في "عجز" اللغة العربية اليوم
بدرالدين عرودكي
لم تكن الكاتبة الفرنكوفونية ذات الأصل العربي
التي كتبت أول رواية لها بالفرنسية ودعيت للحديث عنها تعرف اللغة العربية. لم تقل
ذلك حين أجابت من سألها من الجمهور عن سبب "اختيارها" اللغة الفرنسية كي
تكتب بها وقالت إنَّ "اختيارها" هذا كان واعياً لأنها لا تعتقد كما قالت بالفرنسية "أن اللغة العربية
قادرة على التعبير عن الهواجس والأحاسيس الحميمة وخفقات القلب الدقيقة التي
أتاحتها لها اللغة الفرنسية"! أما أستاذ الفلسفة الجامعي الذي كتب ونشر الكتب
والمقالات بالعربية وترجم إليها فقد قرر ذات يوم أن يكتب مقالاته بالفرنسية خياراً
واعياً، لا خيانة للغته الأم التي "يتقنها جيداً" كما قال، بل لأن هذه
اللغة هي التي تقوم بالخيانة في عصر يحتاج إلى دقة التعبير ووضوح الأفكار. ويخلص في
النهاية إلى أن لا يرى في اللغة العربية سوى مجرد بقايا أطلال لغة بالية آخذة في
التلاشي"!
ولأن الكاتبة الفرنكوفونية لا تعرف من اللغة
العربية إلا بقايا ما حفظته من كلمات تسمح لها بتبادل أطراف الحديث مع أبويها في
حياتها اليومية، فلابد لنقدها لها من أن يدخل على وجه اليقين في باب من يهرف بما
لا يعرف. ومما يخفف من وقع الأمر أن تلك الكاتبة كانت تتحدث يومها على مسمع جمهور
كانت تدرك أنه معجب بجمالها وجرأة سردها
لأحاسيس بطلة روايتها الحميمة وأنه لن يحتاج إلى مناقشتها فيما تزعمه ولا حتى إلى
التدقيق بسلامة ما تقول.
ليس خيار الأستاذ الجامعي والكاتب والمترجم هو ما
يطرح المشكلة هنا بل تبرير هذا الخيار: الكتابة بالفرنسية رغم أنه "يجيد
العربية" كما يقول، مشكلة صلاحية اللغة العربية اليوم لتكون لغة عصرية
بالمعنى الحقيقي للكلمة: أي قدرتها بمفرداتها وتعابيرها على استيعاب مكتسبات
الحضارة الحديثة سواء في مجال التقنية أو في مجالات العلوم الاجتماعية أو العلوم
الإنسانية أو الآداب. والواقع أنه لا يمكن
لطرحه هذا إلا أن يثير العديد من التساؤلات. أولها وجوهرها هذا الحكم المطلق بعجز
اللغة العربية عن الاستجابة إلى "متطلبات" العصر الحاضر من دقة التعبير
ووضوح الأفكار!
تتردد مثل هذه "الاعتراضات"ضدَّ اللغة
العربية على لسان عدد لا يستهان به من العاملين في حقول الثقافة على اختلافها
ولاسيما منهم من أتيح له أن يمتلك نسبياً ناصية
لغة غربية أخرى، كالفرنسية أو الإنجليزية، ليبرر عزوفه عن اللغة العربية. إذ سرعان
ما يتضح أن هؤلاء جميعاً لم يعرفوا من اللغة العربية إلا ما تلقوه في المدارس
العربية الرسمية المعاصرة من فتات لا يسهم حتى في امتلاك القدرة على كتابة جملة
مفيدة بلا أخطاء نحوية أو إملائية. وكان يمكن لهذه الحجج الواهية أن تذهب أدراج
الرياح لولا أن من يصرخون بها يزدادون
عدداً كل يوم في غياب كامل لأية إرادة سياسية جامعة في هذا المجال تسمح بتفعيل
جادٍّ لمجمعي اللغة العربية في القاهرة أو في دمشق والزج بهما في ساحة هذه المعركة
التي توشك بالفعل أن تؤتي ثمارها الخطيرة على المدى البعيد وتقضي بالفعل على لغة
صارعت الزمان وواجهت ضروب الاحتلال من الشرق ومن الغرب على مر القرون مثلما واجهت
محاولات الإلغاء والمحو لصالح لغة المستعمر عندما رزحت البلدان العربية مشرقاً
ومغرباً تحت سلطة مختلف الدول الغربية بعد هيمنة الإمبراطورية العثمانية قرابة أربعة قرون متواصلة.
لاشك أن حرية الكتابة بلغة أخرى غير اللغة الأم
حق طبيعي لا يمكن لأحد أن يماري فيه. لكن ذلك سيعني هجرة إلى ثقافة أخرى تؤدي إلى
الانتماء إليها. حين كتب جاك بيرك كتابه "كلام العرب حاضراً" عام 1975،
والذي حلل فيه مجموعة هامة من المبدعات العربية في مختلف مجالات الآداب والعلوم
الإنسانية، لم يكن واحداً منها مكتوباً بغير اللغة العربية. أخذ عليه بعض المعنيين
غياب أعمال هامة كتبها عرب عن العالم العربي ولكن باللغة الفرنسية، وساقوا بالطبع
أسماء كبيرة هامة . لكن ردّه على ذلك تجلى في ضرب الأمثلة من الثقافة العربية
نفسها التي ذاب في فضائها عدد كبير من المبدعين غير العرب وصاروا جزءاً منها بحيث
باتت أعمالهم تنتمي إليها. كذلك هو حال الأعمال والمبدعات التي يكتبها العرب
باللغة الفرنسية حتى وإن كان موضوعها عربياً. لا لأن اللغة تشرط التفكير وتفرض
المنهج فحسب بل لأن تفاعل الكاتب لا يمكن أن يتم إلا مع الناطقين بهذه اللغة سلباً
أو إيجاباً.
لا يمكن على كل حال لمن يأخذ على اللغة العربية
"عجزها" عن قول "الأحاسيس والهواجس الحميمة" أن يصدر إلا عن
جهل فاضح بغنى هذه اللغة غير المحدود وبقدرة من أبدعوا فيها من شعراء وكتاب على
الكشف عن ثرائها. فمن يبحث عن هذه القدرة غير المحدودة في التعبير عن أدق مشاعر
الخوف والحب والقلق والرعب والانتظار وما يرافق ذلك من اضطرابات نفسية وعاطفية،
ليقرأ، على سبيل المثال لا الحصر، بائية الشاعر الأموي ذو الرمة (696 ـ 735م): "مَا بَالُ عَيْنِكَ مِنْهَا الْمَاءُ يَنْسَكِبُ/ كَأَنَّهُ مِنَ كُلى ً
مَفْرِيَّة ٍ سَرِبُ"، أو لينظر في إنجاز اثنين من كبار الكتاب العرب
المعاصرين: نجيب محفوظ وزكريا تامر على صعيد تطويع اللغة العربية في الفن الروائي
والقصصي، كلٌّ حسب طريقته لتحقيق مبتغاه الفني. استطاع نجيب محفوظ في رواياته كلها
أن يتلافى اللجوء إلى اللغة العامية في حوارات أبطالها أياً كان مستواهم الثقافي؛
وتمكن زكريا تامر من ابتكار لغة قصصية تنبئ عن خيال مجنح مسلح ببصيرة حادّة ينقلك
بها من عوالم الحب والحنان في الحارات الشعبية إلى عوالم الكابوس والرعب في المدن
وتحت سلطة القهر والاستبداد في لحظات قصصية تستوعب الأزمنة الثلاث معاً دون اللجوء
إلى أية كلمة عامية يلجأ إليها من يريدون "شرعنة" العامية أو
"تثوير اللغة"!
من ناحية أخرى، يعلم كل من درس تاريخ اللغة
العربية أنها اجتازت في تاريخها منعطفاً شديد الأهمية خلال فترة استمرت قرنين ونصف
القرن، بدءاً من منتصف القرن الثامن وحتى نهاية القرن العاشر، ازدهرت خلالها حركة
الترجمة عن الفارسية واليونانية والسريانية وشهدت ترجمة أمهات كتب الفلسفة
اليونانية خصوصاً. من المؤكد أن الذين قاموا بالترجمة عانوا في تطويع لغة كان
مطلقها بقدر غناها، أي بلا حدود، وكذلك في السير بها نحو النسبية التي تسِمُ لغة
العلوم والفلسفة. ومن حسن الحظ أن كاتباً كابن المقفع ــ وهو أيضاً من كبار مترجمي
العصر العباسي ــ لم يشكُ عجز اللغة العربية عن الاستجابة للدقة والوضوح اللذين
كان عصره، هو الآخر، أيضاً يتطلبهما! ذلك أن هذا العصر نفسه شهد أيضاً إلى جانب
الترجمة إنجازات جبارة تجلت لا في مجال علوم اللغة العربية وفقهها فحسب (من سيبويه
إلى إبن جني) بل كذلك في مبدعات النثر العربي التي كان في مقدمتها تلك التي كتبها
الجاحظ.
ذلك يعني في الحاليْن أن عمل الكاتب الأساس ،
أكان شاعراً أو روائياً أو فيلسوفاً أو ناقداً أو عالماً، هو اللغة. ومن المؤسف أن
هذه البداهة تغيب اليوم عن وعي الغالبية العظمى ممن يمتهنون حرفة الكتابة أو لنقل
هوايتها. وهو غياب ربما يفسر أيضاً غياب القراء الذين عرفتهم منطقتنا العربية على
امتداد سنوات القرن الماضي.
سيُقال إن العصر تغير في هذا المجال بفعل وسائل
الاتصال الحديثة والشبكات العنكبوتية. لا شك في ذلك. وهو تغير لا يمكن إلا أن يمسّ
بالضرورة مسألة اللغة، وفي العمق. وهو ما يتطلب
بالضرورة حديثاً آخر.
** نشر هذا المقال على موقع
جيرون، يوم الخميس 27 تشرين أول 2016.