dimanche 1 mars 2015


حرية التعبير

بين الحدود والقيود*
 

بدرالدين عرودكي

 

منذ أن اعتمدت الثورة الفرنسية قبل نيف وقرنيْن في أول إعلان صريح حول حقوق الإنسان والمواطن حرية التعبير بوصفها واحدة من أثمن هذه الحقوق، لم نكفّ، كلما استخدمت هذه الحرية استخداماً يشي بتجاوزها حدوداً ما، عن التساؤل عن حدود هذه الحرية على الصعيد الأخلاقي وعن قيودها على الصعيد القانوني.
لم تكن حرية التعبير بطبيعة الحال يوماً ما ولا يمكن لها أن تكون مطلقة من القيود كما لا يمكن لها أن تتجاوز كلَّ الحدود. ففي الوقت الذي كان الإعلان المذكور يقرِّرها كان يضع القيود التي حددها بما يمكن للقانون أن يعتبره إساءة استخدام لها. كذلك فعل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر بعد ما يقارب مائة وستين عاماً عن منظمة الأمم المتحدة في 10 ديسمبرعام 1948 في مادتيْه 19 و29.
ولئن بدأ مع هذا الربط سجالٌ لن ينتهي عن طبيعة الحدود، ومعاييرها، ومرجعيتها، وغاياتها، فضلاً، بطبيعة الحال، عن اختلاف كل ذلك وتباينه حسب المكان الذي جرى أو يجري فيه هذا السجال، فإن الأساس يبقى أن بعض الحدود، الإرادية مبدئياً، تصير قيوداً ما إن يعتمدها قانون رسميٌّ لا يضعه فرد بل يصوغه ممثلو الأمة المنتخبين ديمقراطياً؛ وفي ذلك ضمان ـ من حيث المبدأ ـ لممارسة حرية التعبير على نحو لا يمسّ حرية الغير ولا يصادر حرياته.
سوى أن القانون في اعتماده هذه الحدود أو تلك يختلف من بلد إلى آخر، أو من نظام سياسي إلى نظام آخر اختلافاً لا يصل إلى حدود التضادّ فحسب بل يفسح بلغته المراوغة المجالَ لأطيافٍ من التأويل والتفسير يعبر عنها القضاة كلما كان عليهم أن يفصلوا في قضايا تمسُّ استخدام هذه الحرية على هذا النحو أو ذاك. هكذا نشهد أن ما يُعتبر في بلد ما حرية تعبير كاملة الأوصاف أخلاقياً وقانونياً يمكن أن يُعتبر في بلد آخر انتهاكاً صارخاً للأخلاق أو للقانون أو لكليهما معاً. فالسخرية من الرموز الدينية في فرنسا مثلاً أمر يندرج ضمن حرية التعبير المعترف بها قانوناً لكنها تصير في أي بلد عربي جريمة موصوفة ومُدانة على الصعيدين القانوني والأخلاقي.  
لكنَّ عملية اغتيال محرري المجلة الفرنسية الساخرة "شارلي إبدو" التي أثارت من جديد وفي معظم أرجاء العالم مسألة حرية التعبير وإشكاليات حدودها وقيودها، أظهرت أن الأمر قد يطرح مشكلة نصوص القانون نفسه فضلاً عن تأويلاته المتباينة على الصعيد القضائي والاجتهادي. صحيح أن ردود الفعل تباينت من بلد إلى آخر لا بين العالم العربي وفرنسا فحسب بل بين فرنسا وسواها من الدول الغربية، (وهذا على الرغم من التنديد الجماعي بالجريمة الذي لا يمكن لأي سبب من الأسباب التأخر عنه بطبيعة الحال)، لكن المشكلة طرحت وبقوة في المجاليْن القانوني والسياسي فضلاً عن طرحها على صعيدي المسؤولية الأخلاقية أو السياسية أو كلاهما معاً.
في فرنسا، كان السبب المعلن هو الرسوم الكاريكاتيرية لنبي الإسلام التي كانت المجلة قد نشرتها من قبل والتي كانت تمسّ مشاعر الفرنسيين المسلمين قبل أي مسلم آخر في العالم الإسلامي. بهذا المعنى وفي هذه المناسبة بالذات، طالت حرية التعبير ما يعتبره جزء من الفرنسيين لا يستهان به على الأقل مساساً بمقدساتهم. ومن هنا التساؤل: هل يمكن لأيٍّ كان أن يعرِّضَ للسخرية أو التشويه ما تعتبره طائفة من الناس مقدساً؟ نعلم على سبيل المثال أن الهولوكوست ينطوي في الوعي الأوربي على معنى يقترب من القداسة لأنه يمثل آلام شعب بأكمله خلال فترة محددة في التاريخ الحديث، وهو ما يجعل أي ضرب من السخرية أو التشويه يمسّه مرفوضاً على الصعيد الأخلاقي أولاً وإن بات في بعض البلدان كفرنسا مداناً على الصعيد القانوني؛  كيف لا يُفهم في هذا الوضع أن السخرية من رمز الإسلام المتمثل في نبيِّه أو تشويهَ صورته يسيء إلى ملايين من الناس تتماهى فيه وتعتبر التعريض به اعتداءاً عليها وعلى خصوصيتها؟ وبعبارة أخرى: إذا كان قد اعتبر طبيعياً أن يُنصَّ صراحة وبوضوح لا لبس فيه في القانون الفرنسي على اعتبار "إنكار" المحرقة النازية بأية وسيلة كانت جريمة لا تسوغها حرية التعبير وتستوجب العقاب لأنه مرفوض أخلاقياً فلماذا لا ينص  هذا القانون نفسه على اعتبار السخرية من الرمز الديني الذي يمسُّ مشاعر ملايين الفرنسيين على الأقل والمرفوضة أخلاقياً جريمة لا تسوغها حرية التعبير وتستوجب هي الأخرى العقاب؟ ألا يوجد تناقض فاضح بين إدانة شخص كتب في مدونته كلمات مثل "غبي بائس" و "شخص بمثل بشاعته" عند مهاجمته شخصاً آخر وبين رفض إدانة ما يتجاوز هذه الشتائم شدّة وقسوة؟ 
بوسعنا هنا وضع اليد على ضرب من مراوغة النصوص القانونية الدولية على سبيل المثال. فحرية الدين أو المعتقد في النصوص الدولية مرتبطة ضمنياً بحرية الرأي والتعبير. وهي حرية تتضمن فضلاً عن حرية العبادة، حرية الجهر بالإيمان بدين من الأديان أو عدم الإيمان مطلقاً.  فالمادة 20 من الميثاق الدولي الخاص بالحريات المدنية والسياسية تنص على وجه التدقيق على أنَّ "كل نداء إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية يؤلف حضّاً على التمييز أو على العداء أو على العنف ممنوع قانوناً". على هذا النحو تذكر لجنة حقوق الإنسان الأممية في تعليقها العام حول حرية الرأي والتعبير: "لن يكون مقبولاً أن تقيم هذه القوانين تمييزاً لصالح أو ضد هذا الدين أو بعض الأديان أو هذا النسق أو أنساق الايمان أو أتباعها، أو بين المؤمنين وغير المؤمنين. وليس من المقبول كذلك أن تتخذ هذه المحظورات ذريعة لمنع أو لقمع نقد القادة الدينيين أو التعليق على مذهب ديني أو معتقدات دين ما." (12 أيلول/سبتمبر 2011).
هذا يعني أنه في الوقت الذي يفترض أن حظر عدم احترام حرية المعتقد لا يعني الحيلولة دون  نقد المعتقد الديني أو التعليق عليه! ذلك هو فضاء المراوغة في النص الذي يتيح المجال واسعاً أمام الاجتهادات والتأويلات التي ستختلف باختلاف البلدان والمجتهدين من القضاة أو من الحقوقيين.
هنا يتبيّن الحدّ بين الحدود والقيود: الحدّ الذي يتغير لا بتغير الأزمان فحسب بل بتغير البلدان أيضاً. فاذا كانت السخرية النقدية من الرموز الدينية مسموحاً بها قانوناً في فرنسا فهي تعتبر في بولونيا جريمة يعاقب عليها القانون. وإذا كان  "إنكار" حدوث الإبادة الجماعية لليهود يعتبر عملاً جنائياً حسب القانون الفرنسي، فإنه لا يعتبر كذلك في قوانين الولايات المتحدة الأمريكية! على أن الحدود تبقى مسألة أخلاقية وثقافية في الوقت نفسه. إذ أنها لا تطال طبيعة ومجال حرية التعبير فحسب بل تمسّ مباشرة توصيف موضوعات حرية التعبير وما يمكن أن يُبنى عليها بعد ذلك في تقرير القيود أو اعتبار الحدود.
يبقى أن الحدّ بين الحدود والقيود المشار إليه يستحيل في بعض البلدان، ومنها عدد كبير من البلدان العربية، ضرباً من الحد بين النظرية والتطبيق! ففي الوقت الذي تقرّ حرية التعبير في دساتير البلدان المعنية وتعتمد فيها القوانين الناظمة لفضائها ولقيودها، نلاحظ انعدام تطبيقها على أرض الواقع أياً كانت طبيعة استخدام هذه الحرية أو مجالها.
 

 
 
 
 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire