Jacques Berque
L'Homme des commencements renouvelés
جاك بيرك
رجل البدايات المتجددة**
"خلال عملي أستاذاً في الكوليج دوفرانس، كنتُ أستحضر من وقت لآخر كما يحدث لنا أن نفكر بالموت، آخر درس سأقدمه: كنتُ أراه شديد البعد، لا يعتمه الحزن على كل ما ينتهي بقدر ما يضيؤه حسن طالع البدء المتجدد. وها هو الأجل قد حلَّ، أعني الأجل الأول (حزيران/يونيو 1981). وأرجو ألا يحلَّ الأجل الآخر إلا في أبعد وقت ممكن، وأن يكون، كالأجل الأول، مشمساً".
"خلال عملي أستاذاً في الكوليج دوفرانس، كنتُ أستحضر من وقت لآخر كما يحدث لنا أن نفكر بالموت، آخر درس سأقدمه: كنتُ أراه شديد البعد، لا يعتمه الحزن على كل ما ينتهي بقدر ما يضيؤه حسن طالع البدء المتجدد. وها هو الأجل قد حلَّ، أعني الأجل الأول (حزيران/يونيو 1981). وأرجو ألا يحلَّ الأجل الآخر إلا في أبعد وقت ممكن، وأن يكون، كالأجل الأول، مشمساً".
جاك بيرك، مذكرات الضفتيْن
كان على وشك بلوغ السبعين، سنّ التقاعد آنئذ في فرنسا،
وكان يعد العدّة لحياة جديدة سيبدؤها بعيداً عن المؤسسات الجامعية والطلبة
والمريدين. ويتساءل أمامي، كأنه يسألني: ما الذي أترجمُه؟ القرآن أم كتاب الأغاني؟
لم يكن مهماً رأيي لأنه كان قد استقر في نفسه على البدء بترجمة القرآن بما أنه كان
يحاول حلَّ آخر مجموعة من المشكلات التي طرحتها عليه ترجمة المعلقات العشر ويستغرق في الإسلام مجتمعات وثقافات وتساؤلات
باحثاً ومحللاً. لم تكن ضخامة المشروع وصعوبته ما استوقفني بقدر ما هزّني الرجل
ذاته. وهو يودِّعُ مرحلة آذنت أجلها بلا حزن يستقبل مرحلة جديدة كأنما يحاول
باختياره أصعب المشاريع أن يبعد من أجلها ما استطاع. لكنه كان يبهرني وهو يبدو لي
آنئذ فتى في العشرين يخطط لما هو قادم من أيامه. القرآن أم الأغاني؟ سيترجمهما على
التوالي. وسينشر ترجمة القرآن مرة أولى وثانية. وسيكتب مذكرات الضفتيْن
وسيحاضر في القرآن وتأويله. ومع هذا وذاك سيلبي دعوة صديقه جان بيير شوفينمان وزير البحث آنئذ (1981) لإعداد تقرير عن التعاون
العلمي مع العالم الثالث، ودعوته ثانية وقد صار وزير التربية (1984) لإعداد دراسة
حول أفضل الأساليب التربوية الخاصة بدمج أبناء المهاجرين في المدارس، ودعوة إدغار
بيزاني (1989) لرئاسة اللجنة الثقافية الاستشارية لمعهد العالم العربي، وسيتابع
السفر في البلاد العربية التي أحبها وقضى نصف عمره متنقلاً في ربوعها، ليستقبل
أجله الآخر تماماً كما تمناه أن يكون، كشجرة سنديان تقع أرضاً بعد ربيع مزهر في
يوم من شهر مشمس.
كان فعلاً رجل البدايات المتجددة. إذ لولا هذه القدرة
الخارقة على جمع المتاع والرحيل من جديد نحو آفاق جديدة كلما بدا له أن ما هو فيه
قد آتى ثماره ولن يكون ثمة من جديد لبقيَ واحداً من مئات ألوف الفرنسيين ممن زين
لهم أنهم باقون كأجدادهم في بلاد لم تكن بلادهم وإن أحبوها يعيش حنيناً مرضياً
وعدائياً كأنه في منفى. أو لتابع مسيرة بدأها وكان من شأنها أن ترقى به باحثاً في
أنثربولوجيا المغرب وجبال الأطلس وخبيراً في مجتمعهما. لكنه تمكن، منذ طفولته، أن
ينسج علاقة مع هذا الآخر من نوع آخر ما كان يخطر لعشرات من أنداده في تلك القرية
المنعزلة من جزائر بداية القرن العشرين أن ينسجوها: علاقة تساؤل، وعلاقة تفاهم
تنتهيان علاقة صداقة ومحبّة. هكذا، وهو واحد من موظفي الإدارة الاستعمارية في
المغرب، يكتسب احترام وودّ صانعي استقلال مغرب الغد. احترامٌ وودٌّ سيكونان
شفيعيْه لدى السلطات المصرية التي كانت تتساءل عما جاء يفعله في مصر هذا الفرنسي،
تماماً بعد حملة السويس! هكذا يتحول عن وعي وإرادة، من موظف إداري يحاول أن يحلل
وأن يفهم إلى باحث في المجتمع الذي ولد في رحابه. يختار أن يتعلم لغته وأن يمارسها
في الحياة اليومية مع أهلها وقد فضلها على اللغات الأوربية الأخرى قديمة أو حديثة.
ثم لا يلبث أن يوجه ركابه نحو مشرق لم يلتق به إلا عرضاً فصمم على العودة إليه. ها
هو في مصر التي عشقها ما إن حلَّ فيها عام 1953 خبيراً توفده منظمة اليونسكو يحاول
ما حاوله في المغرب. أن يمتزج مع أهلها وأن يستعيد تاريخها خلال أربعة عشر عاماً
من أصغر بناه (التاريخ الاجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين) إلى أكثرها
شمولاً (مصر، الإمبريالية والثورة). لكنه ما يلبث أن يشد رحاله من جديد
عائداً إلى وطنه الأم بعد أن أعلن له مؤرخ المتوسط فرناند بروديل انتخابه أستاذا
لكرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام في واحدة من أعرق مؤسسات البحث العلمي في فرنسا:
الكوليج دو فرانس. سوى أنه تمكن هذه المرة من بدء تحقيق ما بدا له آنئذ ضرورياً:
أن يوطد صلاته وأن يعمّق معرفته بطرفيْ جنوب المتوسط: مغرب العالم العربي
ومشرقه. هكذا يبدأ وهو في السادسة
والأربعين مهنة جديدة لم يكن قد سعى إليها أو هيّأ نفسه من أجلها خلال تكوينه
العلمي: أستاذاً وباحثاً. وتشاء له مفارقات التاريخ أن يلقي درسه الافتتاحي بعد
حملة السويس والعدوان الثلاثي على مصر.وأن ينظر إليه العديد من أقرانه كما يقول هو
نفسه "كمجنون متفائل"! لكن ذلك كان يعلن عن طبيعة مسار لن يتخلى عنها
حتى اليوم الأخير من حياته: السعي من أجل بقاء وتطوير ما كان يسميه "الموضوع
الفرنسي العربي". سوى أنه كان في الوقت ذاته يبتدع في الجامعة الفرنسية آنئذ
بدعة جديدة لم يعتدها أقرانه أو من سبقوه في مقام التعليم والبحث. بدعة دراسة
المجتمعات العربية المعاصرة ونتاجها الثقافي في تعبيراته المختلفة. كان الإبداع
العربي حتى ذلك التاريخ في نظر الجامعة الفرنسية قد توقف في القرن الثامن أو
التاسع. وجاء جاك بيرك لا يتحدث إلا عما هو حديث أو معاصر. وبطريقة لم تكن والحق
يقال على ما جرى عليه من قبله ومعه أمثاله من المؤرخين أو من المستشرقين.
لكن ماذا يمكن اعتبار جاك بيرك؟ أهو مستشرق؟ أم مستعرب؟
وإن لم يكن مستشرقاً بل مستعرباً فهل هو مؤرخ؟ أم عالم اجتماع؟ أم عالم أجناس؟ أم
شاعر أديب؟ الحق أنه يجمع ذلك كله لا في موضوعات أعماله وكتاباته فحسب بل في
مقارباته أياً كان موضوعها. "أراني واحداً يحاول أن يدرك الأشياء والكائنات
من خلال فهم كامل كما هو الأمر في الحب أو في الحرب تحاول أن تعرف كلّ ما يسعك
معرفته عن خصمك أو عن حبيبك"! ولهذا فهو رجل المقاربات المتعددة. هذه المسيرة
المستمرة ما بين المعاش والمُفكّر، ما بين الواقع والفكر، هذا الدوران المستمر من
حول الموضوع لا يبتعد عنه إلا لكي يرتدّ إليه، لم يكن من شأن مناهج من كانوا
يتصدون لدراسة التاريخ أو التراث العربي القديم. على هذا النحو درس الإسلام ثقافة
ومجتمعات إزاء ما يواجهه من تحديات يطرحها في التاريخ وفي العالم، وكذلك حاول أن
يفهم محاولة المجتمعات العربية دخول عالم التقنية والحداثة بدءاً من أول محاولة
فنومنولوجية العرب من الأمس إلى الغد (1960) وانتهاء بـ أساليب العرب
راهناً (1974)، مثلما حاول من قبل أن
يدرك المجتمع المغربي سواء في عمقه التاريخي والثقافي أو في اتساعه وتنوعه
الجغرافي المغرب بين حربيْن (1962) أو المغرب، التاريخ والمجتمع
(1974) أو داخل المغرب: من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر (1978).
هذه المقاربات المتعددة ستدفع به إلى اتخاذ مواقف تبعد
به عن محيطه العائلي والاجتماعي الأول لا بل عن أكثرية مواطنيه إذا ما نظرنا إلى
الأمر في موقعه التاريخي. كان أحد أول من كتبوا وتحدثوا عن استقلال الجزائر في مقال
نشرته صحيفة اللوموند في عام 1958 تحت عنوان الجزائر و13 مايو، وستحرّم الرقابة
الفرنسية في الجزائر توزيعه آنئذ. هكذا كان يعمل في آن واحد من أجل حرية الجزائر
وحقيقة فرنسا. وبما أنه لم يكن ينطلق من إشكالية تدور حول الغرب، شأن سارتر، فقد
تمكن خلافاً أيضاً للأكثرية الساحقة من المثقفين الفرنسيين من أن يرى الصراع
العربي الإسرائيلي في موقعه التاريخي حلقة ضمن دائرة الاستعمار والتحرّر.
دون أن يتخلى عن موقعه أو عن هويته. إذ لم يكن مزج
الأديان أو الانتماءات القومية أو الأيديولوجية من شأنه. ينادي بصداقة نقدية نحو
العرب وثقافتهم وحضارتهم وقضاياهم ولا يألو جهداً في التأكيد على انتمائه إلى وطنه
فرنسا وإلى ثقافته الغربية. ذلك ما كانت الأصالة تعني في نظره: هوية وانفتاح على
الآخر؛ عمق تاريخي وتقدم. وليس ثمة كالأندلس من مثال على ما يمكن لهذا الحوار أن
يكون عليه. أو لم يطلق على درسه الختامي في الكوليج دو فرانس: أندلسيّات؟
وهو لذلك رجل الضفتيْن أو إن شئتم العدوتين كما كان
الأندلسيون يطلقون على ضفتي المتوسط من جهة المغرب. عاش متنقلاً بينهما. ولد على
ضفة الجنوب وهو الذي ينتمي إلى ضفة الشمال ولم يحاول المزج بينهما بل استطاع
ببصيرة الفطرة ثمَّ بِنَظَر العالم أن يرى مواطن الاختلاف الجوهري بينهما ومن ثم
مواقع اللقاء الممكنة. تلك اللقاءات التي قضى حياته في بيانها لسكان الضفتيْن. ومن
المؤسف أن أحداً منهما لم يحتفل بمقولاته فيما وراء احتفال الاحترام أو الإعجاب.
فلا الفرنسيون فيما وراء دائرة المستعربين المغلقة قد ناقشوا أو نقدوا أعماله،
لكنه كان يعرف أو يدرك الأسباب: "كنتُ أقترح تساؤلاً فلسفياً على التغيّر
العربي الذي يُعاد وضعه هو ذاته ضمن أفق مستقبل عالمي. سوى أننا لم نعد نحب في
فرنسا أو أننا لم يسبق لنا أن أحببنا على الإطلاق هذا الضرب من التفكير. وحتى لو
أنني عدّلتُ منه بمزيد من الاتصالات فَسَأُتَّهَمُ بالتعبيرية!.."، ولا العرب
ترجموا كتبه الأساسية (أو أنهم ترجموا بعضها في ترجمات عسيرة على القراءة!)، سوى
أن ذلك بقي عصياً على فهمه هو الذي كان ينتظر، فيما وراء حلقات الأصدقاء الكثر، أن
يناقَشَ وأن يُحَلَّلَ وأن يُنقَد.
قبل أيام لم نكن نحسب فيها للموت حساباً، كان جاك بيرك
بيننا وكان الأمر عاديّاً. نفكر فيمن يمكن أن يدير الندوة القادمة التي نزمع
تنظيمها حول الفكر العربي المعاصر بمشاركة نخبة من المفكرين العرب والفرنسيين
والأوربيين. جاك بيرك بالطبع. سنديانتنا الدائمة. لكن حتى السنديان يقع. بعد ربيع
مزهر في يوم من شهر مشمس.
مثلُ شهر الولادة، مثلُ شهر الأجل الأول، وكما تمنّى.
(28 حزيران/يونيو
1995)
** كتب هذا المقال
غداة وفاة جاك بيرك في 27 حزيران/يونيو 1995 وتم نشره في العدد 11 من صحيفة بريد الجنوب الصادر بتاريخ 11 تموز/يوليو
1995 والتي كان يرأس تحريرها الصديق بشير البكر.
(ولد جاك بيرك في
4 حزيران/يونيو 1910 في قرية فرنده بالجزائر وتوفي يوم 27 حزيران/يونيو 1995 بسان
جوليان أن بورن بجنوب فرنسا).
مع جاك بيرك في
بيته بسان جوليان آن بورن (منطقة اللاند، جنوب غربي فرنسا) وقد لبس العباءة البدوية
السورية المصنوعة من وبر الجمل التي أهديتها له والتي تمنى أن تكون بلا زخرفة (11
تشرين الثاني/نوفمبر 1978)