الكاتب السورى بدرالدين عرودكي :
الأنظمة الشمولية تتفنن في إقصاء المثقفين سجناً ونفياً وقتلاً
كانت ترجمة كتاب
" معك " لسوزان طه حسين لحظة جميلة واستثنائية في حياتي
لا تزال حركة الترجمة في العالم العربي تعاني من
التقصير والعيوب
حوار
ـ نهلة النمر*
إذا كنت من عشاق عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين باعتباره كاتباً
استثنائياً فى تاريخ أدبنا المعاصر، فلابد و انك قد قرأت كتاب " معك "
لزوجته و رفيقة دربه السيدة سوزان طه حسين ،و أنك بحثت مثل كل من قرأ الكتاب عن
اسم المترجم الذى ترجم هذا الكتاب عن الفرنسية ، و الذى استطاع ان يضيف قيمة
للكتاب تضاف إلى قيمته ، و اظنك لم تفاجأ
بأن المترجم هو الكاتب و المترجم السورى الدكتور بدر الدين عرودكى ، وهوالذى أنجز ترجمات لحوالي ثلاثين كتاباً ، و أسهم في فرنسا في تأسيس مجلة "اليوم السابع" التي عمل
مديراً لها ، وعمل ما يقرب من ثلاثين
عاماً في معهد العالم العربي معنياً بالتعريف بمبدعات الثقافة العربية قديمها
وحديثها من خلال الندوات أو المعارض الكبرى..."كما نشر عددا من الدراسات في مجال علم الاجتماع الثقافي في عدد من
البلدان العربية ولاسيما في مصر ولبنان وسورية والمغرب الأقصى . توجهنا إليه نسأله
رأيه فى المشهد الثقافى فى الشرق الأوسط بعدما أقصى معظم مثقفيه ، وكان الحوار:
تعرف كثيرون من المصريين ـ و أنا منهم ـ على الدكتور بدر الدين عرودكى
من خلال ترجمته لكتاب " معك " لسوزان طه حسين و الذى تسرد فيه حياتها مع
العميد ، ماذا مثلت لك ترجمة هذا الكتاب ؟
كانت ترجمة هذا الكتاب لحظة
جميلة واستثنائية في حياتي فعلاً. وكان ثاني الكتب التي ترجمتها إلى العربية بعد
أن قمت بإعداد وترجمة كتاب الصديق المرحوم الدكتور أنور عبد الملك الذي حمل عنوان
"الفكر العربي في معركة النهضة" والذي نشرته دار الآداب عام 1975. وكانت أيضاً هي المرة الأولى التي أترجم فيها
نصاً بناء على مخطوط لم يكن قد عرف المطبعة في لغته الأصلية آنئذ. غير أن ما مثلته
ترجمة هذا الكتاب لي جاءت من أن عالِمَ التاريخ الاجتماعي العربي والإسلامي
والأستاذ في الكوليج دو فرانس، جاك بيرك، وكان صديقاً حميماً لطه حسين ولسوزان طه
حسين، كما كان المشرف على رسالتي لنيل الدكتوراه، هو مَن اقترح على سوزان وعلى
مؤنس طه حسين أن أقوم بهذه الترجمة.
دعنى أحاول أن أعرف أكثر عن قصة هذا الكتاب ،
فطه حسين يمثل لنا الكثير، توفى طه حسين عام 1973 و أنت ذهبت إلى فرنسا عام 1972 و
بالطبع لم يسعدك الحظ بلقائه ، و لكن ماذا عن لقائك بزوجته سوزان ، هل كان هناك ما
عرفته عنه و لم ينشر فى الكتاب؟
صحيح.
المرة الوحيدة التي رأيت فيها طه حسين وسمعته كانت حين حاضَرَ في يوم من أيام عام
1964 (إن لم تخني الذاكرة) على مدرج جامعة دمشق. كنتُ بين مستمعيه الذين امتلأت
بهم القاعة الكبرى. وحين اتصل بي مؤنس طه حسين والتقيته ليحدثني في أمر ترجمة
الكتاب، دعاني إلى زيارته في بيته للقاء والدته التي كانت ترغب في معرفة من سيترجم
كتابها بعد أن حدثها جاك بيرك بذلك لاسيما وأنه هو من اقترح عليها أن تقوم
برحلتهما السنوية التي كانت تقوم بها مع زوجها من قبل من مصر إلى فرنسا ولكن عبر
كتاب تصير فيها هذه الرحلة رحلتهما في الحياة معاً. كان ذلك إثر وفاة طه حسين حين
قرر جاك بيرك أن يخصص درسه الأسبوعي في الكوليج دو فرانس ولعامين دراسيين
متتالييْن للحديث عن طه حسين وعن مشروعه الثقافي. ولقد قضت سوزان طه حسين سنتيْن
هي الأخرى في تحرير كتابها الأول والوحيد "معكَ" الذي يعتبر من أجمل
رسائل الحب التي يمكن أن تكتبها امرأة عاشقة بل أكاد أقول أجمل رسالة حب تكتبها
امرأة لرجل عربي. حين دخلت منزل مؤنس طه حسين في اليوم الموعود للقائها، وكان ذلك
عام 1975، وجدتني مثل طفل صغير ملآت الدهشة وجهه وعينيه مما هو فيه: في حضرة
المرأة التي عاشت في قلب طه حسين وفي صحبته أكثر من نصف قرن، أراه في عينيها وهي
تقول لي رغبتها في رؤية الكتاب مترجماُ ومنشوراً في حياتها ليقرأ أخيراً كلُّ من
عرفها من المصريين خاصة ومن العرب عامة ما كانت تشعر به من دين تجاه هذا الرجل
الاستثنائي بكل المعايير. وتضاعفت دهشتي حين قدم لي مؤنس زوجته وأعلمني أنها حفيدة
أحمد شوقي.. ولكِ أن تتخيلي الشاب الذي نشأ على قراءة العقاد وتوفيق الحكيم ـ وكنت قد قابلته قبل
أشهر من ذلك التاريخ لثلاث ساعات متواصلة في بيت الصديق أنور عبد الملك ـ وحفظ
قصائد شوقي عن ظهر قلب ولاسيما قصيدته الرائعة عن دمشق، يجد نفسه في حضرة عدد ممن
يحملون الأسماء اللامعة في تاريخ مصر الأدبي الحديث. شعرت بالرهبة فعلاً. وحاولت
أن أنقل لسوزان طه حسين رغبة سهيل إدريس، صاحب دار الآداب، في نشر كتابها. لكنها
أجابت من فورها إنها تريد أن تنشر كتابها لدى الدار نفسها التي نشرت معظم كتب
زوجها، أي دار المعارف. وعدتها بأنني سأنصرف إلى الترجمة كلياً بحيث أنهيها
بالسرعة التي ترجوها، عالماً أنها، كما قال لي مؤنس حينئذ، ستتابع على وجه التأكيد
إجراء التعديلات على المخطوط حتى يصير تحت الطبع، وهو ما حدث في الحقيقة!
* إلى أى حد تتابع المشهد الثقافى
العربى ؟
لم
أكف بالطبع لا عن متابعة المشهد الثقافي العربي ولا بالأحرى عن العيش ضمنه لأكثر
من سبب. إذ حين غادرت دمشق إلى باريس ـ وكنت آنذاك أنوي إنجاز رسالة الدكتوراه
والعودة إلى دمشق للتعليم في جامعتها ـ تابعت الكتابة سواء في الصحافة السورية أو
اللبنانية حيث كنت مراسلاً ثقافيا لمجلة الآداب. وقد كنت قبل مغادرتي دمشق قد عقدت
صداقات لا حصر لها مع مجموعة من خيرة الكتاب والمسرحيين والسينمائيين والفنانين
التشكيليين في معظم البلاد العربية، ولم تنقطع علاقاتي بهم أو بما ينتجونه من مبدعات
كلٌّ في مجاله رغم المسافات. والحقيقة أن عملي في معهد العالم العربي خلال تسعة
وعشرين عاماً (من عام 1983 وحتى 2012) كان قائماً أساساً على متابعة المشهد
الثقافي العربي ومتابعة نتاجات الكتاب والفنانين والتعريف بها في المعهد. كان أول
ما بدأت العمل فيه في المعهد هو الإشراف على سلسلة الآداب العربية التي اتفق
المعهد عام 1983مع دار النشر الفرنسية جان كلود لاتيس لترجمة ونشر مجموعة من
الروايات العربية. وقد نشر في هذه السلسلة ما اقترحته من الروايات ولا سيما ثلاثية
نجيب محفوظ التي كانت تترجم عندئذ لأول مرة إلى لغة أجنبية. وكانت هذه السلسلة
فاتحة اهتمام دور النشر الفرنسية بالأدب الروائي العربي المعاصر. ما أكثر الندوات
واللقاءات التي قمت بتنظيمها في المعهد حول النتاج الفكري والأدبي، والتي كان من
أهمها لقاء الروائيين العرب والفرنسيين مثلاً في شهر مارس 1988 حول ثيمة
"الإبداع الروائي اليوم" والتي شارك فيها أربعون روائياً نصفهم من العرب
والنصف الآخر من الفرنسيين (وأعمال هذه الندوة منشورة في كتاب يحمل عنوانها)، وكان
من ثمرات هذا اللقاء أيضاً أن رئيس تحرير مجلة الماجازين ليتيرير، وكانت ولا تزال من
أهم المجلات الأدبية الفرنسية، قد قبل
أن ينشر بمناسبة هذا اللقاء عدداً خاصاً عن الأدب العربي المعاصر وطلب إليّ حينها
أن أكون بمثابة رئيس تحرير زائر، وقد صدر العدد في شهر مارس 1988، وكان من بين ما
حواه من مواد مقابلة مع نجيب محفوظ.. هذا فضلاً عن المعارض الكبرى أيضاً التي
أشرفت عليها والتي كانت تقدم التراث الفني العربي في عصوره المختلفة وكان أول معرض
كبير نظمناه معرض مصر عبر كل العصور الذي قدم للمرة الأولى في أوربا آثاراً مصرية
من العصور الفرعونية وحتى العصور
الإسلامية والذي زاره أربعمائة ألف زائر..
* ما دمت تتابعه ، فما رأيك ببوصلته و هل تتجه الاتجاه الصحيح؟
ما
هو الاتجاه الصحيح وما هو الاتجاه غير الصحيح؟ من المعروف أن النتاج الثقافي يمر
بمراحل تمتاز تارة بالخصوبة وتارة بالعقم. لو قارنا تاريخ المشهد الثقافي في
العالم العربي لوجدنا أن المراحل التي مرّ بها في القرن العشرين لا تخرج عن هذه
القاعدة. ولو كان لي أن أبدي رأياً شخصياً فيما يجري على الساحة الثقافية في مصر
أو في سورية على سبيل المثال لقلت إن ضرباً من ولادة جديدة من رحم الأزمات تجري
الآن أمام أعيننا. لا يزال الوقت مبكراً للحكم عليها كظاهرة، لكن الأصوات التي
تعبر عن نفسها الآن في مجال الرواية على سبيل المثال تعد بمرحلة شديدة الخصوبة
يملؤها جيل جديد من الشباب شبّ عن الطوق ويتقدم حثيثاً لاحتلال المكان الذي يليق
به وبمبدعاته..
لا
أتصور أنك تخضع لمعايير السوق فى الترجمة ، و لكن ما الذى يدفعك لترجمة كتاب دون
غيره ؟
العديد
من الدوافع، حسب الكتاب. ثمة كتب اقترح عليّ ترجمتها وقبلت القيام بذلك لأهميتها
على الصعيد الفكري أو الأدبي. هناك بعض الكتب التي ترجمتها بمبادرة مني مباشرة.
مثلاً عندما كتب الفيلسوف الفرنسي جان بودريار مقاله الشهير "روح
الإرهاب" الذي حلل فيه حادث تدمير برجي التجارة العالميين في نيويورك يوم 11
سبتمبر عام 2001، نشره في صحيفة اللوموند فقمت بترجمته كي يطلع عليه القراء العرب
الذين لا يقرؤون الفرنسية في ثلاث دوريات عربية، أخبار الأدب بالقاهرة، والفكر
العربي المعاصر ببيروت، وصحيفة القدس العربي بلندن. ثم تتالت مقالات بودريار حول
تداعيات 11 سبتمبر واحتلال العراق. فقمت بترجمة هذه المقالات كلها واقترحتها على
الدكتور جابر عصفور عندما كان أميناً عاماً للمجلس الأعلى للثقافة ومن ثم تمَّ نشر
هذه المقالات التي صدرت في كتيبات منفصلة باللغة الفرنسية في كتاب واحد ضمن
المشروع القومي للترجمة، ثم أعيد نشرها في سلسلة كتاب الأسرة. الأمر نفسه حدث مع
كتب ميلان كونديرا الثلاثة حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار..
إلخ وهناك الكتب التي اقترحت علي مثل كتاب "نظام الزمان" أو كتاب
"العدو الأمريكي" أو رواية جوزيه ساراماجو "الآخر مثلي" أو رواية فرنسوا
فايرجانس "ثلاثة أيام عند أمي" والتي قبلت القيام بترجمتها نظراً
لأهميتها الفكرية أو التاريخية أو الأدبية.
* هل ترى أن حركة الترجمة فى الوطن
العربى حركة صحيحة؟ و إن لم تكن كذلك فما الذى ينقصها من وجهة نظرك ؟
لا
تزال حركة الترجمة في العالم العربي تعاني ضروباً من القصور والعيوب كثيرة. وهي
ضروب يمكن تحديدها في مجالات ثلاثة: 1) غياب التنسيق في مجال الترجمة والنشر؛ ) حقوق المؤلف المنتهكة؛ 3) غياب مهنة التوزيع
على مستوى العالم العربي؛ 4) الحدود المغلقة بين الدول العربية في وجه الكتاب. 5) تفاوت مستوى المترجمين؛ 6) تضارب المصطلحات
في الترجمة بين بلد وآخر وبين مترجم وآخر؛
هناك
غياب التنسيق بين دور النشر حول الكتب التي تترجم. إذ رغم وجود اتحاد للناشرين
العرب يضم عملياً الغالبية العظمى من الناشرين في البلدان العربية، لا يزال كل
ناشر يعمل منفرداً في حقل الترجمة. ما أكثر الكتب التي ترجمت عدة مرات ونشرها
ناشرون مختلفون في بلدان عربية مختلفةَ دون أي تنسيق، هذا فضلاً عن أن الترجمة غالباً
ماتتم عن لغة غير اللغة الأصلية التي كتب بها الكتاب!. وهذا ما يقودنا إلى النقطة الثانية، أي عدم احترام الناشرين العرب لحقوق المؤلف، إذ لو
فعلوا لاكتشفوا مثلاً أن حقوق هذا الكتاب أو هذه الرواية قد بيعت لناشر ما ومن ثم
فلا حاجة لشراء هذه الحقوق مرة أخرى ولدَفَعَهُم ذلك إلى العمل على ترجمة كتاب آخر
لا تزال حقوقه متاحة للغة العربية. سوى أن
غياب مهنة التوزيع تشجع في الحقيقة على انتهاك حقوق المؤلف للتفرد بطبع الكتاب في
هذا البلد أو ذاك. فما دام من شبه المستحيل (رغم معارض الكتب السنوية المنتشرة في
بلدان العالم العربي كلها) توزيع الكتاب المترجم والمنشور في بلد ما خارج هذا
البلد بسبب الحدود المغلقة أمام الكِتاب في البلدان العربية، فإن الناشر مضطر إلى
ترجمة الكتاب ونشره دون أن يعبأ بحقوق المؤلف من ناحية ولا بما يترتب على ذلك من
نتائج وخيمة على الصعيد الثقافي. وأخيراً هناك بالطبع تفاوت مستوى الترجمة
والمترجمين. لنقل إن هذه المشكلة ليست وقفاً على الترجمة إلى العربية. فهي موجودة
في كل اللغات، ولقد كان كونديرا أفضل من فضح هذا القصور حين قرأ ترجمة رواياته إلى
الفرنسية واكتشف الأخطاء الخطيرة التي شوهتها. لكن هذا لا يعني عدم ضرورة معالجة
هذا الأمر الذي سارعت دور النشر الفرنسية والسلطات الثقافية الفرنسية مثلاً إلى
تداركه. لكن كيف يمكن للعرب أن يتداركوا مثل هذا القصور وكلٌّ منهم هو في واد؟ هناك
أخيراً مشكلة المصطلحات في الترجمة. وهي مشكلة حقيقة وشديدة الخطورة ولا سيما في
ترجمة كتب العلوم الاجتماعية والإنسانية. ومن المؤسف أن أياً من المؤسسات اللغوية
العربية لا يقوم بما يجب القيام به في هذا المجال، أي توحيد المصطلحات واعتمادها
رسمياً وإلزام المترجمين باتباعها. إذ حتى القواميس تتباين في اعتمادها هذا
المصطلح أو ذاك وتسهم بالتالي في المزيد من البلبلة والتشويش.
كل
هذا، وعلى الرغم من هذا، لا يزال عدد الكتب التي تترجم من لغات العالم إلى اللغة
العربية في مجمل العالم العربي أقل من عدد الكتب التي تترجم إلى العبرية في
إسرائيل على سبيل المثال. ذلك أبسط إحصاء يمكن أن يضرب به المثل لبيان خطورة وضع
الترجمة في بلادنا العربية رغم الجهود الهامة التي تبذل في مصر من خلال المركز
القومي للترجمة بالقاهرة مثلاً..
* أي من الأسماء العربية بشكل عام
و المصرية بشكل خاص تبحث عنها لتقرأها؟
الأسماء
كثيرة والحق يقال سواء في مصر أو في سواها من البلدان العربية. ولقد سعدت خلال
السنة الأخيرة باكتشاف أسماء جديدة وأعمال هامة سوف تكرس أصحابها كثيراً في مصاف
كبار الكتاب لا على مستوى العالم العربي بل على المستوى العالمي.
* هل لديك نية لحضور أى فعاليات
ثقافية مصرية فى الفترة القادمة؟
شاركت
في السنوات الماضية في كثير من الفعاليات الثقافية بالقاهرة من مؤتمرات وندوات
سواء في إطار معرض الكتاب بالقاهرة أو في مؤتمرات كان يقيمها المجلس الأعلى
للثقافة أو المركز القومي للترجمة. . وسيسعدني بكل تأكيد أن أستمر بالمشاركة كلما
سنحت الفرصة لذلك.
*
دعنى أسألك بداية إلى أى مدى يصل بك الحنين إلى سوريا ؟
** سأجانب الحقيقة إن قلت لكِ إني أشعر بحنين مرضيّ إلى سورية، أو
أنني شعرت يوما ما بحنين قوي أو ضعيف إليها. لسبب بسيط: وهو أنني لم أشعرني بعيداً
عن سورية على الإطلاق رغم المسافة الجغرافية التي تفصلني مادّياً عنها. وأظن أن مسألة
الحنين هذه ذات علاقة بالتكوين الثقافي.
* إلى أي حد تستطيع الأنظمة
الشمولية إقصاء المثقفين ؟
إلى
الحدِّ الأقصى في الحقيقة! إذ يتمّ هذا الإقصاء في الأنظمة الشمولية بطرق مختلفة:
إما دفعهم إلى المنفى، أو سجنهم، أو قتلهم، أو تطويعهم حتى يصيروا عملياً ناطقين
باسمها أو لصالحها، ومادام من المستحيل على أيّ نظام سياسي مهما بلغت مثاليته أن
يفلت من النقد في هذا المجال أو ذاك،
فلابدَّ للمثقف من أن يتخذ باستمرار موقفاً نقدياً صارماً حتى لتكاد الصفة
النقدية تؤلف قوام المثقف نفسه. وبما أن الأنظمة الشمولية ترفض النقد من الأساس،
فهي تراهن باستمرار على نجاح قدرتها في إخماد أصواتهم بالقوة المادية أو
بالإغراءات التي لا يقع ضحيتها غير المثقفين المزيفين وهم لاوزن لهم أساساً. أما المثقفون الذين يقفون صراحة إلى جانب
السلطة ويتبنون كل ما تقوم به فهم يخونون بالطبع مهمة المثقف الأولى النقدية
ويفقدون كل مصداقية في ما يكتبون أو في ما يقولون.
*
فى بداية ثورات الربيع العربى ، قال الكاتب الفرنسى جان بيير فيليو إن ما حدث فى
الشرق الأوسط هو ثورة من أجل الديمقراطيات، و وقتها اتفق معه الدكتور بدر الدين عرودكى
، هل بعد مرور أربع سنوات على هذه الثورات و ما آل إليه الحال فى بعضها وخاصة سورية
ما زلت تتفق مع فيليو فى رأيه ؟
وما
الذي يمكن أن يدعوني إلى تغيير رأيي؟ قامت الثورات العربية من أجل الحرية والكرامة
وهما أمران لا يمكن أن تضمنهما إلا دساتير الدول التي تتبنى الديمقراطية نظاماً
لها. ولا يمكن لما آلت اليه الأمور الحالية في سورية أن يسمح بالتفكير في غير ذلك.
فقد حاول النظام السوري (بعد أن اعتبر منذ البداية أن الثورة الشعبية ليست إلا
مؤامرة كونية يقوم بها إرهابيون ضدّه)، أن يقتل الثورة في مهدها بالعنف والبربرية
غير المحدوديْن، مستخدماً كل الوسائل ـ الميكيافيلية حقاً و بلا استثناء ـ التي
تسمح له بتظهير مزاعمه بما لا يمكن أن يتصوره أكبر عقل مجرم في عالمنا كي يصدق
العالم أنه نظام علماني، وأنه يحمي الأقليات، وأنه يحارب الإرهاب.. كان يقتل ويتهم
الثوار بالقتل، ويُغيِّب الناس في السجون ويزعم أن "الجماعات المسلحة"
هي التي خطفتهم أو قتلتهم.. أكثر من مائتي ألف قتيل، وضِعفهم من الجرحى والمعاقين،
وملايين السوريين المشردين خارج البلاد وداخلها، ونصف المدن السورية التي دمرت
بالبراميل التي تقذفها الطائرات ، وفي الوقت نفسه يطالب باعتماده وكيلاً للقوى
الكبرى لمكافحة الإرهاب...
نشر هذا الحوار في صحيفة الوفد، العدد 8659 الصادر بتاريخ 18 تشرين الثاني /نوفمبر 2014، ص. 12 *