jeudi 29 septembre 2016

روسيا في سوريا: الاحتلال
بدرالدين عرودكي
بخلاف الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن تتردد عند ما ترى ضرورة لذلك  في اتخاذ أي مبادرة عسكرية مباشرة ودون أي تفويض أممي، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين الدولية أو المعايير الإنسانية، وفارضة قوتها المطلقة بوصفها الشرعية الوحيدة، كانت روسيا وهي تحاول استعادة مجد قوتها الضائع، وعلى غرار ميليشيات إيران المرتزقة وهي تتسلل إلى الأرض السورية، بحاجة إلى النفاق والكذب وبعض المشاهد المسرحية كي تبرر نزول قواتها المفاجئ على الساحل السوري في الثلاثين من أيلول قبل عام من خلال ما زعمته دعوة "الحكومة الشرعية بدمشق" لها لدعمها عسكرياً في "الحرب على الإرهاب" من ناحية، ونشرها إعلان الكنيسة الروسية الأرثوذكسية عن دعمها لما وصفته "المعركة المقدسة ضد الإرهاب" من ناحية أخرى!
لم تكن بحاجة إلى ذلك كله. فقد كان دعمها العسكري والسياسي والدبلوماسي للنظام الأسدي صريحاً ومباشراً وبلا حدود. ومثلما سارعت إلى حمايته دبلوماسياً في مجلس الأمن مدعومة من الصين عن طريق حق الفيتو، سارعت كذلك إلى حمايته من ضربة عسكرية أمريكية وغربية محققة إثر استخدامه الأسلحة الكيميائية، مرغمة إياه على تسليم كامل ترسانته منها. ومع ذلك فقد كان إعلانها الدخول مباشرة في "الحرب على الإرهاب" المشجب الذي قررت روسيا استخدامه أمام خصومها الغربيين الذين لم يتأخر بعضهم بالفعل عن التأييد أو على الأقل عن الصمت الفصيح في حين انقسم العالم العربي بين مؤيد صريح مع اعتماد الحجة الروسية المعلنة كدول مصر والإمارات والأردن، ومؤيد ضمني وعفوي كالعراق ولبنان، ومعارض صريح كالسعودية وقطر، ولائذ بالصمت كبقية البلدان العربية!
قيل الكثير عن أسباب الاستنكار الخجول الذي عبرت عنه الولايات المتحدة آنئذ. فسَّرَهُ البعض بأنه رغبة من هذه الأخيرة في دفع الدب الروسي إلى الغرق في وحل سورية مثلما غرق في أفغانستان من قبل. ورأى فيه آخرون موافقة ضمنية على خطوة الروس تكشف عن الموقف الأمريكي الحقيقي مما يجري في سورية والذي يقف على طرفي نقيض من تصريحات البيت الأبيض والخارجية الأمريكية، والذي يسعى لتحقيق هدفه النهائي: الوصول إلى حل سياسي ترضى عنه كل الأطراف طوعاً أو كرهاً حين يضمن مصالح القوتين الروسية والأمريكية. وذهب فريق ثالث اعتماداً على مقال كتبته هيلاري كلينتون عام 2009 ونشرته مجلة "السياسة الخارجية" إلى تفسير ذلك بالتحول الذي طرأ على السياسة الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط بعد أن تراجع اهتمامها بهذه الأخيرة لصالح جنوب شرق آسيا وضفاف المحيط الهادي الغربية. لكن مجرى الأحداث، وما آل إليه التواجد الروسي عسكرياً وسياسياً وأمنياً طوال السنة الماضية، يمكن أن يسمح باقتراب أدق من طبيعة العلاقة الروسية الأمريكية في سورية ومعرفة ما إذا كان قوامها التعاون والتواطؤ أم الاختلاف والتنافس.
هكذا، تحت عنوان الحرب على الإرهاب إذن، واعتماداً على تعريف للإرهابيين سبق للنظام الأسدي أن تبنّاه في حربه ضد شعبه يشمل كلَّ من تظاهر أو حمل السلاح ضده بهدف إسقاطه، باشرت الطائرات الروسية اعتباراً من 30 أيلول 2015 لا قصف المناطق التي احتلها تنظيم الدولة (داعش) بل المناطق والمدن والقرى التي تسيطر عليها المعارضة على اختلاف قواها بلا تمييز بين عسكريين ومدنيين، محاولة بذلك دعم الميليشيات الأسدية والإيرانية كي تتمكن من التقدم على الأرض.
لاشكَّ أن التواجد العسكري الروسي وضع حداً لانهيار النظام الأسدي ولهزيمة الميليشيات المرتزقة العاملة معه. لكنه، كما يرى البعض، لم يتمكن حتى الآن من تحقيق ما يرون فيه الهدف المنشود: قلب المعادلة العسكرية لصالح النظام كي يتمكن من فرض الحل السياسي الذي يريد بعد أن عمل طوال السنة الماضية على إعادة تأهيل النظام الأسدي ورأسه ووضعهما كلما اضطره الأمر ضمن مزادات المفاوضات السياسية التي يجريها سواء مع حلفائه أو مع خصومه. لكن السؤال هنا: هل يريد وهل يسعى فعلاً إلى ذلك، أي إلى القضاء نهائياً على المعارضة المسلحة على اختلافها والسماح بانتصار ساحق ونهائي للنظام الأسدي؟
لا يقدم مسار السلوك الروسي في سورية مع النظام الأسدي، ومع رأس النظام شخصياً، ما يسمح بتأكيد ذلك. من الممكن الإشارة إلى ثلاثة وقائع شديدة الدلالة على هذا السلوك.
أولى هذه الإشارات حين استدعي بشار الأسد يوم 20 تشرين أول 2015 إلى لقاء بوتين بموسكو وحده دون أن يرافقه وفد أو مستشار أو مترجم، وبث صور هذا اللقاء التي كانت تقول كل ما يعنيه هذا الاستدعاء لمن يفترض أنه "رئيس" دولة!
وثانيتهما، حين حاول الأسد وقد أنعشته الضربات الروسية المتلاحقة وأنقذته من الانهيار أن يصرح خلافاً للإرادة الروسية في رسم مسار الحرب والمفاوضات قائلاً "بعدم إمكان أن يكون وقف إطلاق النار ــ كما يسمونه ــ بلا هدف أو زمن" وإعلانه عن نيته "مواصلة القتال حتى استعادة كامل الأراضي" (تصريحات نشرت في 15 شباط 2016)، جاءه الرد الروسي في البداية صاعقاً على لسان فيتالي تشوركين، مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة، حين قال: "إن روسيا بذلت الكثير من الجهود في هذه الأزمة سياسياً ودبلوماسياً وعسكرياً" وأنه بالتالي يرجو "أن يأخذ الرئيس الأسد ذلك بعين الاعتبار". ثم بوجه خاص: "إذا ما حذت السلطات السورية حذو روسيا على الرغم من التصنيفات السياسية الداخلية وخط الدعاية السياسي التي يجب عليهم العمل بها، فسيكون لديها الفرصة للخروج من الأزمة بكرامة، لكن إذا ما ابتعدت عن هذا الطريق على نحو ما فسيكون الوضع صعباً للغاية بما في ذلك بالنسبة لها". مذكراً بأن "الجيش السوري  ما كان بوسعه وحده الدفاع عن دمشق ودحر خصومه لولا العملية الجوية الروسية التي ساعدته في ذلك" وأنه "قد يتمكن هذا الجيش من تحرير حلب، وقد يقولون إنهم لم يعودوا في حاجة إلى الهدنة أو وقف إطلاق النار، وإنه لابد من مواصلة القتال حتى لحظة النصر، وهو ما يعني أن أمد الحرب سيطول كثيراً، وكثيراً جداً". ثم كان الرد على إصرار الأسد على ما قاله عبر تصريح وليد المعلم بأن "مقام الرئاسة" خط أحمر بإعلان بوتين عن سحب جزء كبير من القوات الجوية الروسية من سورية وأنه قد "تم إعلام الأسد بذلك"!
والإشارة الثالثة تمثلت هي الأخرى في زيارة وزير الدفاع الروسي لبشار الأسد بتاريخ 18 حزيران 2016 والذي سيصرح لزائره وهو يستقبله أمام عدسات مصوري التلفزيون الروسي عدم معرفته المسبقة بمن سيزوره ثم بث هذه الصور عبر القنوات الروسية كي تتناقلها القنوات الأخرى في العالم.
يعكس ذلك كله أساس طبيعة الموقف الروسي من النظام الأسدي مثلما يقول في الوقت نفسه  أولوياته التي، وإن كانت لا تتطابق ولا تتقاطع بالضرورة مع أولويات هذا الأخير، إلا أنها تشير بوضوح إلى طبيعة التفاهم الروسي الأمريكي حول الخطوط الأساس في المسألة السورية، على الرغم من كل المظاهر التي توحي عكس ذلك.
لا يمكن لقصف حلب غير المسبوق في الأسابيع الأخيرة بعد إعلان "سقوط" الهدنة التي قررها الروس والأمريكيون إلا أن يقدم دليلاً آخر على هذا التواطؤ الذي يقتضي توزيع الأدوار من أجل الحفاظ على مصالح الطرفين. لقد أراد بوتين أن يحتفل بمرور عام على احتلال قواته سورية كما يليق به، أي بانتصار ما على الأرض. لم يتمكن حلفاؤه السوريون والإيرانيون عبر مرتزقتهم من تحقيق ذلك على أرض حلب. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لم ترفض الاستجابة إلى رغبته. فبعد أن نددت خلال أسبوع بالقصف الأعمى وسمحت للمرة الأولى للأمين العام للأمم المتحدة أن يقول شيئاً آخر غير قلقه، ها هي عشية مرور عام كامل على الاحتلال الروسي لسورية تهدد بوقف التعاون بينهما. وهو ما دفع بوتين إلى أن يأمر وزيري خارجيته ودفاعه بمواصلة التعاون مع الأمريكيين!
هل يمكن، في غمرة ذلك كله، تصديق أن الروس جاؤوا إلى نجدة النظام الأسدي؟


** نشر هذا المقال في موقع جيرون يوم الخميس 29 أيلول 2016.



vendredi 23 septembre 2016




حول "عيوب" بيان المثقفين السوريين
بدر الدين عرودكي
من بين المآخذ التي سجلها في مقاله "مآل الثورة في بيان مثقفيها" (المدن، 16/09/2016) حول بيان الكتاب والفنانين والصحفيين السوريين، رأى ساطع نور الدين أنه ينطوي على رسالة مُرسّلَةٍ "من مجهول مع أنها تحمل تواقيع محددة لأسماء معروفة جيداً ومحترمة جداً"، وتبدو كما لو أنها موجهة "إلى مجهول مع أنها توجّهت بالاسم إلى زعماء دول ومؤسسات"، وأن هذه الرسالة "وصلت متأخرة جداً"، وأن البيان يوجِّهُ إلى الأمريكيين والروس "إتهامات مكررة ومعادة منذ سنوات الثورة الاولى، ويعرضها بوصفها اكتشافاً جديداً للسياسة الدولية تجاه سوريا، أو فتحاً استثنائياً لقلاعها الروسية والأميركية المتواطئة مع نظام الأسد بشكل أو بآخر"، فضلاً عن عيوب أخرى " مصدرها نقص المعلومات السياسية وحتى الثقافية العامة".
تدفع هذه القراءة إلى البحث عن الأسباب التي جعلت صاحبها يستخلص هذه النتائج، مثلما تحمل أيضاً على التساؤل عما إذا كانت لغة البيان بالفعل، كأي لغة قانونية أو سياسية، حمّالة أوجُه ومن ثمَّ يمكن أن يؤدي أحدها إلى تسجيل مثل هذه المآخذ.  
تجدر الإشارة أولاً إلى أن هذا البيان ترجم إلى الفرنسية والإسبانية والإنكليزية كي ينشر في الصحف الناطقة بها في الوقت نفسه الذي ينشر فيه بالعربية. ومما يؤسف له أنه لم يترجم إلى الروسية وإن كان نشره سيواجه ما يشبه الاستحالة في الصحف الناطقة بها.
أي بعبارة أخرى، يجانب كل تدقيق أن يُقال إن البيان يوجِّهُ رسالة إلى زعماء دول ومؤسسات، كما هو الأمر حين يُقال إنها رسالة من مجهول. ولا يشفع لهاتين القراءتيْن أن تُسْتَبَقَا بـ"كما لو أنها" كي تذهبا إلى حيث ما لا يحمل البيان حتى على افتراضه! إذ  حين يبدأ بتحديد صريح وواضح: "نحن كتابٌ وفنانون وصحفيون سوريون، ديمقراطيون وعلمانيون، معارضون لنظام الطغيان الأسدي طوال سنوات أو عقود، ومشاركون في النضال من أجل الديمقراطية والعدالة في بلدنا، وفي إقليمنا والعالم" فإنه لا يترك لا في شكله ولا في مبناه، ولا حتى فيما بين سطوره مجالاً لأي افتراض ولا لأي تأويل سوى ما تعنيه مباشرة كلمات هذا المقطع الافتتاحي فيه. فلماذا مثل هذا الافتراض إذن؟
ثمَّ، لماذا يقرر الكاتب أن "الرسالة جاءت متأخرة جداً"؟ وما الذي كان يفعله الكتاب والفنانون والصحفيون السوريون فرادى وجماعات لا خلال نيف وخمس سنوات فحسب بل على الأقل منذ العام الذي تم فيه توريث الجمهورية لعائلة الأسد ولمن يلوذ بها؟ هل اقتصر ارتياد السجون على سواهم من الناشطين السياسيين أو القادة الحزبيين؟ هل هذا هو أول بيان يصدروه؟ هل هو التعبير الوحيد الذي صدر عن الكتاب والفنانين والصحفيين السوريين؟ ولماذا تجاهُلُ هذا الانفجار في الأصوات السورية في مختلف المنابر الورقية والإلكترونية بصرف النظر عن السمعيات/البصريات على اختلافها؟
 أما أن يتمثل "العيب الوحيد" في أنَّ رسالة البيان جاءت متأخرة مما يحيلها إلى "نص طوباوي لا يمكن الرجوع اليه والبناء عليه إلا في حلقات الذكر الثقافي- السياسي"، فذلك ــ فضلاً عن هذه السخرية التي لا تفرض نفسها في هذا المقام بالضرورة ــ يضفي على نصوص بيانات الإدانة أو الاحتجاج ما لا قبل لها بحمله أصلاً. إذ متى كانت وظيفة البيانات تتجاوز مهمة التحريض أو الإعلام أو الشهادة أو التعبير عن رأي جماعي قد يصمُّ المرسل إليهم آذانهم وأفئدتهم عنه؟ وما الذي كان يمكن أن يحدث لو افترضنا صدور هذا البيان نفسه في الموعد الذي يعتبره الكاتب مؤاتياً ؟
هل هو فعلاً رسالة أرادت أن تطلق مجرد "صرخة ثقافية – سياسية، في وجه النظام العالمي الحاكم" أو "لتعلن ان الثقافة والسياسة في سوريا لم تندثر ، ولم تختفِ وراء ذلك الصراع المدمر بين أقصى الاستبداد الذي يمثله نظام الأسد من جهة وبين أقصى التطرف الإسلامي الذي يتقدم ويتمدد بين مناهضيه من جهة أخرى"؟ ألا يعني النظر إليها على هذا النحو إغفالاً لمضمونها الأساس (توصيف كفاح السوريين التحرري، الصفقة الكيمياوية، مصير العدد غير المحدود من المعتقلين، حصار المدن والمناطق، الميليشيات الطائفية على الأرض السورية لمساندة النظام الأسدي..) ولمرماها (رفض الاتفاقية الأخيرة جملة وتفصيلاً، والتنديد بالتواطؤ الروسي الأمريكي) ولمن تتوخى وصولها إليه (الرأي العام في دول الغرب الديمقراطي)؟
ثم أليس غريباً القول إن "رسالة الكتاب والمثقفين والصحافيين السوريين الـ 150" قد جاءت "من خارج أي سياق"؟ ماذا نسمي إذن ما يجري في سورية اليوم؟ ألا يؤلف الاتفاق الروسي الأمريكي الأخير سياقاً كافياً، وهو الذي يأتي كآخر حلقة في سلسلة الاتفاقيات والمؤتمرات والتواطؤات الروسية الأمريكية منذ عام 2013 على الأقل كما يقول البيان على وجه الدقة ؟ ألا يقول مضمون البيان نفسه هذا السياق؟
من الواضح أن البيان لا يخاطب السوريين بل إنه لم يكتب لهم أساساً، وإنما يحاول أن يكون بالأحرى صوتهم. من الطبيعي والحالة هذه أن يكرر البيان لمخاطبيه من الرأي العام في الغرب ما يصفه المقال المشار إليه  على أنها "اتهامات مكررة ومعادة منذ سنوات الثورة الأولى". إذ لم نسمع بعدُ أن الرأي العام الأوربي والأمريكي قد أدرك تمام الإدراك ما جرى ويجري في سورية، أو أنه انحاز إلى قضية السوريين التحررية، أو أنه كف عن أن يرى فيهم مجرد سلفيين إسلامويين يؤلفون الهدف الأول لحرب شاملة ضد الإرهاب! كلُّ من يتابع وسائل الإعلام الفرنسية والبريطانية والأمريكية ــ وهي المرجع الأساس في تكوين الرأي العام ــ يعلم تمام العلم أنها في غالبيتها العظمى تشارك مشاركة حثيثة في إعادة تأهيل النظام الأسدي عبر التركيز على الحرب ضد الإرهاب بل والتعاون معه في خوضها ما إن أعلن تنظيم الدولة الإسلامية عن مسؤوليته عن العمليات الإرهابية في مدن فرنسا وبلجيكا. ولقد شهد الجميع على سبيل المثال كيف أن الأولوية في السياسة الخارجية الفرنسية الخاصة بسورية قد أعطيت بعد العملية الإرهابية في تشرين الثاني من العام الماضي للحرب ضد تنظيم الدولة دون أي هدف آخر.
لا يشير المقال وهو يذكر بقدر من الإجحاف وجود "عيوب أخرى كثيرة مصدرها نقص المعلومات السياسية وحتى الثقافية العامة" إلا إلى عيب واحد منها تجلى في "المطالبة بتغيير النظام العالمي" واعتبرها "قفزة غير موفقة ومغامرة غير مناسبة"، لأنها "لا يصح أن تصدر إلا عن قوة أو قوى عالمية كبرى"! ولماذا تحديداً؟ ما الذي تستطيع أية قوة عالمية أن تفعله ضد القوتين الأمريكية والروسية بحيث ترغمهما على تغيير النظام العالمي الذي يسيِّرانه فعلاً متفقتيْن أو مختلفتيْن أو متواطئتيْن؟ من المؤكد أن الموقعين على البيان لا ينطلقون إلا من الصفة المهنية التي وصفوا بها أنفسهم في بداية بيانهم. وبسبب هذه الصفة تحديداً وبما يمكن أن تخولهم من حقوق، لا يصح، بالأحرى، الحكم على مطالبتهم بضرورة تغيير هذا النظام الدولي الذي "تحطمت ثورة السوريين على جداره الصلب، وليس على جدار الفاشية الأسدية وحدها" بأنها قفزة غير موفقة.
لا يفوت كاتب المقال، مع ذلك، أن يشير إلى ما نجح البيان في تحقيقه: "تصحيح صورة سوريا وثورتها وإزالة الشوائب التي علقت بها وكادت تختزلها بأرض الميعاد الاسلامي، أو البعثي، أو كادت تختصرها بالحرب العالمية العشوائية على الارهاب، التي برهن النظام أنه أشد براعة في استثمارها.. والتي لم تجنٍ منها المعارضة سوى الهلاك" قبل أن يرى أنه "لا بد من نص مقبل، لا بد من نصوص لاحقة، تنزل من مستوى الاستنكار للنظام العالمي الجائر بحق سوريا، والادانة للغزو الروسي والتواطوء الاميركي، وتؤسس لحراك سوري موازٍ  يخاطب عموم السوريين ويجادل في الثورة وخصومها الكثر ، ويشكل قوة ضغط حقيقية على مؤسساتها".
قد يكون ذلك شديد الأهمية. لكنه على أهميته أمرٌ آخر. فقد كان المأمول قبل ذلك أن يُقرأ البيان في مراميه الواضحة والبليغة، بلا أفكار أو حتى أحكام مسبقة.


** نشر في موقع جيرون يوم الجمعة 23 أيلول 2016.


mercredi 21 septembre 2016




الأمانة العامة لجائزة سلطان العويس الثقافية
كلمة الضيوف في حفلة توزيع الجائزة لعام 1992
بدرالدين عرودكي
أيها السادة
لا أدري، وقد طلب إليَّ أن أتحدث باسم ضيوف هذا الحفل، إن كنت سأنجح في التعبير عما يودون التعبير عنه. سوى أني لا أكتم أمامكم غبطتي لهذه الفرصة التي تكرمت أمانة جائزة سلطان العويس الثقافية فأتاحتها لي، كي أقف بين أساتذة كبار أكاد من فرط معرفتي بأعمالهم لا أصدق أنني أراهم للمرة الأولى، وبين مجموعة من المواهب المبدعة التي كان لي حظ وشرف صداقتها: أفرح بما تلقاه بعضهم قبل سنتيْن، ولما تلقاه هذه السنة بعضهم الآخر من تكريم.
تكريمُ مَنْ في الواقع؟
عندما يتمُّ اليوم تكريم إحسان عباس وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وسعدي يوسف وعبد الرحمن منيف وألفريد فرج، مثلما تم من قبل تكريم حنا مينة وسعد الله ونوس وفدوى طوقان وجبرا إبراهيم جبرا وعلي جواد الطاهر، ومثلما يتم تكريم وتكريس شاعرنا الأكبر محمد مهدي الجواهري، فإنما يُكرَّمُ في أشخاصهم، عبر الحدود، وفيما وراء أسلاك الانتماءات السياسية والفكرية، كل القراء العرب الذين تلقفوا هذه المبدعات وحملوها وكرَّموها هم أولاً بالإعجاب وبالإقبال أو بالخصام وبالاحترام.
تكريمهم إذن تكريم القارئ العربي، ومن ورائهم جميعاً تكريم تراث هذه الأمة التي يشاركون في إغنائه وفي إخصابه وفي تجديده. تكريم لهذه الاستمرارية التاريخية التي تميز ثقافتنا العربية رغم كل المحن التي تعرضت لها منذ قرون وقرون: من قمع وإنكار ومحاولات إخصاء أو احتقار أو، في أفضل الأحوال، من تجاهل..
على أني أرى في هذا التكريم أيضاً معنى آخر لا يقل بل ربما فاق أهمية المعنى الأول. إني، عندما أستعرض أسماء المُكرَّمين، أرى فيه تكريماً لمن لم يختاروا سوى العقل منهجاً، والقلب دليلاً، والشك والسؤال ــ والسؤال هنا بمعنى العذاب ــ طريقاً.
إنه تكريم العقل والقلب اللذين كانا وراء كل نقلة نوعية في تاريخ ثقافتنا، حتى في أحلك مراحلها ظلاماً... (واسمحوا لي بهذا المثل: هل كان ابن خلدون سوى ابن مرحلة التجزئة والانفكاك وصراعات المصالح السياسية الضيقة والأنانية؟..). إنه إذن ثناء على البحث الذي لا يكلُّ عن الطريق الأفضل لصياغة الأسئلة لأنها ستكون الطريق الأقصر للوصول إلى ما نبحث عنه من إجوبة..
ذلك ما يحثني على القول: إن هذه الجائزة الفتية في طريقها، بسبب ذلك، إلى أن تتحول إلى مؤسسة مؤثرة، شديدة الأهمية، في حياتنا الثقافية الراهنة.
 فهي بطبيعتها، وبالمنهج المستقل الذي اختارته لنفسها في توجهاتها، مُهَيَّأة لأن تلعب هذا الدور الذي لا تقوم به فيما أعلم أية مؤسسة أخرى على امتداد وطننا العربي.
لأنها ستتمكن، من جهة،  في أن تجعل من يحملها يستمر في الاعتزاز بما هو حقه المقدس الأول: حريته كمفكر وكمبدع.
ولأنها ستعمل، وهو شرط لا غنى عنه لنجاحها أصلاً، على اكتساب قراء جدد له.. وهنا تكمن أساساً أهمية أية جائزة في نظر من يتطلع إلى اكتسابها.
وهذان، والحق يقال، عنصرا نجاح أي جائزة أدبية في عالمنا اليوم.
ومن هنا، فإنه لا بدَّ أن ننظر إلى هذه الجائزة على أنها مؤسستنا جميعاً نحن العرب في مشرق الوطن العربي وفي مغربه، نحن العاملون في الحقل الثقافي على اختلاف ميادينه وحقوله.
كل ما أتمناه، ما نتمناه، أن ننجح، وأن نستمر بشكل خاص.
هنيئاً للأساتذة وللأصدقاء تكريمهم.
وهنيئاً للقائمين على هذه الجائزة جهدهم.
وتحية كريمة لمؤسسها.
وشكراً لكم.


** كلمة ألقيت في حفل توزيع جائزة سلطان العويس الثقافية، الشارقة، 25 شباط/فبراير 1992.


jeudi 15 septembre 2016


النظام العربي  والاتحاد العام للكتاب العرب وسورية

بدرالدين عرودكي

لم يكن استثناءاً من سواه أن يكشفَ البيان النهائي الصادر عن المؤتمر الأخير للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب الذي انعقد في دبي قبل أسبوع عن طبيعة النظام السياسي العربي الحالي في أشدّ تجلياتها شمولاً والتي يمكن قولها بكلمات عدة: أجمل الكلمات في غياب الأفعال! لكنه ينطوي وهو يكرر اليوم ما سبق وقاله أكثر من مرة في مؤتمراته السابقة على أكثر من دلالة ليس أقلها التعامي أو سوء النيّة أو الاستهتار بعقول الناس أو كل ذلك معاً.

لا يقتصر الأمر في هذا البيان على تجاهل مأساة السوريين شعباً منذ نيف وخمس سنوات، ولا على تناسي مقتل وسجن وتغييب العديد من الكتاب السوريين فضلاً عن نفي أو تهجير معظم الأحرار منهم، ولا على اللامبالاة إزاء رابطة الكتاب السوريين التي تمثل هؤلاء الأخيرين التي تجسدت في تعامُلٍ يفتقر إلى أدنى ضروب التهذيب مع رسالة صريحة أرسلها رئيسها صادق العظم إلى رئيس الاتحاد العام للكتاب العرب بمناسبة مؤتمره هذا على وجه الدقة حين لم تحظ منه حتى بتأكيد الاستلام.

لا يقتصر الأمر كذلك على طريقة تسوية الخلاف مع رئيس اتحاد الكتاب الأسدي بدمشق الذي نشب إثر بيان أصدره الأمين العام للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب واستنكر فيه قصف المدنيين في مدينة حلب دون اتخاذ أي موقف لصالح هذا الطرف أو ذاك لكنه، وعلى حذره من تسمية الأشياء بمسمياتها الفعلية، بدا لبعض الحالمين وكأنه يبشر بعهد جديد تُقدَّسُ خلاله حرية الكاتب الحقيقية في إدانة استبداد النظم العربية وعنفها ولاسيما النظام الأسدي، إلا أنَّ رئيس اتحاد الكتاب الأسدي رأى أنه كان على الأمين العام قبل إصدار بيانه "العودة إلى رئيس اتحاد الكتاب العرب في سورية بوصفه مساعداً للأمين العام للاتحاد، وبوصف اتحاد الكتاب العرب الجهة التي كان يجب العودة إليها بهذا الشأن لمعرفة ما يجري في سورية حقاً لا زيفاً ولا تشويهاً"، وهي تسوية تمت عن طريق الاحتفال برئيس هذا الاتحاد الأسدي الطابع والخطاب الذي يمثل كل من يستسيغ اليوم الاستبداد والقمع ويقبل العيش في ظل حرية فكر قرر مؤسس هذا النظام منذ بداية السبعينيات من القرن الماضي أن لا رقابة عليه سوى رقابة ضمير رأينا كيف جسّدته من بعدُ مجموعة الدوائر الأمنية السورية على اختلافها.

 كما أن الأمر لا يتوقف عند استخدام لغة خشبية اهترأت من كثرة استخدامها أسماءً بلا مسميات وصفاتٍ لموضوعات لا وجود حقيقي لها في الواقع العياني. بل تضمن ما هو أسوأ من ذلك كله: جوهر الصفاقة الذي تجسد في تبنٍّ حرفي لخطاب نظام الممانعة الأسدي بمفرداته ومعانيه ونفاقه وكذبه. ومن ثم لم يكن صدفة أن عُهِدَ إلى ممثل اتحاد الكتاب الأسديين كي يلقي هذا البيان في ختام أعمال المؤتمر مادام بوصفه عضواً في لجنة الصياغة قد أملى إرادة أسياده كما لو كان ذلك جزءاً من التسوية بين الأمين العام ونائبه!

يكفي أن نستعرض بعضاً من هذه "الثوابت" التي أتحفنا بها هذا البيان كي نتحقق من هذا التماهي في لغة النظام الأسدي الخشبية: هناك كالعادة مشجب نظم الاستبداد العربي المفضَّل: القضية الفلسطينية وما يرتبط بها عبر "التأكيد على حق الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الصهيوني لأرض فلسطين، وفي تقرير مصيره، وبناء الدولة الفلسطينية ذات السيادة على كامل التراب الفلسطيني" من ناحية، و"التأكيد على مقاومة مختلف أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني"، والتأكيد على "ثقافة المقاومة" وذلك "من أجل مواجهة مختلف أنظمة الاحتلال لأجزاء من الجغرافية العربية، ومنها: الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين والجولان السوري ولمزارع شبعا اللبنانية" مع إضافة جملة غابت عن أدبيات النظام الأسدي زمناً طويلاً وها هي تستعاد بمناسبة العداوة القائمة بينه وبين تركيا، أي: "الاحتلال التركي للواء اسكندرون السوري"، من جهة أخرى. وهناك ادعاء ثقافة الحوار: من خلال "دعوة الأدباء والكتاب العرب والقوى الفكرية والسياسية في الوطن العربي إلى تغليب لغة الحوار على لغة الشحن العرقي، والديني، والطائفي، وإلى تعزيز ثقافة التنوير"، ثم خصوصاً "دعوة الحكومات العربية إلى احترام حرية التعبير والاختلاف في الرأي والتخلي عن أي دور وصائي على أي جهة ثقافية عربية"، وأخيراً "الوقوف إلى جانب قوى التنوير والدعوة إلى دعمها بمختلف الأشكال بما في ذلك حق هذه القوى في بناء بنفسها وفي تمكينها من مواجهة الفكر الظلامي".

لا يختلف البيان في طريقة صياغته وفي توجهاته العامة عما يصدر عن المؤتمرات التي تنظمها الجامعة العربية أو المنظمات التابعة لها سواء في المجال السياسي أو الاقتصادي أو الثقافي: لغة خشبية تعبر عن عجز بنيوي يتفاقم مع طبيعة علاقات القوى القائمة في مجلس الجامعة بين أعضائها ويتحول شللاً تاماً في غياب كل إرادة لعمل جماعي ناجع، ولاسيما إرادات الدول التي كانت على مدار تاريخ هذه الجامعة تشحنها بكل ضروب المقويات الضرورية لاستمرارها وبيان فاعليتها.

إذا كان الأمر على هذا النحو فذلك لأن رؤية نمطية واحدة تميز سلوك وفكر وعمل القائمين على الجامعة ومؤسساتها المختلفة والعاملين فيها مثلما تميِّز سلوك وفكر وعمل القائمين على اتحادات وروابط الكتاب والأدباء العرب والمنتسبين إليها، هذا مع أن هذه الأخيرة لا ترتبط بأية صلة، رسمية أو غير رسمية، بالأولى.

وتلك هي الآفة!

فإذا كنا في حالة الجامعة العربية ومؤسساتها إزاء موظفين دبلوماسيين يأتمرون بأوامر دولهم وهو أمر مفهوم وطبيعي، فمن المفترض أننا إزاء منظمات كتاب أو روابط أدباء تتمتع بالاستقلال الكامل عن سياسات بلدانها ولا تخضع فيها إلا للقانون العام الناظم لمثيلاتها. لكن الأمر، كما هو واضح، ليس على هذا النحو. إذ في الوقت الذي اختارت فيه الجامعة العربية مثلاً أن يبقى كرسي سورية في مجلس الجامعة شاغراً، يفضل الاتحاد العام للكتاب العرب أن يشغل كرسي سورية فيه اتحادٌ يمثل أفضل تمثيل أسوأ نظام سياسي عرفته سورية في تاريخها الحديث وذلك بعد أن شهد العالم أجمع ــ باستثناء الاتحاد العام وأعضائه من الاتحادات العربية كما يبدو ــ ما فعله ولا يزال يفعله هذا النظام من قتل وتدمير وتهجير في سورية. اتحادٌ ساهم بصمته في ممارسات النظام الأسدي الذي اعتقل وشرد العديد من الكتاب السوريين بل وقتل العديد منهم من أمثال الروائي محمد رشيد رويلي والروائي إبراهيم خريط (الذي تم قتله مع ولديْه) والشاعر محمد وليد المصري. اتحاد يزعم رئيسه أنه المصدر الوحيد للمعلومات عما يجري في سورية كما أعلن في الرد على استنكار قصف المدنيين بحلب. اتحادٌ يعلن دفاعه عن  حرية الرأي والتعبير ويتوقف عن دفع الراتب التقاعدي لكل عضو يمارس هذه الحرية كما فعل مع المرحوم حسين العودات.

كما لو أن الاتحاد العام للكتاب العرب وهو يستقبل ويحتفل باتحاد كتاب النظام الأسدي يؤكد على غرار الحكومات الغربية والعديد من الحكومات العربية اعترافه بالنظام الأسدي بعد أن تم إعادة تأهيله والتغاضي عن جرائمه!

هل يمكن لمثل هذا الموقف أن يكون فعلاً  موقف كتاب أحرار؟



** نشر على موقع "جيرون"، الخميس 15 أيلول 2016





mercredi 14 septembre 2016


من وحي الشيخ  مصطفى إسماعيل

بدرالدين عرودكي

"ويحبون أن يُحمَدوا بما لم يفعلوا..". ما عليك!  دع المعاني تسري في خلاياكَ عبرَ مساماتك. تسْتقرُّ فيكَ وتندهشُ أنكَ مُدْركَها وما أنت مدركها بجهدٍ عقليٍّ بذلته. فما الذي يحدث إذن؟

هوذا .. هوذا الصوتُ ينطلق، حنوناً، مترفقاً، يداري حرفاً بعد حرفٍ وكلمة بعد كلمة ثم جملة بعد جملة. يتوقف هنا هنيهة ليستأنف من ثمَّ على قوة وثقة. يترفق حيث يتوجبُ الرفقُ فتترفق. يتراقصُ جذلاً من فرحٍ مُستوجبٍ فإذا بك تتراقصُ معه على استحياءٍ وتخشى، حاشَ، من أنْ.. ثمَّ لا تجدُ في ذلك مأخذا. يتألمُ إذ يرقُّ وهو يمدُّ الياءَ في أليم فتتألمُ الألمَ تستقرؤه كيفَ يستقرُّ شحنة معنىً لا تنضب في كل حرف من الحروف الأربعة وكيف تتلاشى الحدودُ بين الصوتِ والكلمةِ والحروف عندما يدرك الميم ويرتاح عند سكونها ليتدفق المعنى.

هوذا.. يدهشك أنه إذ يغنّي لا يغنّي بل يتغنى.

"فلا تذهب نفسُكَ عليهم حسرات"..

وأنت تستمعُ إليه يعيدها مرة ثانية وثالثة مترفقَ الخطاب والصوت تذرفُ دموعاً لا تدري كيف أتتكَ على أجنحة السنوات الأربعين تجتاز في طرفة عين كل ما عشته من أيام وليال لتتدفق من جديد كالمرة الأولى حارة وافرة..

ما إن افتتح الشيخ قراءته من جديد، حتى انتقل إلى عالم آخر قوامه المسجد الأموي بدمشق (ما أكثر ما أطفأ حنينه إليه بزياراته المتعددة إلى المسجد الجامع في مدينة قرطبة) وأبوه وأصدقاؤه وطفل كان يسعى إلى أن يكون كالشيخ (كما رآه في السادسة من عمره في مسجد جامعة دمشق) في قوامه وفي قامته وفي لباسه وفي صوته!

كان يلاحق المعاني  في ترجمة جاك بيرك الفرنسية مقارناً النصّيْن دون أن ينتبه كثيراً، آنئذ، إلى قدرة بيرك الشعرية الهائلة التي كانت تتجلى له في محاولته أداء المعاني القرآنية. ذلك أنه ما إن وصل إلى قول  يعقوب مستسلماً لرواية إخوة يوسف عن أكل الذئب له: "فصبرٌ جميل".. وإلى أداء بيرك له بالفرنسية: "Patience est belle…" وإلى ركونه إلى أنه لم يُوَفق هنا، حتى أعاد الكتاب الجميل إلى علبته الأنيقة ووضعه على رف المكتبة إلى جانبه، ليستغرق في متابعة صوت لم يعرف القرن العشرون له مثيلاً ولا أداء بمستوى أدائه سوى صوت وأداء الشيخ محمد رفعت (ترتسم فجأة في ذاكرته صفحة من مجلة المصور المصرية خصصت لرثاء الشيخ إثر وفاته عاتم 1951 والكلمات التي كتبت تحت رسم له وهو يتلو القرآن مغمض العينيْن: "صوت كنسمات الفجر أو كدعاء الكروان..." ثم راح يستمع بإنعام وركون إلى هذا الأداء الموسيقي الرفيع لأروع ما أنتجته الشعرية العربية: مبدع فني آخر من طراز فريد. معاني القرآن في لغته الخارقة تتأدى بصوت إذا ما بلغ قمته وتجلى صار جزءاً من إعجازها. ولن ينسى ما حدث له يوم كان في طريقه إلى مكتبه يقود سيارته ويستمع إلى تسجيل صوت الشيخ على مسجل السيارة يقرأ سورة يوسف ذاتها. كان قد وصل إلى ذروة أدائه في هذا التسجيل عند تلاوته الآية: "وراودته التي هو في بيتها عن نفسه وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله" عندما بلغ نهاية شارع ديفور توقف عند الإشارة الحمراء قبل أن ينعطف في اتجاه جادة السان جيرمان. كان مستسلماً لتموجات الصوت وهو يفسر عبر ثلاث قراءات وثلاث أداءات متباينة  لجزء من الآية: "وغلقت الأبواب  وقالت: هِيتَ لك" أو "هِئتُ لك" أو هَيْتَ لك"، ثم ليستعيد الآية كلها من أولها "وراودته" إلى "معاذ الله" في نفس واحد  متصاعداً بصوته تدريجياً حتى يصل الذروة الحاسمة المُفَسِّرة لكل الموقف. ذروة في سلم التعبير مثلما  هي ذروة في التبيين والتعيين من خلال الصوت وطريقة الأداء. وعندما بدأ بإعادة القراءة المتعددة ثانية، وكان لا يزال في الذروة التي حُمِلَ إليها، خيل  له أن المطر بدأت تهطل  وذلك من خلال القطرات التي ارتسمت أمام عينيه على زجاج السيارة. فحرك المسّاحتيْن ليتبيَّن الطريق أمامه لكنهما أحدثتا صوت انزلاق حادٍّ على الزجاج. إذ لا مطر هناك ولا ما يحزنون! بل هي دموع كانت تملأ عينيه من شدّة التأثر وامرأة فارعة القامة، ساحرة الجمال والخفة، كانت تحدق به وهي تجتاز الشارع أمامه وترتسم على وجهها ابتسامة عجب وتساؤل (هل كانت حقاً امرأة رآها أم كانت خيال امرأة ابتكرتها مخيلته وهو في أقصى النشوة؟). حدث ذلك كله في ثوان معدودات بدت له وكأنها الأبدية ليستيقظ على زعيق أبواق السيارات من ورائه تحثه على الحركة وهو لا يسمعها فيما بدا له شرطي المرور ينقر بأصابعه على الزجاج يريد أن يكلمه ويستفهمه عن سبب توقفه. "لا شيء ياسيدي، سوى أن محرك السيارة توقف..." وكان قد توقف فعلاً، و "هو يرفض الآن أن ينطلق من جديد..".

لا يدري كيف قضى ذلك النهار في عمله. كان غارقاً في نشوة لم يعرفها منذ يفاعته، أي منذ أن كان قادراً على الاستغراق في أحلام عن مستقبل يكيِّفه كما يشاء، سوى أنها نشوة تعيد له زمناً مضى بأشخاصه، وأمكنته، ونوادره، وأتراحه، وأفراحه، وفي القلب منه، في نقطة المركز، يتربع الشيخ مصطفى إسماعيل.



** نشر هذا النص في صحيفة أخبار الأدب بالقاهرة، حزيران/يونيو 1999.