samedi 31 décembre 2016




جيورج ماورر
وتجربة الحركة والفعل

بدرالدين عرودكي


خرج الربيع الرسام
بلوحة ألوانه إلى الشوارع
ولوَّنَ الأحجار الملساء
بالأحمر والأخضر
وترك السكة للترام
وجلس في منتص الغابة
وطلى حتى ممشى الدار
بالأخضر ثم بالأزرق
وبعد كل هذا، ذهب إلى الماء الملطع بالزهر
ورسم نفسه، تماماً كما يرى نفسه:
ضائعاً وبريئاً ومغروراً...
وأحسّ كيف بدأت شفافيته تزهر
**   ***   **
كنتُ أحاول أن أتخيل، وأنا أقلب بين يديَّ قصائد الشاعر الألماني العظيم جيورج ماورر، ذلك الفتى النحيل الذي كانه قبل نصف قرن تقريباً، ربيعاً يبحث عن ألوان السعادة في الأرض فلا يجدها إلا في السماء: يضمُّ كتاب الساعات لراينر ماريا ريلكه إلى صدره ويرتضي لنفسه هذا المصير: المنفى في الروح بعد أن صدمته الغربة في الأرض.
كنتُ أريدُ في الحقيقة أن أنفذ إلى عالم هذا الشاعر الذي لم أكن أعرف عنه شيئاً قبل لقائي به، سوى أن صديقاً بدمشق نبهني قبيل السفر:
ــ حاول أن تقابل ماورر. إنه أعظم شاعر ألماني اليوم..
ولقد فعلت. وكان في برنامج الزيارة[1] الذي أعِدَّ لنا عدة ساعات نقضيها مع ماورر في منزله بمدينة لايبزغ. ولكي لا أصافحه وأنا أجهل كل شيء عنه حاولت الحصول على بعض أشعاره. وبادرني الصديق الدكتور عادل قره شولي، الذي كان تلميذاً له في معهد الأدب بجامعة لايبزغ، ثم صديقاً له مقرباً، بعدد من القصائد التي سبق له أن ترجمها عن الألمانية، وكذلك ببعض المعلومات التي تتحدث عن حياته بخطوط عريضة. وقبل أن أقرأ عنه، قرأته:
"لسنا من خلق العالم
ولكن اللقاء معه هو ملك لنا
ولم أخلف أنا الصديقة
ولكن حبها ملك لي
طالما استحقت الحب
وحسب ميزان لهيبي
ستكشف لي الصديقة ذاتها!..."
ما هو ملك لنا!.. ذلك مقطع من القصيدة. قفظت عيناي بعد أن أنهيته إلى مقطع آخر فجأة، كأنما اجتذبها فيه عطر غريب:
"لسوف نستبدل الحب بالعمل
وساح الشرف سيصبح حقلاً للفلاح
إن حكاية أيامنا
لا تقلّ روعة
عن جميع أساطير الأقدمين
ولكن لم يكن دون جدوى: ذلك التاريخ
ولا ضجيج المعارك المنصرمة.
فقد صرنا نحن
وهاهي ذي العصور جميعاً تمد إلينا الآن
على أطباق دموية يتصاعد منها الدخان
إمكانية الإنسان على التغلب
إن حزمة الرياح في صدورنا
تفتح دروب الحرية..."
وبجهد لا طائل من ورائه، كنتُ أحاول أن أتخيل الأبعاد التي تقدمها الأبيات في لغتها الأصلية. يفقد الشعر معناه ما إن يترجم إلى لغة أخرى. يُجرَّدُ من أبعاده وإيحاءاته، ويمنح، غضباً، أبعاداُ ومرامي أخرى تخص اللغة الجديدة وتنتمي إلى تاريخها. كنتُ في ذلك أِبه بمن يبحث عن ابتسامة الجوكندا السحرية في لوحة مزيفة. ومع ذلك، فوراء ما كنتُ أقرؤه بلغتي، شاعر يخاطبني، يخاطب الإنسانَ فيَّ. ولم يكن صعباً أن أكتشف ذلك على كل حال. فوراء الكلمات والمسافات، يبقى الشاعر العظيم ومضاً لا تقف دونه كل الأسوار.
**    ****   **
في الدور الثاني من بناء قديم يقع في حي Mencke str. بلايبزغ، يسكن جيورج ماورر. عندما استقبلنا تعلقت عيناي بقامته الضخمة، وتذكرت: ستون عاماً. رحلة طويلة، لا يستطيع رحالو البحار والمحيطات أن يقوموا بها بين الداخل والخارج، بين الذات والواقع، بين السماء والأرض، وفوجئت كذلك: حيوية تتحدى وهن الأعضاء، وشباب يتجاوز شيخوخة الجسد.
وكنتُ قد طلبت إلى الصديق عادل قره شولي أن يتحدث مع ماورر عن مقابلة أجريها معه لأقدمه إلى القارئ العربي. لكنه لم يضمن لي موافقته عن ذلك سلفاً. غير أنه فاجأني، وقد استبد بنا الحديث معه فترة طويلة:
ــ ألا تريد أن تجري مقابلتك؟
قلت: "نعم. ولكن استغراقي في سماعه الآن، وفي قراءة شعره أمس، أفقدني القدرة على تهيئة الأسئلة المناسبة!"
وضحك ماورر: "إنني أنا الذي لن يعرف إذا كامن بوسعه أن يجيب عن أسئلتك!"
وفكرت: مادام حديثنا معه حتى الآن عن كل شيء إلا عنه، فلم لا أحوِّل الحديث تحت ستار المقابلة فأجعله يتحدث عن نفسه؟
كنتُ أعرف أنه ولد في عام 1907 في منطقة ترنسلفانيا برومانيا حيث كانت تقطن منذ العصور الوسطى أقلية ألمانية احتفظت بتقاليدها. وأنه في التاسعة عشرة من عمره قد رحل إلى ألمانيا التي كان يريد أن ينهل فيها من تراثه الكلاسيكي الذي أعجب به على مقاعد الدرس، وأنه لم يستطع، هناك، أن يقيم علاقة مع الواقع الرأسمالي الذي صدمه. فعكف على ريلكه عله يجد فيه نفسه الضائعة الحائرة. إلا أنه لم يجد فيه ملاذه النهائي. فعاش "زمن العنف" ــ كما يسميه ــ بين نهاية الحرب العالمية الأولى ونهاية الحرب العالمية الثانية بكل وجوده. ذلك أن تلك السنوات، بما فيها، قد نالت الجميع، حتى أؤلئك الذين حاولوا اللجوء إلى المنفى الروحي، أو العالم الداخلي، الذي دعا إليه ريلكه.
إلا أن رحلة البحث لم يوقفها اليأس الذي دبَّ تحت وطأة العنف في أوصال الناس جميعاً إذ ذاك. وهكذا فإن أواخر الأربعينيات بالنسبة إلى ماورر كانت بداية حياة جديدة تختلف كلياً عن حياته السابقة خلال أربعين عاماً: في علاقته مع نفسه ومع شعره وفي شعره.
سكت صوت الأصوات الخالدة[2]، وانبثق وعي[3] الانطلاقة الجديدة :
"خرج الربيع الرسام
بلوحة ألوانه إلى الشوارع".
وها هي النوافذ تفتح على العالم مرة أخرى، لتبدو الحياة بعد سنوات الظلمة والخراب واعدة ومضيئة. وها هي الخطوات الأولى في رحلة الانسجام بينه وبين نفسه، تلك التي ما كان ممكناً لها أن تبدأ ما لم تكن في الوقت ذاته رحلة الانسجام بينه وبين العالم والآخرين.
عن بداية هذه الرحلة، عندما كان في العشرين من عمره، برفقة ريلكه، بدأ ماورر حديثه:
"كان ريلكه إنقاذاً بالنسبة لي عند مجيئي إلى ألمانيا الرأسمالية التي كانت أكثر تطوراً من رومانيا شبه الإقطاعية عام 1926 ـ 1927. كنت في العشرين من عمري ولم أكن أحب ريلكه، غير أني وجدتُ نفسي فجأة عاجزاً عن فهم العالم المحيط بي، عاجزاً عن معرفة الكيفية التي يمكن للإنسان أن يتصرف بها في هذا العالم. ولم أكن قد سمعت بالماركسية، سوى أنني سمعت اسم ماركس ذات مرة في رومانيا. ولذلك فقد كان جميلاً أن أجد عند ريلكه فكرة العودة إلى الذات لخلق عالم متجانس. وعلى الرغم من أنني كنت أتوق إلى التجانس في العالم الخارجي، إلا أنني لم أجده في العالم الذي جئت إليه، ألمانيا الرأسمالية. مع من كان بوسعي أن أتحدث؟ لم أجد أحداً سوى الله، عبر كتاب الساعات لريلكه. وكان الله بالنسبة إلي هو الأنا الثانية. ولذلك فقد كنت أتفاهم معه بشكل رائع. حاولت أن أذهب إلى الغابات لأتحدث مع الأشجار والعصافير، لكني وجدت أن هذه الأشياء أكبر مني. ولا أدري إذا كنتَ تعرف ما قاله ريلكه ذات يوم، عندما وقف أمام شجرة مذهولاً: إن هذه الشجرة أكبر مني بكثير! ؟".
قلتُ: لا. ولكني قرأت قولاً مشابهاً على ما أذكر لمتصوف إسلامي، محي الدين بن عربي.
وتابع ماورر: "المشكلة الرئيسية التي كنتُ أحس بها آنذاك كانت تتمثل في أنني لم أكن أشعر بنفسي واقعاً حسياً تجاه هذه الأشياء.
"أما بعد الحرب العالمية الثانية، فقد شعرت، نتيجة انهزام الفاشية، بأنه سمكن للإنسان أن يفعل شيئاً في هذا العالم. ولذلك وصلت إلى النتيجة التالية: ألا يعتبر الإنسان نفسه خارجاً عن الواقع، بل جزءاً من الواقع. ولذلك فإنني لم أجد نفسي في عزرا باوند لأنه يقول كذلك في الأناشيد ما معناه: "إن النملة أقوى مني"، إذ أنني استطعت الوقوف موقفاً نقدياً تجاه كل من عزرا باوند و ت. س. إليوت، لأن موقفهما ذكرني بموقف ريلكه.
"ذلك أنني كنت قد اطلعت على أعمال كارل ماركس بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، وشعرت بنفسي أنني أقوى من النملة فعلاً، قادراً، بسبب ذلك، على تبادل التأثر والتأثير على المستوى الاجتماعي، الأمر الذي لم أكن قادراً على الشعور بإمكان تحقيقه من قبل. لا بل إنني وجدت نفسي قادراً على متابعة حبي للكلاسيكيين بشكل حقيقي. إن جذور كل حياة هي الفعالية أو الفعل، ويمكن التعبير عن هذا في الشعر من الناحية الشكلية عن طريق استخدام الأفعال (التعبيريون مثلاً لا يستخدمون الأفعال، وإنما يقتصرون على الاسم والصفة. ذلك أنهم كانوا يحلمون بشيء ما، ولكنهم لم يكونوا يفعلون من أجل الوصول إلى هذا الشيء.) لم أكن أريد أن أكتب قصائد انطباعية فحسب. مثلاً، إذا نظرنا إلى أعمال بيكاسو التكعيبية نرى أنها تختلف عن اللوحات الانطباعية من حيث حيويتها وحركتها. ولقد أعجبت بهذا، ولم أكن أريد أن أنظر إلى العالم من خلال الشبكية فقط، وإنما كنت أريد أن أدخل هذا العالم. لست متحجراً، ولست ــ كذلك ــ ضد القصائد التي تعتمد على الشبكية. ولقد لاحظت أن الشعراء الكلاسيكيين، منذ الإغريق، كانوا دائماً فعالين، وتنعكس هذه الفعالية على ما يكتبونه. ففي الكوميديا الإلهية لدانتي، مثلاً نجد أن المكان هو في الحقيقة مكان ميتافيزيقي، إلا أن دانتي يدخل هذا العالم الميتافيزيقي حتى النهاية.
ومن جهة أخرى، فالصحة تعني الفعل. إن كل طبيب يشهد على أن الإنسان صحيح الجسم يستطيع أن يتحرك وأن يمشي، أي يستطيع أن يكون فعالاً، وإلا فإن عليه أن يستلقي! ومن هنا، فإنني للمرة الأولى بعد الحرب العالمية أحسست بشكل واع بقدرتي على أن أمشي وأن أتحرك على الرغم من أنني لم أكن أستطيع المشي بشكل جيد.. هذه التجربة لم يسبق لي أن عشتها من قبل أبداً بشكل واع كما عشتها في ذلك الوقت".
وسألته: أي شيء في الماركسية استطاع أن يؤثر فيك أكثر من غيره وجعلك من ثمَّ تنعطف نحو هذا الطريق الجديد؟
قال: "لقد توصلت إلى النتيجة التي حدثتك عنها أثناء قراءتي لماركس الفيلسوف الذي يقول إن كل شيء في تغير وحركة، وإن كل ثانية تختلف عن الثانية التي تليها. ولذلك فقد وجدتني أختلف مع باوند الذي يقول إن الأشياء تدور وتعود. وباختصار، فلقد لاحظت أن الماركسية تمكنت من فهم جوهر العمل. لاشك أن الإنسان كان يعمل منذ آلاف السنين. ولكن العمل لم يكن في يوم من الأيام مركز النظرة الفلسفية والأساس فيها كما هو اليوم في الماركسية. كان الإنسان يعمل دوماً، غير أن العمل لم يكن هو الجوهر، بل إن هناك لوحات فرعونية تصور العمل، ومع ذلك فليست هي اللوحات الشهيرة. إن اللوحات الشهيرة هي التي كانت تمثل الإله، أي فرعون!".


وصمت ماورر. وكان ثمة سؤال ينبثق من لحظة الصمت التي انتهى إليها حديثه، من لحظة الحاضر الذي يعيشه كشاعر كان يبحث عن الوسيلة المثلى لتحقيق الانسجام مع الذات ومع الآخر، ثم استقر به المطاف في المجتمع الاشتراكي الجديد.. فماذا يفعل الشعراء الشباب في هذا المجتمع؟
وانطلق السؤال من ثم صوتاً مسموعاً: تجربة البحث عن الحقيقة والوصول إليها؛ هل هي تجربة لابد منها لكل شاعر؟ وعندما يبدأ شاعر ما طريقه منطلقاً من الحقيقة التي انتهيت إليها، ألا يشكل هذا نوعاً من الابتعاد عن الرؤية العميقة الصلبة للكون والحياة والإنسان؟
أطرق ماورر ثانية، ثم أجاب:
"إن الشعراء الذين يولدون وينشأون في المجتمع الاشتراكي تقد لهم عادة خلاصة التجارب السابقة وهم لا يعرفون في أغلب الأحيان كيف توصل من سبقهم إلى هذه النتائج وتلك الخلاصات. وأعتقد أن الإنسان إذا توقف عند معرفة هذه النتائج وتلك الخلاصات فحسب، فإنه لن يكون بوسعه أن يفعل شيئاً ذا قيمة. يجب على هؤلاء أن يعملوا كل يوم لمعرفة الطريق التي سلكت للوصول إلى هذه النتائج."
ــ ما هو الهدف الذي يناضل الشعراء الشباب الآن من أجله في ألمامنيا الديمقراطية، أؤلئك الذين انطلقوا من الحقيقة التي توصلتَ إليها؟ هل يناضلون نضالاً مريراً ــ كما فعلت ــ للوصول إلى حقيقة أخرى، مادامت الظروف قد تغيرت، وغيرت المهمات تبعاً لذلك؟
قال ماورر:
"إنني لا أعتقد أنهم يبحثون عن حقيقة أخرى. فثمة أشياء كثيرة لا تعجبهم. هناك أشياء جيدة، وهناك أشياء غير جيدة. ولست أعتقد بصواب الرأي القائل: هنا الجنة وهناك الجحيم، على الرغم من انتشار هذا الرأي عندنا. لاشك أن ثمة بعض الشعراء الذين أصيبوا ويصابون بخيبة الأمل، لأنهم يملكون تصورات أخرى مختلفة عن الحياة والمجتمع. وفي رأيي، أن على هؤلاء الشعراء أن يراقبوا الواقع جيداً، وأن يتحدثوا بكل بساطة عن الأشياء التي لا تعجبهم. إلا أنني أطالبهم في الوقت نفسه، أو أطلب إليهم أن يطالبوا أنفسهم بما يطالبوا به الآخرين: أن يعملوا من أجل ما يريدونه، من أجل ما يريدون تغييره. كثيرون هم الذين يقولون: هذا جيد، وهذا سيء.. لكن أحداً من هؤلاء لا يفعل شيئاً، سوى الحكم، من أجل التغيير!".
ومرة أخرى، تداعت إلى خاطري القصائد التي قرأتها له قبل ليلة.. "مقاطع من أفكار الحب":
يسير الحب حاملاً عصاه السحرية
فوق لحم الأرض المشتاق
وحينما يصل، تفتح الورود أفواهها
وعيونها ذات الأهداب المرتعشة
ويقف على جسر قوس قزح
وحول فمه تقف الأسماك النهرية
فاتحة ثغورها كما لو كانت تنتظر قطعة خبز
وترفرف السمكة الذهبية كمروحة حمراء
ويهطل المطر أمامه وتمتلئ الساقية
وتمسح الصفصافات  الهرمة بأغصانها ذلك التدفق البني
وتنادي أعشاب المنحدر بخضرتها الصارخة
كل مافي الخفاء يظهر للعيان تحت إغراء الحب
وتحط فكرة الكون كله على تكور النهد!
**   ****   **
تجذبين قلبي إلى كل مكان
دماغي ينبض كالعضلة الحمراء
أوراد هي أفكاري
والمعادلات عطور من الغاز
اجذبيني أبداً أعمق فأعمق
إلى مشتل الواقع
حيث أنام منتشياً وأموت...
**   ****   **
كالنجمات تشرق في ذواتنا
يدفع الشوق الشوارع المتلألئة إلى المدينة
ويجعل شعرك الوسادة أكثر تألقاً الآن
في الغرفة الغسقية
وعندما يستلقي أحدنا جانب الآخر برقة
يتنفس الحسُّ كمالاً.. ويحس الكون كله
هدوء عناقنا..
وتذكرتُ أنه ناقدٌ إلى جانب كونه شاعراً. فهو يحمل لقب بروفسور فخري، وقد درَّسَ في معهد الأدب بلايبزغ مادة الشعر منذ عام 1957، حيث تخرج عدد كبير من الشعراء الشباب المعروفين في ألمانيا الديمقراطية مثل هلموت برايسلر وفرنر لندن وراينر ساره كيرش. فسألته بوصفه ناقداً عما إذا كان يملك أن يضع شعره ضمن اتجاه الواقعية الاشتراكية وعما إذا كانت هنالك صيغة نقدية محددة للواقعية الاشتراكية؟

قال: "أعتقد أن شعري يتحرك باتجاه الواقعية الاشتراكية. أما فيما يتعلق بالشق الثاني من سؤالك، فأنت تدرك ولاشك أن علم الجمال لا يمكن أن ينشأ إلا بعد أن توجد أعمال فنية كافية. لم يكتب أرسطو كتابه الأساسي في علم الجمال في الشعر إلا بعد أن كانت بين يديه أعمال أسخيلوس وسوفوكليس ويوريبيديس المسرحية وملحمة هوميروس الشعرية. ولقد قامت محاولات نقدية كثيرة لوضع أسس علم جمال ماركسي. إلا أن علم الجمال لا يتكون تماماً ‘إلا بعد اكتمال مرحلة معينة. ثمة ولاشك منهج يوضح الطريق إلى علم جمال ماركسي. لقد قرأ غوته الفيلسوف الألماني كانط وتأثر به من خلال الفكرة التالية: "إن الطبيعة تسير حسب قوانين معينة، ولكنها حرة" ــ أي حرة ضمن هذه القوانين ــ . على الإنسان إذن أن يأخذ مادته من الواقع ذاته، لا من القواعد الموضوعة له. إلا أن عليه أن يكون على معرفة بالقوانين التي يسير الواقع بحسبها."



[1]  زيارة وفد اتحاد الكتاب العرب بدمشق إلى ألمانيا الشرقية بين 28 تشرين ثاني/نوفمبر و 12 كانون أول/ديسمبر 1970 والمؤلف من محمد الماغوط وزكريا تامر وبدرالدين عرودكي.
[2]   مجموعته الشعرية الأولى
[3]   مجموعته الشعرية التي تؤرخ تحرره من موقفه المثالي الذاتي.

** نشر في مجلة المعرفة، العدد 111، أيار/مايو 1971، ص. 148 ـ 159.




jeudi 22 décembre 2016


هذه اللغة العربية "المحنّطة"!
بدرالدين عرودكي 
ما الذي يحول بين العربي وبين أن يحتفل بلغته الأم، العربية، بوصفها اللغة الأجمل، والأكمل بين لغات العالم؟
لاشيء بالطبع، شريطة أن يكون المحتفل على معرفة عميقة بعدد لا بأس به من لغات العالم كي يبرهن على ما يقول. أو أن يبدي في قوله سبب حماسه للغته بما أنه يجهل جمال وكمال اللغات الأخرى. إذ من المؤكد أن لكل لغة، شأن اللغة العربية تماماً، جمالها وخصوصيتها. وطبيعي أنَّ أول من يتذوق هذا الجمال ويدرك هذه الخصوصية هو كلُّ من أوتي من أبنائها موهبة الذوق ومقدرة العلم. ولا حرج في التغني بأي لغة مادام لا يحمل شبهة انغلاق أو عصبية أو استعلاء.
لكن التباكي على لغة العرب أو الغضب عليها ووصمها بكل ما يعتور المجتمعات العربية من مشكلات التأخر والانحطاط والعجز والاستلاب والتمسك بالماضي، بات للأسف تقليداً سنوياً بمناسبة اليوم الذي كرسته الأمم المتحدة منذ عام 2010 للغة العربية كي يُحتفل بها كل سنة، فنقرأ هنا وهناك رثاء لهذه اللغة العاجزة عن مسايرة العصور الحديثة، أو وصفاً لها باللغة العجوز، والمحنطة، والقاصرة عن مسايرة تطورات العلوم الحديثة، الاجتماعية منها أو الإنسانية أو الدقيقة، ولاسيما في عصر الرقميات. وأول المعترضين هم بعض من يمارسون مهنة الترجمة باعتبارهم "يعيشون هذا الانحطاط يومياً" كلما اكتشفوا "غنى اللغات" التي يترجمون عنها و"عجز لغتهم" عن إسعافهم بما يقابل هذا الغنى دون إسفاف أو إمعان في التغريب. لكن آخرين يأخذون عليها أنها لا تزال حبيسة إرهاب سلطة الخطاب الديني التقليدي الذي يضفي عليها طابعاً قدسياً يحول بينها وبين التطور الطبيعي الذي تخضع له كل لغة!
بيد أنَّ السؤال الذي يمكن أن يطرح على هؤلاء وأؤلئك: كيف لا تستطيع لغة استوعبت معظم لغات العرب القديمة ولم تتوان على مدار السنين عن استخدام واعتماد كلمات من اللغات الأخرى كالآرامية والسريانية والفارسية القديمة وعاشت كل هذه القرون ألّا تتمكن من التطور واستيعاب معطيات العصر الحالي بكل تعقيداته ومفاهيمه ومكتشفاته التي تغتني بأسمائها الجديدة قواميس لغات العالم الكبرى، القديم منها كالصينية واليابانية أو الحديث كالفرنسية والإنكليزية؟
ربما وجب في هذا المجال التذكير ببعض التفاصيل التي لم يعفُ عليها الزمن بعدُ.
في السنة الثالثة من القرن الماضي تأسست المدرسة الطبية التي ستكون نواة كلية الطب بجامعة دمشق اعتباراً من عام 1918 وتم تعليم الطب البشري والصيدلة فيها باللغة العربية حصراً. بعبارة أخرى، أمكن للغة العربية أن تستوعب مصطلحات الطب الحديث ولم يكن خريجو كلية الطب السورية أقلَّ علماً من زملائهم خريجي الجامعات العربية الأخرى التي يُدرس فيها الطب بإحدى اللغتين، الإنكليزية أو الفرنسية.
كذلك، لم يُعرف عن العرب الأقدمين أنهم كانوا ضليعين في علوم البحار والمحيطات أو أنهم إلى جانب حياة الصحراء التي اشتهروا بخبرتهم بها عاشوا حياة البحر وعانوها. ومع ذلك، استطاع إحسان عباس في ستينيات القرن الماضي أن يترجم إلى عربية ناصعة رواية البحر بامتياز: موبي ديك للروائي الأمريكي هرمان ميلفل والتي أتيح لقارئها بالعربية أن يتعرف الكلمات أو الأسماء التي اقتبست من اللغات الأخرى أو تمَّ تبنيها منها فعُرِّبَت.
أيضاً، لم يشكُ من ترجموا كتب مونتسكيو وروسو وديكارت وماركس أو كتب سارتر وفوكو وكانط وفرويد على سبيل المثال، ولا الذين ترجموا مسرحيات شكسبير أو روايات ستندال وبلزاك وبروست ومالرو من ضعف اللغة العربية. ومردّ غياب الشكوى أن معظم الذين تصدوا لهذه المؤلفات الكبرى في العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي الآداب كانوا من الضليعين في اللغة العربية ومن القادرين بمعرفتهم لعالمها ولمبناها ولقواعدها على العثور على ما يبحثون عنه من كلمات مقابلة أو معادلة لتلك التي تبدو لهم في اللغة الأخرى عصية على الترجمة إما بسبب حداثة نحتها للدلالة على مفهوم جديد أو لغرابتها في لغتها الأصلية.
ولعلَّ مما يمكن أن يثير الدهشة بهذا الصدد طرح أسئلة من قبيل: كيف تتطور اللغة، ومن يحملها على التطور، أو ما طبيعة البيئة التي تتطور فيها؟ ذلك أن كل من يعمل في مجال اللغات يعرف مختلف الإجابات التي قدمت أو تلك التي يمكن تقديمها.
اللغة كائن حي. تلك بداهة يعرفها الجميع. لكنها ليست كائناً موجوداً بذاته ولذاته. وكأي كائن حي، لا يمكن لها إلا أن تدافع عن وجودها بمختلف الوسائل التي يدافع بها أيُّ كائن حي عن نفسه في مواجهة الطبيعة أو في مواجهة الخصوم. أما وسائلها الأساس في الدفاع فهم مستخدموها كل يوم: شعراء كانوا أم علماء. على أن الشعراء، أولاً وخصوصاً، ولأنَّ اللغة "بيت الوجود" أو "مسكن االكينونة" كما كتب هايدغر بمناسبة الشعر على وجه التدقيق، هم الأوْلى بها خدماً وسدنة. وليس من قبيل الصدفة أن يكتب شاعر سوري لا يُشك في حداثته، حازم العظمة، عن أن اللغة العربية بعد أن كانت "لغة امرؤ القيس والشنفرى وتأبط شراً وابن الورد، (...) هاهي "تتجدد في هذا العصر وتدخل مرحلة جديدة من الجمال والرشاقة والعمق والمدى والانتشار.. بعكس ما يقول الناعبون..".
لكن ثمة شروط أخرى لا بد من تحققها في هذا المجال. إذ لا تستطيع لغة ما أياً كانت عبقريتها أن تستمر في الحياة بدونها، ونعني بها البيئة مجسَّدة بالحركية الاجتماعية والثقافية التي يعيشها المجتمع الناطق بهذه اللغة. فإذا كانت اللغة العربية قد حققت قفزة نوعية وحاسمة في القرن الثامن الميلادي فذلك لأن هذه الحركية بالذات كانت على أشدها، سواء على صعيد تطوير مؤسسات الدولة الجديدة أو على صعيد التفكير الفقهي والفلسفي استجابة لمختلف التغيرات التي فرضها اللقاء بثقافات جديدة. أي، بعبارة أخرى، بعد أن كانت اللغة العربية شديدة الاهتمام بالتفاصيل الزمنية والمكانية والنفسية التي جعلت من مفرداتها شديدة الدقة، اتجه اهتمامها، منذئذ، إلى قول الأشياء الجديدة الطارئة على الحياة العربية السياسية منها أو الاجتماعية أو الفلسفية بفعل لقاء هذه البيئة القادمة من الجزيرة العربية بورثة حضارتين كبيرتين: البيزنطية والفارسية. وإذا كانت اللغة العربية اليوم تعاني بعض المصاعب في مسايرتها لمعطيات الحضارة الرقمية خصوصاً فليس ذلك لعجز في بنيتها الأساس وإنما لأن بيئتها، أو مجتمعها، لم يدخل بعد حقل الإنتاج حتى لا نقول الابتكار في هذا الميدان.
ليست قداسة اللغة العربية أو ما يظنه البعض كذلك هي الحائل بينها وبين التطور، ولا إرهاب هذه الفئة أو تلك من سدنة الدين أو التقاليد، ولا كذلك عجز بنيتها عن التفاعل أو التأقلم مع المعطيات الجديدة في الزمان أو في االمكان. فقد تخلت ذات يوم  في القرن الثامن عن المطلق في بنيتها الأساس لصالح النسبي ولم يقف الدين أو سدنته حائلاً دون ذلك! بل هو بالأحرى الوضع المأساوي الذي تعيشه المجتمعات العربية اليوم على كافة الأصعدة، السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية معاً.
فهل اللغة العربية هي المحنطة فعلاً؟ 

** نشر على موقع جيرون يوم الخميس 22 كانون أول/ديسمبر 2016.



jeudi 15 décembre 2016



مشكلة الشرخ في الثورة السورية
بدرالدين عرودكي
لا بدَّ لما نشهده اليوم من نكوص خطير في مدينة حلب والذي يطرح الكثير من الأسئلة حول مختلف المشكلات التي واجهتها الثورة السورية منذ آذار 2011 أن يحملنا، من أجل استمرارها، على استعادة نقدية لمسيرتها وخطواتها وخياراتها وتنظيماتها. لن تستطيع عجالة مثل هذا المقال بالطبع أن تقوم بذلك. لكن بوسعها على الأقل أن تتناول جانباً يبدو أساساً قبل الخوض في التفاصيل الذي يحتاج على كل حال إلى ما يمكن أن نسميه طرح المشكلة.
****    *****   ****
لم تكن حجة "خروج المتظاهرين من الجوامع" التي أطلقها في عام 2011 شاعر حداثي كان ممن اعترفوا بشرعية النظام الأسدي جهاراً ليبرر بها عدم تأييده لثورة السوريين في آذار 2011 مجرد جملة عابرة تقول لامعنى أية ثورة تتخذ منطلقاً لها مكاناً دينياً. بل كانت تعكس في الحقيقة كثيراً من مشكلات التفكير السياسي العربي لدى اليسار عموماً وكذلك لدى معظم مفكري الحداثة والعقلانية طوال النصف الثاني من القرن الماضي. لم ينتبه العديد منا إلى أن هذه "الحجة" التي خرج بها على الملأ مثقف "تنويري"، سبق له أن اعتبر الإمام محمد بن عبد الوهاب من رجال النهضة وهلل لثورة الخميني (لا لثورة الشعب الإيراني) وصفق لثوار تونس ومصر لكنه أحجم عن ذلك عند انطلاق الثورة في سورية، كانت تقول بلغة أخرى ما قاله النظام الأسدي نفسه عن الثورة والثوار حين وجَّهَ لهم تهمة "السلفية" والانتماء إلى "القاعدة".  لكن الأهم من ذلك كله يتجلى خصوصاً فيما تقوله هذه الجملة عن القطيعة التي قامت منذ البداية بين تياريْن رئيسيْن في الفكر والعمل السياسي العربي: التيار الديني الذي نادى جملة بأن "الإسلام هو الحل" والتيار المدني (اليساريون والليبراليون) الذي اعتمد في برامجه  أو في أدبياته صيغاً مختلفة للعلمانية التي تعني في جوهرها فصل الدين عن الدولة. وطوال عقود طويلة بقي هذان التياران خطيْن متوازييْن لا يلتقيان. وما كان ممكناً لهما في الحقيقة أن يلتقيا في غياب أية إرادة لدى كلٍّ منهما  في لقاء الآخر ولو ضمن الحدود الدنيا.
كان وجود هذين التيارين على هذا النحو شديد الملاءمة للنظم العسكرية والاستبدادية التي استقرت في المنطقة العربية مع بداية النصف الثاني من القرن الماضي. فبينما كان التيار الديني بمعرفة السلطات السياسية أو بالتواطؤ معها يتغلغل في عمق المجتمع، مدينة وريفاً، عبر جمعياته الخيرية ومدارسه الشرعية الخاصة وحلقات التدريس في المساجد تحت إشراف الأئمة المُكرَّسين لهذا الغرض فضلاً عن الحلقات الخاصة في بيوت هؤلاء الأخيرين بعيداً عن الأنظار، أنظار السلطة وأنظار الخصوم معاً، بهدف تربية جيل من الدعاة الشباب، كانت الجماعات اليسارية على اختلافها ومنذ استقلال سورية تتلقى عنت وضربات النظم المتتالية، العسكرية منها خصوصاً، وتحاول المحافظة على وجودها بصورة أو بأخرى عاجزة عن تجاوز حدود المدن إلى الريف إلا فيما ندر، وغير قادرة على أن تجذب حاضنة شعبية حقيقية تحميها وترعاها. ذلك أنها بقيت حبيسة خطاب لم يتم تعريبه محلياً ومن ثم ترسيخه وجعله معتمداً في المفردات اليومية لمختلف الطبقات الشعبية المستهدفة به.
وفي الوقت الذي كان الخطاب الإسلامي راسخاً بحكم طبيعة الجذور الثقافية لهذه الأخيرة سواء في حياتها أو في سلوكها اليوميين، كان الخطاب الآخر غريباً بمفرداته وبمضامينه. كان الشيوعيون على سبيل المثال يضربون الأمثال وهم يستعرضون معارفهم الدقيقة عن الإنتاج الزراعي بالكولخوزات السوفياتية في الوقت الذي كانوا فيه يجهلون تمام الجهل الإنتاج الزراعي أو حتى العادات المتبعة في المعاملات والعقود الزراعية في واحدة من القرى المحيطة بدمشق أو حمص أو حماه! وما كان بوسع أيٍّ من الجماعات اليسارية على كل حال أن تدعو إلى علمانية الدولة صراحة وجهاراً في بيئة لم تكن مؤهلة للإصغاء إلى خطاب ذي مفردات لم تألفها أو لا يمكن لها بما وصلت إليه من مستوى في التعليم أن تفقه مراميها. وربما كانت مشكلة الخطاب هذه بما تعكسه من قصور جليّ في فهم المجتمع الذي تعيش فيه هذه الجماعات والذي تحاول أن تتصدى لقيادته من أجل السير به في طرق التقدم والتحرر هي التي حالت دون أن تكون جماهيرها كثيرة العدد، شديدة التنوع. وربما كان هذا الوضع هو الذي أدى في العديد من البلدان العربية وليس في سورية وحدها إلى أن تتقدم الأحزاب الإسلامية على سواها من الأحزاب الأخرى ولا سيما اليسارية منها في كل مرة أجريت فيها انتخابات حرة نسبياً. رأينا ذلك في الجزائر مثلما رأيناه في مصر وفي الأردن وفي فلسطين. وعلى أن سورية لم تعرف الانتخابات الحرة منذ أكثر من خمسين عاماً، فإن سنوات الثورة قدمت أمثلة ساطعة في هذا المجال. فقد كانت التربة التي استطاعت القوى الثورية أن تحرث فيها وأن تستنبتها حواضن اجتماعية في كل الأراضي السورية شبه مهيأة تاريخياً لاستقبال مختلف ضروب الجماعات ذات الطابع الإسلامي أو تلك التي تبنته مؤخراً لامتلاكه جاذبية مستمرة للتمويل، أكثر من تلك التي كانت ذات نزعة يسارية أو ليبرالية ومن ثمَّ أقرب إلى نزوع وشعارات الثوار الأوائل في تطلعها إلى إسقاط الاستبداد والسير نحو حكم مدني ديمقراطي؛ وهي هذه الجماعات نفسها التي تكاثرت وباتت تعد بالمئات فشقت وحدة الثوار، وأعلنت محاربتها لشعاراتهم باسم ما سمته "حكم الشريعة" ضاربة عرض الحائط بمفاهيم المواطنة والديمقراطية، واستطاعت التحكم بمعظم الأراضي التي تم تحريرها من براثن النظام كي تحل محلها براثنها.
لم يكن العلم العميق ولا البراعة الاستثنائية من صفات هذه الجماعات الإسلامية. بل يبدو معظم مسؤوليها في الصفوف الأولى ومنهم المهندس والطبيب والأكاديمي حين يتحدثون في السياسة نظرية وممارسة وكأن الزمن في نظرهم قد توقف عند القرن الثامن أو التاسع الميلادي، أو القرنين الأول والثاني الهجريين. كما تتجلى خلاصة قدراتها وبراعتها في تطويع عقول بسطاء الناس ولاسيما الشباب منهم وهم في مقتبل أعمارهم. كل ذلك ظهر واضحاً خلال السنوات الخمس الأخيرة من عمر الثورة السورية في الصحف وفي الوسائل السمعية البصرية وفي الممارسات على صعيد المنظمات والكيانات التي تصدت للحديث باسم الثورة أو لتمثيلها.
وعلى أن الخطاب المقابل يبدو في ظاهره متماسكاً في صياغته وفي مضامينه وفي مراميه إلا أنه كان يشكو من ضربين من القصور على الأقل: أولاهما عدم إحاطته بكل عناصر الواقع الاجتماعي الذي يخاطبه وأخذ أهمها على الأقل بعين الاعتبار في أي مشروع يقترحه لمستقبل سورية؛ وثانيهما قصوره في عرض المفاهيم الحديثة التي ينادي بها ولاسيما منها العلمانية التي فهمت بين الأوساط الشعبية دعوة إلى الإلحاد أو التخلي عن الدين على سبيل المثال، أو الديمقراطية التي فهمت هي الأخرى كما لو كانت مجرد عملية انتخابية تتم كل أربع أو خمس سنوات لتجديد الطاقم الحاكم.
هكذا كان الشرخ يبدو عميقاً وواسعاً بين خطابين. وكذلك الأمر على صعيد القبول الشعبي لكل منهما. وبقدر ما كانت الجماعات الإسلامية تبدو عاجزة عن تجديد خطابها وحبيسة مفردات لا تمت إلى العصر بصلة بقدر ما كانت الجماعات اليسارية والليبرالية تبدو عاجزة عن فهم الواقع الاجتماعي في أبعاده المتعددة اجتماعياً وتاريخياً وحبيسة تفكير نخبوي  لم يتمكن من تجاوز حلقاته الضيقة كي يمس جماهير الجماعات الإسلامية ذاتها والتي تطلع دوماً إلى كسبها.
وليس ذلك إلا جانباً جزئياً من جوانب المشكلة التي عانتها ولا تزال تعانيها الثورة السورية.

** نشر المقال على موقع جيرون يوم الخميس 15 كانون الأول 2016.



mardi 13 décembre 2016



صادق العظم: تقنية الرأي الشجاع 
بدرالدين عرودكي 


منذ محاضرته الأولى عن "مأساة إبليس" التي قدمها أمام جمهور عربي بدمشق عام 1963، قبل أن ينشرها مفصلة في كتابه "نقد الفكر الديني" رسم صادق جلال العظم مسار طريقه بوضوح لا لبس فيه: موضوعاً ومنهجاً وتقنية وسيسير عليه طوال نيف وخمسين عاماً دون أن يحيد عنه قيد أنملة.
لم يكن منتظراً أن يعود شابٌّ من الولايات المتحدة أو من أي بلد غربي بعد حصوله على درجة دكتوراه في الفلسفة نالها بناء على رسالة قدمها حول الفلسفة الفرنسية المعاصرة من خلال فلسفة الأخلاق لدى الفيلسوف هنري برغسون أن يبدأ مساره كاتباً ومفكراً بتناول موضوعات لا تمتُّ بصلة إلى هذه الفلسفة خصوصاً ولا إلى الفلسفة الغربية عموماً، ولم يسبق لها كذلك أن طُرِحَت على بساط البحث انطلاقاً من نظرة خارجة عن المألوف أو عما يمكن تسميته بالتقاليد التي هيمنت على مقاربة الموضوعات الدينية خصوصاً والسياسية عموماً في بلدان سبق لها أن أوشكت على سجن طه حسين لمجرد أنه شكك في انتماء الشعر الجاهلي إلى عصر الجاهلية، إي إلى عصر ما قبل الإسلام، ونزعت صفة العالم عن الشيخ علي عبد الرازق، العالم الأزهري، الذي حاول الاجتهاد من خلال كتاب "الإسلام وأصول الحكم" في موضوع  ديني/سياسي لا سلطة للخوض فيه إلا لما تقرره السلطة السياسية عبر المؤسسات الدينية الخاضعة لها.
كانت دراسة طه حسين في الأزهر ثم في الجامعة المصرية خصوصاً دون الحديث عن دراسته في الجامعة الفرنسية تتيح له بلا عناء شديد الحديث في موضوعات لا يمكن لأحد أن يماري في قدرته وأهليته الفكرية لمقاربتها؛ وكانت مثلها دراسة الشيخ علي عبد الرازق الأزهرية التي سمحت له الخوض في موضوع خلافي أساساً عبر مقاربة موضوعات كانت تؤلف قوام المواد الدراسية لطلاب الأزهر. على أن ما لم يكن مسموحاً به كما تبين آنذاك من ردود الفعل الرسمية من قبل المؤسسات الدينية والسياسية والناطقين باسمها بوجه خاص كان الخروج على تقاليد البحث أو ما يمكن أن نطلق عليه "المحرّمات"، وكان مثل هذا الخروج يعتبر تحدياً تضفي عليه المؤسسة الدينية ومسؤوليها صفة خطيرة يمكن أن تصل إلى حدِّ الاتهام بالكفر وتستنجد في سبيل إقرارها بالسلطة السياسية لقمع من يقوم به بصورة أو بأخرى. كان ذلك يضع حداً لأي نقاش أو سجال. ومن هنا كُتِمَ أهمُّ صوتين عرفتهما بداية الربع الثاني من القرن الماضي ولم يجرؤ بعدهما أحد على السير على هديهما أو أن يستأنف مجدداً العمل في إطار مشروعهما.  
فأن يختار صادق العظم بناء على ذلك في أول لقاء له بالجمهور في بلاده ثيمة قرآنية وموضوعاً إسلامياً بامتياز لم يكن يبدو أنه كان مهيّأً لمقاربته خلال مساره الدراسي والعلمي كان والحق يقال يعبِّر عن جرأة سرعان ما استحالت بسبب تكوينه العلمي بالذات والطريقة والتقنية اللتين اتبعهما في كتاباته  شجاعة سوف تسم مقارباته التالية كلها أياً كانت ثيمتها أو ميادينها.
ذلك أن قوام مشروع صادق العظم الذي سيتكشف بالتدريج عبر دراساته المتوالية منذ تلك المحاضرة يتجلى في نقد نسق متكامل من العادات الفكرية والطرق السائدة في التفكير الغيبي وغياب المنهجية والعقلانية في المقاربات سواء في تلك التي تنظر في النصوص القديمة أو تلك التي تحاول فهمها ثم تعمل على تأويلها أو خصوصاً في ضروب تطويعها على أيدي مختلف السلطات السياسية على صعيد الممارسات الثقافية أو الاجتماعية أو السياسية. بهذا المعنى، لم تكن الثيمات التي اختارها من مختلف ميادين التفكير الديني أو السياسي أو الأدبي ثيمات من أجل بناء فكري جديد ومتماسك يماثل مشروع طه حسين في نقده الجذري للشعر الجاهلي أو علي عبد الرازق في إعادة قراءته للتاريخ السياسي للإسلام عبر منظومة مفهوم الدولة فيه، وهما المشروعان اللذان أُجْهِضا ما إن نَشِرا على الملأ، بقدر ما كانت تستهدف في مقاربتها تحريك المياه الآسنة من خلال الخوض في عدد المحرمات الأساس في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية، وفي مقدمتها المحرمات الدينية والسياسية.
وإذا لم يكن هذا الاختيار لميدان نشاطه الفكري يتطلب استعداداً علمياً شاملاً، دينياً أو سياسياً، يشرعن خياراته أو يمنحها على الأقل قاعدة صلبة تستند إليها مقارباته، فإن ما كان ما يحتاج إليه بالدرجة الأولى تقنية شديدة الدقة قوامها الأساس المنهج العقلاني، منهج كان في دراسته للفلسفة قد امتلك ناصيته بحيث بات جزءاً من سلوكه اليومي.
تجلت تفاصيل هذه التقنية في كتابات صادق العظم على اختلافها، بدءاً من مقالات "نقد الفكر الديني" وانتهاءً بمقالاته التي تضمنها كتاباه "ذهنية التحريم" و "ما بعد ذهنية التحريم، وطريقة قبوله مختلف ضروب النقد الذي وجه إليها وطريقة ردوده عليه وحرصه على نشرها كاملة ضمن كتبه المذكورة. يتجلى أهمُّ عناصرها في دراسة عميقة وشاملة للثيمة المعالجة لا تترك أية ثغرة في مراجعها والوثائق المتعلقة بها فضلاً عن كل ما كتب عنها قديماً أو حديثاً وفي مختلف المجالات،  وكذلك في تفاصيل معالجتها التي ستؤلف موضوع النقد.
لم يُنقد صادق العظم فيما كتبه من دراسات في كتابه "نقد الفكر الديني" ولاسيما حول "مأساة إبليس" أو "معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان" على ما بينهما من اختلاف في طبيعة الموضوع ومصادر كل منهما، لنقص في معارفه. كان معظم النقد موجهاً إلى تجاوزه الحدود المرسومة التي اخترقتها دراساته، وهي حدود كان تجاوزها هو الهدف الأساس في معظم ما كتبه في مجال نقد الفكر الديني أو الفكر السياسي أو الاجتماعي. ولذلك كان يرى خلافاً للغالبية العظمى من الكتاب أمثاله أن عليه أن يلاحق كل ردود الأفعال على ما يكتبه وأن يرد على ما يوجه إليه من نقد بالتفصيل، ثم أن يقوم بنشر نصوص النقد كلها وردوده عليه مع النص الأساس بحيث تتاح للقارئ فرصة النظر والمقارنة واستخلاص النتيجة التي تؤدي إليها مجمل هذه السجالات من حول الدراسة الأساس. 
هكذا كان لا بد لهذه الجرأة كي تستحيل شجاعة من استخدام هذه التقنية في مقاربة موضوعات كانت تودي بكل من يقاربها خارج الحدود إلى التهلكة. ولقد تجلى ذلك أيضاً وعلى نحو أكثر وضوحاً في معالجته لقضية سلمان رشدي وروايته "الآيات الشيطانية" التي كانت سبباً في "حكم عابر للقارات" كما وصفه العظم أصدره الخميني على الروائي بقتله مقابل جائزة مالية سخية. لم يكن من السهل في ذلك الحين أن يتبنى مثقف عربي موقفاً كذلك الذي تبناه صادق العظم في بلده سورية مدافعاً عن حرية الكاتب في الكتابة وفي التفكير في إطار ما سماه "ذهنية التحريم وعقلية التجريم ومنطق التكفير وشريعة القمع". هنا أيضاً نشر صادق العظم ثلاثة وعشرين مقالاً أو دراسة نقدية لدراسته حول سلمان رشدي قام بالرد عليها بطريقة تثير الإعجاب في هدوئها وفي منهجها في تفنيد الأفكار أو الطريقة دون المساس بشخص الكاتب أو الناقد.  
فتحت هذه الطريقة، منهجاً وتقنية، المجال واسعاً لجيل كامل من الباحثين الشباب كي  يطرقوا أبواباً في البحث لم تكن من قبل مطروقة أو لم يكن مسموحاً طرقها ولاسيما في المسائل الدينية. والحق أن الثورة النقدية التي أطلقها صادق العظم وحركت كل ضروب المياه الآسنة في الفكر أو في المعتقدات الدينية أو السياسية كانت نموذجاً لما أطلقته الثورة السورية الأخيرة حين كسر شبابها حواجز الخوف والمحرمات في ميادين الفكر الديني والسياسي والاجتماعي.
لم يكن غريباً والحالة هذه أن يسير صادق جلال العظم في ركاب الثورة منذ لحظتها الأولى. فقد بدت وكأنها جاءت لتدفع بمنهجه النقدي الصارم إلى حدوده القصوى: تحطيم الأصنام الحديثة وتحويل المياه الساكنة إلى أنهار.

** نشر على موقع ضفة ثالثة يوم الثلاثاء 13 كانون الأول/ديسمبر 2016.



vendredi 9 décembre 2016



الترجمة ونقد الترجمة
بدرالدين عرودكي
في الأبواب التي تختارها الصفحات الثقافية في الصحف أو المواقع الإلكترونية العربية لتقديم الحياة الثقافية في مختلف وجوهها، لا وجود لباب مخصص لنقد ترجمات الكتب التي تلقي بها إلينا كل يوم دور النشر الرسمية أو الخاصة. لكن موضوع هذا النقد كثيراً ما يثار خلال ويقتصر على المؤتمرات المخصصة للترجمة وللمترجمين في صيغ مختلفة لا تتجاوز الشكوى من مستوى الترجمات أو من ضعف برامجها أو من الخيارات التي تسم هذه البرامج، إن وجدت، سواء أكانت المؤسسات الثقافية الرسمية هي من وضعها أو دور النشر الخاصة. وربما لو وسَّعنا دائرة الاهتمام إلى الصفحات الثقافية الأجنبية لوجدنا فيها أيضاً غياب مثل هذا الباب، على الرغم من أن المشكلات التي تعتور ترجمة الكتب من اللغات الأخرى إلى العربية لا تختلف إجمالاً عن تلك التي تتم بين اللغات الأوربية أو بين هذه الأخيرة وسواها من لغات الشرق الأقصى كالصينية أو اليابانية.
لكن ما يعنينا هنا هو النقد الذي يتناول أهمَّ جوانب عملية الترجمة في الثقافة العربية اليوم: الجانب الأول يتضمن الخيارات الاستراتيجية في البرامج التي تضعها مؤسسات رسمية تمولها الحكومات، أو تلك التي تتبناها مؤسسات خاصة تعتمد على مساعدات حكومية أو خاصة، أو التي تسير عليها مختلف دور النشر في مشرق العالم العربي ومغربه؛ والثاني ينطوي على المشكلات التي تواجهها مؤسسات الترجمة الرسمية ودور النشر الخاصة؛ والثالث يشمل المشكلات التي يواجهها المترجم العربي اليوم؛ والرابع الترجمة في ذاتها بما هي إنجاز ثقافي وأدبي أقرب إلى المُبدعات الأدبية حين نكون أمام ترجمة الأعمال الأدبية وإلى الدراسات الفكرية حين نكون بصدد ترجمة الكتب المختصة في العلوم الإنسانية والاجتماعية.
صحيح أن معظم هذه الجوانب كانت ولا زالت، ولا سيما الثلاثة الأولى منها، تؤلف موضوعات تعالجها عموماً بهذا القدر أو ذاك من العمق مؤتمرات الترجمة شبه الدورية التي باتت تعقد في أكثر من بلد عربي ولاسيما في كلٍّ من مصر ولبنان والإمارات العربية المتحدة. لكن ذلك لا يعني أن هذه الموضوعات قد أشبعت بحثاً وتحليلاً. ولا أدل على ذلك من تعدد منظمي مؤتمرات الترجمة هذه، وتباين الأهداف من عقدها واختلاف السياسات الخاصة بها بين بلد وآخر، وغياب أي تنسيق حقيقي فيما بينها على صعيد برامجها رغم الإلحاح المتكرر على هذه الناحية بالذات، فضلاً عن افتقار المؤسسات المنظمة لهذه المؤتمرات إلى السلطة وإلى الوسائل الضرورية التي يمكن لها بها أن تسير بمقررات هذه المؤتمرات في حال وجودها من الإمكان إلى حيز التنفيذ.
ليس من الممكن بالطبع في عجالة كهذه تناول كل هذه الجوانب بالبحث أو بالتحليل على أهميتهما؛ إلا أنه لابد من الإشارة إليها كلما فرضت الضرورة الاقتصار على تناول واحد منها كي يفهم هذا الأخير في إطار مجمل العملية على الأقل. وبعبارة أخرى، ليس الهدف هنا إلا محاولة الخروج بهذه الموضوعات من قاعات المؤتمرات على اختلافها إلى فضاء الصحافة وجمهورها الواسع.
والمشكلة المعنية هنا هي تلك المُشار إليها في بداية المقال، ونعني بها نقد ترجمة الكتب التي تصدر وطريقة الترجمة ومدى وطبيعة مقاربتها للنص الأصلي. من المؤكد أن غياب هذا النقد عن الفضاء الثقافي العام يسهم في تفاقم المشكلة التي تعاني منها ترجمات الكتب الأدبية والفكرية في العالم العربي والتي تتجسد لا في ما اعتدنا على تسميته السريعة والخاطئة بخيانة النص بل بخيانة المهنة ذاتها و بمختلف الطرق.
ولا نقصد بنقد ترجمة الكتب هنا ما يمكن تسميته بالنقد التسويقي الذي يروج لمضمون هذا الكتاب المترجم أو ذاك دون التطرق إلى عملية الترجمة ذاتها فيه. ما نعنيه هنا هو عملية مقارنة يقوم الناقد بها بين النص الأصلي للكتاب ونصّ الترجمة العربي.
من المؤكد أن هدف هذا النقد بالدرجة الأولى طمأنة قراء الترجمة إلى أن ما بين أيديهم كحدٍّ أدنى إنما هي ترجمة احترمت النص الأصلي ووضعته باللغة العربية كاملاً غير منقوص. ومن هنا فإن أول مهام هذا النقد هو الوقوف على مدى التزام المترجم بكامل النص واحترامه له دون أي تدخل منه حذفاً أو تعديلاً يمكن أن يحمله على القيام بواحد منهما أو بكليهما معاً قناعاته الشخصية أو مواقفه الأيديولوجية أو حتى رأيه في مضمون الكتاب كما حكم عليه بسبب ما اعتبره "خطأ المؤلف" أو "قصوره عن الفهم"  كما حدث بالفعل في بعض الترجمات المنشورة.
سوى أن هذه العملية النقدية تبقى أشد تعقيداً في مجملها وعلى أكثر من صعيد. فهي تتطلب مبدئياً أن يملك الناقد أولاً فضلاً عن الثقافة الواسعة، معرفة عميقة بلغة الكتاب الأصلية وباللغة العربية. وأن يكون قد اكتسب ثانياً خبرة غنية في الترجمة نظرية وممارسة،  وأن يكون قادراً ثالثاً على الفصل بين قراءته كمترجم للنص الأصلي والقراءة التي تقترحها الترجمة التي يقوم بنقدها. إذ ليس المطلوب من هذه العملية النقدية "مراجعة" الترجمة أو "تصحيحها"، بل النظر في طريقة مقاربتها أو قراءتها النص الأصلي قرباً من أو بعداً عن دلالاته في لغته الأصلية. هذا يعني أن شرح وتحليل هذه المقاربة سيقدِّمُ للقارئ الذي لا يعرف لغة النص الأصلية بياناً شاملاً بهذه الترجمة يسعه انطلاقاً منه أن يقوِّمَ ما يقرأه آخذا بعين الاعتبار ضرورة التحفظ في تقويمه بعد ما اطلع على نسبية الترجمة ذاتها أياً كانت براعة المترجم.
لكن الغاية الأشمل لهذه العملية النقدية تتجاوز بالطبع مجرد إعلام القارئ أو تنبيهه كي تمسّ في النهاية جوهر عملية الترجمة بالذات، بوصفها، من حيث المبدأ وبالضرورة، عملية مفتوحة، باستمرار، أمام المترجم نفسه، مادام قادراً على إعادة النظر في صيغة ترجمته الأولى وتعديلها أو تصحيحها في سبيل اقتراب أكثر من النص أو، عند تعذر أو استحالة ذلك، أمام مترجمين آخرين ينتمون إلى جيل آخر ويقومون بقراءة أخرى للنص الأصلي تقرّ الترجمة السابقة أو تتجاوزها نحو قراءة جديدة تستهدف ما أمكن من الدقة في مقاربتها الدلالات وفي التعبير عنها. ومن ثمَّ فإن ما يمكن لناقد الترجمة في تحليله لمعطيات الترجمة أن ينوِّهَ عنه أو أن يشيد به هو ما اكتشفه في النص المترجم من صلات وثيقة في التعبير وفي الدلالة أو ما عثر عليه من صلات واهنة أو شبه معدومة بين النصين. ولابدّ له، في الحالين، من التعليل المفصّل بما يتيح لا للمترجم فحسب، بل لكل مترجم آخر أن يشارك في هذا التحليل النقدي وأن يستفيد منه بقدر ما يمكن له أن يغنيه من فضاء ممارسته وتجربته في الترجمة.
ليس هذا كما نرى عمل مؤسسات عامة أو خاصة بل هو بالدرجة الأولى عملُ من نذروا أنفسهم جزئياً أو كلياً لهذه المهنة، مهنة الترجمة، التي لا تزال تعاني ممارسة وإنجازاً كثيراً من الآلام المبرّحة في العالم العربي، لا نتيجة غلبة المعايير التجارية والنفعية في فضائها فحسب بل كذلك بسبب غياب المعايير العلمية الصارمة التي كان يمكن أن تكون ناظماً لها في كل مجال وعلى كل صعيد. 



** نشر هذا المقال على موقع جيرون، الجمعة 9 كانون أول/ديسمبر 2016.


mercredi 7 décembre 2016




حول إعادة الترجمة
سارة عابدين/ بدرالدين عرودكي
العربي الجديد

* تظهر مع الوقت ترجمات جديدة، للكثير من الأعمال الكلاسيكية. تتغير الترجمة مع الوقت، لتعكس لغة وأسلوب الوقت التي تتم فيه، هل الترجمات الجديدة دائما أفضل وأكثر قربا من القارئ الحديث، وهل كل الأعمال المترجمة من قبل بحاجة إلى إعادة ترجمة؟

** لا أظن أن ما يتغير هو لغة وأسلوب الزمن الذي تتم فيه الترجمة إلا إذا كانت المسافة الزمنية تُقَدَّرُ بفاصل أجيال عدة شأن ترجمة مُبْدَعٍ تمت في بدايات القرن الماضي ثم أعيدت اليوم. كما انه لا يسعنا القول إن الترجمات الجديدة أفضل أو أكثر قرباً من القارئ. إذ أن المسألة ترتبط على الدوام بمقدار اقتراب نص الترجمة من النص الأصلي المُتَرْجَم عنه.
أما بالنسبة إلى الأعمال التي سبق ترجمتها وحاجتها إلى الترجمة من جديد فينطبق عليها المعيار نفسه. فإذا ما اكتشف أن الترجمة القديمة لم تكن كافية في مدى اقترابها من النص الأصلي أو إذا كانت تنطوي على أخطاء كثيرة في فهم النص الأصلي كما هو الأمر مثلاً في الترجمة الفرنسية لمُبْدعات كافكا التي تمت عام 1938 والتي كان لابد من إعادة ترجمتها في نهاية القرن الماضي بسبب أخطائها العديدة التي جعلت طه حسين في حينه يكتب عن أدب كافكا تحت عنوان "الأدب السوداوي" في حين كان أصدقاء كافكا يضجون بالضحك حين كان يقرأ عليهم فصلاً من رواية له أتى على كتابته مثلاً!

* هل البعد الزمني عن النص الأصلي، يجعل المترجم يبتعد بالضرورة، عن دلالات النص الأصلي كما كان يقصدها المؤلف؟

** ليس بالضرورة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الترجمة تتطلب ثقافة واسعة إلى جانب المعرفة العميقة باللغتين اللتين يتم النقل بينهما.. ولكن، من ناحية أخرى، إذا اعتبرنا أن كل ترجمة لِمُبْدَعٍ ما هي قراءة تضاف إلى القراءات السابقة أو المعاصرة، فإن بوسعنا القول إن البعد الزمني قد يلعب دوراً في فهم الدلالات.. هل نفهمها في ضوء عصرها أم في ضوء عصرنا.. مدى المسافة هنا شديد الأهمية كما نرى.

* هل الأخطاء الفادحة في الترجمة، هي السبب الوحيد لإعادة الترجمة، ام أن هناك أسباب أخرى؟ وما الذي يدفع القارئ لإعادة قراءة كتاب بترجمة جديدة؟

** أخطاء الترجمة الفادحة في ترجمة عمل ما هي دون أي شك أحد الأسباب الهامة وربما الحاسمة في إعادة الترجمة. على أن الترجمة الجديدة تتوجه أساساً إلى القراء الجدد. هل يقرؤها من سبق له أن قرأ الترجمة القديمة؟ لا أدري فعلاً. يحتاج ذلك إلى استقصاء رأي. لكن القارئ الفضولي سيعيد قراءة العمل في ترجمته الجديدة لاسيما إذا كان من المبدعات الهامة. شخصياً سأقرأ الترجمة الجديدة لأرى مدى اختلافها عن القديمة وربما مدى دقتها أيضاً مقارنة بالنص الأصلي.. 

* هل للجانب التجاري دخل في إعادة ترجمة بعض الكتب؟

** يلعب الجانب التجاري لدى دور النشر الخاصة دوماً دوراً حاسماً في اختيار الكتب التي تريد إعادة ترجمتها؛ فهي بصورة عامة لا تختار من نشر ترجمات الكتب إلا ما تعتبره قابلاً للتسويق بسهولة وحسب ما هو رائج: الفلسفة الوجودية في خمسينيات القرن الماضي، ثم الماركسية وفروعها بعد ذلك، وفي نهاية القرن الماضي كل ما يتعلق بالإسلام السياسي والجهادي.. إلخ. لذلك لا تزال المكتبة العربية تعاني من نقص خطير في ترجمة أمهات الكتب في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي مجال المبدعات الأدبية.

* بعض الكتب ترجمت بشكل منقوص، تحت دعاوى العادات والتقاليد العربية، أو حرصا من المترجم/ المترجمة، على عدم ترجمة ما يسيء إليه أخلاقيا، لماذا لا تعاد ترجمة هذه الكتب بشكل كامل من مترجمين أكثر فهما وإدراكا لعملية الترجمة؟

** لابد من إعادة ترجمة مثل هذه الكتب التي أراد مترجموها تقرير ما هو صالح وما هو طالح نيابة عنا جميعاً نحن القراء. وذلك، على الأقل، لإلغاء نتائج جرائمهم الثقافية والفكرية وكذلك لإلغاء مزاعمهم الفارغة حول صلاحية النص أخلاقياً أو اجتماعياً.


** نشر ضمن تحقيق صحفي في جريدة العربي الجديد، يوم الأربعاء 7 كانون أول/ديسمبر 2016