"سالو" بازوليني 1975
وهو يستقرئ فاشية اليوم
في
دمشق، وبمناسبة أسبوع نظمته المؤسسة العامة للسينما والنادي السينمائي بدمشق
لأفلامه في سينما الكندي، لم يكن بيير باولو بازوليني يشي بما كان يعتمل في رأسه
حين كان يزورها عام 1971 مع واحد من
ممثليه المفضلين، نينيتو دافولي، حاملاً معه الترجمة الإيطالية لألف ليلة وليلة
التي كان يكتب وهو يستوحيها الجزء الأخير من رائعته: "ثلاثية الحياة:
ديكاميرون، حكايا كانتربري، ألف ليلة وليلة". لكن همّه كان في مكان آخر، كما
لو أنه وقد استنفذ كل ما يمكن أن يقوله في الحياة، كان مسكوناً بما كان يدمر هذه
الحياة ويحيلها عذاباً جهنمياً: الفاشية. عاشها في مطلع شبابه في الحقبة
الموسولونية فراودته فكرة/إشراقة، ثم طفق يراها في ذروة نضوجه تهدد في بلاده بالعودة
من جديد مع بداية سبعينيات القرن الماضي. فانبثقت الفكرة من جديد: رواية المركيز
دوساد "120 يوماً من سدوم" وقد عادت دلالاتها تتراءى له ثانية وراء بهجة
الحياة التي كان يستعيد معانيها ومشاهدها في ختام ثلاثيته: ألف ليلة وليلة الذي
أراد تصويره في ما كان يسَمّى في الأساطير اليمن السعيد.
ومع
ما كان يمور في أعماقه، اشترى يومها، بينما كان يتجول في أسواق دمشق القديمة، زوج
قبقاب خشبي مرصع بالصدف، لا يتجاوز طوله ثلاث سانتيمترات أو أقلّ. كان وهو يفتح
العلبة كي يجعلني أراه يتساءل معجباً
بدهشة طفل: ألا ترى أنه قصيدة حياة؟ سيكون هدية لأمي!
كان
يرى التحفة الفنية الدمشقية المُنمْنَمَة بعيني شاعر. كانت قصيدة فعلاً. نابضة
بالحياة. وكالقصيدة، لم أستطع العثور على مثيل لها من بعد. أما هو فقد حازها
وحملها إلى أمه هدية دمشقية، بعد أن طاف من بعد حلب في أرجاء تدمر وفي معظم حارات
دمشق..
في
باريس، بعد سنوات، وخلال لقاء سريع ذات يوم من أواخر تشرين الأول عام 1975 جرى صدفة،
استعاد اللحن الذي عزفه يومئذ أمامه بدمشق، في بيت صلحي الوادي، عازف بيانو
سوري كان يومئذ، لا يزال في بداياته، غزوان
زركلي، وسألني: ألم يكن ما عزفه الشاب أداجيو ألبينوني؟ كان وهو يسألني بفرنسية
مشبعة بلكنة إيطالية، كأنه يقول قصيدة تنبض حياة، ولا تشي بما كان في طريقه إلى أن
يفاجئ به العالم من رعب بصري..
علمتُ
منه يومها أنه يشرف بباريس على النسخة الفرنسية من فيلمه الذي سيكون، على غير
إرادة منه، الأخير، أو لو شئنا، فيلمه
الوصية، "سالو". إذ بعد أيام من ذلك، ستضج وسائل الإعلام في العالم بخبر
العثور عليه مقتولاً على شاطئ روما القديمة، شاطئ أوستي.
حينما
استطعت بعد جهد جهيد أن أدخل سينما الباغود كي أرى عرض الفيلم في أوائل عام 1976،
لم أتمكن من متابعته. لأول مرة أغادر السينما عند أقل من منتصف وقت العرض، مرتعداً
لمجرد فكرة إتمام رؤية الفيلم. كان العنف "المستحيل" ــ كما بدا لي آنئذ
ــ على غرار استحالة الفيلم البليغة، يُقال مُجَسَّداً على الشاشة.
مضت
أربعون سنة على ذلك قبل أن أجلس لأرى الفيلم مجدداً. وجدتني فجأة وقد اكتسب وعيي
وعينايَ على مدى الأعوام السورية الستة الأخيرة مناعة استثنائية. مناعة رسختها
بعنفِ واقعيتها وتكرارها قصصُ ضروب تعذيب المعتقلين السياسيين التي جرت ولا تزال
تجري الآن في سجون سورية مروية على لسان الأحياء الناجين منهم، ثم الأفلام ذات
الطابع الهوليودي تبثها فضائيات العالم ولاسيما العربية منها والتي كان تنظيم الدولة (داعش) يبثها، تعرضُ مشاهد
تنفيذ أحكام الإعدام قتلاً بالرصاص، أو قطعاً للرؤوس، أو رمياً لجثث هؤلاء وأولئك
في حفرة لا يُرى قرارها. إذ لابد من أجل امتلاك القدرة على رؤية هذا الفيلم من
اكتساب مثل هذه المناعة عبر "اعتياد العنف" بصرياً. قالت المخرجة
السينمائية كاترين بريا: "الفيلم مفرط العنف. وهو أفضل الأفلام في العالم.
لسنا بالضرورة قادرين على رؤيته. ولا يجب تجريم الفيلم بسبب ذلك بل يجب أن نفهم
أننا ضمن مسار حياتنا لسنا قادرين على رؤية مثيله. يجب أن نراه ذات لحظة، عندما
نكون أقوياء". لم تكن القوة فيما يخصني هي ما جعلني أراه بل المناعة المكتسبة
أخيراً.
لم
يكن الفيلم وهو يستعيد صورة القصر في الرواية السادية عبر القصر الفاشي على ساحل
البحر، ويجعل من حلقاته الثلاث (حلقة الهوس، حلقة الغائط، حلقة الدم) إيقاعَه، مجردَ "إعادة إنتاج سلسلة من
الأفكار، بل كان سلسلة من الأفكار تقطعها إشراقة ما، كما كان الأمر بالنسبة إلى المركيز
دوساد. يقول بازوليني: "هذه الفكرة/الإشراقة تجلت لي عند اللحظة التي قررتُ
فيها نقل "120 يوم من سدوم" عام 1944، عندما كنتُ أرى مشاهد الرقص
الفاشية". "سلسلة من الأفكار" تستحيل فيلما ينجزه بازوليني ويدفع
حياته ثمناً له، فيلماً يكاد يكون استباقياً بالنسبة إلى سورية التي زارها وعرفها
عن كثب مرة أولى في أواخر ستينيات القرن الماضي حين صوّرَ عدداً من مشاهد فيلمه "ميديا"
مع ماريا كالاس في مدينة حلب عام 1968 ومرة ثانية في عام 1971 .
ليس
الجنس في مشاهد الفيلم كلها إلا صورة بلاغية تقول العلاقة بين السلطة والخضوع. وما
يقدمه الفيلم من أجل تجسيد هذه العلاقة يتمثل من خلال مشاهده كلها في استخدام
الجسد البشري والتعامل معه بوصفه شيئاً. ذلك يعني لا إلغاء شخصية صاحب الجسد فحسب،
بل وجوده ككائن حيٍّ . هكذا يمكن التلاعب به بكل ما يمكن أن يتفجر عن الخيال
الفاشي من طرق. ولا يسعُ من عاش ما جرى ويجري في سورية على أيدي الفاشيين الجدد،
ملثمين أمام الكاميرا أو غير مرئيين خلف جدران السجون، في مجال استخدام أجساد
ضحاياهم وطرق تشييئها، إلا أن يرى في مشاهد "سالو" بازوليني إرهاصاً
بصرياً مرعباً بما ستكون عليه ضروب العنف اللاحقة في بلد لم يكن يرى فيه بعد أن
عرفه إلا الحياة في أبهى تجلياتها.
رأى
بازوليني الفاشية في بلده عبر تلاعب السلطة بالجسد، تلاعبٌ بلغت به درجة من
الفظاعة لا تملك معه ما تحسد عليه ذلك الذي مارسه هملر في ألمانيا النازية.
كما
لو أنه وهو يصور هذه الفظاعة في بداية سبعينيات القرن الماضي لا يقول فاشية تجد
طريقها إلى بلده فحسب بل يستقرئ أيضاً ما كان يمكن أن يراه بعينيه واقعاً في سورية؛
الواقع الذي لا يمكن أن يحسد في فظاعته ما انطوى عليه فيلمه من رعب.
** نشر هذا المقال على موقع ضفة ثالثة، يوم الإثنين 24 تشرين أول 2016
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire