جامعة
الدول العربية أو ذرُّ الرماد في العيون!
بدرالدين
عرودكي
لو لم يصرح وزير الشؤون الخارجية والتعاون المغربي عن قرار بلده عدم
استضافة قمة عربية كانت جامعة الدول العربية تعمل على تنظيمها في شهر نيسان القادم
بالعاصمة المغربية نظراً لأن "الظروف الموضوعية لا تتوفر لعقد قمة عربية
ناجحة، قادرة على اتخاذ قرارات في مستوى ما يقتضيه الوضع، وتستجيب لتطلعات الشعوب
العربية"، أكان المواطنون العرب على علم بمثل هذه القمة وبأغراضها؟
قد يثير هذا السؤال ابتسامة البعض، لكنها ابتسامة ترتسم على وجوه
الناس جميعاً وفي بلدان العرب بلا استثناء كلما طرح اسم جامعة الدول العربية!
فهذه المؤسسة الوحيدة التي افترض بها تمثيل ما يمكن للعرب على الصعيد
الرسمي والسياسي أن يزعموه من وحدة الصف أو وحدة الهدف في غياب وحدة أو اتحاد
سياسي حقيقي والتي ولدت قبل نيِّف وسبعين عاماً كأي كائن عضوي حاملة أسباب أمراضها
فيها لم تتمكن من الارتقاء إلى مستوى سلطة جامعة ذات تأثير ما في حياة المواطن
العربي سواء على الصعيد السياسي أو العسكري أو الاقتصادي أو الثقافي. سوف تتفرع
عنها مجالس ومنظمات سياسية كمكتب مقاطعة إسرائيل، أو اقتصادية كالصندوق العربي
للإنماء الاقتصادي والاجتماعي، أو القانونية كالمنظمة العربية للدفاع الاجتماعي ضد
الجريمة، أو تربوية كالمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، أو بعض المشروعات
الثقافية النادرة التي ما لبثت أن اختفت بعد انطلاقها كذلك الذي أشرف عليه طه حسين
لترجمة المبدعات الكلاسيكية مثل مسرحيات راسين على سبيل المثال، لكنها جميعها حملت
بذور الأمراض نفسها والمشكلات نفسها في التسيير وفي التنفيذ وفي التأثير.
لم تستطع مؤتمرات القمة ـ وهي هيئتها العامة العليا ـ التي يقترب عددها
اليوم من الأربعين (1946 ـ 2015)، العادية منها والاستثنائية، وعلى غرارها،
مؤتمرات وزراء الخارجية أو الدفاع، أن تحقق شيئاً مما تصدت لبحثه وتحقيقه. ولم يبق
من هذه المؤتمرات أكثر مما تداولته وسائل الإعلام عنها في أوقات انعقادها
والبيانات الصادرة عنها.
ما الذي يحمل على هذا الاستنتاج الذي وهو يبدو سريعاً أو ساذجاً، يمكن أن ينمّ على الأقل عن جهل بطبيعة المواثيق
والنصوص الناظمة لآليات العمل الجماعي السياسي الرسمي العربي؟ هل هي النصوص
المؤسِّسَة؟ أم هو قصور أو بالأحرى عجز من أوكل إليهم أمر إدارتها والإشراف عليها؟
لا تختلف الجامعة العربية في آليات عملها بوصفها منظمة إقليمية تضم
دولاً ذات سيادة عن سواها من المنظمات التي عرفتها أوربا أو آسيا أو الأمريكتين. ولكنها
ستختلف بالتأكيد عن مؤسسة كان يمكن أن تكون أكثر شبهاً بها من سواها هي السوق
الأوربية المشتركة التي تزامنت فكرة إنشائها من قبل ست دول تقريبا مع ولادة
الجامعة العربية لكنها لم تر النور إلا بعدها بعشر سنوات (1957) والتي تطورت بالتدريج
إلى الاتحاد الأوربي الذي يضم اليوم خمسة وعشرين دولة. ففي الوقت الذي كان الغرض
من إنشاء الجامعة العربية مجرد "توثيق الصلات بين الدول المشتركة فيها وتنسيق
خططها السياسية تحقيقاً للتعاون بينها وصيانة لاستقلالها وسيادتها والنظر بصفة
عامة في شؤون البلاد العربية ومصالحها"، كان الغرض من تأسيس مجموعة الفحم
والحديد الصلب، نواة السوق الأوربية المشتركة، لغاية اقتصادية محضة من شأنها أن
تجعل الحرب بين فرنسا وألمانيا مستحيلة الوقوع مادياً وإن ضمت الدول الست التي
سرعان ما ستنجح في إقامة السوق المشتركة الهادفة إلى تحقيق وحدة اقتصادية كاملة
فيما بينها.
خلال نيف وسبعين عاماً لم تنجح جامعة الدول العربية بهيئتها العامة
ومنظماتها المختلفة على أن تتجاوز قيد أنملة ميثاقها الذي وقع عليه مؤسسوها
السبعة. وعلى أنها ضمت بالتدريج الدول العربية الأخرى بعد أن حققت استقلالها، إلا
أنها استمرت في السير على نهجها الأول، ولم تنجح في أي مجال من مجالات التعاون
الممكنة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في أن تحدّ من اختصاصات الدول الأعضاء
لصالح الجامعة أو واحدة من منظماتها العديدة. لم يكن السبب بالطبع أمين عام
الجامعة. فهو ليس أكثر من موظف بدرجة سفير. ومن الجدير بالذكر أنه كان يمكن له
بموجب المادة الأولى من النظام الداخلي أن "ينوب عن الجامعة فيما تتخذ من
إجراءات في حدود نصوص الميثاق وقرارات مجلس الجامعة"، لكنه لم يعد بعد الخلاف
الذي دبَّ بين عبد الرحمن عزام، أول أمين عام للجامعة، ووزير خارجية العراق، وبعد
تعديل هذه المادة، ينوب عن الجامعة بكل ما تعنيه النيابة من صلاحيات بل مجرد منفذ
للقرارات الصادرة عنها. كان ذلك يعني أنه لن يكون هناك أي مجال لسلطة أخرى
"تقريرية" يمكن أن تمنحها الدول الأعضاء نيابة عنها لمن يشغل أعلى منصب
في الجامعة، بل مجرد وظيفة تنفيذية.
لكن الأمين العام بدا من خلال تصرفاته خلال بعض السنوات من عمر
الجامعة، ولاسيما خلال ستينيات القرن الماضي، وكأنما أنيطت به سلطات لم يكن يملكها
من قبل. لم تكن هذه "السلطات" الظاهرية تعبيراً عن شخصية من يشغل المنصب
بقدر ما كانت بالأحرى تعبيراً عن إرادة الدولة الأكثر تأثيراً في الجامعة. وهو ما
يشير إلى إشكالية الجامعة الأساس منذ نشأتها: لم تكن العقدة في ميثاق الجامعة أو
في نظامها الداخلي أو في صلاحيات الأمين العام، بل في إرادة ممثلي الدول الأعضاء،
رؤساء ووزراء وسفراء، الذين كانوا، ولا سيما في الخمسينيات من القرن الماضي، وهم يستجيبون
إلى ضرورات العمل العربي المشترك، يعملون على ألا تمسّ هذه الضرورات حدود سيادة
دولهم. لم يكن من الممكن والحالة هذه تحقيق أي خطوة في سبيل مأسسة العمل المشترك
وبالتالي تطوير هذه المؤسسة الناطقة باسم العرب كي تتوصل إلى تحقيق ما أمكنها
مثيلتها إنجازه في أوربا التي انتقلت من من مجرد شراكة في الفحم والصلب إلى السوق
المشتركة الاقتصادية إلى الاتحاد الأوربي على الرغم من تراث حربين عالميتيْن خلال
أقل من نصف قرن، وهو تراث تم تجاوزه بفضل نظرة عبقرية إلى المستقبل تجسّدت في فكرة
استحالت مشروعاً فمؤسسة فمنظمة فهيئة دولية تتعالى وتتجاوز قومية الدول التي خاض
بعضها الحرب ضد البعض الآخر وباتت تعمل يداً بيد من أجل مستقبل شعوبها ولحمايتهم.
هل كان فشل الجامعة العربية وراء نزوع دول الخليج إلى إنشاء مجلس
التعاون الخليجي عام 1981 ودول المغرب العربي في عام 1989 إلى تأسيس الاتحاد
المغاربي؟
لقد جرى الحديث في بعض الأدبيات السياسية في ستينيات القرن الماضي عن
المجاميع الأربع التي يتكون منها العالم العربي: دول الخليج، وبلاد الشام، ودول
وادي النيل ودول المغرب العربي. ربما بدا إنشاء مجلس التعاون الخليجي ومحاولات
إنشاء الاتحاد المغاربي كما لو كان تأكيداً لذلك. تم إنجاز المحاولة الأولى.
وبنجاح. ربما لأن العقلانية التي اتسم بها منهج الدول الأوربية منذ بداية خمسينيات
القرن الماضي هي التي اعتمدتها دول الخليج منهجاً عند إنشائها مجلس التعاون
الخليجي في مسارها: المصلحة الاقتصادية ـ والأمنية أيضاً ـ التي توجِّه السلوك السياسي
وتحدد مساره، بخلاف المنهج الذي سارت عليه الدول العربية كلها في المؤسسة التي
اختارتها جامعاً لها وكأنها كانت لِذَرِّ الرماد في العيون.
يُقال ذلك اليوم، لا بمناسبة رفض المغرب استقبال القمة العربية في
نيسان القادم فحسب، بل بفضله، وبمناسبة الغياب التام لجامعة الدول العربية عما
يجري على أراضي دولها الأعضاء منذ خمس سنوات ..
* نشر هذا المقال في صحيفة القدس العربي ، الخميس 25 شباط 2016، ص. 23.