بحثاً
عن بعض أسباب القصور
بدرالدين
عرودكي
نقل عن بشار الأسد أنه قال خلال لقاء له جرى خلال الشهر الثامن من عام
2011 مع وزير الخارجية التركية آنئذ، أحمد داوود أوغلو: "ست ساعات تكفيني
لإشعال المنطقة كلها"، وأنه طلب من ضيفه نقلَ هذه الرسالة إلى من يهمه الأمر
في الغرب!
لم يكن الأسد يتوقع والحق يقال أي تمرد في سوريا. كان شديد الاطمئنان
حين صرح لصحيفة وول ستريت جورنال قبل شهر ونصف من بداية الثورة إلى أن الوضع في
سوريا هادئ ومستقر. إلا أنه لم تمضِ أيام على خروج المظاهرات في درعا حتى كان
النظام الأسدي يتخذ القرار باستخدام الحل الأمني وأدوات العنف كلها لمواجهة
الاحتجاجات. كان أيضاً ـ كما برهنت الأحداث أخيراً ـ شديد الاطمئنان إلى طبيعة
خياراته وإلى موافقة ضمنية عليها من المجتمع الدولي كان يدركها ولو اختفت وراء
جعجعة تصريحات أقطاب هذا المجتمع وتهديداته بل وحتى حركات جيوشه!
قال أيضاً وفي السنة المذكورة ذاتها بأن آثار ما سماه "المؤامرة
الكونية ضد سوريا " لن تنحصر داخل حدودها بل سوف تمتدّ لتزلزل بلدان المنطقة
كلها.
قال ذلك كله في عام 2011. وكان مرتزقته من الصحفيين اللبنانيين خصوصاً
يكررون ما كان يقوله على شاشات الفضائيات ويحاولون البرهنة على صحة هذه الأقوال من
خلال اتهامهم شعباً بأكمله بات لمجرد خروجه في مظاهرات سلمية يطالب فيها بالحرية
وبالكرامة معرّضاً للقصف وللقنص وللاعتقال وللتهجير وللقتل في مجازر جماعية ينفذها
مرتزقة آخرون وتُتَّهم بها فيما بعد "الجماعات المسلحة" المتمرِّدة.
ليست هناك ـ على ما نعلم ـ أية إشارة صدرت في تلك السنة على الأقل عن
كل من تصدَّرت أقوالهم، مِمَّن قَدَّموا أنفسهم أو قُدِّموا بوصفهم الناطقين باسم
الثورة السورية، عناوين الصفحات الأولى أو شاشات الفضائيات على اختلافها، تشي
بالتوقف عند دلالات هذه الأقوال أو التساؤل عن دوافعها الخفية. كانت السخرية من
القول ومن القائل هي رد الفعل الوحيد الذي تردد صداه في مختلف الوسائل الإعلامية
السمعية منها والبصرية.
لم يتغير خطاب رأس النظام الأسدي طوال السنوات الماضية لا في مبناه
ولا في معناه. أعلن عن وجود الإرهابيين قبل أن يتواجد أي عربي غير سوري أو أجنبي
ضمن المظاهرات التي عمّت الأراضي السورية. وجرى حديث بعض مرتزقته ـ أو المعجبين به
ـ من الصحفيين في لبنان عن "قندهار" في حمص وعن الإرهاب في بانياس وحماه
ودير الزور قبل الإعلان عن تشكيل أي واحدة من الجماعات الإسلامية التي تكاثرت
كالفطر في أرجاء سوريا إثر إفراج النظام الأسدي عن كل الإسلاميين المتواجدين في
سجونه. ولم تكن تصريحات أوباما حول فقدان بشار الأسد شرعيته لتفتَّ في عضده. وبدا
أن الطريقة التي ينظر بها العالم إليه لا تثير لديه أي اهتمام كما ظن محرر الـ بي
بي سي، جيرمي بوين!
على أن المعجبين بالنظام الأسدي ومن كانوا يرتزقون من مديحه والدفاع
عنه كانوا يردّون هذه الثقة إلى "محبة أكثرية الشعب السوري" لرئيسه،
وإلاـ كما كانوا يماحكون ـ فما تفسير صمود النظام في وجه الجماعات الإرهابية كلها؟
وكيف يستطيع نظام البقاء رغم كل التهديدات التي يتلقاها من الولايات المتحدة
الأمريكية ومن كبرى الدول الغربية؟ وانساق وراءهم في تكرار مثل هذا الهراء عديد من
الصحفيين الغربيين في اليسار وفي أقصى اليمين، وكذلك مِمَّن يسهل على الوكالات
الإعلامية والدعائية التي جندها النظام الأسدي في الغرب شراءهم. بحيث بدا الفيتو
الروسي والصيني المتكرر عند كل محاولة من مجلس الأمن لإدانة النظام ومجازره كما لو
أنه دفاع عن شرعية حقيقية يستند إليها النظام الأسدي ولا يمكن لضحاياه أو سواهم أن
ينكروها. كان ذلك يؤكد في نظر أصدقاء النظام "شرعية" "ينكرها"
عليه في العلن من أطلقوا على أنفسهم "أصدقاء الشعب السوري"!
وكان لابدَّ ـ مبدئياً ـ للهجوم الكيمياوي الذي قام به النظام الأسدي
ليلة 21 آب 2013 من أن يفتح عيون الجميع على السبب الأعمق وراء هذه الثقة
الاستثنائية لرأس النظام بخياراته وبموقعه وبمصيره. فبعد أن استنفرت الأساطيل في
البحر المتوسط وبدا أن ضرب النظام الأسدي بات قاب قوسين أو أدنى، ها هو الاتفاق
الروسي الأمريكي الخفي يظهر إلى العلن فيقبل الأخير، الذي اعتبر استخدام السلاح
الكيمياوي خطاً أحمر (بما يعني رخصة السماح باستخدام الأسلحة الأخرى!)، أن يقوم
القاتل بتسليم سلاح جريمته كي يتم العفو عنه!
ظهر جلياً للعيان أن التواطؤ الروسي الأمريكي كان قائما ولا ينتظر سوى
الفرصة كي يظهر على الملأ. وبدا أن النظام الأسدي، وهو العارف بخفايا "المجتمع
الدولي" بما أنه كان في خدمته طوال خمسين عاماً، لم يكن ينطق عن هوى في نفسه
أو يلقي الكلام على عواهنه، بل كان يدرك بعمق أنه لم يفقد دوره، وأن أحداً لم ولن
يطلب منه التخلي عن هذا الدور أو أن يتراجع عنه، وأن عليه أن يتحمل أعباء ذلك أياً
كان الثمن، فهي وظيفته، ولن يكون ما سيقوم به إلا جزءاً من موجبات هذا الدور ومن
ضرورات حمايته. هكذا تماهى الكرسيّ بالدور وبالوظيفة، وبات كل شيء رخيصاً في سبيل
الدفاع عن هذا الثلاثي، بما في ذلك ما رأيناه ولا نزال نراه: تهجير نصف سكان
سورية، ومقتل أو جرح أو عطب أو اختفاء ما يعادل 11% من سكانها.
ألم يكن من الممكن ـ ولو على سبيل الافتراض ـ قراءة ذلك كله القراءة
السياسية الواجبة منذ ضحكات بشار الأسد المجلجلة أمام النواب المصفقين ولم تكن
دماء حمزة الخطيب قد جفت بعد، وفي غمرة التيار الجارف الذي حمل بن علي على الهرب
ومبارك على التنحي والقذافي على الاختباء في قنوات صرف المياه؟ هل تساءل أحدٌ مِنْ
كل مَنْ حمل لواء المعارضة في هذا التجمع أو ذاك عن حدود إمكانات هذا البلد العربي
أو الإسلامي مهما أبدى من علامات التضامن والتعاطف؟ وهل تساءل أحد من هؤلاء عن
حقيقة الموقف الأمريكي والغربي من مطالب الشعب السوري الثائر؟ ولو أنهم فعلوا
وأدركوا، ما هي المواقف المعلنة التي اتخذوها والأفعال التي قاموا بها تعبيراً عما
فهموه أو نتيجة له؟
كم هو عدد الدلالات والإشارات حتى لا نقول البراهين التي كانت تقول ـ
وبوضوح لا يدع أي مجال للشك منذ تسليم النظام الأسدي مخزون السلاح الكيماوي بعد
استخدامه في الهجوم على غوطة دمشق ـ ما نراه اليوم بأعيننا جميعاً: بقاء بشار
الأسد منهكاً وضعيفاً وبموافقة الجميع، من حلفاء النظام الأسدي إلى "أصدقاء" الشعب السوري ؟ هل كان
ثمة ما يحول دون رؤيتها؟ ولو أنَّ رؤيتها تمت، ما العراقيل التي كانت تحول دون
الانتقال إلى استخلاص النتائج والعمل بموجبها؟ أكان من الممكن أن نصل إلى ما وصلنا
إليه لو أننا رأينا وفعلنا بناء على ما نرى؟ ولو أن أحداً من هذا الفريق أو ذاك
زعم أنه رأى ذلك كله، فما الذي حمله هو وفريقه على أن ألا يتصرف بموجب ما رآه وبناء
عليه؟
تلك أسئلة تأمل الحملَ على التفكير في أسباب ومآلات هذه المسافة
الشاسعة القائمة بين ما تقوله مواقف القوى الإقليمية والدولية المعلنة صراحة أو
الخفية وراء الخطابات والتصرفات الدبلوماسية وبين سلوك ومواقف الهيئات والشخصيات
التي تصدّت لتمثيل الحراك الثوري للشعب السوري. مثلما تحاول فهم أسباب هذا القصور
السياسي.
** نشر هذ المقال في صحيفة القدس العربي، الخميس 18 شباط/فبراير 2016، ص. 23.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire