vendredi 27 février 2015


آسيا جبار:

بين إشكالية الانتماء واستنطاق الأصوات المخنوقة*


بدرالدين عرودكي


حين اعتلت آسيا جبار (واسمها الحقيقي فاطمة الزهراء إيمالايان) يوم 22 يونيو 2006 منبر الأكاديمة الفرنسية لتلقي خطاب اعتمادها عضواً في مجمع الخالدين، لجأت إلى ديدرو الذي اختارت في خطابها الافتتاحي أن تكون على غراره حين كتب في نهاية رسالته "حول الصم والبكم" عام 1751:  "بدا لي أنه كان يجب أن يكون المرء في الخارج وفي الداخل في الآن نفسه".  لكن آسيا جبار التي رحلت عن عالمنا في السادس من فبراير الماضي كانت، والحق يقال، قد أرادت أن تكون أو كانت، ولعلَّ هذا هو الأصحّ، مرغمة  على أن تكون، بفعل مكان مولدها وزمانه، وقبل أن تصير في عداد حماة الفرنسية لغة وثقافة، على غرار ما وصف الفيلسوف الفرنسي به نفسه. وربما هذا ما يفسر الصمت الذي التزمته طوال حضورها لقاء الروائيين العرب والفرنسيين الذي قبلت قبل سبعة وعشرين عاما الدعوة إلى أن تشارك فيه والذي أعترف أنني غضبت منها بسببه ولم أفهمه في حينه. ففي حضور الروائيين الفرنسيين الذين كانت في عدادهم بما أنها تكتب بالفرنسية، وفي حضور الروائيين العرب الذين كانت مخيلتها تنتمي إلى عالمهم، لم يكن بوسعها أن تقول شيئاً. هذا ما يحملني على أن أتساءل اليوم، يوم رحيلها: ما الذي كان يمكن أن تقوله لو أنها فعلت في حضور هؤلاء وأؤلئك؟ ربما كان الصمت هو اللغة الوحيدة الممكنة في موقع من هو في الخارج وفي الداخل في الآن نفسه!
تلك أولى وربما أهم الإشكاليات التي واجهتها الروائية والسينمائية الجزائرية الأصل والفرنسية التعبير في حياتها ككاتبة على وجه الخصوص: أن تبدع بلغة المُستعمِر وهي تتغذى من ينابيع العربية أو البربرية بالقرب من أخواتها الفلاحات الجزائريات. أهي محاولة توازن؟ ربما. لكنها عاشت ذلك بكل المعاني إلى أن حسم البلد الذي استعمر بلدها أمره ذات يوم من عام 2005، فاستقبلها بوصفها واحدة من "الخالدين"، أي واحدة من أعضاء مجمع لغته: الأكاديمية الفرنسية، وإلى أن حسمته هي أيضاً حين قبلت أن تحتل المقعد الخامس في  هذا المجمع الذي هو عصارة الثقافة التي تلقتها ونشأت في أحضانها على غير إرادة حرة منها.
كان هذا الوضع سمة جيل من الكتاب الجزائريين الذين لم يكن بوسعهم التعبير إلا بالفرنسية. بعضهم قبل الأمر دون أن يماري فيه. وبعضهم الآخر اعتبر الأمر نفياً لغوياً تراجيدياً لا مناص منه، وبعض ثالث انتقل بكل بساطة إلى الكتابة بالعربية..وتلك مشكلة بقي المعنيون بها يناقشونها بلا هوادة وببعض العنف اللفظي أحياناً كثيرة. فحين كتب جاك بيرك كتابه "أساليب تعبير العرب في الحاضر" أو كما أراد هو نفسه أن يعنون كتابه بالعربية "كلمة العرب إلى العالم الجديد" لم يتناول من الكتاب العرب مشرقاً ومغرباً إلا الذين كانوا يكتبون بالعربية. وكان أول نقد وُجِّه إليه من قبل الكتاب الفرنسيين ذي الأصل العربي، ومنهم جزائريون ومغاربة ومصريون ولبنانيون..أنه لم يتطرق إلى أعمالهم التي لم يتناولوا فيها إلا الواقع العربي المعاصر. وكان جوابه أن الكتابة تنتمي إلى اللغة التي تكتب بها..وإلا ما معنى أن يعتبر العرب عشرات بل مئات الكتاب ذوي الأصول الفارسية أو التركية أو سواها عرباً؟ أليس لأنهم كتبوا بالعربية بصرف النظر عن أصولهم؟ لا بل إنه أضاف في أحاديثه (وكان كتابه المشار إليه قد صدر عام 1975، أي بعد قرابة خمسة عشر عاماً على استقلال الجزائر) إنه لو أراد الكتاب الجزائريون الكتابة بالعربية لحصلوا على الدكتوراه بها بعد عقد ونصف من استقلال بلدهم! وعلى أن زوايا النظر إلى مشكلة اللغة قد اختلفت في عصر العولمة ، إلا أنَّ شرعية السؤال لا تزال  قائمة رغم كل شيء ولاسيما حين يختار كاتب جزائري اليوم مثلاً لم يكن مضطراً إلى الكتابة بلغة غير العربية أن يكتب بالفرنسية.
سوى أن آسيا جبار كانت أيضاً قد حسمت أمرها حين انصرفت إلى الكتابة مستخدمة مختلف ضروب التعبير: النصوص النظرية في مختلف الميادين والشعر والمسرح وخصوصاً الرواية، فضلاً عن اللغة السينمائية من خلال عدد من الأفلام التي أخرجتها كي تقول ذاكرتها كفتاة جزائرية ولدت في الجزائر التي كانت لا تزال تحت الاستعمار الفرنسي في إشكاليتها. كان يُقال عنها "الفرنسية المسلمة" في الوقت الذي كانت تتلقى فيه في المدرسة ما يفيد أنها حفيدة " أجدادنا الغاليين"! وستكتشف منذ ريعان شبابها بوصفها امرأة هذه المرة، أنَّ استخدام جسد المرأة رهاناً في التعاليم وفي المحرمات أو المحظورات لم يكن إسلامياً بل شهد قبل مجيء الإسلام بأربعة قرون مَنْ كان يستخدمه على نحو أشدً صرامة، وكانت تعني ترتوليان المولود في قرطاج عام 155 ميلادية والذي كان منذ ذلك الحين يعتبر أنه "منذ أن كشف الغطاء عن رأس هذه الفتاة لم تعد عذراء في نظره"، أو "كل عذراء تكشف عن نفسها تتعرض لضربٍ من العهر!" .لقد أدركت إذن، ومنذ البداية، أن مسألة المرأة وجسدها التي شغلتها كامن إذن في طبقات عميقة من الأرض التي نشأت عليها  وقبل أن يصل الإسلام واللغة العربية إليها بقرون. 
ذلك ما سيجعل من آسيا جبار  صوتَ من لا يعرفن الأبجدية، وقلمَ تراثٍ نقلته الفتيات عن أمهاتهن في كل مجال، ووجْهاً يحمل ملامح ثقافة ذاكرة جسد وقلب، لأناس طواهم الوجود ولم يبق منهم سوى الكلمات تتناقلها الألسنة شفاهاً من جيل إلى جيل.
هي راوية التاريخ إذن. لنقل راوية ما لا يرويه التاريخ كما نعرفه في المدارس والجامعات. لأنَّ ما قامت به كان استنطاق الأصوات المخنوقة وبعث ما كانت تريد أن تقوله هذه الأصوات عبر الكتابة. وما كنا لنعرف آلام هاتيك الفتيات وعذاباتهن لولا أن أخذت أسيا جبار على عاتقها أن تكون صوتهن، وأن تبعثهن، وأن تقف سدّاً منيعاً في وجه رجال الماضي والحاضر الذين حاولوا من قبل ولا يزالون يحاولون اليوم استعبادهن بمختلف الوسائل.
وهي باحثة أيضاً عن الهوية النسائية بينما تقيم حواراً بين أجيال النساء المختلفة كي تفتح أبواب المستقبل. سنرى ذلك منذ أول رواية لها "العطش" (1953) مثلما سنراه في رواياتها الأخرى ، ولاسيما روايتها "ولا في أي مكان في بيت أبي" التي افتتحتها باقتباس للشاعرة البريطانية كاتلين راين:
"من بعيد جئتُ وإلى البعيد عليَّ أن أذهب..."
ولقد ذهبت بالفعل بعيداً معتمدة على كل ما يسعها استخدامه من وسائل التعبير: الكلمة والصور اللغوية والصور المتحركة وخشبة المسرح..في غضب مضطرم لا يجد تعبيره في العنف بقدر ما يعثر عليه في كتابة تاريخ مَنْ لا تاريخَ لهنّ.
ويبقى أن على القارئ العربي الذي لم يعرف عنها إلا اسمها الأدبي أن ينتظر قبل أن يتمكن من التعرف عليها من خلال ما حمل مجمع الخالدين في فرنسا على أن يجعلها في عدادهم.

 
* نشر في مجلة "الهلال"، الصادر في أول آذار/مارس 2015  ص. 16 ـ 19. 


 
 

 

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire