jeudi 27 octobre 2016



في "عجز" اللغة العربية اليوم  
بدرالدين عرودكي  

لم تكن الكاتبة الفرنكوفونية ذات الأصل العربي التي كتبت أول رواية لها بالفرنسية ودعيت للحديث عنها تعرف اللغة العربية. لم تقل ذلك حين أجابت من سألها من الجمهور عن سبب "اختيارها" اللغة الفرنسية كي تكتب بها وقالت إنَّ "اختيارها" هذا كان واعياً لأنها لا تعتقد  كما قالت بالفرنسية "أن اللغة العربية قادرة على التعبير عن الهواجس والأحاسيس الحميمة وخفقات القلب الدقيقة التي أتاحتها لها اللغة الفرنسية"! أما أستاذ الفلسفة الجامعي الذي كتب ونشر الكتب والمقالات بالعربية وترجم إليها فقد قرر ذات يوم أن يكتب مقالاته بالفرنسية خياراً واعياً، لا خيانة للغته الأم التي "يتقنها جيداً" كما قال، بل لأن هذه اللغة هي التي تقوم بالخيانة في عصر يحتاج إلى دقة التعبير ووضوح الأفكار. ويخلص في النهاية إلى أن لا يرى في اللغة العربية  سوى مجرد بقايا أطلال لغة بالية آخذة في التلاشي"!
ولأن الكاتبة الفرنكوفونية لا تعرف من اللغة العربية إلا بقايا ما حفظته من كلمات تسمح لها بتبادل أطراف الحديث مع أبويها في حياتها اليومية، فلابد لنقدها لها من أن يدخل على وجه اليقين في باب من يهرف بما لا يعرف. ومما يخفف من وقع الأمر أن تلك الكاتبة كانت تتحدث يومها على مسمع جمهور كانت  تدرك أنه معجب بجمالها وجرأة سردها لأحاسيس بطلة روايتها الحميمة وأنه لن يحتاج إلى مناقشتها فيما تزعمه ولا حتى إلى التدقيق بسلامة ما تقول.
ليس خيار الأستاذ الجامعي والكاتب والمترجم هو ما يطرح المشكلة هنا بل تبرير هذا الخيار: الكتابة بالفرنسية رغم أنه "يجيد العربية" كما يقول، مشكلة صلاحية اللغة العربية اليوم لتكون لغة عصرية بالمعنى الحقيقي للكلمة: أي قدرتها بمفرداتها وتعابيرها على استيعاب مكتسبات الحضارة الحديثة سواء في مجال التقنية أو في مجالات العلوم الاجتماعية أو العلوم الإنسانية أو الآداب.  والواقع أنه لا يمكن لطرحه هذا إلا أن يثير العديد من التساؤلات. أولها وجوهرها هذا الحكم المطلق بعجز اللغة العربية عن الاستجابة إلى "متطلبات" العصر الحاضر من دقة التعبير ووضوح الأفكار!
تتردد مثل هذه "الاعتراضات"ضدَّ اللغة العربية على لسان عدد لا يستهان به من العاملين في حقول الثقافة على اختلافها ولاسيما منهم من أتيح له أن يمتلك نسبياً  ناصية لغة غربية أخرى، كالفرنسية أو الإنجليزية، ليبرر عزوفه عن اللغة العربية. إذ سرعان ما يتضح أن هؤلاء جميعاً لم يعرفوا من اللغة العربية إلا ما تلقوه في المدارس العربية الرسمية المعاصرة من فتات لا يسهم حتى في امتلاك القدرة على كتابة جملة مفيدة بلا أخطاء نحوية أو إملائية. وكان يمكن لهذه الحجج الواهية أن تذهب أدراج الرياح لولا أن من يصرخون بها  يزدادون عدداً كل يوم في غياب كامل لأية إرادة سياسية جامعة في هذا المجال تسمح بتفعيل جادٍّ لمجمعي اللغة العربية في القاهرة أو في دمشق والزج بهما في ساحة هذه المعركة التي توشك بالفعل أن تؤتي ثمارها الخطيرة على المدى البعيد وتقضي بالفعل على لغة صارعت الزمان وواجهت ضروب الاحتلال من الشرق ومن الغرب على مر القرون مثلما واجهت محاولات الإلغاء والمحو لصالح لغة المستعمر عندما رزحت البلدان العربية مشرقاً ومغرباً تحت سلطة مختلف الدول الغربية بعد هيمنة الإمبراطورية العثمانية  قرابة أربعة قرون متواصلة.
لاشك أن حرية الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم حق طبيعي لا يمكن لأحد أن يماري فيه. لكن ذلك سيعني هجرة إلى ثقافة أخرى تؤدي إلى الانتماء إليها. حين كتب جاك بيرك كتابه "كلام العرب حاضراً" عام 1975، والذي حلل فيه مجموعة هامة من المبدعات العربية في مختلف مجالات الآداب والعلوم الإنسانية، لم يكن واحداً منها مكتوباً بغير اللغة العربية. أخذ عليه بعض المعنيين غياب أعمال هامة كتبها عرب عن العالم العربي ولكن باللغة الفرنسية، وساقوا بالطبع أسماء كبيرة هامة . لكن ردّه على ذلك تجلى في ضرب الأمثلة من الثقافة العربية نفسها التي ذاب في فضائها عدد كبير من المبدعين غير العرب وصاروا جزءاً منها بحيث باتت أعمالهم تنتمي إليها. كذلك هو حال الأعمال والمبدعات التي يكتبها العرب باللغة الفرنسية حتى وإن كان موضوعها عربياً. لا لأن اللغة تشرط التفكير وتفرض المنهج فحسب بل لأن تفاعل الكاتب لا يمكن أن يتم إلا مع الناطقين بهذه اللغة سلباً أو إيجاباً.
لا يمكن على كل حال لمن يأخذ على اللغة العربية "عجزها" عن قول "الأحاسيس والهواجس الحميمة" أن يصدر إلا عن جهل فاضح بغنى هذه اللغة غير المحدود وبقدرة من أبدعوا فيها من شعراء وكتاب على الكشف عن ثرائها. فمن يبحث عن هذه القدرة غير المحدودة في التعبير عن أدق مشاعر الخوف والحب والقلق والرعب والانتظار وما يرافق ذلك من اضطرابات نفسية وعاطفية، ليقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، بائية الشاعر الأموي ذو الرمة (696 ـ 735م): "مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ/ كَأَنَّهُ مِنَ كُلى ً مَفْرِيَّة ٍ سَرِبُ"،  أو لينظر في إنجاز اثنين من كبار الكتاب العرب المعاصرين: نجيب محفوظ وزكريا تامر على صعيد تطويع اللغة العربية في الفن الروائي والقصصي، كلٌّ حسب طريقته لتحقيق مبتغاه الفني. استطاع نجيب محفوظ في رواياته كلها أن يتلافى اللجوء إلى اللغة العامية في حوارات أبطالها أياً كان مستواهم الثقافي؛ وتمكن زكريا تامر من ابتكار لغة قصصية تنبئ عن خيال مجنح مسلح ببصيرة حادّة ينقلك بها من عوالم الحب والحنان في الحارات الشعبية إلى عوالم الكابوس والرعب في المدن وتحت سلطة القهر والاستبداد في لحظات قصصية تستوعب الأزمنة الثلاث معاً دون اللجوء إلى أية كلمة عامية يلجأ إليها من يريدون "شرعنة" العامية أو "تثوير اللغة"!
من ناحية أخرى، يعلم كل من درس تاريخ اللغة العربية أنها اجتازت في تاريخها منعطفاً شديد الأهمية خلال فترة استمرت قرنين ونصف القرن، بدءاً من منتصف القرن الثامن وحتى نهاية القرن العاشر، ازدهرت خلالها حركة الترجمة عن الفارسية واليونانية والسريانية وشهدت ترجمة أمهات كتب الفلسفة اليونانية خصوصاً. من المؤكد أن الذين قاموا بالترجمة عانوا في تطويع لغة كان مطلقها بقدر غناها، أي بلا حدود، وكذلك في السير بها نحو النسبية التي تسِمُ لغة العلوم والفلسفة. ومن حسن الحظ أن كاتباً كابن المقفع ــ وهو أيضاً من كبار مترجمي العصر العباسي ــ لم يشكُ عجز اللغة العربية عن الاستجابة للدقة والوضوح اللذين كان عصره، هو الآخر، أيضاً يتطلبهما! ذلك أن هذا العصر نفسه شهد أيضاً إلى جانب الترجمة إنجازات جبارة تجلت لا في مجال علوم اللغة العربية وفقهها فحسب (من سيبويه إلى إبن جني) بل كذلك في مبدعات النثر العربي التي كان في مقدمتها تلك التي كتبها الجاحظ.
ذلك يعني في الحاليْن أن عمل الكاتب الأساس ، أكان شاعراً أو روائياً أو فيلسوفاً أو ناقداً أو عالماً، هو اللغة. ومن المؤسف أن هذه البداهة تغيب اليوم عن وعي الغالبية العظمى ممن يمتهنون حرفة الكتابة أو لنقل هوايتها. وهو غياب ربما يفسر أيضاً غياب القراء الذين عرفتهم منطقتنا العربية على امتداد سنوات القرن الماضي.
سيُقال إن العصر تغير في هذا المجال بفعل وسائل الاتصال الحديثة والشبكات العنكبوتية. لا شك في ذلك. وهو تغير لا يمكن إلا أن يمسّ بالضرورة مسألة اللغة،  وفي العمق. وهو ما يتطلب بالضرورة حديثاً آخر.


** نشر هذا المقال على موقع جيرون، يوم الخميس 27  تشرين أول 2016.



lundi 24 octobre 2016




"سالو" بازوليني 1975
 وهو يستقرئ فاشية اليوم 
بدرالدين عرودكي 



في دمشق، وبمناسبة أسبوع نظمته المؤسسة العامة للسينما والنادي السينمائي بدمشق لأفلامه في سينما الكندي، لم يكن بيير باولو بازوليني يشي بما كان يعتمل في رأسه حين كان يزورها  عام 1971 مع واحد من ممثليه المفضلين، نينيتو دافولي، حاملاً معه الترجمة الإيطالية لألف ليلة وليلة التي كان يكتب وهو يستوحيها الجزء الأخير من رائعته: "ثلاثية الحياة: ديكاميرون، حكايا كانتربري، ألف ليلة وليلة". لكن همّه كان في مكان آخر، كما لو أنه وقد استنفذ كل ما يمكن أن يقوله في الحياة، كان مسكوناً بما كان يدمر هذه الحياة ويحيلها عذاباً جهنمياً: الفاشية. عاشها في مطلع شبابه في الحقبة الموسولونية فراودته فكرة/إشراقة، ثم طفق يراها في ذروة نضوجه تهدد في بلاده بالعودة من جديد مع بداية سبعينيات القرن الماضي. فانبثقت الفكرة من جديد: رواية المركيز دوساد "120 يوماً من سدوم" وقد عادت دلالاتها تتراءى له ثانية وراء بهجة الحياة التي كان يستعيد معانيها ومشاهدها في ختام ثلاثيته: ألف ليلة وليلة الذي أراد تصويره في ما كان يسَمّى في الأساطير اليمن السعيد.
ومع ما كان يمور في أعماقه، اشترى يومها، بينما كان يتجول في أسواق دمشق القديمة، زوج قبقاب خشبي مرصع بالصدف، لا يتجاوز طوله ثلاث سانتيمترات أو أقلّ. كان وهو يفتح العلبة كي يجعلني أراه  يتساءل معجباً بدهشة طفل: ألا ترى أنه قصيدة حياة؟ سيكون هدية لأمي!
كان يرى التحفة الفنية الدمشقية المُنمْنَمَة بعيني شاعر. كانت قصيدة فعلاً. نابضة بالحياة. وكالقصيدة، لم أستطع العثور على مثيل لها من بعد. أما هو فقد حازها وحملها إلى أمه هدية دمشقية، بعد أن طاف من بعد حلب في أرجاء تدمر وفي معظم حارات دمشق..
في باريس، بعد سنوات، وخلال لقاء سريع ذات يوم من أواخر تشرين الأول عام 1975 جرى صدفة، استعاد اللحن الذي عزفه يومئذ أمامه بدمشق، في بيت صلحي الوادي، عازف بيانو سوري  كان يومئذ، لا يزال في بداياته، غزوان زركلي، وسألني: ألم يكن ما عزفه الشاب أداجيو ألبينوني؟ كان وهو يسألني بفرنسية مشبعة بلكنة إيطالية، كأنه يقول قصيدة تنبض حياة، ولا تشي بما كان في طريقه إلى أن يفاجئ به العالم من رعب بصري..
علمتُ منه يومها أنه يشرف بباريس على النسخة الفرنسية من فيلمه الذي سيكون، على غير إرادة منه،  الأخير، أو لو شئنا، فيلمه الوصية، "سالو". إذ بعد أيام من ذلك، ستضج وسائل الإعلام في العالم بخبر العثور عليه مقتولاً على شاطئ روما القديمة، شاطئ أوستي.
حينما استطعت بعد جهد جهيد أن أدخل سينما الباغود كي أرى عرض الفيلم في أوائل عام 1976، لم أتمكن من متابعته. لأول مرة أغادر السينما عند أقل من منتصف وقت العرض، مرتعداً لمجرد فكرة إتمام رؤية الفيلم. كان العنف "المستحيل" ــ كما بدا لي آنئذ ــ على غرار استحالة الفيلم البليغة، يُقال مُجَسَّداً على الشاشة.
مضت أربعون سنة على ذلك قبل أن أجلس لأرى الفيلم مجدداً. وجدتني فجأة وقد اكتسب وعيي وعينايَ على مدى الأعوام السورية الستة الأخيرة مناعة استثنائية. مناعة رسختها بعنفِ واقعيتها وتكرارها قصصُ ضروب تعذيب المعتقلين السياسيين التي جرت ولا تزال تجري الآن في سجون سورية مروية على لسان الأحياء الناجين منهم، ثم الأفلام ذات الطابع الهوليودي تبثها فضائيات العالم ولاسيما العربية منها والتي  كان تنظيم الدولة (داعش) يبثها، تعرضُ مشاهد تنفيذ أحكام الإعدام قتلاً بالرصاص، أو قطعاً للرؤوس، أو رمياً لجثث هؤلاء وأولئك في حفرة لا يُرى قرارها. إذ لابد من أجل امتلاك القدرة على رؤية هذا الفيلم من اكتساب مثل هذه المناعة عبر "اعتياد العنف" بصرياً. قالت المخرجة السينمائية كاترين بريا: "الفيلم مفرط العنف. وهو أفضل الأفلام في العالم. لسنا بالضرورة قادرين على رؤيته. ولا يجب تجريم الفيلم بسبب ذلك بل يجب أن نفهم أننا ضمن مسار حياتنا لسنا قادرين على رؤية مثيله. يجب أن نراه ذات لحظة، عندما نكون أقوياء". لم تكن القوة فيما يخصني هي ما جعلني أراه بل المناعة المكتسبة أخيراً.
لم يكن الفيلم وهو يستعيد صورة القصر في الرواية السادية عبر القصر الفاشي على ساحل البحر، ويجعل من حلقاته الثلاث (حلقة الهوس، حلقة الغائط، حلقة الدم)  إيقاعَه، مجردَ "إعادة إنتاج سلسلة من الأفكار، بل كان سلسلة من الأفكار تقطعها إشراقة ما، كما كان الأمر بالنسبة إلى المركيز دوساد. يقول بازوليني: "هذه الفكرة/الإشراقة تجلت لي عند اللحظة التي قررتُ فيها نقل "120 يوم من سدوم" عام 1944، عندما كنتُ أرى مشاهد الرقص الفاشية". "سلسلة من الأفكار" تستحيل فيلما ينجزه بازوليني ويدفع حياته ثمناً له، فيلماً يكاد يكون استباقياً بالنسبة إلى سورية التي زارها وعرفها عن كثب مرة أولى في أواخر ستينيات القرن الماضي حين صوّرَ عدداً من مشاهد فيلمه "ميديا" مع ماريا كالاس في مدينة حلب عام 1968 ومرة ثانية في عام 1971 .
ليس الجنس في مشاهد الفيلم كلها إلا صورة بلاغية تقول العلاقة بين السلطة والخضوع. وما يقدمه الفيلم من أجل تجسيد هذه العلاقة يتمثل من خلال مشاهده كلها في استخدام الجسد البشري والتعامل معه بوصفه شيئاً. ذلك يعني لا إلغاء شخصية صاحب الجسد فحسب، بل وجوده ككائن حيٍّ . هكذا يمكن التلاعب به بكل ما يمكن أن يتفجر عن الخيال الفاشي من طرق. ولا يسعُ من عاش ما جرى ويجري في سورية على أيدي الفاشيين الجدد، ملثمين أمام الكاميرا أو غير مرئيين خلف جدران السجون، في مجال استخدام أجساد ضحاياهم وطرق تشييئها، إلا أن يرى في مشاهد "سالو" بازوليني إرهاصاً بصرياً مرعباً بما ستكون عليه ضروب العنف اللاحقة في بلد لم يكن يرى فيه بعد أن عرفه إلا الحياة في أبهى تجلياتها.
رأى بازوليني الفاشية في بلده عبر تلاعب السلطة بالجسد، تلاعبٌ بلغت به درجة من الفظاعة لا تملك معه ما تحسد عليه ذلك الذي مارسه هملر في ألمانيا النازية.
كما لو أنه وهو يصور هذه الفظاعة في بداية سبعينيات القرن الماضي لا يقول فاشية تجد طريقها إلى بلده فحسب بل يستقرئ أيضاً ما كان يمكن أن يراه بعينيه واقعاً في سورية؛ الواقع الذي لا يمكن أن يحسد في فظاعته ما انطوى عليه فيلمه من رعب. 


** نشر هذا المقال على موقع ضفة ثالثة، يوم الإثنين 24 تشرين أول 2016


jeudi 20 octobre 2016



في مواجهة ثورة الشباب العربي 
بدرالدين عرودكي 
حين غادر بن علي تونس، وأعلن حسني مبارك تنازله عن منصبه رئيساً للجمهورية، واعتقل الثوار الليبيون القذافي الذي اختبأ في مجاري مياهها وانتهى مقتولاً، لم يلتفت الكثير منا آنئذ إلى تفصيل "بسيط": هل كانت الأنظمة التي خرجت الجماهير تطالب بسقوطها هي التي كانت تنهار أم أن ما كان يجري لم يكن يتجاوز مجرد إزاحة رموزها التي عفا عليها الزمن؟ وهذا الربيع العربي الذي جاء بعد طول انتظار، هل جاء في موعده أم أن الفصول تشابهت عليه فكان ربيعاً خريفياً بامتياز؟
هرع يومئذ كبار مسؤولي البلدان الغربية إلى ميدان التحرير بالقاهرة كي يروا بأنفسهم ما يجري. كما لو أن ثورة الشباب في أكبر بلد عربي كانت تشرعن في أعينهم وتمنح المعنى الأعمق لما حدث بتونس وليبيا ثم في مصر واليمن قبل أن ينتقل إلى سورية. عقدت ندوات لا حصر لها في العواصم الغربية كان يشهدها ويشارك بها أيضاً كبار مسؤولي الخارجية والأمن في بلدانها. وكانوا جميعاً لا يتوانون في التعبير عن ذهولهم وإعجابهم ويطرحون أسئلة كانت تبدأ دوما بـ: كيف، مَن، وإلى أين؟
لكن الكثير منا، مَنْ كان داخل بلدان الثورات العربية أو خارجها، ولاسيما من تصدوا بسرعة لقيادة الجماهير أو النطق باسمها أو زعْم تمثيلها، لم يقرأ ــ كما كانت تتطلب القراءة ــ ما يجري على الساحة العربية من المشرق إلى المغرب. ظن الجميع أن رحيل رموز النظام واعتقال ممثليه سيضع نهاية للنظم التي يمثلوها. وحدهم من كانوا يقفون بالمرصاد لهذه الحركات غير المسبوقة في العالم العربي، كانوا يدركون المهمة التي تنتظرهم ويضعون الخطط لتنفيذها بهدوء وتصميم. وحدهم الذين كانوا عماد هذه الأنظمة منذ أكثر من ستين عاماً مَنْ كانوا يراقبون ما يجري عن كثب. لم يكن نساء ورجال المعارضة التقليدية من يقلقهم، ولا الذين سرعان ما امتطوا موجة الثورة فساروا في مقدمة صفوفها وكأنهم من بدأها، بل الذين قاموا بالثورة فعلاً وملأوا الشوارع والساحات: الشباب العربي الذي كان  يُظنُّ أنه غارق في سبات اللامبالاة، فبدأوا بهم، سجناً هنا ومطاردة حتى النفي هناك، أو سجنا ينتهي بالقتل إن لم يبدأ به ولاسيما في سورية.  
شكك في البداية كثير ممن تصدوا بعد ذلك لقيادة هذه الثورات في دوافعها. وتحدث البعض، ممن يعتبرون أن كل ما يجري في العالم العربي نتيجة مؤامرات خارجية، عن دورات تدريبية أو تعليمية نظمت في عدد من البلدان الغربية ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية لعدد من شباب تونس ومصر واليمن في مجال الشبكات العنكبوتية والاجتماعية التي استخدمت بغزارة في إعداد وقيام هذه الثورات. واتُّهِمَ بعض الشباب الفاعلين والفعّالين فيها "بتعاونهم مع الصهيونية والدوائر الاستعمارية".
سوى أن ردود أفعال ما سمي بـ"الدولة العميقة" في البلدان المذكورة جاءت تشير بالأحرى لا إلى جدّية محاولات الالتفاف على هذه الثورات شبه المتزامنة وتفريغها من محتواها أو القضاء عليها فحسب بل إلى براءة هذه الثورات من محاولات التشويه أو التشكيك في نبل دوافعها وأهدافها معاً.  ذلك أن محاولة الالتفاف الأولى على ثورة الشباب العربي التي انطلقت في تونس، أي على طرف الجناح الغربي للعالم العربي، قبل ست سنوات تقريباً، كانت قد بدأت بوضوح ومنذ البداية على طرفه الشرقي، أي في سورية، حين قرر النظام الأسدي مواجهة هذه الثورة بقوة السلاح غير المحدودة أو بما سمي بالحل الأمني بهدف القضاء عليها بدءاً بإنكارها ثم بتوصيفها مؤامرة كونية ضد نظام "المقاومة والممانعة" الوحيد في العالم العربي. وعلى أن محاولات أخرى تلتها في اليمن وفي ليبيا وفي مصر على اختلافها في المنهج وفي التطبيق، إلا أن المحاولة الأولى التي نجحت في ما سعت إليه باتت مضربَ مثلٍ استخدم أثناء محاولات الالتفاف في البلدان العربية الأخرى حين صارت تلوِّح بما حدث في سورية كبديل عما تحاول فرضه نكوصاً عن الثورة وتكريساً للنظام القديم بوجوهٍ جديدة. كما لو أنها كانت تعيد صياغة الشعار الأسدي: "الأسد أو نحرق البلد" من خلال عبارة أخرى: إما نحن أو الدمار أوالقتل أوالنزوح أو كل ذلك معاً.
كانت الشعارات التي رفعها الشباب في بلدان الثورات العربية متشابهة بل ومتطابقة: إسقاط النظام، والحرية، والكرامة. وكانوا في مصر مثلاً وهم يواجهون قمع السلطة يستفيدون من تجارب إخوة لهم في تونس في مقاومته أو في جعله مستحيل التطبيق، مثلما حاول إخوة لهم في مدن سورية السير على نهجهم.  فجأة بدا العالم العربي أمام الخارج واحداً في مشكلاته وأزماته وكوارثه واستبداد زعمائه وفسادهم. وكانت القوى الغربية التي دعمت هؤلاء الزعماء وأنظمتهم تشهد إشارة التغيير المفاجئة والمُهدِّدة وتنتظر مآلها. لم تسئ قراءة ما كان يحدث. وكانت كما بدا فيما بعد على ثقة من أن النظام العميق لم يُصَبْ بأذى، وكانت على استعداد للتعاون معه في كل بلد ينجح فيه باستعادة زمام المبادرة من الشارع من أجل "إعادة الأمور إلى نصابها".
لم تتمكن ثورة الشباب في سورية من أن تحقق الانتصار الرمزي الذي حققه إخوانهم في تونس وليبيا ومصر. وكان النظام الأسدي ورأسه بالمرصاد كي يحولا دون مثل هذا الانتصار أياً كان الثمن المطلوب لتحقيق ذلك، مستخدماً خبرة نيف وأربعين عاماً في ممارسة السياسة الأمنية ذات الطابع المافيوي على الصعيد المحلي والإقليمي والدولي، بما في ذلك ضروب العمالة والمراوغة والكذب وتشويه الحقائق وتسويق صورة يظهر بها النظام العربي الوحيد الحريص على مصالح الأمة والوطن في العالم العربي والنظام العلماني حامي الإقليات في العالم الغربي. لم تكن "إعادة الأمور إلى نصابها" ــ أي إلى سابق عهدها بحلة جديدة ــ في سورية ممكنة على النحو الذي تمت فيه بمصر على سبيل المثال. إذ كان لابد لطبيعة النظام الأسدي الاستثنائية من أن تظهر على الملأ بكل عنفوانها وبشاعتها وخبثها وتواطؤ ما يسمى بالمجتمع الدولي معها ورعايته لأفعالها، وكان لابد في الوقت نفسه من أن تنكشف ضروب القصور اللامتناهية لدى من تصدوا لقيادة المعارضة على اختلاف ألوانها ونزعاتها في الداخل وفي الخارج  في مواجهة نظام تدعمه الآلة الحربية والدبلوماسية لقوتين، الروسية والإيرانية، المتفقتيْن في الأهداف المرحلية على الأقل، واللتين انتهتا إلى انتهاك سيادة سورية واحتلالها أرضاً وقراراً.
نجحت إلى حين إزاحة قادة المشهد الثوري في العالم العربي من الشباب سجناً أو قتلاً أو نفياً. هكذا بدا المشهد العام أقرب إلى مشهد دمار عام، على الصعيد السياسي والاقتصادي في بعض البلدان، وعلى الأصعدة كلها كما هو الأمر في سورية.
ذلك بعضٌ من مشاهد "الفوضى الخلاقة" التي تتجلى أمام الجميع. ومع ذلك، ورغم كل ما جرى ويجري، لا يمكن القول إن الستار سيسدل على الحركة التي بدأت في بدايات عام 2011. فهي لم تنته بعدُ، ولا تستطيع أية قوة أن تعلن اليوم انتهاءها. فالأبواب لا تزال مفتوحة كلها على كل ما أتاحت ظهوره من إمكانات، ولا يزال التربص قائما داخل المجتمعات العربية المنكوبة كلها. تربّصٌ تساعد على تغذيته مختلف التناقضات القائمة اليوم على صعيد القوى الدولية والإقليمية سواء في المصالح الآنية أو في الاستراتيجيات بعيدة المدى لكلٍّ منها.

* نشر في موقع جيرون، الخميس 20 تشرين أول/أكتوبر 2016.



jeudi 13 octobre 2016



جائزة نوبل حين تُرفَض!
بدرالدين عرودكي
"ليس الأمر نفسه لو أني وقَّعتُ جان بول سارتر أو وقّعتُ جان بول سارتر، حامل جائزة نوبل".
على هذا النحو فسّر سارتر رفضه لأشهر جائزة في العالم قررت لجنتها منحها له عام 1964، والتي باتت اليوم أكثر هذه الجوائز إثارة للجدل في عالمنا العربي، منذ أن تمَّ منحها لأول مرة في تاريخها لكاتب عربي، نجيب محفوظ، عام 1988، بعد أن منحتها، كذلك للمرة الأولى، لسياسي عربي، أنور السادات، عام 1978 بعد زيارته الشهيرة لإسرائيل عام 1977.
ولابد لكاتب مثل سارتر يدرك المعنى الأعمق والأشمل لمسؤولية الكاتب تجاه قرائه ولمفهومه عن مهمة الكاتب ودوره حتى يرفض جائزة لم يسبق على أهمية وأحياناً عبقرية من منحت لهم من قبله أن رفضها أحد منهم. إذ أنه اختار منذ البداية أن يكون كاتباً بالمعنى الذي يفهمه والذي رفض على أساسه كلَّ ضروب التكريم التي أراد أصدقاؤه أو المعجبون بمنجزاته إحاطته بها، من وسام جوقة الشرف الذي اقترح عليه ورفضه إلى إمكان تعيينه أستاذاً في الكوليج دو فرانس.  إذ لا يجب في نظره على الكاتب الذي يتخذ مواقف سياسية أو اجتماعية أو أدبية أن يعمل إلا اعتماداً على الوسائل الخاصة به، أي الكلمة المكتوبة. ذلك أن "كل ضروب التكريم التي يمكن أن يتلقاها تعرِّضُ قراءَهُ  إلى ضغط لا أحسبه مرغوباً فيه."
لم يسبق أن عرف تاريخ الأدب والفكر كاتباً حدَّدَ طبيعة هذا الفصل الذي وضعه سارتر بين الكاتب بوصفه إنساناً حراً، له وسائله وقوانينه التي لا يخضع إلا لها، وبين كاتب لا يدقق كثيراً وهو يحترف مهنة الكتابة، في أو لا يهمه أن ما يكتبه يمكن أن يكون لصالح أو باسم هذه المؤسسة أو تلك، رسمية كانت أم خاصة.
لا يعني القول هنا رفضاً لجائزة نوبل أو لمفهوم الجائزة في ذاته بصورة مطلقة. لكن ما كانت جائزة نوبل تثيره من إشكال وقت منحها لسارتر لا تزال تثير ما يشبهه اليوم بعد منحها قبل سنوات لرئيس أمريكي أعلن نواياه في السلام أو لرئيس كولومبي وقع لتوه اتفاق سلام مع الثوار.
لا تمنح جائزة نوبل باسم الغرب كما كانت تمنح مثلاً في القرن الماضي جائزة لينين باسم الكتلة الاشتراكية. سوى أنها تصيرُ، مع ذلك، ما يُصنعُ بها أو ما تصيره بفعل أحداث لا قبل لأعضاء أكاديميتها بالسيطرة عليها. ففي حقبة منحها لسارتر، أي مع بدايات النصف الثاني من القرن الماضي، حين كانت المعركة الوحيدة الممكنة في رأي سارتر على جبهة الثقافة هي معركة التعايش السلمي بين ثقافتي الشرق والغرب، أي الشرق الاشتراكي والغرب البورجوازي، وهي معركة كان لابد لها بالضرورة من أن تتخذ شكل صراع يقوم بين البشر وبين الثقافات من دون تدخل المؤسسات. في تلك الحقبة، بدت جائزة نوبل ــ كما يقول سارتر ــ "موضوعياً، مخصصة لكتاب الغرب ولمتمردي الشرق (الكتلة الاشتراكية). فلم تُمنَح مثلاً  لأراغون أحد كبار شعراء القرن العشرين في حين منحت لباسترناك على مُبدَع نشر خارج بلده. وكان سارتر قد نوَّهَ حينئذ عن عدم منح بابلو نيرودا الجائزة وهو أحد كبار شعراء أمريكا اللاتينية، الأمر الذي صححته لجنة الجائزة بمنحه الجائزة بعد هذا التنويه بسبع سنوات، عام 1971 وقبل وفاته بسنتين!
ذلك كله يشير بوضوح إلى أن معايير إضافية، تختلف من حقبة إلى أخرى أو من دائرة ثقافية إلى أخرى، كانت تُعتمَدُ إلى جانب (دون أن تحلَّ محلَّ) المعايير الأدبية الصارمة الخاصة بمنح الجائزة وتتدخل من وقت لآخر وبصورة أو بأخرى في تحديد من تُمنَح له. فإلى أي مدى، حين يتعلق الأمر بالعالم العربي، تدخلت أو يمكن أن تتدخل مثل هذه المعايير الاستثنائية وغير المحددة رسمياً ويتم تخمينها موسمياً وعلى نحو واسع في مختلف البلدان العربية ولاسيما منذ أن منح نجيب محفوظ الجائزة عام 1988 وتعطي الأولوية المطلقة إلى علاقة الحاصل من العرب على الجائزة الإيجابية مع إسرائيل؟
الواقع أن منح بعض الزعماء السياسيين العرب هذه الجائزة هو الذي يحمل على هذا التخمين ويتيح الفرصة للشك في وجود ما نسميه هنا "المعايير الإضافية". فهو يشير بوضوح إلى العلاقة بين منحها بسبب طبيعة علاقة كل منهم ومواقفه من إسرائيل: أنور السادات بعد زيارته لها عام 1977 (نوبل السلام 1978)، وياسر عرفات بعد توقيعه عام 1993 اتفاقية أوسلو (نوبل السلام 1994) وأحمد زويل بعد حصوله عام 1993 على جائزة وولف الإسرائيلية (نوبل الكيمياء 1999). ولهذا فسر البعض أن منح نجيب محفوظ  (نوبل الآداب 1988) ما كان ليتم لولا تأييده سياسة السادات وتوقيعه عام 1979 اتفاقية كامب دافيد.
لكن هذا التفسير لا يمكن أن يصح تماماً في حالة محمد البرادعي الذي حصل عليها عام 2005 (نوبل السلام) أثناء إدارته الوكالة الدولية للطاقة الذرية، ولا في حالة توكل كرمان، الناشطة اليمنية التي حصلت على الجائزة عام 2011 (نوبل السلام).  من الواضح أن الإعلام الجاد لم يلجأ إلى أي ربط بين منحهما الجائزة وبين علاقة ما لأحدهما مع إسرائيل؛ ومن الأرجح على كل حال أن أحداً منهما لم يتخذ مواقف عدائية صريحة من إسرائيل أو من سياستها، هذا رغم أن المواقع الإعلامية المناهضة لهما، مع ذلك، لم تتردد في ربط شديد الغموض والحق يقال بين منح الجائزة لكل منهما وعلاقتهما بالمؤسسات الدولية ذات المنحى الصهيوني أو الخاضعة لتأثيره.
على غرار سارتر في مجال الآداب، كان الوحيد الذي رفض هذه الجائزة في مجال السلام من السياسيين فان دين كاي (أو: لي دوك تو)، العسكري والدبلوماسي الذي وقع اتفاقية وقف القتال إثر محادثات السلام مع الولايات المتحدة الأمريكية عام 1973، مفسِّراً رفضه قائلاً: "لم يحلّ السلام فعلياً بعدُ". كلاهما كان يقول في رفضه الجائزة مفهومه الخاص عن عمله وعن طبيعة هذا العمل.
يثير هذان الموقفان الصارمان في رفض جائزة نوبل مزيداً من الشكوك حول بعض غاياتها. وهما أيضاً من يحملان على اعتبارها، في حالة منحها لعربي سياسياً كان أم عالماً أم أديباً، موسومة بكثير من الشوائب التي تعتور صفاء مصداقيتها كجائزة عالمية حقاً وتكاد تحيلها في أحيان كثيرة رغم معاييرها الصارمة في مختلف المجالات التي تمنح فيها إلى ثمن رخيص لموقف سياسي كان من قبل يتجسد في موقف التمرد على النظم الشيوعية في الكتلة الاشتراكية، ويتجسد اليوم، بالنسبة إلى العالم العربي على الأقل، في الانتصار لإسرائيل أو في محاباتها.
ألا يعني هذا أننا سنبقى نطرح السؤال، على ضآلة احتمالات فوز كاتب عربي آخر بها على المدى المنظور، ، حول علاقة الفائز بإسرائيل ومواقفه منها؟
وسؤال آخرفي ضوء ذلك كله: ألا يجعلنا عدم فوز القبعات البيض السورية بهذه الجائزة نبتهج رغم أمل كثرة السوريين أن تفوز بها؟

** نشر على موقع جيرون، الخميس 13 تشرين أول 2016.



vendredi 7 octobre 2016


رهاب الإسلام أم رهاب العرب؟

بدرالدين عرودكي

لا وجود ولا استخدام لتعبير رهاب العرب في اللغة الفرنسية. إذ رهاب الإسلام هو التعبير السائد. ومنذ ما يقارب عقدين من السنوات باتت ترتفع بهذا الأخير في فرنسا لفظاً أو مضموناً عقيرة بعض الروائيين والصحفيين والسياسيين كلما وجدوا الفرصة متاحة أمامهم، مؤلفين بذلك جوقة متكاملة يسوِّقون بها الخوف خلال الانتخابات المتعاقبة، بلدية أو نيابية أو رئاسية، يستدعون به وعبره ضروب الشر المطلق، والعدو المطلق، تأكيداً لتفوق ثقافي لا يقبلون المُماراة فيه. 

ولعل الإسلام لا يقال هنا للإشارة إلى الدين فحسب، بل بالأحرى لتسمية العرب ما داموا هم من حمله إلى العالم، مثلما كان يقال في الماضي عن كل مسلم عربي الأصل تركيّ، أو محمديّ، ومثلما أطلقت كذلك على العرب خصوصاً، تسمية أبناء إسماعيل أو أبناء هاجر أو المور أو التسمية الأشهر سارّازان. ذلك أن استخدام تعبير رهاب العرب اليوم يمكن أن يقع تحت طائلة العقاب لانطوائه على مضمون عنصري. في حين يتساوى الإسلام بوصفه ديناً، في نظر قوانين دولة كفرنسا، مع الأديان الأخرى، ولا يمكن بفعل حرية التعبير المكفولة فيها دستورياً، أن يُجَرَّمَ من ينتقده.

ولم يكن الانزلاق من الإسلام إلى العرب يفتقر إلى الوسائل المتاحة، كالتخييل الفني، كما فعل على سبيل المثال ميشيل أويلبيك في روايته مِنَصَّة الصادرة عام 2001: "ما كان للإسلام أن يولد إلا في صحراء غبيّة، وسط بدوٍ قذرين لم يكن لديهم ما يفعلونه  سوى ــ واعذروني القول ــ أن يطأوا جِمَالَهم"، أو الكتابة المباشرة كما فعلت أوريانا فالاتشي  في كتابها الغضب والفخر الصادر عام 2002: "هناك شيء لدى الرجال العرب  يثير قرف النساء ذوات الذوق الحسن".. أو " "يتكاثر المسلمون كالجرذان"؛ "وبدلاً من أن يسهموا في تقدم البشرية يقضي المسلمون أوقاتهم في الصلاة خمس مرات يومياً".

لم يكن غيوم دو روفيل يبالغ والحالة هذه حين كتب عام 2012 ، أن "المسألة الكبرى في القرن الحادي والعشرين ــ هي رهاب الإسلام. فهو في الحقيقة شرّ العصر الحاضر، على مثال ما كانت عليه معاداة السامية خلال القرن الماضي". ومن نظَّرَ لهذه القضية على هذا النحو كصموئيل هانتغتون وكتابه "صدام الحضارات"، كان في الحقيقة يدعو إلى حرب أبدية؛  في حين كانت جيزيل ليتمان تحت اسمها المستعار بات يي أور  تريد عبر  مفهومها عن "الأورابيا" أو "المحور العربي الأوربي" أن يمتد إلى أوربا تطبيقُ نموذج الآبارتايد والتمييز العنصري القائم في إسرائيل من أجل "مقاومة غزو البرابرة الجدد".

وعلى أن تعبير رهاب الإسلام ليس طارئاً بل يعود استخدامه إلى أكثر من قرن، وأن المعنى المعاصر الذي اكتسبه يعود إلى بداية تسعينيات القرن الماضي، وأن انتشاره الإعلامي في الغرب كان تالياً على تفجير نيويورك في 11 أيلول 2011، إلا أن الطريقة التي التي يمارس بها والتعبيرات التي تقوله أو تندرج تحت غطائه ولا سيما على الصعيد العسكري، من أفغانستان إلى غرب أفريقيا، توحي بأن جذوره التاريخية أشد عراقة مما يبدو للوهلة الأولى، وبأن الاستشراق في وجهه الإيديولوجي، على النحو الذي وصفه إدوار سعيد في كتابه عنه، والذي تممه متابعاً طريقه جون تولان في كتابه الذي حمل عنوان "السارّازان" بالعودة إلى جذوره الأولى، هو الأرض الخصبة التي عثر ويعثر فيها كل يوم أنصار النقاء العرقي والثقافي في الغرب على ضالتهم فيما يغذي اليوم رهاب الإسلام، أو في واقع الأمر، رهاب العرب اليوم.

كان إدوار سعيد قد وصف في كتابه المقتضيات الأيديولوجية للصور التي قُدِّمَ بها الشرق في الثقافتين البريطانية والفرنسية في القرنين التاسع عشر والعشرين. كان الاستشراق في نظره "أسلوباً غربياً في السيطرة وفي إعادة بناء وفرض الهيمنة على الشرق". فجاء الخطاب الاستشراقي ليؤلف المقابل الأيديولوجي للوقائع العسكرية والسياسية للإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في الشرق الأوسط. وكما يقول جون تولان كان " الاستشراق يقدم تبريراً للإمبراطورية". ويقول أيضاً إنه بالطريقة نفسها التي أجاز بها الاستشراق وبرَّرَ الحروب الاستعمارية، كانت "الخطابات المعادية للإسلام التي كتبها المؤلفون المسيحيون بين القرنين السابع والثالث عشر تستخدم لإجازة العمليات العسكرية ولتبريرها مثلما كانت تفيد من أجل التمييز الشرعي والقمع الاجتماعي للمسلمين". مع فارق هام بين هذه الحقبة وبين تلك التي سادت اعتباراً من القرن التاسع عشر حين كان الغرب في الحقبة الأولى في وضع أدنى بالنسبة إلى الشرق الإسلامي على الأصعدة العسكرية والسياسية والفكرية، وهو الوضع  الذي سينقلب اعتباراً من القرن التاسع عشر لصالح الغرب الذي كان فوق ذلك "مقتنعاً بتفوقه" على العالمين العربي والإسلامي.  

ليس من الممكن بالطبع مماهاة الصور التي ثبتها الاستشراق في الغرب خلال القرنين الماضيين مع الصور التي كونتها الكتابات التي تمت بين القرنين السابع والثالث عشر. فلكل حقبة شروطها وأدوات تعبيرها وغاياتها. وقد يبدو من قبيل المغالاة الشديدة إقامة صلة ما بين المواقف تجاه المسلمين والعرب في القرون الوسطى ومواقف الهيمنة الاستعمارية في القرنين الماضيين. لكن مؤرخاً مثل رنيه غروسيه في كتابه "تاريخ الحملات الصليبية ومملكة الفرنجة بالقدس" (1934) وهو يستشهد بمقطع من رحلة ابن جبير يؤكد فيه أن القادة الصليبيين يعاملون رعاياهم مثلما إن لم يكن أفضل من معاملة الملوك المسلمين لرعاياهم، يعتبر أن ذلك يضع بين أيدينا "أجمل مديح للاستعمار الفرنسي"! هكذا تصير ملاحظات استحسان كاتب عربي نقادة لبعض حكام بلاده حجة مفيدة لمؤرخ فرنسي حديث في لا في تبرير الفتح والاستعمار الفرنسيين الحديثين فحسب بل كذلك في اعتبار الحملات الصليبية نفسها "حملات مجيدة". ليس من قبيل الصدفة والحالة هذه كما يكتب جون تولان أن تحفل قاعة الحملات الصليبية في قصر فرساي باللوحات الجدارية التي تكرس تمجيد فتوحات الصليبيين في القروسطية والتي رسمت عام 1830، أي في الوقت الذي كانت فيه فرنسا تباشر استعمارها للجزائر.

هل نقول ما أقرب اليوم من الأمس؟ أم الأحرى أن نقول إن الفروق والمسافات التي تعلمنا ضرورة ملاحظتها في كل مناسبة تختفي هنا ليبرز الثابت وراء كل ضروب المتحول؟

** نشرت على موقع "ضفة ثالثة"، الجمعة 7 تشرين أول 2016

jeudi 6 octobre 2016



الفوضى "الخلاقة" في تجلياتها اليوم
بدر الدين عرودكي

بعد أن انكشفت أمام الملأ اليوم ــ وبأيِّ ثمن! ــ سوأة النظام الأسدي في عريها الكامل فلم يعد بوسعه مواراتها بعد أن تلاشت خلال نيف وخمس سنوات أقنعة المقاومة والممانعة وسواها من ضروب التلفيق والكذب كالعلمانية والحداثة وحماية الإقليات وسواها، وبعد أن هيَّأ هذا النظام كافة الشروط اللازمة كي تصير سورية بلداً محتلاً يتقرر مصيره في عواصم أخرى غير عاصمته، وبعد أن باتت سورية أرضاً يعيث فيها إلى جانب نظامها تدميراً وتخريباً حرس إيران "الثوري" وذيولها في لبنان والعراق ومرتزقتها من أفغانستان، صار من الضروري الوقوف أمام هذا المشهد المرعب الذي كانت ملامحه قد بدأت ترتسم أمام أعيننا منذ نيف وربع قرن، أي منذ أن أُعلنَت كوندوليزا رايس سياسة الولايات المتحدة الأمريكية في اعتماد "الفوضى الخلاقة" منهجاً في سياستها الخارجية من أجل علاج مشكلات المنطقة العربية ومحيطها اللذين تغطيهما تسمية "الشرق الأوسط" المعتمدة في الغرب أساساً. هذا العلاج الذي يسعى لإعادة تشكيل المنطقة برمتها عبر رسم حدود جديدة لا تتطابق بالضرورة مع الحدود القائمة ورسم ووضع تعريفٍ جديد للأدوار ومن سيناط به أداؤها، فضلاً عن إفساح المجال لنشوء علاقات قوى مختلفة تعكس إمكانات الواقع الجديد المأمول، والذي كان النظام الأسدي ورأسه إلى جانب نوري المالكي وأتباعه في العراق والحوثيين في اليمن الأدوات التي أنيط بها أن تلعب الدور الرئيس في تمهيد الأرض له.   
ذلك أن الاستغراق في تفاصيل ما يحدث في مشرق العالم العربي خصوصاً طوال السنوات الخمس والعشرين الماضية يمكن أن يحجب غالباً صورته الإجمالية التي يمكن أن تنطوي على أو تشير إلى غايته القصوى، كما أن طبيعة وحجم الكوارث التي طاولت منه حتى الآن العراق وسورية واليمن فضلاً عن الأزمات الخانقة التي تعيشها بلدان أخرى وأولها مصر والتي لم يكن أحد يتصور وقوعها أو يتنبأ به يسعهما أن يحيلان إلى مشهد كارثي بامتياز يستدعي صور نهاية العالم. لكننا لسنا إزاء صور خيالية عن نهاية العالم ككل بل عن نهاية عالم بالتحديد: المشرق العربي الذي كرست صورته مع نهايات الحرب العالمية الأولى، وتبدو الآن قيد تمزيق لا يوازيه في عنفه سوى عنف الطريقة التي ولد بها قبل قرن.
ما بدا قبل ربع قرن مجرد تصريحات صحفية أو أفكاراً تم تداولها حول موائد مستديرة أو خلال ندوات دولية بات الآن واقعاً مجسداً، في العراق وسورية واليمن خصوصاً، وفي مجمل الشرق العربي عموماً، بكل ما انطوت عليه تفاصيله النظرية الأشمل: صراع قوميات يتخذ تارة شكل صراع طائفي وتارة شكل صراع عرقي وأخرى شكل صراع على الهيمنة، وكل ذلك في ظل أو تحت وطأة اختلالٍ أمني واقتصادي وسياسي. استخدمت خلال التنفيذ ومن أجله عناوين عديدة بدأت بخلخلة الوضع القائم وزعزعته بمختلف الطرق السلسة والطبيعية ظاهرياً وانتهت إلى تعميم العنف والرعب والدم. لا مجال هنا للتفكير بوجود علاقة لكل ما سبق قوله بنظرية المؤامرة، لاسيما وأن كل ما يجري يشير إلى هوية ودور وتأثير كل فاعل في المشهد العام الذي يرتسم مجسَّداً أمام أعين الجميع وفي كل مكان. كما أنه لا يعني بحال أن منهج الفوضى الخلاقة القائم اليوم واقعاً يسير حسب خطة مرسومة تشرف عليها القوة العظمى التي تبنته دون أن تعتور تنفيذه مشكلات تمليها مصالح القوى الأخرى وتتجسد عقبات أو مناهضة أو مقاومة أو تخريباً بهدف مفاقمة تعقيد الأوضاع والحيلولة دون السير بالخطة حتى مآلاتها المنتظرة. وإنما هي محاولة تستهدف لا تنشيط الذاكرة العربية المُتداعية إلا من استدعاء آلهة الماضي وشياطينه ومجرميه أو ضحاياه فحسب، بل الدعوة أيضاً إلى لملمة التفاصيل المبعثرة وإعادتها إلى أصولها بما يتيح إمكان فهمٍ أدق لما يجري ومن ثمَّ البناء عليه.
ذلك أن وطأة العنف والآثار المدمرة غير المسبوقة في العصر الحديث التي أدت إليها الأحداث في البلدان الثلاثة المشار إليها ولاسيما في سورية استدعت لدينا اللجوء إلى عدد من مفاهيم فضفاضة وتكاد لا تعني شيئاً، كالضمير العالمي، والمواقف الأخلاقية، والقوى الصديقة، والمشاعر الإنسانية، وسواها، والتي تبدو وهي تستخدم في معرض العلاقات الدولية ومصالح القوى الكبرى المهيمنة اقتصادياً وعسكرياً وكأنها من عالم آخر لا يمت إلى عالم الواقع الراهن بصلة. لا بل إنها حالت بيننا وبين رؤية التغيرات العميقة التي طرأت على النظام العالمي ولاسيما على الصعيد الاقتصادي، وخصوصاً على صعيد النفط،  لصالح القوى الكبرى التي  كانت من قبلُ رهينة  لمنتجيه إلى ما قبل عقدين.
وعلى أن أحداثاً مماثلة في ضراوتها وفي عنفها لتلك التي تعيشها المنطقة العربية اليوم عرفتها مناطق أخرى في العالم من قبل مثل دول البلقان في الثمانينيات وقبلها في ستينيات القرن الماضي فييتنام وكمبودجيا، كانت تقدم براهين لا حصر لها على سينيكية أو صفاقة القوى العالمية التي تجلت وتتجلى دوماً في الأولوية المطلقة التي توليها لمصالحها الاقتصادية ولهيمنتها التي تكفل لها سيرها على أحسن وجه، والتي كان بوسعها أن تكون هادياً فيما يجب اتباعه من سلوك إزاء القوى الكبرى ولاسيما روسيا والولايات المتحدة؛ وعلى أن القوى المهيمنة اليوم في العالم عاشت في تاريخها الحديث حروباً راح ضحيتها الملايين من شعوبها ولاسيما في حربين عالميتيْن متتاليتين لم يفصل بينهما أكثر من عشرين عاماً، وهي حروب لم تحصِّنها إزاء الكوارث المماثلة فحسب بل دفعتها إلى ابتكار حروب أخرى لتأمين مصالحها، حروب لا تجري على أرضها ولا تنال منها مثلما فعلت سابقاتها على أراضيها؛ إلا أن ذلك كله لم يسهم مع ذلك في المساعدة على إعادة صياغة الأسئلة التي طرحتها أحداث الثورات العربية  وبالتالي على محاولة الإجابة عنها بما يسمح بوضع الأمور في نصابها وتكييف الاستجابات العقلانية للضرورات وللضغوط وللوقائع التي فرضتها هذه الأحداث وطريقة استخدام مختلف القوى المحلية والإقليمية والدولية لها والاستفادة منها لصالحها.
في ضوء هذه الإشارات تفقد كثير من التصريحات التي تتناول على سبيل المثال تقسيم سورية أو اعتماد النظام الفيدرالي فيها أو إنشاء دولة كردية ضمن هذه الفيدرالية معانيها الحقيقية رغم كل ما تهوِّلُ به وقائع صارخة للعيان على الأرض وتحمل الكثير على الخوف من التجزئة أو التفتيت. يسري ذلك على العراق بقدر ما يسري أيضاً على ما يجري في اليمن وفي ليبيا. فالفوضى "الخلاقة" لم تبلغ بعد مداها وإن تجاوزت ذروتها. لقد كان التواطؤ الروسي الأمريكي الضامن لمصالح كل منهما يسعى من أجل الوصول بهذه الفوضى إلى مآلاتها. لكنه يبدو وكأنه يتهاوى اليوم أنه لن يفعل أكثر من عرقلة مؤقتة لن يسمح طرفاه باستمرارها. وإذا كان ذلك يعني أن العنف والدمار سيستمر حتى تبلغ هذه الفوضى المُدمرة ما ترمي إليه، فإنه يفضي في الوقت نفسه إلى تساؤل ملح: هل يمكن في غياب أي قدرة على التنبؤ بما ستؤدي إليه هذه الفوضى، العمل على محاولة استعادة  المبادرة الشعبية السورية على الأقل في براءتها الأولى، أي في وحدة لا مفر منها إلا إلى الموت الحتمي للجميع؟

** نشر في موقع جيرون الخميس 6 تشرين أول 2016.




samedi 1 octobre 2016


صادق العظم والحوار الغائب 
بدرالدين عرودكي 
يفرض تناولُ مضمون ما نشرته مجلة الجديد في عددها التاسع عشر على أنه حوار مع صادق العظم طرحَ سؤال حول شكل ومضمون هذا "الحوار" بالعلاقة مع المُحاوَر. ذلك أن القراءة الأولى لما سُمِّيَ  حواراً تقود القارئ إلى اعتباره مجرد مقابلة صحفية كان الأجدر نشرها في صحيفة يومية أو أسبوعية في باب الثقافة لاسيما وأن مناسبة إجرائها كانت محاضرة ألقاها صادق العظم بمدينة فايمار بمناسبة تكريمه من قبل معهد غوته وتقليده ميداليته. لكن الصحفي الذي أجراها شاء سلوك نهج "من كل بستان زهرة" اعتماداً على ما تتيحه له المعلومات الجزئية المنشورة على صفحات الأنترنيت بدلاً من الاعتماد على مجمل نتاج صادق العظم الذي يمتد على نيف وخمسين عاماً من العمل الدؤوب والنتاج الفكري المستمر ضمن مشروع متكامل تجلت ملامح خطوطه العريضة منذ المرة الأولى التي ظهر خلالها على الناس بمدينة دمشق بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية في المحاضرة التي ألقاها حول "مأساة إبليس" عام 1963.
كان من الممكن لكي يكون الحوار حواراً بالفعل أن يناقش صادق العظم في طروحاته المختلفة لا أن يشرح لمن يطرح عليه الأسئلة ما يمكن العثور عليه في كتبه أو في ما كتب عنها خلال السنوات السابقة والذي يفترض بالمحاور من حيث المبدأ أن يعرفها معرفة دقيقة وعميقة تسمح له أن ينتهز هذه الفرصة التي أتيحت له كي يحمل ضيفه على العودة إلى طروحاته وإعادة تقويمها في ضوء التطورات التي عرفها العالم العربي وسورية تحديداً خلال السنوات الخمسين الماضية.
كان من الممكن أيضاً، وذلك خيار آخر ربما كان أجدى وأكثر أهمية لمقابلة قد لا تتطلب إلا الحد الأدنى من معرفة  المحاضر ومتابعته في موضوع محاضرته مادام من أجرى المقابلة ينطلق من موضوع المحاضرة التي حملت عنوان "ليس للدولة دين، الدين للناس" لطرح الأسئلة المؤرقة الخاصة بهذه الثيمة تحديداً ومختلف تجلياتها وتفرعاتها في الفكر والعمل السياسي العربيين اليوم والتي لم يتوان صادق العظم والحق يقال عن طرحها ومعالجتها في دراساته ومواقفه الفكرية السياسية.
كان من الممكن، ولم يكن ذلك كما يبدو ممكناً، ومن ثمَّ فليس في الإمكان أبدع مما كان! وبالتالي، فليس أمامنا وقد نشرت المقابلة إلا أن نقرأها كما هي، في أسئلتها وفي إجاباتها.
يسعنا بداية والحالة هذه تحديد الثيمات الرئيسة التي أثارها صادق العظم في إجاباته على بعض أسئلة هذه المقابلة على النحو التالي: 1) نقد الفكر الديني؛ 2) مشكلة المصطلحات في الفكر والواقع السياسي العربي وما خلفته من فراغ بعد سقوط كل عناوين المشروع العربي الذي ساد الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي؛ 3) الحركات الجهادية التي بدأت ملء هذا الفراغ ؛ 4) الاستشراق والاستشراق المعكوس (أو الاستغراب)؛ 5) حول المسار الفلسفي لصادق العظم بين كانط وبرغسون؛ 6) الانتقال من المسائل الفكرية المجردة إلى الإشكاليات الآنية بعد هزيمة حزيران 1967؛ 7) غياب التفكير الفلسفي وبالتالي الإنتاج الفلسفي الحقيقي بسبب غياب الحرية في العالم العربي؛ 8) التقدم والرجعية بين السياسة والعلم؛ الحاجة إلى ترسيخ الفكر العلماني الديمقراطي في الثقافة العربية؛ 9) نقد الفكر الديني في جانبه العقلاني؛ 10) ثورات "الربيع العربي" ومسار الثورة في سورية.
ولئن كانت هذه النقاط العشر المذكورة تعبر عن مضمون نتاج صادق العظم الفكري بصورة شديدة الابتسار بالضرورة لكنها لم ترد بصورة تسمح برؤية المسار والمنعطفات التي اضطر صادق العظم إلى الإشارة إليها في إجاباته والتي كانت الأحداث التي عرفها العالم العربي اعتباراً من أواخر ستينيات القرن الماضي وحتى اليوم قد فرضت وجهتها لا على المثقفين فحسب بل على مجموع الفاعلين السياسيين.
فالسؤال الذي طرحه محرر المقابلة عن كتاب "نقد الفكر الديني" الصادر عام 1969 (وهو سؤال يشي بأن السائل لم يقرأ الكتاب أو يطلع على طروحاته) لا يتناول مضمون الكتاب أو مختلف الثيمات التي عولجت فيه، بل يقتصر على ما أثاره من ضجيج ومن ردود فعل في المجتمع ولدى المؤسسة الدينية والسياسية خصوصاً، الأمر الذي أرغم صادق العظم على أن يستعرض بالفعل مختلف تفاصيل الضجة والفضيحة اللتين أثارهما نشر الكتاب يومها، مادام السائل لم يتح له في النهاية أن يتطرق ــ وهو الأهم مبدئياً ــ إلى مضمون الكتاب الذي هو وراء ما أثاره من ضجة أو فضيحة، والذي كان يمكن لاستعادته وربما مناقشته أن تكون أكثر نجوعاً وفائدة بل وضرورة من التطرق إلى جانب يبقى أقل أهمية بالنسبة إلى الأساس وإن كان أثيراً لدى الصحف والشبكات الرقمية اليوم.
تكمن المشكلة إذن في السؤال المطروح الذي يحدد إطار الإجابة فلا تتاح الفرصة لمن يجيب أن يحيد عنه إلا نادراً أو إذا أعاد عبر إجابته صياغة السؤال على طريقته! ولا يستطيع القارئ في هذه الحالة أن يناقش سوى الجواب الذي يقرأ.
مثل ذلك السؤال الذي يتناول مسألة المصطلحات. فمع تجاوز ما كتبه السائل من جملة تنطوي على حكم قيمة لا سندَ ولا مبرر له أساساً في السياق: "تسمية ما حصل بمفاهيم تقترب من لغة الموضوعية والعلم والواقعية"، يأتي جواب صادق العظم متجاوزاً إطار السؤال. لا يمكن لمسألة المصطلحات إلا أن تكون جوهرية في أي مقاربة عقلانية للأحداث. لم يكن توصيف ما حدث في الخامس من حزيران/يونيو 1967 بالنكسة مجرد هروب من واقع شديد المرارة لا يمكن حتى لتوصيف الهزيمة أن يغطيه كلياً وفي العمق. وكان توصيف صادق العظم لهذا الحدث بالهزيمة كسراً صريحاً وجريئاً للتوصيف الذي اعتمدته يومئذ وأرادت الأنظمة المهزومة شرعنته.   
يستطرد صادق العظم في إجابته هنا إلى الحديث عن الفراغ الذي خلفه انهيار المفاهيم السياسية التي سادت خمسينيات وستينيات القرن الماضي في العالم العربي كالوحدة العربية والقومية العربية والاشتراكية العربية، فضلاً عن الهزيمة التي كشفت عن التصدع العميق في البنى السياسية والعسكرية والثقافية. هذا الفراغ الذي ما كان ليملأه في تلك الفترة إلا المقاومة الفلسطينية التي استقطبت التفافاً شعبياً ونخبوياً قبل أن يتقدم الإسلام السياسي المشهد شيئاً فشيئاً في أشدِّ صيغه سلفية وعنفاً، وهو ما لم يكن صادق العظم نفسه ــ ولا سواه على كل حال من العقلانيين العرب الآخرين ــ يتوقع وصوله بالتدريج إلى الدرجة التي وصل إليها بعد أربعين عاماً من الهزيمة. يقول صادق: "كنت واعياً بمدى حضور وأهمية العامل الديني في المجتمعات العربية وإمكانية تحوله إلى ملجأ ومنقذ ولكن لم أتوقع يوما أنه سيصل إلى هذا المستوى من الراديكالية الجهادية"، ويفسر سير الحركات الدينية في هذا الاتجاه بـ"فشل العسكري والدولة الوطنية  في ميدان التربية وغياب المعرفة العلمية في العالم العربي وغياب المؤسسات المواكبة للعالم الحديث وأسسها من بينها الديمقراطية والحريات". حسناً! صحيح أن الهزيمة أتاحت فرصة إمكان النقد بلا حدود خلال بضع سنوات، وسمحت بكسر المحرّمات (كان بوسع محرر المقابلة أن يضع كلمة "المُحرَّم" إلى جانب الكلمة الفرنسية التي نقلها مع خطأ لفظي: الطابو "tabou")، لكن العسكري ما لبث أن استعاد الهيمنة فضلاً عن رقابة الضمير على الفكر التي شرعها حافظ الأسد بعد أن قام بتجسيد هذا الضمير في أجهزته الأمنية كلية الحضور على اختلافها.
على أن السؤال حول "الاستشراق معكوساً" وهو عنوان فصل في كتاب صادق العظم "ذهنية التحريم"، لا يختلف في مبناه أيضاً عن الأسئلة السابقة. يسأل المحرر عن وجه الاختلاف بين صادق العظم وإدوار سعيد بدلاً من أن يناقشه في وجوه الاختلاف التي اضطر صادق العظم إلى بيانها ضمن رؤيته العامة لمسألة الاستشراق والاستشراق المعكوس كما يسميه، والذي كنت أفضل لو سماه "الاستغراب"، رغم أن ما يسميه بالاستشراق المعكوس لا يرقى بحال، وأياً كان رأينا في الاستشراق، إلى الجهد العلمي الهائل الذي بذله المستشرقون في محاولة اكتشاف وفهم التراث العربي أو في نقله إلى اللغات الأوربية المختلفة. كان أنور عبد الملك أول من كتب مقالاً عن موضوع الاستشراق حمل عنوان "الاستشراق في أزمة" وجعله فصلاً من فصول كتابه "الجدلية الاجتماعية" الصادر عام 1972. ثم جاء كتاب إدوار سعيد الجدالي "الاستشراق" الصادر عام 1978 ليثير عاصفة أشد عنفاً من تلك التي أثارها مقال عبد الملك بين العاملين في ميدان الاستشراق. ربما لم يطلع صادق العظم على مقال عبد الملك وإلا لكان قارن ما جاء فيه بما أورده عن مجمل فحوى كتاب إدوار سعيد، ولكان العرض أو النقاش قد اتخذ منحى آخر لم يكن ليتيحه على كل حال سؤال المحرر بكل أسف.
أما واسطة العقد في هذه المقابلة فهو السؤال الخاص بالدراسات الفلسفية التي أنجزها صادق العظم عن كانط وبرغسون. إذ كان المحرر، كما يتبين من سؤاله، يحسب أن كتاب "جذور مجادلات كانط في النقائض" الصادر عام 1972 عن منشورات جامعة أكسفورد هو رسالة الدكتوراه في حين أن موضوع هذه الأخيرة، كما صحح له صادق العظم، هو "فلسفة الأخلاق عند برغسون". على أن هذا النقص في معلومات المحرر أدى هنا، وهنا فقط، وظيفة ما كان للسؤال أن يتوصل إليها حين أتاح لصادق العظم الفرصة لا لإزالة الالتباس حول موضوع رسالته لنيل الدكتوراه فحسب، بل كذلك لبيان مدى وعمق وقصدية اهتمامه بالفلسفة الكانطية التي كتب عنها فضلاً عن الكتاب المشار إليه وقبله بسنوات، أي في بداية الستينيات من القرن الماضي، كتابه "نظريات الزمان في فلسفة كانط" الذي نشر بنيويورك، ثم  باللغة العربية "دراسات عن الزمان والمكان عند كانط". فقد أمكن لصادق العظم أن يوظف مكتسباته المنهجية والفكرية خلال دراسته للفلسفة الكانطية في دراساته ومحاضراته وكتبه حول المشكلات الثقافية والسياسية التي كانت تطرحها حقبة الستينيات من القرن الماضي ولا سيما بعد هزيمة حزيران 1967 والتي شهدت منعطفاً هاماً في مسيرة صادق العظم الفكرية والسياسية سواء في تناوله مختلف جوانب القضية الفلسطينية أو في نقده البنى السياسية والدينية والثقافية في المجتمع العربي. وإذا كان بوسعنا أن نعتبر أن كتاباته ومشروعه الفكري في مجمله يؤسس للعقلانية العربية الجديدة بما هي نقد صارم لكل ما لا يصمد أمام التحليل العقلاني  من ظواهر أو معتقدات أو ممارسات، فإن ورود كلمة "تقدمي" في حديثه يثير التساؤل عن الدلالة التي يُحَمّلها لهذه الكلمة عند وصفه للموقع الذي انطلق منه في محاولة فهمه للواقع العربي بعد هزيمة حزيران 1967.  وربما ودّ القارئ مثلي لو أن المحرر استزاده حولها.
على أنَّ سؤال المحرر حول "واقع الفلسفة في الساحة العربية" وتساؤله عن "هويتها وفرادتها والمشكلات الكبرى التي تشتغل عليها" سوف يحمل صادق العظم فيما أرى على عرض مستفيض لهذا الواقع يمكن أن يثير الكثير من الجدال بله الاختلاف.
إذا كان من الصحيح أن الغزالي قد أغلق أبواب الاجتهاد أو "لعب دوراً في تطوير وترويج الفكر الفقهي الديني"، فإن إعادة اكتشاف إبن رشد وابن خلدون في العصور الحديثة لم تكن على وجه الدقة كما يقول صادق العظم، عملاً غربياً بحتاً. ذلك أن ابن رشد لم يكن بحاجة إلى أن يعاد اكتشافه في الغرب طالما أن تدريسه كان معتمداً حتى نهاية القرن التاسع عشر في جامعة السوربون بوصفه أرسطياً بامتياز. أما إعادة اكتشاف ابن خلدون فقد كان غربياً حقاً لكن هذا لا يعني أن العرب لم يشاركوا الغرب إعادة هذا الاكتشاف بدليل أن أول عربي تناوله بالدراسة في بداية القرن العشرين كان طه حسين الذي اتخذ من فلسفته موضوعاً  لرسالته لنيل الدكتوراه في السوربون. لكن ما هو أهم من ذلك في نظري هو نظرة صادق العظم إلى النتاج الفلسفي في العالم العربي الذي لا يجد فيه أكثر من محبي الفلسفة أو المهتمين بها أو أساتذتها وطلابها مع غياب للإنتاج الفلسفي المستمر والمتراكم الذي انقطع منذ خمسة قرون وحل محله "استهلاك للمعارف التي تنتجها المجتمعات الأخرى".
ربما كان لابد هنا من تدقيق هذا الحكم القطعي على ما يمكن أن نسميه الإنتاج الفلسفي في العالم العربي. إذ على الرغم من كل العوائق السياسية والدينية استطاع عدد من الفلاسفة العرب أن يقدموا نتاجاً يحاول وصل ما انقطع قبل قرون باستعادتهم ابن رشد وابن عربي وابن خلدون خصوصاً. وسيكون بعيداً عن الواقع تجاهل هذا الإنتاج حتى وإن لم يقتصر في معظمه على أسئلة الفلسفة الأولى في الوجود  وفي الطبيعة بل تعداها عمداً إلى المجتمع والثقافة.
هكذا سيستنتج محرر المقابلة من عرض صادق العظم "لواقع الفلسفة في الساحة العربية" أن "الغالب في مشهد النشاط الفكري والفلسفي (...) ترجمة وشرح لبعض أعمال الفلاسفة الغربيين القدامى والمحدثين والمعاصرين إلى العربية والتعليق عليها"، وباعتبار أن "هذه الترجمة شبه السياحية" في نظره "لم تنتج عنها إضافات فلسفية عربية..". وهو استنتاج متوقع ما دام الإنكار عاماً ودون أي تدقيق. كان الأحرى هنا أن يلتفت المحرر إلى السؤال عن طبيعة الإنتاج الفكري بصورة عامة ــ حتى لا نقع في مشكلة تعريف الإنتاج الفلسفي المحض ــ، لاسيما وأن نتاج صادق العظم نفسه يؤلف جزءاً منه، وكيفية تلقيه في المجتمعات العربية وتفاعل القراء العرب مع طروحاته. لكن العظم لن يثير بالضرورة إلا ما أثاره كتابه "نقد الفكر الديني" من ضجة واستمرار طبعه خلال خمسين عاماً فضلاً عن ترجمته إلى لغات أوربية عدة.
 لعل ما يمكن أن يثير الخلاف في معرض هذه المقابلة ما يبدو لي اعتماد صادق العظم لتوصيف السائل بعض المفكرين العرب بالمفكرين الدينيين من أمثال زكي نجيب محمود وأدونيس ومحمد أركون ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وحسين مروة. قد يتسق هذا الوصف مع حسن حنفي، ولكن كيف يتفق مع الآخرين؟ لا يصحح صادق العظم ذلك بل يتحدث عن تركيزه في دراساته "على الفكر الذي يبنى حول العقيدة الدينية" ومحاولة هؤلاء المفكرين تحويل العقيدة الدينية إلى " نظام منطقي يدّعي التماسك والانسجام".حسناً.  ولكن ماذا في هذه الحالة عمن يتناولون بالنقد التراث الديني؟ وماذا عما يسميه كانط "العقل العملي" الذي تبناه بعض المفكرين العرب في هذا المجال؟  تلك أسئلة لم يطرحها المحرر أمام دفق إجابات ضيفه التي تجاوزت حدود أسئلته وما كان يمكن له أن يطرحها ضمن الإطار الذي فرضه على نفسه في هذا اللقاء.
لاشك أن هناك ثيمات أخرى تناولها صادق العظم في عجالة هذه المقابلة. إلا أن أي قارئ لها سبق له أن قرأ مؤلفات صادق العظم وتابع مساره الفكري في مختلف مراحل حياته سيشعر بالضرورة القصوى للقيام بإجراء حوار حقيقي بل وعدد من الحوارات، بل ربما ــ وهذا هو الأكثر نجوعاً ــ لأن تخصص مجلة الجديد عدداً خاصاً حول صادق العظم، الكاتب والمفكر: مشروعه الفكري، ومنهجه، ومساره الفكري خلال نيف ونصف قرن.

** نشر في مجلة الجديد، العدد 21، تشرين أول 2016، ص.: 88