إيران
الاعتدال والوسطية!
بدرالدين
عرودكي
قد تثير قراءة تصريح حسن
روحاني، رئيس جمهورية إيران الإسلامية، الذي أطلقه بأن بلاده "لا تمثل
تهديداً لأيِّ دولة" وأنها تنوي "اعتماد سياسة الاعتدال والوسطية في
التعامل" وبأنَّ
"طهران تريد تفاعلاً مع العالم ومع دول الجوار" بعضَ السخرية ولا سيما حين
يُقارنُ على الفور بتصريحات أخرى متزامنة لأقطاب هرم السلطة الإيرانية، كالمرشد
الأعلى أو رئيس الحرس الثوري، تناقِضُ شكلاً وموضوعاً مثل هذا التصريح، أو بأفعالٍ
تقوم بها الدولة الإيرانية على الأرض مُكذِّبةً بها معاني هذه الأقوال ومقاصدها.
من الممكن بالطبع افتراض حسن النية، أي افتراض صدق ما هدف إليه حسن
روحاني، واعتباره موقفاً بين مواقف أخرى تتصارع داخل فضاء السلطة الإيرانية
الحالية ولم يجر بعدُ حسمها لصالحه. سوى أنَّ مثل هذه التصريحات، تستدعي بالضرورة في
الذاكرة، لدى من لا يزال يملكها على الأقل، تصريحات أخرى كان يدلى بها مسؤولون
آخرون في دولة أخرى، ليست بعيدة عن إيران، طوال سنوات، وكانت كمثيلتها الإيرانية
اليوم، وطوال سنوات أيضاً، تقف على النقيض من الأفعال.
مَنْ تابع خلال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تصريحات
المسؤولين الإسرائيليين الموجّهة إلى أوربا عن "البلد الصغير الباحث عن
السلام والمُحاط ببلدان مدججة بالأسلحة والعتاد" يستطيع أن يلاحظ وجه
المقارنة هنا. إذ وهي تتابع استراتيجية محكمة في تثبيت هيمنتها على الأرض والبشر في
فلسطين، خاضت إسرائيل الأساطير التوراتية، خلال أقل من عشرين عاماً، ثلاثة حروب
كبرى من دون أن تكف خلال الفترات الفاصلة بينها عن خوض حروب صغيرة كانت على الدوام
تقوم فيها بدور المعتدي وهي تزعم الدفاع عن نفسها. بل إنها أطلقت على جيشها منذ
بداية تأسيسه رسمياً اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي" في الوقت الذي كانت
تحتل فيه الأراضي التي تحلم على الدوام بالهيمنة عليها، بصورة أو بأخرى، عقيدة
عسكرية واستراتيجية بعيدة المدى في آن.
كذلك النظام الإيراني الذي أقام نظام ولاية الفقيه على أساطير أقرب
عهداً من الأساطير التوراتية لكنها لا تمت على كل حال إلى هذا العصر بصلة سوى
استمرارية الجهل والتجهيل في الوعي الجمعي، واتخذ هو الآخر من "الدفاع"
أفضل وسيلة لـ"الهجوم" مع تغيير في الوسائل والأدوات تقتضيها متطلبات
الحقبة الراهنة من التاريخ. لم ترسل إيران كما فعلت إسرائيل جيشاً تحتل به هذه
الأرض أو تلك ــ باستثناء احتلالها الجزر الثلاثة التابعة للإمارات العربية
المتحدة ــ بل أرسلت "مستشارين عسكريين" و"مدربين" و
"خبراء فنيين" أو أنها استنبتت في الأراضي التي تطمح إلى الهيمنة عليها جماعات
تقوم بالوظائف التي تخدم سياساتها وفق دفتر شروط محدد مسبقاً يتضمن مختلف
الفعاليات المحرمة أو المسموح بها.
وكما استفادت إسرائيل قبل قيامها من غياب الإرادة العربية المستقلة ثم
بعد إعلانها دولة من تشظي الوضع العربي بحيث أمكنها أن تحقق هيمنة عسكرية وأمنية
لم تتمكن أية قوة عربية من كسرها حتى الآن، كذلك حاولت إيران المرشد الأعلى ولا
تزال الاستفادة من نتائج الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى مزيد من شرذمة
العالم العربي، فعملت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي على كسر ما كان يُسَمّى
التضامن العربي وعلى تعميق الشرخ الذي سعت إلى إقامته بين البلدان العربية منذ أن
وقف حافظ الأسد، خارجاً للمرة الأولى على الإجماع العربي، إلى جانبها في الحرب
التي قامت بينها وبين العراق، ثم أخيراً، وامتداداً لتلك السياسة بانتظار إنهاء
مشكلتها النووية مع الغرب، على إعداد متطلبات الحقبة التالية التي كانت ولا زالت تتطلع
إلى أن يتم خلالها تتويجها دولة إقليمية كبرى، محققة بذلك حلم الشاه الإمبراطوري القديم.
هكذا وبفضل العلاقة التي نسجتها مع النظام الأسدي منذ هيمنة ولاية
الفقيه على الثورة فيها، أمكن لإيران بدأب أن تنشِئ في لبنان، وهو في أوج الحرب
الأهلية، قاعدة عسكرية من نوع خاص تجاوزت بها مفهوم القواعد العسكرية التقليدية التي
اعتمدتها الدول الكبرى خارج حدودها في حقب مختلفة من تاريخ عالمنا المعاصر،
باعتمادها صيغة أخرى أكثر نجوعاً وأقلّ كلفة وأكثر مردوداً على الأصعدة جميعاً
ولاسيما صعيد السياسة الخارجية، تلك التي تجسّدت في حزب الله. إذ لا يمكن بها أن
تغدو دولة مستعمِرة، مادامت لا تتواجد عسكرياً في البلد الذي أقامتها فيه، وما كان
لأحد أن يأخذ عليها نصرة معنوية ومادية تقدمها لطائفة من اللبنانيين عاشت عشرات
السنين من الإهمال والتهميش الاقتصادي والثقافي. ولم تكن وسائل الإعلام تتيح في
بدايات إنشاء هذه القاعدة معرفة ولاء قادتها الحقيقي إلا عبر افتراضات تكذبها على
الفور دعاوى المقاومة والتحرير. وقد أمكن لإيران بفعل هذه القاعدة/الحزب التي باتت
دولة داخل الدولة أن تمسك بزمام السياستين الداخلية والخارجية في لبنان وأن تكون
المرجع الأول والأخير فيهما، لا تجيز لأحد الاعتراض على قراراتها، ولا كبحها عن زجِّ
البلد كله في أتون حربٍ لا ترغب أكثرية قواه السياسية والشعبية الدخول فيها.
على أن دعاوى المقاومة التي تأسست عليها لم تسقط كلياً إلا بعد انطلاق
الثورة السورية وقيام هذه القاعدة في السنوات الأولى منها بأداء كلَّ ما يستجيب
لمتطلبات السياسة الإيرانية الداعمة للنظام الأسدي ولاستمراره أياً كان الثمن: أرسلت
جنودها للقتال إلى جانب قوات النظام ثم حلّت محلها وذلك قبل أن تقرر إيران، تحت
وطأة الضرورة القصوى وخوفاً من انهيار مخططها، أن تزيد من دعمها وأن تدفع هذه
المرة بجنودها من الحرس الثوري بصفة مستشارين وقادة لجماعات المرتزقة الذين جاءت
بهم كتائب من أفغانستان والعراق.
بفضل إسهام هذه القاعدة المادي والدعم التقني واللوجستي والمالي الذي
يقدمه نظام ولاية الفقيه في إيران لها، أمكن لهذا الأخير حتى اليوم المحافظة على
نظام يدرك أن انهياره سيكون إنذاراً بانهيار لا كل ما بناه منذ قيامه حتى اليوم،
بل انهياره هو نفسه وفي عقر داره. ذلك ما يفسر المغامرة الإيرانية في سوريا التي
تجلت في تغيير طبيعة ممارسة هيمنتها من خلال تواجد قواتها المقاتلة على الأرض
السورية كما قرر مؤخراً مرشدها الأعلى.
لم تتأخر إيران بعد نجاحها في استنبات قاعدتها اللبنانية وصيرورتها
الذراع الضاربة عن تكرار التجربة في العراق من خلال صيغ عدة وعلى أكثر من مستوى
تمثلت في إنشاء قوى موازية طائفية الطابع ذات وظيفة عسكرية لا تخضع في تنفيذ
مهامها فعلياً إلا لقادة إيرانيين يتواجدون على الأرض أو لمن يقومون بوظيفتهم، وكذلك في قوى سياسية
تسير في ركاب سياساتها محلياً وإقليمياً.
وكذلك حاولت وتحاول في الخليج، ولاسيما في البحرين والسعودية. أما في اليمن فهي تحاول أن تستنبت مع الحوثيين
ما سبق لها أن استنبتته في لبنان، تمهيداً لبسط هيمنتها بصورة أو بأخرى على منطقة
الخليج بأكملها. ولقد سارت في هذه المحاولة خطوات بعيدة لم يكن من الممكن لها إلا
أن تستدعي لدى دول الخليج المستهدفة أساساً ردَّ فعل بحجم المخاطر المتوقعة منها.
توضح هذه المحاولات المتماثلة، الجارية على الرقعة العربية، من العراق
إلى لبنان ومن سوريا إلى اليمن، إلى أي مدى يمكن لإيران أن تكون دولة الاعتدال والوسطية! لاشك أن مثل هذه
التصريحات لا تخدع أحداً. لكنها تتيح الفرصة لمن شاء أن ينعم النظر في مآلات مثل
هذه السياسة في مختلف الدول العربية أن يدرك معاني سياسات حكومات هذه الأخيرة إزاء
هذا الوضع الكارثي المحيط بالمستقبل العربي.
* نشر
المقال في صحيفة القدس العربي، 28 تيسان 2016، ص. 23
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire