samedi 30 avril 2016





إلى  الدواعش المعاصرين

بدرالدين   عرودكي



نشهد اليوم كيف يعمل البعض في بلداننا على طمس ما كان يؤلف بعض عقلانيتنا أو حب الحياة أو تمجيد الجمال لدى أسلافنا. ويروعنا كيف يتاح لبعض الذين ظنوا حيازة المعرفة بالدين والدنيا أن يُقوِّلوا على شاشات الفضائيات التاريخ والدين ما شاءت لهم أهواءهم.

يتجلى بعض هذا الجهل في تشويه صورة المرأة في التراث العربي الديني والاجتماعي، من خلال فتاوى أو قراءات تعكس دوماً ما هو أكثر من الجهل: أوهام أو بالأحرى استيهامات قائليها.

ينسى هؤلاء تاريخاً عريقاً يحفل بنساء كان حضورهن نفياً كلياً لكل ما يقولونه بصددهن اليوم. من حتشبسوت المصرية، إلى زنوبيا السورية، على صعيد الحكم والسياسة، ومن خديجة بنت خويلد إلى عائشة بنت طلحة على صعيد الثقافة والحياة.

ربما كانت الأخيرة أقلهن شهرة وإن لم تكن أقلّ جدارة عنهن. إذ كانت كما يُروى عنها من أجمل نساء العرب وأكثرهنّ تحرراً. وكانت إلى ذلك شديدة الاعتداد بشخصها وبجمالها وبسعة ثقافتها. وعلى أنها، أو ربما لأنها، ابنة أحد العشرة المبشرين بالجنة، إذ أن أمها هي أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وخالتها عائشة، أم المؤمنين وزوجة الرسول، لا يقبل الدواعش المعمّمون إلا أن يقال إنها من رواة الحديث ويكذبون كل من يقول إنها كانت سيدة ناد أدبي تستقبل فيه أهل الشعر والأدب من الرجال يتحاورون في حضرتها ومعها، أو إنها كانت لا تتورع عن الفخر بجمالها!

لكن سيرة هذه المرأة كما اجتمع عليها الرواة تقول مجتمعاً يفيض حرية وتحرراً.

حين طلبت من أمير مكة، الحرث بن خالد المخزومي، أن يؤخر الصلاة في الحَرَم حتى تنهي طوافها استجاب لها. فعزله عبد الملك بن مروان وأنبه، فأجابه الحرث: ما أهون والله غضبه إذا رضيت، ووالله  لو لم تفرغ من طوافها إلى الليل لأخّرتُ الصلاة إلى الليل!"

في ذلك أيضاً مثلٌ لأولي الألباب..



** نشر هذا المقال في مجلة الهلال، القاهرة، أيار/مايو 2016، الصفحة الأخيرة.

http://www.daralhilal.com.eg/show-11289.html







mercredi 27 avril 2016


إيران الاعتدال والوسطية!

بدرالدين عرودكي

قد تثير قراءة  تصريح حسن روحاني، رئيس جمهورية إيران الإسلامية، الذي أطلقه بأن بلاده "لا تمثل تهديداً لأيِّ دولة" وأنها تنوي "اعتماد سياسة الاعتدال والوسطية في التعامل" وبأنَّ "طهران تريد تفاعلاً مع العالم ومع دول الجوار" بعضَ السخرية ولا سيما حين يُقارنُ على الفور بتصريحات أخرى متزامنة لأقطاب هرم السلطة الإيرانية، كالمرشد الأعلى أو رئيس الحرس الثوري، تناقِضُ شكلاً وموضوعاً مثل هذا التصريح، أو بأفعالٍ تقوم بها الدولة الإيرانية على الأرض مُكذِّبةً بها معاني هذه الأقوال ومقاصدها.

من الممكن بالطبع افتراض حسن النية، أي افتراض صدق ما هدف إليه حسن روحاني، واعتباره موقفاً بين مواقف أخرى تتصارع داخل فضاء السلطة الإيرانية الحالية ولم يجر بعدُ حسمها لصالحه. سوى أنَّ مثل هذه التصريحات، تستدعي بالضرورة في الذاكرة، لدى من لا يزال يملكها على الأقل، تصريحات أخرى كان يدلى بها مسؤولون آخرون في دولة أخرى، ليست بعيدة عن إيران، طوال سنوات، وكانت كمثيلتها الإيرانية اليوم، وطوال سنوات أيضاً، تقف على النقيض من الأفعال.

مَنْ تابع خلال سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي تصريحات المسؤولين الإسرائيليين الموجّهة إلى أوربا عن "البلد الصغير الباحث عن السلام والمُحاط ببلدان مدججة بالأسلحة والعتاد" يستطيع أن يلاحظ وجه المقارنة هنا. إذ وهي تتابع استراتيجية محكمة في تثبيت هيمنتها على الأرض والبشر في فلسطين، خاضت إسرائيل الأساطير التوراتية، خلال أقل من عشرين عاماً، ثلاثة حروب كبرى من دون أن تكف خلال الفترات الفاصلة بينها عن خوض حروب صغيرة كانت على الدوام تقوم فيها بدور المعتدي وهي تزعم الدفاع عن نفسها. بل إنها أطلقت على جيشها منذ بداية تأسيسه رسمياً اسم "جيش الدفاع الإسرائيلي" في الوقت الذي كانت تحتل فيه الأراضي التي تحلم على الدوام بالهيمنة عليها، بصورة أو بأخرى، عقيدة عسكرية واستراتيجية بعيدة المدى في آن.

كذلك النظام الإيراني الذي أقام نظام ولاية الفقيه على أساطير أقرب عهداً من الأساطير التوراتية لكنها لا تمت على كل حال إلى هذا العصر بصلة سوى استمرارية الجهل والتجهيل في الوعي الجمعي، واتخذ هو الآخر من "الدفاع" أفضل وسيلة لـ"الهجوم" مع تغيير في الوسائل والأدوات تقتضيها متطلبات الحقبة الراهنة من التاريخ. لم ترسل إيران كما فعلت إسرائيل جيشاً تحتل به هذه الأرض أو تلك ــ باستثناء احتلالها الجزر الثلاثة التابعة للإمارات العربية المتحدة ــ بل أرسلت "مستشارين عسكريين" و"مدربين" و "خبراء فنيين" أو أنها استنبتت في الأراضي التي تطمح إلى الهيمنة عليها جماعات تقوم بالوظائف التي تخدم سياساتها وفق دفتر شروط محدد مسبقاً يتضمن مختلف الفعاليات المحرمة أو المسموح بها.  

وكما استفادت إسرائيل قبل قيامها من غياب الإرادة العربية المستقلة ثم بعد إعلانها دولة من تشظي الوضع العربي بحيث أمكنها أن تحقق هيمنة عسكرية وأمنية لم تتمكن أية قوة عربية من كسرها حتى الآن، كذلك حاولت إيران المرشد الأعلى ولا تزال الاستفادة من نتائج الصراع العربي الإسرائيلي الذي أدى إلى مزيد من شرذمة العالم العربي، فعملت منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي على كسر ما كان يُسَمّى التضامن العربي وعلى تعميق الشرخ الذي سعت إلى إقامته بين البلدان العربية منذ أن وقف حافظ الأسد، خارجاً للمرة الأولى على الإجماع العربي، إلى جانبها في الحرب التي قامت بينها وبين العراق، ثم أخيراً، وامتداداً لتلك السياسة بانتظار إنهاء مشكلتها النووية مع الغرب، على إعداد متطلبات الحقبة التالية التي كانت ولا زالت تتطلع إلى أن يتم خلالها تتويجها دولة إقليمية كبرى، محققة بذلك حلم الشاه الإمبراطوري القديم.

هكذا وبفضل العلاقة التي نسجتها مع النظام الأسدي منذ هيمنة ولاية الفقيه على الثورة فيها، أمكن لإيران بدأب أن تنشِئ في لبنان، وهو في أوج الحرب الأهلية، قاعدة عسكرية من نوع خاص تجاوزت بها مفهوم القواعد العسكرية التقليدية التي اعتمدتها الدول الكبرى خارج حدودها في حقب مختلفة من تاريخ عالمنا المعاصر، باعتمادها صيغة أخرى أكثر نجوعاً وأقلّ كلفة وأكثر مردوداً على الأصعدة جميعاً ولاسيما صعيد السياسة الخارجية، تلك التي تجسّدت في حزب الله. إذ لا يمكن بها أن تغدو دولة مستعمِرة، مادامت لا تتواجد عسكرياً في البلد الذي أقامتها فيه، وما كان لأحد أن يأخذ عليها نصرة معنوية ومادية تقدمها لطائفة من اللبنانيين عاشت عشرات السنين من الإهمال والتهميش الاقتصادي والثقافي. ولم تكن وسائل الإعلام تتيح في بدايات إنشاء هذه القاعدة معرفة ولاء قادتها الحقيقي إلا عبر افتراضات تكذبها على الفور دعاوى المقاومة والتحرير. وقد أمكن لإيران بفعل هذه القاعدة/الحزب التي باتت دولة داخل الدولة أن تمسك بزمام السياستين الداخلية والخارجية في لبنان وأن تكون المرجع الأول والأخير فيهما، لا تجيز لأحد الاعتراض على قراراتها، ولا كبحها عن زجِّ البلد كله في أتون حربٍ لا ترغب أكثرية قواه السياسية والشعبية الدخول فيها.    

على أن دعاوى المقاومة التي تأسست عليها لم تسقط كلياً إلا بعد انطلاق الثورة السورية وقيام هذه القاعدة في السنوات الأولى منها بأداء كلَّ ما يستجيب لمتطلبات السياسة الإيرانية الداعمة للنظام الأسدي ولاستمراره أياً كان الثمن: أرسلت جنودها للقتال إلى جانب قوات النظام ثم حلّت محلها وذلك قبل أن تقرر إيران، تحت وطأة الضرورة القصوى وخوفاً من انهيار مخططها، أن تزيد من دعمها وأن تدفع هذه المرة بجنودها من الحرس الثوري بصفة مستشارين وقادة لجماعات المرتزقة الذين جاءت بهم كتائب من أفغانستان والعراق.

بفضل إسهام هذه القاعدة المادي والدعم التقني واللوجستي والمالي الذي يقدمه نظام ولاية الفقيه في إيران لها، أمكن لهذا الأخير حتى اليوم المحافظة على نظام يدرك أن انهياره سيكون إنذاراً بانهيار لا كل ما بناه منذ قيامه حتى اليوم، بل انهياره هو نفسه وفي عقر داره. ذلك ما يفسر المغامرة الإيرانية في سوريا التي تجلت في تغيير طبيعة ممارسة هيمنتها من خلال تواجد قواتها المقاتلة على الأرض السورية كما قرر مؤخراً مرشدها الأعلى.

لم تتأخر إيران بعد نجاحها في استنبات قاعدتها اللبنانية وصيرورتها الذراع الضاربة عن تكرار التجربة في العراق من خلال صيغ عدة وعلى أكثر من مستوى تمثلت في إنشاء قوى موازية طائفية الطابع ذات وظيفة عسكرية لا تخضع في تنفيذ مهامها فعلياً إلا لقادة إيرانيين يتواجدون على الأرض  أو لمن يقومون بوظيفتهم، وكذلك في قوى سياسية تسير في ركاب سياساتها محلياً وإقليمياً.

وكذلك حاولت وتحاول في الخليج، ولاسيما في البحرين والسعودية.  أما في اليمن فهي تحاول أن تستنبت مع الحوثيين ما سبق لها أن استنبتته في لبنان، تمهيداً لبسط هيمنتها بصورة أو بأخرى على منطقة الخليج بأكملها. ولقد سارت في هذه المحاولة خطوات بعيدة لم يكن من الممكن لها إلا أن تستدعي لدى دول الخليج المستهدفة أساساً ردَّ فعل بحجم المخاطر المتوقعة منها.

توضح هذه المحاولات المتماثلة، الجارية على الرقعة العربية، من العراق إلى لبنان ومن سوريا إلى اليمن، إلى أي مدى يمكن لإيران أن تكون  دولة الاعتدال والوسطية! لاشك أن مثل هذه التصريحات لا تخدع أحداً. لكنها تتيح الفرصة لمن شاء أن ينعم النظر في مآلات مثل هذه السياسة في مختلف الدول العربية أن يدرك معاني سياسات حكومات هذه الأخيرة إزاء هذا الوضع الكارثي المحيط بالمستقبل العربي.



* نشر المقال في صحيفة القدس العربي، 28 تيسان 2016، ص. 23




mercredi 20 avril 2016


مسرح جنيف

أو التفاوض من أجل حلٍّ مسبق الصنع

بدرالدين  عرودكي

هل من المبالغة القول إن ما نشهده اليوم بجنيف، مما أطلق عليه وصف المفاوضات بين ممثلي النظام الأسدي وممثلي المعارضة بإشراف الوسيط الأممي وبمعونة مستشاريه من النساء والرجال الذين على زعمهم المعارضة لم يحظوا بشرف التواجد ضمن الوفد الممثل لمعظم أطيافها، ليس إلا مسرحيات مُعدّة بإتقان، بعضها يعرض أمام العامة وتنقله وسائل الإعلام وبعضها أمام الخاصة ويُسرَّبُ منه ما شاء له المخرج أن يُعرف وثالثها أمام خاصة الخاصة لا يُعرف منه شيئاً إلا استنتاجاً أو بالأحرى تخميناً؟ 

يدرك كل من بذل جهداً بسيطاً في متابعة مجريات الحدث السوري منذ بداياته أنّ كل محاولات العثور على ما أطلق عليه منذئذ "الحل السياسي" لم تكن إلا ترويضاً على قبول ما لم يكن وما لا يمكن أن يقبل به شعب يكابد القتل اليومي والتهجير والحصار والتجويع منذ خمس سنوات من دون أن يتنازل عن حقه الأساس الذي خرج يطالب به في إسقاط النظام من أجل تحقيق الحرية والكرامة.  

إسقاط النظام يعني، من دون أي مواربة أو مراوغة أو لعب بالألفاظ: إسقاط النظام الأسدي بكل رموزه وممثليه، أشخاصاً ومؤسسات؛ يعني: إسقاط نظام المصالح الفردية/الفئوية الذي أقامه الأب المؤسس من حول شخصه وأسرته وحفنة من طائفته، بعد أن جمع عصبة من الأفراد والجماعات ذوي انتماءات قومية ودينية وطائفية مختلفة، مدنية وعسكرية، وربطها إليه بمصالح أتاحها لها، فصارت من بعدُ جزءاً لا يتجزأ من هذا النظام بحيث بات دفاعها عنه هو، في الوقت نفسه، دفاعاً عن نفسها بالدرجة الأولى. لم يكن الأمر، وليس هو بأي وجه من الوجوه، عبودية بقدر ما هو تماهي أشخاص ومصالح ومصائر في نسق عصبة مصلحية، وهذا ما يفسر هذا التلاحم من حول شخص رئيس النظام ماضياً وحاضراً، وما يؤدي بالتالي، منطقياً، إلى جعل مطلب إزاحته أساساً جوهر أي عملية انتقالية لابدّ لأي حلٍّ تفاوضي يوصف بالسياسي أن يتضمنه كاملاً غير منقوص.  

لكن البعض ممن يقدمون أنفسهم بوصفهم "المعارضة البناءة" ويضعون قوسين صغيرين من حول كلمة الثورة كلما تطرقوا في أحاديثهم إلى ثورة السوريين يأخذون على من تصدّوا لحمل هذا الحق والدفاع عنه أمام من ينكرونه عليهم محاولين تجسيده قولاً وفعلاً وممارسة أنهم لا يزالون يراوحون عند مطلبهم الأساس في الوقت الذي "تفوّق" فيه خصمهم على نفسه و"تطور" فصار ينطق بما يريد سادته وحُمَاتُه منه أن يقول.

كما أن البعض من القوى الإقليمية والقوى الدولية ممن لم ينظروا يوما إلى ثورة السوريين إلا بوصفها حادثاً طارئاً يمكن السيطرة عليه وتكييف مآلاته أو إعادة صنعه عملت ما بوسعها كي ترتقي بمطلب وقف القتال إلى مقام أولوية مطلقة بالنسبة إلى المطالب الأخرى بما فيها الحرية والكرامة وإسقاط النظام، ليسهل بعد ذلك الالتفاف على الجرائم المرتكبة وإعادة تأهيل مجرمي الحرب حكاماً يكتسبون الشرعية عن طريق صناديق اقتراع ما كانت يوماً أكثر من سجل استبدادهم ونفاقهم وتزويرهم والتي لم يتوقفوا يوماً عن الاستناد إليها من أجل تبرير بقائهم أو تفسير عودتهم التي يطمئنون إليها بفضل حلفائهم وحماتهم.  

وكان مدخل هؤلاء وأؤلئك إلى هذا التكييف الحديث عن "مؤسسات الدولة" وضرورة المحافظة عليها؛ والإصرار على ضرورة "احترام الشرعية" التي لم يتقدّم أحد منهم لشرح معناها أو التذكير بمصدرها بله تبرير شرعيتها ذاتها! والحقيقة أن هذه "الشرعية" بالذات، التي نودي بها منذ البداية وحُكيَ عن "فقدانها" و"ضرورتها"، لم تنكرها، باستثناء الغالبية العظمى من الدول العربية الأعضاء في الجامعة العربية، الغالبية العظمى من الدول الكبرى أو الصغرى الفاعلة بدليل استمرار وجود النظام الأسدي ممثلاً لدولة كاملة العضوية ضمن منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها وكذلك استمرار التعاون الأمني الدولي معه سراً أو علانية.  كما بقي الحديث طوال السنوات الأخيرة إما رفضاً صريحاً لموضوع رحيل رئيس النظام من قبل ممثلي النظام الأسدي وكذلك من قبل سادته الإيرانيين والروس معاً ومن ورائهم سيد البيت الأبيض الذي ما برح يكرر القول عن "فقدان الشرعية" ويفعل كل ما يعززها، وإما رفضاً ضمنياً معطوفاُ على "الشعب السوري" الذي يعود إليه أمر تقرير مصير "رئيسه"، وكأنّ أحداً لا يعلم من هو هذا "الشعب" الذي قام بانتخاب رئيس النظام عام 2014 وهو يُقتل ويُشرّدُ ويهجَّر، وكيف دُعي في الظروف ذاتها مؤخراً إلى "انتخاب ممثليه" في مجلس الشعب!

على غرار النظام الذي أتقن لعبة الشكليات في كل مجال من مجالات السياسة والحكم والدبلوماسية: الانتخابات الرئاسية والنيابية أو النقابات او الدستور المُفصَّل على مقاس سيد النظام وتبعاً لرغباته على الصعيد الداخلي، والابتزازات المالية ذات الطابع المافيوي على الصعيد الإقليمي، وكذلك ممارسة لعبة المفاوضات أيضاً بعد  أن سبق له ممارستها على الصعيد الدولي، بدعم مكشوف وفعلي من حلفائه الذين صاروا اليوم سادته، يقوم هؤلاء السادة بالتعاون مع خصومه المفترضين وعلى رأسهم الإدارة الأمريكية باستخدام لعبة الدلالات والشكليات ذاتها: الانتخابات، و"قرار الشعب السوري"، وسوى ذلك من الترهات التي صدعوا والحق يقال رؤوس السوريين بها، فضلاً عن رؤوس مواطنيهم.

لكن السؤال الأهم، أو إن شئنا السؤال/العذاب، يبقى: ما طبيعة هذه المفاوضات؟ وبين مَن ومَن تجري فعلاً؟  ومَنْ يُراد له أن يقوم بدور شاهد الزور؟

يُقال إن الحل بات جاهزاً. وربما كان الأدق القول إن الحل كان مقرراً سلفاً ولم يبق سوى إخراجه على نحو يبدو معه وكأنه نتيجة مفاوضات عسيرة وتنازلات متبادلة! سوف يُستعاض في صياغة هذا الحل عن بعض التعابير أو عن دلالاتها بتعابير أو دلالات أخرى. فبدلاً من "هيئة انتقالية بكامل الصلاحيات"، ستكون ثمة "حكومة انتقالية مشتركة بكامل الصلاحيات" يرأسها الأسد الذي سيقرر "الشعب السوري" مصير بقائه من عدمه. وسيكون هناك دستور تشرف على وضعه هذه الحكومة، ثم انتخابات رئاسية ونيابية.. إلخ.

يُحكى في سوريا دوماً عن "عقدة النجّار"!  تلك التي تحول بينه وبين إنجاز عمله على النحو الذي يريد وبالسرعة المُلائمة. العقدة هنا كانت، ولا تزال، وستبقى "بشار الأسد" شخصاً ونظاماً. ذلك أن العناصر التي تسكت عنها المقترحات الأممية، أكان مصدرها حلفاء النظام الأسدي أم "أصدقاء" الشعب السوري، تجهل أو بالأحرى، وهو الأدق، تتجاهل طبيعة النظام التي أشرنا إليها في مستهل هذا المقال: "العصبية المصلحية، أي تلك التي تتجاوز العائلة إلى حلقات أكثر عدّة وعدداً. فكيف يمكن لنظام قوامه هذه العصبية على وجه التحديد أن يسلك سلوك نظام عقلاني قوامه النهج الديمقراطي أو المؤسساتي الذي يزعمه نهجه؟ وكيف يمكن لحلفائه وخصومه المُفترضين أن يجعلوا منه في صياغة مقبولة شكلاً مرفوضة قواماً لقمة سائغة في فم شعب عانى مرارة مذاقها خلال نيف وأربعين عاماً؟

وحدها الصياغة الواضحة البليغة تقول شيئاً ذا معنى: هيئة انتقالية بصلاحيات كاملة من دون الأسد وزمرته. لكنها ليست على جدول الأعمال.

إذ من الواضح أن الاستغباء الذي يمارسه النظام الأسدي بات قانون الجميع اليوم بجنيف: مسرح يراد أن يكون أبطاله دمىً يجسدها كلٌّ من النظام والمعارضة. من الواضح أن النظام وقد فقد على الأرض كل شيء وبات بفضل حلفائه قادراً على أن يقف على أقدامه بعض الوقت قد استحال دمية كاملة الأوصاف لا ينطق إلا بما يريد له حامله أن ينطق به. أما ممثلو المعارضة فهم يملكون حرية اختيار رهان الشعب المصيري الذي تصدّوا لتمثيله: الانتقال من الاستبداد إلى الحرية والكرامة: الخيار الوحيد.



** نشر المقال في القدس العربي، 21 نيسان/أبريل 2016، ص. 23.



dimanche 17 avril 2016




حول الجوائز العربية

داليا عاصم / بدرالدين عرودكي

          * هل أضرت جوائز الرواية بالثقافة العربية؟     

** لا أظن أن الجوائز، قد أضرَّت أو يمكن أن تضر الثقافة العربية. لقد وجدت جوائز الرواية أول ما وجدت أساساً في الغرب، وكان هدفها، في المقام الأول، التشجيع على قراءة الرواية الفائزة أولاً والروايات الأخرى المتنافسة تالياً. وكان الإعلان عن الفائز وعن الروايات المتنافسة وما يرافق ذلك من ضجة إعلامية يستجيب بالدرجة الأولى لتطلعات الناشرين إلى تسويق منشوراتهم بكميات يتيح مردود بيعها ازدهارَ مهنتهم. لكنه كان في الوقت نفسه يستجيب لتطلعات الروائي أيضاً على صعيدين: كثرة القراء الذين سيقبلون على شراء الرواية بعد فوزها خصوصاً ومردود المبيعات الذي سينال حصته منه. ولذلك، وباستثناء الجوائز العالمية كجائزة نوبل، كانت القيمة المالية لمعظم الجوائز الأخرى في الغرب أتفه من أن تذكر. لكن بيع ثلاثمائة ألف نسخة من الرواية الفائزة مثلاً يمكن أن يعود على مؤلفها بمبالغ طائلة فضلاً عن التكريس الذي سيحصد ثماره مع مؤلفاته التالية.

سوى أنَّ جوائز الرواية في العالم العربي ليست على هذا النحو. فقيمتها المالية مغرية، ونتائج منحها على ازدياد النسخ المباعة وبالتالي على ازدياد عدد القراء لا تزال موضع تساؤل.

على أني لا أرى من حيث المبدأ على كل حال أي ضرر للجوائز في هذين المجاليْن، أعني النشر والكتابة، على الأقل. لكن السؤال يبقى إلى أي حدٍّ أدى منح الجوائز في عالمنا العربي، وهي جوائز لا تقتصر على الرواية كما نعلم بل تطال مختلف أجناس الكتابة، إلى رواج الكتاب. من المؤسف أن دور النشر العربية  بخلاف مثيلاتها في أوربا لا تقدم حسب علمي بيانات إحصائية عن مبيعاتها من هذا الكتاب أو ذاك أو عن عدد النسخ المطبوعة لدى كل طبعة بصورة دقيقة. لكن عدد طبعات بعض الكتب وحماس الناشرين لحصول منشوراتهم على الجوائز يحمل على الظن بأن الجوائز أو بعضها، ولاسيما جوائز الرواية، بدأت تعطي ثمارها. وهو ما ينتظره الجميع فعلاً في النهاية: أن يتكاثر القراء وأن تزدهر مهنة النشر..

* هل تسببت بقلة الاهتمام بالأنواع الإبداعية الأخرى كالشعر والقصة القصيرة؟

** إذا كانت الجوائز المخصصة للرواية تؤدي إلى مزيد من قراءة الروايات ولا سيما تلك التي تفوز بها فإنها بالتأكيد لا تتسبب بالحدِّ من الاهتمام بالأنواع الأدبية الأخرى. والحقيقة أن مكانة القصة القصيرة أو مكانة الشعر نادراً ما كانت في المقام الأول من اهتمام القراء باستثناء الكبار في المجاليْن، الذين كانت مواهبهم الاستثنائية لا تحتاج إلى جوائز من أجل ترويج دووانيهم أو مجموعات قصصهم القصيرة. هل كان نزار قباني أو محمود درويش مثلاً بحاجة إلى جائزة كي يبلغ عدد نسخ الطبعة الأولى من ديوان أحدهما خمسة عشر ألف نسخة تباع كلها في أشهر عدة مثلاً؟ وهل كان زكريا تامر أو يوسف إدريس بحاجة إلى جائزة كي تروج قصصهم ويُعرفوا بها على وجه الخصوص؟

ما أودّ قوله في النهاية هو أن لا شيء يمكن أن يقف في وجه الموهبة أو في وجه الإبداع الحقيقي، كما لا يمكن لإغراء الجائزة أن يصرف المبدعين الحقيقيين في هذا المجال أو ذاك عن مجال إبداعهم.

* هناك كمٌّ كبير من الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة، هل هي تعبير فعلاً عن حاجة إبداعية أم أن الجوائز المغرية المخصصة للرواية لها دور في ذلك؟

** أرى في هذا الكم من الروايات الصادرة في السنوات الأخيرة ظاهرة صحية أياً كانت ضروب التفاوت في الأهمية أو في  مستوى الإبداعية في هذه الروايات المنشورة. لا يستجيب في رأيي هذا الكم من الروايات الصادرة في العالم العربي سنوياً إلى إغراء الجوائز المخصصة للرواية بقدر ما يستجيب إلى متطلبات حالة ثقافية عامة وراهنة هي نفسها حصيلة تطور تاريخي واجتماعي وثقافي طويل رسم َ تاريخ الرواية نفسُه في العالم العربي مسارَه، بدءاً من نهاية القرن التاسع عشر عندما طفق المترجمون ينقلون إلى العربية الروايات الفرنسية خصوصاً، (وكان الشيخ محمد عبده نفسه قد أشار إلى ولع الناس  في زمنه بالروايات)، وعلى امتداد القرن العشرين بصحبة مختلف رواد الرواية في مصر وسوريا ولبنان والعراق، وبفضل العمل الجبار الذي تمثل في ترسيخ فن الرواية في اللغة والأدب العربيين والانطلاق به على يديْ نجيب محفوظ، وصولاً إلى أيامنا هذه.

* ولماذا لا تلقى جوائز الشعر والقصة القصيرة الاهتمام كما هو الحال في المغرب؟

** ربما كان الشعر هو الأقل حظاً في مجال الجوائز. أما القصة القصيرة فقد كرست لها عدة جوائز في بلدان المشرق العربي وكان آخرها جائزة الملتقى للقصة القصيرة التي أطلقتها الجامعة الأمريكية والملتقى الثقافي في الكويت في نهاية العام الماضي. وباستثناء الكبار في المجالين، يبدو أنَّ الرياح في الغرب كما في العالم العربي لا تجري كما يشتهي الشعر أو القصة القصيرة!



** نشرت في صحيفة الشرق الأوسط ، ضمن تحقيق حول جوائز الرواية، الأحد 17 نيسان 2016، ص. 24.


mercredi 13 avril 2016


الفرد العربي، من الازدهار إلى الغياب

بدرالدين  عرودكي

يتساءل المواطن العربي مفجوعاً بعد مقتل الباحث الإيطالي الشاب جوليو ريجيني وسماعه والدته تردِّد أمام البرلمان الإيطالي: "أصدقاؤنا المصريون قالوا إنه تمَّ تعذيبه وقتله كما لو كان مصرياً"، وكذلك ردّها على وصف الحكومة المصرية لمقتل ابنها بـ"الحادثة الفردية" بقولها: "في اعتقادي أن ما تعرض له جوليو  قد تعرض له الكثيرون من قبله. وعليه، نعم، قد يكون جوليو "حادثة فردية" بالنسبة لتاريحنا كإيطاليين ولكن بالنسبة للمصريين ولغيرهم، ليس جوليو "حادثة فردية". ما الذي يجعل إذن من فعل القتل حدثاً في إيطاليا وحادثة في بلد عربي، مادام الأمر لا يقتصر والحق يقال على مصر وحدها؟  

ولا بدّ أن هذا المواطن العربي نفسه، بعد أن قرأ في الصحف أو شاهد على شاشات الفضائيات العربية نتائج صفقات تبادل الأسرى بين منظمة التحرير الفلسطينية أو سواها وبين إسرائيل متمثلة في ضخامة عدد الأسرى الفلسطينيين أو اللبنانيين أو العرب المُحرّرين من جهة وعدد الأسرى الإسرائيليين الذين كان يتراوح بين الواحد والستة من جهة أخرى، تساءل وقد غمرته غبطة حذرة: هل من الطبيعي وجود هذا التفاوت في العدد بيننا وبينهم؟ ما الذي أدّى على امتداد نيف وثلاثين عاماً إلى أن يكون عدد الأسرى الفلسطينيين 4700 عام 1983  مقابل ستة جنود إسرائيليين، أو 1150 أسير فلسطيني عام 1985 مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين، أو  436 أسيراً فلسطينياً وعربياً فضلاً عن 59 رفات لبنانيين عام 2004 مقابل ثلاثة جنود إسرائيليين أو 1050 أسير فلسطيني عام 2011 مقابل جندي إسرائيلي واحد؟  ولماذا تُذكَرُ لنا أسماء الجنود الإسرائيليين، عند تبادل الأسرى، فرداً فرداً؛ ولا يُذكرُ المُحرَّرون الفلسطينيون أو سواهم من العرب إلا أرقاماً. لماذا ترقيم العرب وتفريد الإسرائيليين، ولماذا تنشر الصحف الإسرائيلية صور جنودها فرداً فرداً، أيضاً، في حين تنشر الصحف العربية صور أسرى العرب جماعات وقد حشروا جميعاً في حافلات ضخمة تكاد تخفي وجوههم؟

تتفاقم خطورة ذلك الضرب من الأسئلة في الوقت الذي استحال فيه البشر القتلى في سوريا بعد العراق خصوصاً أرقاماً اعتاد عليها الجميع، لا في الغرب فحسب بل في بلد المقتلة ذاتها، إذ حين يهبط عدد القتلى من مائة أو أكثر إلى عشرة أو أقل صارت وجوه الأحياء تطفح بالارتياح مادام القتلى قد استحالوا أرقاماً لا وجوه لهم!

هل كان للإنسان بوصفه فرداً وجودٌ في المجتمع والثقافة العربيين؟ وإذا كان الجواب بالإيجاب، فكيف ومتى انزلق ثم غاب الفرد فيهما؟ وكيف ومتى تآلف العرب مع هذا الغياب حتى صار كما لو أنه بعض طبيعتهم؟

على أن الثقافة العربية ـ الإسلامية قد تفاعلت مع العديد من الثقافات الأخرى في عصورها الكلاسيكية ولاسيما اليونانية والفارسية، وأن التاريخ العربي شهد هيمنة عديد من عتاة الطغاة في عصر الإمبراطوريات الإسلامية، فإننا لا نعثر في تراثنا الثقافي، الأدبي أو الاجتماعي أو الديني أو السياسي، عما يمكن أن يشير إلى امّحاء الفرد اجتماعياً أو ثقافيا أو أمام أية سلطة مهما بلغ عتوّها أو إلى إلغائه لصالح جماعة أو طائفة. والأمثلة أكثر من أن تحصى في هذا التاريخ العريق، على وجود كيان الإنسان الفرد الحر لا في تمثلاته الدينية، الراسخة في اللاوعي الجمعي فحسب (يكفي أن نستعيد هذه الآية القرآنية: "إنا عرضنا الأمانة على السماء والأرض والجبال فأبيْن أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان..")، بل كذلك في التمثلات الشعرية والأدبية والفلسفية والدينية والسياسية. لكننا سنعثر في عصرنا الحديث الذي يفخر الغرب بتحقيقه بعض التقدم خلاله حين فَصَلَ الذات عن الموضوع كما يسجِّلُ سارتر على كل ما شاب الثقافة العربية واعتورها في المشرق العربي خصوصاً من مكتسبات طارئة طغى عليها فهم هجين للماركسية عبر أقل نصوصها دلالة وجوهرية وانطلاقاً من ترجمتها إلى العربية ترجمة شديدة السوء أو ربما عبر أسوأ تطبيقاتها الستالينية، سرعان ما استحال أيديولوجية محلية تفلسف أولوية الجماعة على الفرد وتنادي بها فئات اجتماعية متناثرة آلت إلى الانضواء ضمن أحزاب سياسية في النصف الأول من القرن الماضي واستطاعت خلال عشرات من السنين أن تمهد الأرض لقبول إن لم يكن لاعتناق هذه الأيديولوجية. ثمَّ ما لبثت هذه الأحزاب وقد استولت على السلطة أن عمّمتها وفرضتها ديناً جديداً لا مكان فيه للفرد إلا بقدر دوره ضمن جماعة يذوب فيها ويتماهى.  

أبسط محاولات هذا التغييب التدريجي للفرد بدأت، على المستوى النظري، من خلال إلغاء دوره في التاريخ. ولم يقتصر هذا الإلغاء على صعيد دور القادة أو الزعماء في التحولات الاجتماعية الذين عملوا في بلادهم من أجل تحقيقها، بل امتد ليشمل مجال الإبداع الأدبي أو الفني. لم يعد الأديب أو الفنان إلا مجرد ناطق باسم الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها ولم يكن دوره في ما كتبه أو رسمه أو صممه إلا مجرد ناقل لعالمها. ما كان بالطبع لهذه الرؤى الساذجة التي سادت فيضاً واسعاً من أدبيات منتصف القرن الماضي أن تجد صدى في الواقع العملي لولا أن تلقف العسكر هذه الأيديولوجية من الحزب الذي تبناها حين قرروا الاستحواذ على السلطة اعتماداً عليه في البداية ثم استئثاراً بها من دونه.

معهم، لم تعد ثمة حاجة للنظريات أو للأيديولوجيات إلا بقدر ما تبرر أو تعلل سلوكهم في الحكم ورؤيتهم لما يريدون للنظام أن يكون عليه تحت قيادتهم. تلاشت كل نظريات الجماعة والطبقة حتى لدى ورثة من نادوا بها ونظروا إليها بلغة ركيكة، لتحل محلها صور جديدة تعيد للفرد، لا بوصفه اسم نوع بل بوصفه شخصاً فرداً، فريداً واستثنائياً، كي تصل من بعدُ إلى تأبيده كما حصل في سوريا. صار هناك قائدٌ تنتشر صوره وتماثيله في كل مكان، وجماهير، أقرب إلى القطيع، تساق بالقوة إلى مسيرات من أجل تمجيده. أما على مستوى الدستور والقوانين، وباستثناء بعض المواد التي تسمح لهذا القائد بتأبيد نفسه، فقد كان الفرد حاضراً في نصوصهما بقوة لا تعادلها إلا قوة تجاهل المواد التي  تتحدث عنه أو تؤكد دوره في الواقع العملي.

كيف يمكن في هذه الحالة أن يكون الفرد العربي حاضراً بكل قوة ما دام غائباً في كل مكان، نظرياً وعملياً، بعد أن حولته الأنظمة الاستبدادية إلى كائن هلامي يذوب في مسيرات التمجيد للقائد الأبدي؟

ربما كان ذلك ما يفسر هذا الفرق العددي بين أسراهم وأسرانا. هذا الفرق بين الحدث في إيطاليا والحادثة في مصر. هذا الفرق بين حاكم يدافع عن كل فرد من مواطنيه لأنهم قضاته وأرباب عمله وبين حاكم لا يرى فيهم إلا رعايا إن لم يكونوا ملك يمينه بعد بأن صيّرهم عبيداً في خدمته! 

في الديمقراطيات الغربية، لا يستطيع أي مسؤول حاكم، أياً كان مستوى مسؤوليته،  أن ينسى أو يتناسى من انتخبه. فهو بحاجة إلى صوت كل فرد كي يحتل الموقع الذي هو فيه. وعليه أن يستجيب لأدنى شكوى يعبر عنها من انتخبه، سواء انتخبه أم لا. فهو، في النهاية، رب عمله الفعلي.  ومن ثم فهو يدافع عنه دفاعَه عن أقرب المقربين إليه.

أما في نظم الاستبداد الآمنة، فلا حاجة للحاكم إلى صوت يعرف مسبقاً أنه يملكه طوعاً أو كرهاً، مثلما يعرف أن صاحبه سيكون على الدوام رهن إشارته كرهاً.

هل يجيب ذلك عن ذاك؟

بدرالدين عرودكي



** نشر هذا المقال في القدس العربي، 14 نيسان 2016، ص. 23.


mercredi 6 avril 2016


حرب  الدلالات في الحدث السوري

بدرالدين  عرودكي

حرب الدلالات؟ منذ اللحظة الأولى لانطلاق الثورة السورية، قبل نيف وخمس سنوات، انطلقت معها أيضاً وبموازاتها، لا حرب الكلمات، بل حرب الدلالات، وإن كانت الكلمات حواملها. فبموازاة الحدث الواقعي كانت الكلمة بما تنطوي عليه من دلالة تُسَمّيهِ أو تضفي عليه من الصفات ما يقترب منه أو يبتعد عنه حسب مصدرها. هنا كانت "المظاهرة" مثلاً في مواجهة الرصاص أو القتل أو السجن (ألم يحذر وزير داخلية النظام الأسدي يوم 15 آذار 2011 المتظاهرين في حي الحريقة بدمشق قائلاً: "يا إخوان، هذه مظاهرة"! وجنباً إلى جنب كانت هناك كلمة الثورة في مواجهة كلمة المؤامرة بدلالات كل منهما. الأولى تدعمها الإرادة، والثانية يعززها البطش.

السياسة أساساً لغة، كما كان أنطون المقدسي يقول. ومن ثمَ فالمفردات التي استخدمت على صعيد السياسة في هذا الصراع بين شعب ثائر ونظام استبدادي كانت سلاح الدلالات المُضفاة على الأفعال. يستخدمها النظام الأسدي شراعاً يحاول به أن يوجِّه المركب قبل أن يغرق؛ شأنه في ذلك شأن القوى الأخرى التي أملت عليها مصالحها التواجد في الميدان السوري بصورة أو بأخرى.

لكنَّ اللغة يمكن أن تكون مرواغة. تلك واحدة من صفاتها المقوّمة. وفي هذه المراوغة على وجه الدقة إنما تكمن طبيعة حرب الدلالات في فضاء الحدَث السوري.

قبل أن يسطر أطفال درعا على جدران مدينتهم الجملة التي أدت إلى قلع أظافرهم وتعذيبهم وإهانة آبائهم أدرك النظام وهو يشهد هرب بن علي من تونس وتنازل مبارك عن كرسيِّه أن دوره، كما كتبوا لرأس هذا النظام، آتٍ لا محالة. فاتخذ قراره. لم يكن الحل الأمني وُجهَته الوحيدة، بل، وهو الأهمُّ استراتيجياً، تشويه معاني ودلالات الفعل الثوري بالكلمات معززة بكل ما يدعم الدلالات التي أراد إضفاءها عليها. لم يكن كذلك حلفاؤه أو خصومه الحقيقيين أو الظاهريين مخدوعين بكلماته وبدلالاتها، بل كانت بالأحرى حجة تُضاف في خطابهم إلى حجج أخرى باستخدامها حسب الموقف واللحظة والمُخاطَب.

هكذا واجه النظام الأسدي دعوة المتظاهرين السوريين إلى "إسقاط النظام" بالحديث عن "مؤامرة خارجية" سرعان ما استحالت "مؤامرة كونية"، ثم اجتماعهم يوم الجمعة في المساجد لانطلاق مظاهراتهم بالإشارة ـ كذباً وتلفيقاً ـ إلى "إمارات إسلامية" أقيمت هنا وهناك. كلمات باتت جزءاً من قاموسه. لكنه وقد عجز عن وأد الثورة ذاتها، حاول الالتفاف عليها وتقديم كافة المبررات لحلفائه كما لمن يُعتبرون "خصومه" كي يبرروا على الأقل قبولهم به أو وقوفهم إلى جانبه، فاستخدم "الإرهاب" فعلاً وكلمة كي يُصار إلى قبول انخراطه فعلياً فيما صار يطلق عليه "الحرب على الإرهاب". ولم يكن ذلك على كل حال إلا امتداداً لموقفه الأول من ثورة الشعب عليه. كل من يعترض على وجوده، وكل من يتطلع إلى إسقاطه بات في نظره "إرهابياً". أما في مجال الحلول التي كانت تقترح عليه فكان يرفض منها ما يستخدم كلمة "المفاوضات" أو "المعارضة" ما دامتا تعنيان الاعتراف بطرف مقابل يناهضه، ويواجه بها "الحوار" "تحت سقف الوطن" فضلاً عن أكثر الكلمات ضبابية: "الشعب السوري".

مع النظام الأسدي، كان حليفاه الرئيسان، إيران وروسيا، يلحّان باستمرار على "شرعية" النظام الأسدي مقابل "فقدان الشرعية" التي كان يستخدمها "الخصم" الأمريكي والأوربي. وهو ما يشير إلى وجود تواطؤ خفيٍّ في التعامل مع الحراك الثوري السوري بدأ على صعيد الدلالة بين حليف النظام، روسيا، و"خصمه "الولايات المتحدة. وهو تواطؤ كان يتجلى في أن الطرفين متفقان على أن ثمة في الأصل "شرعية" ما، لا تزال قائمة في نظر الأول لكنها باتت مفقودة في نظر الثاني! وهم إلى ذلك يتفقون معاً على ضرورة الحفاظ على "الدولة" في تجاهل تام لطبيعة العلاقة القائمة بين "النظام" الأسدي و"الدولة" السورية منذ أكثر من خمسين عاماً، وهو ما اتضح في مفردات "الحل السياسي" المقترح على النظام و"المعارضة المعتدلة" بعد اتفاق على "ضرورة محاربة الإرهاب" في تبنٍّ واضح لمفردات النظام الأسدي، مع حرية غير معلنة لكل طرف بالطبع في تحديد من هي "الجماعات الإرهابية" في سوريا بعد اتفاق الجميع على تصنيف تنظيم الدولة كذلك: النظام الأسدي: كل من يحمل السلاح ضده؛ روسيا: كل من يحارب النظام الأسدي؛ أمريكا: تنظيم الدولة أولاً ثم جبهة النصرة وما يماثلها تالياً.

لم يكن أحدٌ من الأطراف كلها، النظام وحلفاؤه وخصومه الإقليميون والدوليون، إذن، مخدوعاً بدلالات كلمات سواه. ومن ثمَّ كانت المراوغة اللغوية قانون الجميع. ذلك أنَّ الرأي العام في الديمقراطيات الغربية هو المقصود أساساً في الخطابات المراوغة الموجهة له حول الحدث السوري، نظراً لأهميته في تعديل موازين القوى أو في توجيه الخيارات السياسية، وكانت وسائل الإعلام الناقلة المثلى لهذه الكلمات/المفاتيح، تؤكدها بالتكرار وبالتفسير، وكذلك باعتمادها "مفاهيم" لإدراك "ما يجري في سوريا".

والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى. يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى أكثرها بلاغة في هذا المجال. أولها، وربما أكثرها مدعاة للسخرية، مواقف إيران حول ثورات الربيع العربي ثم حول الثورة السورية. فبقدر ما كان حماس المسؤولين الإيرانيين شديداً لما حدث في تونس وفي مصر بقدر ما استحال هذا الحماس تنديداً بما جرى في سوريا. ولقد أسهمت مآلات الأحداث فيما بعد لا إلى تعزيز موقفهم السلبي من الثورة السورية فحسب، بل وإلى استخدامها حججاً على صواب هذا الموقف.

المثال الآخر هو ذلك الخاص بالخطوط الحمراء. سيتعيَّن في هذا المجال التمييز بين استخداميْن لهاتتين المفردتيْن من قبل طرفيْن يتفاوتان في الموقع والقدرة وحرية المبادرة: تركيا والولايات المتحدة الأمريكية.

فحينما حاصرت قوات النظام الأسدي مدينة حماه بعد أشهر من المظاهرات السلمية بمئات الألوف (تموز 2011)، ثم اجتاحت المدينة بحجة "القضاء على العصابات المسلحة التي تقوم بتخويف وإرهاب الأهالي"، بدا كما لو أن المدينة التي دمرها النظام الأسدي وقتل أكثر من ثلاثين ألفاً من أهلها قبل ثلاثين عاماً من ذلك التاريخ وكأنها على وشك أن تعيش المحنة مرة أخرى. يومها تحدث أردوغان، وكان رئيساً للوزراء، عن حماه، كخط أحمر. لم تُدَمَّر حماه، لكن مدناً أخرى دُمِّرَت، وقرى استبيحت، ولم يتمّ تفعيل هذا الخط الأحمر!

كان الحديث عن الخط الأحمر هنا قبل أن يلوّن الدم شوارع المدن السورية المدمَّرة. لكن استخدامه، بعد إمعان النظام الأسدي في القتل والتدمير في أرجاء سوريا، بصدد استخدام السلاح الكيمياوي، كان ذروة في حرب الدلالات المعنيّة هنا. كأنما كان استخدام الأسلحة الأخرى كلها وبلا تمييز، من الكلاشينكوف إلى الصواريخ  البالستية، مسموحاً به مادام منحصراً  وراء الخط الأحمر الذي يؤلفه استخدام السلاح الكيمياوي! هكذا اكتفى البيت الأبيض بعد حشد الأساطيل والطائرات غداة ضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيمياوي ليلة 21 آب 2013 ، بقبول تسليم النظام الأسدي كافة مخزون سوريا من الأسلحة الكيمياوية واختفى الخط الأحمر من الوجود!

وأخيراً لا آخراً، كان ردّ النظام الأسدي على الشعار الذي رفعه الثوار السوريون في مظاهراتهم في بداية الثورة: واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد، أن قدم نفسه للعالم بوصفه "حاميَ الأقليات" التي تهددها "الجماعات المسلحة"!

لا تزال حرب الدلالات مستمرة، وبقوة. وليس خروج المظاهرات من جديد في المدن الخارجة عن سيطرة النظام الأسدي إلا دلالة جديدة على أن الثورة لا تزال، رغم الأخطاء التي ارتكبها من تصدوا لتمثيلها، في براءتها الأولى وعلى أنها ستستمر.


** نشر في القدس العربي، 7 نيسان 2013، ص. 23.