الباحثين الشباب كي  يطرقوا أبواباً في البحث لم تكن من قبل مطروقة أو لم يكن مسموحاً طرقها ولاسيما في المسائل الدينية. والحق أن الثورة النقدية التي أطلقها صادق العظم وحركت كل ضروب المياه الآسنة في الفكر أو في المعتقدات الدينية أو السياسية كانت نموذجاً لما أطلقته الثورة السورية الأخيرة حين كسر شبابها حواجز الخوف والمحرمات في ميادين الفكر الديني والسياسي والاجتماعي.
لم يكن غريباً والحالة هذه أن يسير صادق جلال العظم في ركاب الثورة منذ لحظتها الأولى. فقد بدت وكأنها جاءت لتدفع بمنهجه النقدي الصارم إلى حدوده القصوى: تحطيم الأصنام الحديثة وتحويل المياه الساكنة إلى أنهار.

** نشر على موقع ضفة ثالثة يوم الثلاثاء 13 كانون الأول/ديسمبر 2016.



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire