lundi 27 mai 2013

جاك بيرك، رجل البدايات المتجددة



Jacques Berque
L'Homme des commencements renouvelés
 

جاك بيرك
رجل البدايات المتجددة**


 "خلال عملي أستاذاً في الكوليج دوفرانس، كنتُ أستحضر من وقت لآخر كما يحدث لنا أن نفكر بالموت، آخر درس سأقدمه: كنتُ أراه شديد البعد، لا يعتمه الحزن على كل ما ينتهي بقدر ما يضيؤه حسن طالع البدء المتجدد. وها هو الأجل قد حلَّ، أعني الأجل الأول (حزيران/يونيو 1981). وأرجو ألا يحلَّ الأجل الآخر إلا في أبعد وقت ممكن، وأن يكون، كالأجل الأول، مشمساً".
 
جاك بيرك، مذكرات الضفتيْن

 
كان على وشك بلوغ السبعين، سنّ التقاعد آنئذ في فرنسا، وكان يعد العدّة لحياة جديدة سيبدؤها بعيداً عن المؤسسات الجامعية والطلبة والمريدين. ويتساءل أمامي، كأنه يسألني: ما الذي أترجمُه؟ القرآن أم كتاب الأغاني؟ لم يكن مهماً رأيي لأنه كان قد استقر في نفسه على البدء بترجمة القرآن بما أنه كان يحاول حلَّ آخر مجموعة من المشكلات التي طرحتها عليه ترجمة المعلقات العشر ويستغرق في الإسلام مجتمعات وثقافات وتساؤلات باحثاً ومحللاً. لم تكن ضخامة المشروع وصعوبته ما استوقفني بقدر ما هزّني الرجل ذاته. وهو يودِّعُ مرحلة آذنت أجلها بلا حزن يستقبل مرحلة جديدة كأنما يحاول باختياره أصعب المشاريع أن يبعد من أجلها ما استطاع. لكنه كان يبهرني وهو يبدو لي آنئذ فتى في العشرين يخطط لما هو قادم من أيامه. القرآن أم الأغاني؟ سيترجمهما على التوالي. وسينشر ترجمة القرآن مرة أولى وثانية. وسيكتب مذكرات الضفتيْن وسيحاضر في القرآن وتأويله. ومع هذا وذاك سيلبي دعوة صديقه جان بيير شوفينمان  وزير البحث آنئذ (1981) لإعداد تقرير عن التعاون العلمي مع العالم الثالث، ودعوته ثانية وقد صار وزير التربية (1984) لإعداد دراسة حول أفضل الأساليب التربوية الخاصة بدمج أبناء المهاجرين في المدارس، ودعوة إدغار بيزاني (1989) لرئاسة اللجنة الثقافية الاستشارية لمعهد العالم العربي، وسيتابع السفر في البلاد العربية التي أحبها وقضى نصف عمره متنقلاً في ربوعها، ليستقبل أجله الآخر تماماً كما تمناه أن يكون، كشجرة سنديان تقع أرضاً بعد ربيع مزهر في يوم من شهر مشمس.

كان فعلاً رجل البدايات المتجددة. إذ لولا هذه القدرة الخارقة على جمع المتاع والرحيل من جديد نحو آفاق جديدة كلما بدا له أن ما هو فيه قد آتى ثماره ولن يكون ثمة من جديد لبقيَ واحداً من مئات ألوف الفرنسيين ممن زين لهم أنهم باقون كأجدادهم في بلاد لم تكن بلادهم وإن أحبوها يعيش حنيناً مرضياً وعدائياً كأنه في منفى. أو لتابع مسيرة بدأها وكان من شأنها أن ترقى به باحثاً في أنثربولوجيا المغرب وجبال الأطلس وخبيراً في مجتمعهما. لكنه تمكن، منذ طفولته، أن ينسج علاقة مع هذا الآخر من نوع آخر ما كان يخطر لعشرات من أنداده في تلك القرية المنعزلة من جزائر بداية القرن العشرين أن ينسجوها: علاقة تساؤل، وعلاقة تفاهم تنتهيان علاقة صداقة ومحبّة. هكذا، وهو واحد من موظفي الإدارة الاستعمارية في المغرب، يكتسب احترام وودّ صانعي استقلال مغرب الغد. احترامٌ وودٌّ سيكونان شفيعيْه لدى السلطات المصرية التي كانت تتساءل عما جاء يفعله في مصر هذا الفرنسي، تماماً بعد حملة السويس! هكذا يتحول عن وعي وإرادة، من موظف إداري يحاول أن يحلل وأن يفهم إلى باحث في المجتمع الذي ولد في رحابه. يختار أن يتعلم لغته وأن يمارسها في الحياة اليومية مع أهلها وقد فضلها على اللغات الأوربية الأخرى قديمة أو حديثة. ثم لا يلبث أن يوجه ركابه نحو مشرق لم يلتق به إلا عرضاً فصمم على العودة إليه. ها هو في مصر التي عشقها ما إن حلَّ فيها عام 1953 خبيراً توفده منظمة اليونسكو يحاول ما حاوله في المغرب. أن يمتزج مع أهلها وأن يستعيد تاريخها خلال أربعة عشر عاماً من أصغر بناه (التاريخ الاجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين) إلى أكثرها شمولاً (مصر، الإمبريالية والثورة). لكنه ما يلبث أن يشد رحاله من جديد عائداً إلى وطنه الأم بعد أن أعلن له مؤرخ المتوسط فرناند بروديل انتخابه أستاذا لكرسي التاريخ الاجتماعي للإسلام في واحدة من أعرق مؤسسات البحث العلمي في فرنسا: الكوليج دو فرانس. سوى أنه تمكن هذه المرة من بدء تحقيق ما بدا له آنئذ ضرورياً: أن يوطد صلاته وأن يعمّق معرفته بطرفيْ جنوب المتوسط: مغرب العالم العربي ومشرقه.  هكذا يبدأ وهو في السادسة والأربعين مهنة جديدة لم يكن قد سعى إليها أو هيّأ نفسه من أجلها خلال تكوينه العلمي: أستاذاً وباحثاً. وتشاء له مفارقات التاريخ أن يلقي درسه الافتتاحي بعد حملة السويس والعدوان الثلاثي على مصر.وأن ينظر إليه العديد من أقرانه كما يقول هو نفسه "كمجنون متفائل"! لكن ذلك كان يعلن عن طبيعة مسار لن يتخلى عنها حتى اليوم الأخير من حياته: السعي من أجل بقاء وتطوير ما كان يسميه "الموضوع الفرنسي العربي". سوى أنه كان في الوقت ذاته يبتدع في الجامعة الفرنسية آنئذ بدعة جديدة لم يعتدها أقرانه أو من سبقوه في مقام التعليم والبحث. بدعة دراسة المجتمعات العربية المعاصرة ونتاجها الثقافي في تعبيراته المختلفة. كان الإبداع العربي حتى ذلك التاريخ في نظر الجامعة الفرنسية قد توقف في القرن الثامن أو التاسع. وجاء جاك بيرك لا يتحدث إلا عما هو حديث أو معاصر. وبطريقة لم تكن والحق يقال على ما جرى عليه من قبله ومعه أمثاله من المؤرخين أو من المستشرقين.

لكن ماذا يمكن اعتبار جاك بيرك؟ أهو مستشرق؟ أم مستعرب؟ وإن لم يكن مستشرقاً بل مستعرباً فهل هو مؤرخ؟ أم عالم اجتماع؟ أم عالم أجناس؟ أم شاعر أديب؟ الحق أنه يجمع ذلك كله لا في موضوعات أعماله وكتاباته فحسب بل في مقارباته أياً كان موضوعها. "أراني واحداً يحاول أن يدرك الأشياء والكائنات من خلال فهم كامل كما هو الأمر في الحب أو في الحرب تحاول أن تعرف كلّ ما يسعك معرفته عن خصمك أو عن حبيبك"! ولهذا فهو رجل المقاربات المتعددة. هذه المسيرة المستمرة ما بين المعاش والمُفكّر، ما بين الواقع والفكر، هذا الدوران المستمر من حول الموضوع لا يبتعد عنه إلا لكي يرتدّ إليه، لم يكن من شأن مناهج من كانوا يتصدون لدراسة التاريخ أو التراث العربي القديم. على هذا النحو درس الإسلام ثقافة ومجتمعات إزاء ما يواجهه من تحديات يطرحها في التاريخ وفي العالم، وكذلك حاول أن يفهم محاولة المجتمعات العربية دخول عالم التقنية والحداثة بدءاً من أول محاولة فنومنولوجية  العرب من الأمس إلى الغد  (1960) وانتهاء بـ أساليب العرب راهناً (1974)، مثلما  حاول من قبل أن يدرك المجتمع المغربي سواء في عمقه التاريخي والثقافي أو في اتساعه وتنوعه الجغرافي المغرب بين حربيْن (1962) أو المغرب، التاريخ والمجتمع (1974) أو داخل المغرب: من القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر (1978).

هذه المقاربات المتعددة ستدفع به إلى اتخاذ مواقف تبعد به عن محيطه العائلي والاجتماعي الأول لا بل عن أكثرية مواطنيه إذا ما نظرنا إلى الأمر في موقعه التاريخي. كان أحد أول من كتبوا وتحدثوا عن استقلال الجزائر في مقال نشرته صحيفة اللوموند في عام 1958 تحت عنوان الجزائر و13 مايو، وستحرّم الرقابة الفرنسية في الجزائر توزيعه آنئذ. هكذا كان يعمل في آن واحد من أجل حرية الجزائر وحقيقة فرنسا. وبما أنه لم يكن ينطلق من إشكالية تدور حول الغرب، شأن سارتر، فقد تمكن خلافاً أيضاً للأكثرية الساحقة من المثقفين الفرنسيين من أن يرى الصراع العربي الإسرائيلي في موقعه التاريخي حلقة ضمن دائرة الاستعمار والتحرّر.

دون أن يتخلى عن موقعه أو عن هويته. إذ لم يكن مزج الأديان أو الانتماءات القومية أو الأيديولوجية من شأنه. ينادي بصداقة نقدية نحو العرب وثقافتهم وحضارتهم وقضاياهم ولا يألو جهداً في التأكيد على انتمائه إلى وطنه فرنسا وإلى ثقافته الغربية. ذلك ما كانت الأصالة تعني في نظره: هوية وانفتاح على الآخر؛ عمق تاريخي وتقدم. وليس ثمة كالأندلس من مثال على ما يمكن لهذا الحوار أن يكون عليه. أو لم يطلق على درسه الختامي في الكوليج دو فرانس: أندلسيّات؟

وهو لذلك رجل الضفتيْن أو إن شئتم العدوتين كما كان الأندلسيون يطلقون على ضفتي المتوسط من جهة المغرب. عاش متنقلاً بينهما. ولد على ضفة الجنوب وهو الذي ينتمي إلى ضفة الشمال ولم يحاول المزج بينهما بل استطاع ببصيرة الفطرة ثمَّ بِنَظَر العالم أن يرى مواطن الاختلاف الجوهري بينهما ومن ثم مواقع اللقاء الممكنة. تلك اللقاءات التي قضى حياته في بيانها لسكان الضفتيْن. ومن المؤسف أن أحداً منهما لم يحتفل بمقولاته فيما وراء احتفال الاحترام أو الإعجاب. فلا الفرنسيون فيما وراء دائرة المستعربين المغلقة قد ناقشوا أو نقدوا أعماله، لكنه كان يعرف أو يدرك الأسباب: "كنتُ أقترح تساؤلاً فلسفياً على التغيّر العربي الذي يُعاد وضعه هو ذاته ضمن أفق مستقبل عالمي. سوى أننا لم نعد نحب في فرنسا أو أننا لم يسبق لنا أن أحببنا على الإطلاق هذا الضرب من التفكير. وحتى لو أنني عدّلتُ منه بمزيد من الاتصالات فَسَأُتَّهَمُ بالتعبيرية!.."، ولا العرب ترجموا كتبه الأساسية (أو أنهم ترجموا بعضها في ترجمات عسيرة على القراءة!)، سوى أن ذلك بقي عصياً على فهمه هو الذي كان ينتظر، فيما وراء حلقات الأصدقاء الكثر، أن يناقَشَ وأن يُحَلَّلَ وأن يُنقَد.

قبل أيام لم نكن نحسب فيها للموت حساباً، كان جاك بيرك بيننا وكان الأمر عاديّاً. نفكر فيمن يمكن أن يدير الندوة القادمة التي نزمع تنظيمها حول الفكر العربي المعاصر بمشاركة نخبة من المفكرين العرب والفرنسيين والأوربيين. جاك بيرك بالطبع. سنديانتنا الدائمة. لكن حتى السنديان يقع. بعد ربيع مزهر في يوم من شهر مشمس.

مثلُ شهر الولادة،  مثلُ شهر الأجل الأول، وكما تمنّى.


(28 حزيران/يونيو 1995)

** كتب هذا المقال غداة وفاة جاك بيرك في 27 حزيران/يونيو 1995 وتم نشره في العدد 11 من صحيفة  بريد الجنوب الصادر بتاريخ 11 تموز/يوليو 1995 والتي كان يرأس تحريرها الصديق بشير البكر.

(ولد جاك بيرك في 4 حزيران/يونيو 1910 في قرية فرنده بالجزائر وتوفي يوم 27 حزيران/يونيو 1995 بسان جوليان أن بورن بجنوب فرنسا).
 

مع جاك بيرك في بيته بسان جوليان آن بورن (منطقة اللاند، جنوب غربي فرنسا) وقد لبس العباءة البدوية السورية المصنوعة من وبر الجمل التي أهديتها له والتي تمنى أن تكون بلا زخرفة (11 تشرين الثاني/نوفمبر 1978)
 
 
 
 
 
 
 

lundi 20 mai 2013


"مغامرة الشرّ" والأشرار
                                                          بدرالدين عرودكي
 
 
وقعت خلال الأيام الأخيرة بطريق الصدفة المحضة وبفضل النت على مقال كان الكاتب الفلسطيني حسن حميد قد نشره في 25 أيلول/سبتمبر 2007 في صحيفة العروبة التي تصدر عن مؤسسة الوحدة السورية، ثم أعاد نشره في صحيفة الوطن العمانية بعد ثلاث سنوات وشهرين من نشره للمرة الأولى، أي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2010. ولست أدري إن كان قد سبق نشر المقال من قبل. فبين سنة نشر الكتاب الذي يتحدث عنه 1999 و نشر المقال موضوع الحديث هنا 2007 ثماني سنوات كاملةّ. لهذا التفصيل دلالة ستتم العودة إليها فيما بعد.

يحمل المقال عنوان ميلان كونديرا ومغامرة الشر. دفعني وجود اسم ميلان كونديرا في العنوان إلى قراءته، لكني فوجئت أن ترجمتي لكتاب فن الرواية هي موضوع المقال. على أن المفاجأة الأكبر تمثلت فيما انطوى عليه من مغالطات واعية لا ريب في قصديتها ولا كذلك في سذاجتها.  

يحدثنا حسن حميد بقدر ملحوظ من "الأستذة" عن الآراء التي أبداها في روايات كونديرا المترجمة إلى العربية بعد أن أثاره الاهتمام "غير العادي بأدبه وحياته من قبل دور النشر العربية، والمترجمين العرب.. وأخيراً القراء العرب". وهي آراء يملك والحق يقال كأي قارئ الحرية في أن يبديها (لكننا كنا نود أن يقولها ببساطة بوصفها آراءً شخصية لا أحكاماً مطلقة وقاطعة لا تقبل الاستئناف). خلاصة هذه الآراء قناعة وصل إليها مفادها أن "كتابته ـ أي كونديرا ـ  متوسطة الشأن، وأن موهبته لا تقارن بمواهب فحول الأدب الكبار".. صحيح أنني لم أقرأ ما يشبه هذا الرأي لا من قريب ولا من بعيد في كلِّ ما كتب بصددها في البلدان أو الثقافات التي ترجمت إليها كتب كونديرا، ومن ثمَّ فلن أستفيض فيما فصله الكاتب لتبرير قناعته. كل ما يمكن الإشارة إليه في ما يخصها، إن كان لابد من ذلك، أنها تكشف مستوى معارفه شديد السطحية عن فن الرواية الغربي عموماً وعن تجلياته الحقيقية لاسيما حين يسمح لنفسه أن يتحدث عن "الإملال" "بسبب الاستغراق في التفصيلات التي لا تقود المرء إلى انقياد نضوج العمل" أو عن "الالتصاق بالأفكار التي تعيق تقدم السرد من جهة وتقضي على جمالية الأدب من جهة ثانية". ليخلص إلى القول إن "الأدب شيء والفلسفة شيء آخر"..

كل ذلك ليعبر عن دهشته من تسابق الناشرين والمترجمين إلى ترجمة ونشر أعمال كونديرا حتى وصل بهم الأمر، كما يقول، إلى "ترجمة مقالاته ومحاضراته ومواقفه وآرائه" وكان "أن صدر مؤخراً كتاب لكونديرا عنوانه فن الرواية" معتبراً أن العنوان "مغر"، وأنه "بمنزلة (المصيدة) للقارئ والكاتب معاً".

من الواضح أن حسن حميد لم يقع "في المصيدة"! لاسيما وأن مناقشة الموضوعات التي يتناولها كونديرا في كتابه حول فن الرواية ليست همّه،  كما أنَّ قول رأيه في الترجمة أو في أهمية الكتاب أو عدم أهميته ليس مما يستثير قريحته؛ همّه أمرٌ آخر تماماً. لذلك من الضروري تجاوز ما جاء به من هذر لا طائل من ورائه في مقدمة مقالته من أجل الدخول في صلب ما يريد أن يجرّم المترجم به، أي ما يريد أن يجرّمني به في الحقيقة.

يجهل حسن حميد، بادئ ذي بدء، كما يبدو تماماً أن خمسة من فصول كتاب فن الرواية سبق أن نشرت في الثمانينيات وفي التسعينيات في دوريات ثقافية بدمشق وبيروت (مجلة المعرفة ومجلة الفكر العربي المعاصر). كما يتضح سوء نيته وتجاهله لوضع الرقابة على الكتب في سورية من زعمه أن "فصلاً كاملاً حُذِفَ من الكتاب في الترجمة التي أصدرتها دار الأهالي بدمشق"، وأنه سأل الناشر فأكد له أنه لم يحذف شيئاً.

كيف اكتشف ذلك؟

 يعتمد حسن حميد على ترجمة أخرى للكتاب نشرتها منشورات شرقيات بالقاهرة وجد فيها ما بدا له وجود فصل ناقص في الترجمة المنشورة بدمشق. من الواضح أنه لم يقرأ الترجمة الأخيرة برمتها ولا سيما مقدمة الكتاب التي ترجمتها بكاملها والمنشورة فيه والتي يتحدث فيها كونديرا عن فصول الكتاب السبعة بما فيها الفصل الأخير الذي يحمل عنوان خطاب القدس: الرواية وأوربا. يقول كونديرا في هذا المقطع الأخير ما يلي:

" في ربيع عام 1985 تلقيت جائزة القدس. وقد قرأ الأب مارسيل دوبوا من طائفة الدومينكان، والأستاذ في جامعة القدس، الثناء عليّ بالإنجليزية مع لكنة فرنسية قوية؛ وقرأت بالفرنسية مع لكنة تشيكية قوية خطاب الشكر عالماً أنه سيؤلف الجزء الأخير من هذا الكتاب والنقطة الأخيرة لتأملاتي حول الرواية وأوربا. لم يكن يسعني قراءته في جوٍّ أكثر أوربية، وأكثر حرارة، وأكثر حميمية."

لم يقرأ حسن حميد هذه المقدمة التي يقول فيها كونديرا بصراحة ووضوح تلقيه جائزة القدس وأنه جعل من خطاب الشكر حول الرواية وأوربا خاتمة فصول كتابه. وبما أنه لم ينتبه إلى معنى قول الناشر له إنه نشر الكتاب الذي قدمه المترجم، وذلك صحيح تمام الصحة، فقد كان عليه أن يستنتج على الأقل (وكان بوسعه أن يستفهم عن الأمر لو أنه قرأ مقدمة الكتاب المشار إليها) أن الرقابة في وزارة الإعلام السورية هي التي حذفت، وليس الناشر بالطبع، حذفت لا الفصل كله بل المقطع الأول من العنوان، أي خطاب القدس، والمقطع الأول من الفصل، الذي يجرّمه حسن حميد. للتوضيح إذن: الفصل موجود، وهو الفصل السابع من الكتاب، لكنه مشوّه بفعل مقص الرقيب الذي طال العنوان والمقطع الأول، ومن حسن الحظ أنه لم ينتبه للإشارة إلى هذا الفصل في المقدمة بعنوانه الكامل والذي بقي على حاله. (ولقد قمت برفقة الناشر الصديق حسين العودات بزيارة الرقيب في وزارة الإعلام لأحاول إقناعه السماح بنشر نصِّ الترجمة كما هو، وأذكر أنني حدثته عن عقم الرقابة في عصر الأنترنت ولم تكن بعد معروفة في سورية آنئذ، والفاكس، .. إلخ.) لكن ذلك، كما هو واضح، لم يؤدِّ إلى شيء..

الأسوأ من كل هذا على ما فيه من قصور وتسرع وسذاجة، هو الكذب. ذلك أن السيد حسن حميد يستعين بترجمة أخرى للكتاب صدرت في مصر (وهي ترجمة عن اللغة الإنجليزية لا عن الفرنسية التي كتب بها الكتاب) ليزعم أن الفصل موجود في الكتاب ويتخذ مما يزعم وجوده في النص ليقول لنا بالحرف الواحد ما يلي:

"تقول المقالة التي جاءت في إصدار دار شرقيات (ترجمة أحمد عمر شاهين) إن اليهود تعرضوا للعدوان في بلدهم الأصلي (إسرائيل) ولذلك نفوا مرغمين إلى خارج وطنهم، وأنهم تعالوا على جروحهم وهم في منافيهم في أوربا، فأبدوا حضارة الشخصية اليهودية التي فاضت على الشخصية الأوروبية فولّدت فيها شرارة الحضارة التي نمت وترعرعت في أوربا بفضل العبقرية اليهودية، وقد عمل اليهود من أجل أوروبا بعيداً عن المشاعر القومية التي جمعتهم، أي أنهم لم يعملوا من أجل أنفسهم هم وإنما عملوا من أجل أوروبا؛ من أجل تحضيرها، ومع ذلك خذلتهم أوربا مرات ومرات على نحو مأساوي وعدواني وعنصري، فما كان أمامهم إلا أن جمعوا أنفسهم وعادوا إلى وطنهم الصغير (إسرائيل) الذي استعيد بالقوةِ، والروحِ الحضارية وعلى دفعات بشرية وزمنية في آن معاً. ومنذ الخروج اليهودي من أوربا وهذه القارة الكبيرة تعيش جسداً بلا قلب لأن قلبها هو (إسرائيل) والشعب اليهودي الذي يسكنها، ويقول كونديرا، الذي يبدو كما لو أنه زار الكيان الصهيوني، بالحرف الواحد: إنه فوجئ بأن (إسرائيل) تشكل قلب أوروبا الحقيقي، قلب خاص مزروع خارج الجسد!"

أما النص الذي يزعم حسن حميد تلخيصه "بلغته هو لا بلغة الكاتب" والذي حذفه الرقيب السوري فهو التالي:

"إذا كانت أهم جائزة تمنحها إسرائيل مخصصة للأدب العالمي فليس ذلك فيما يبدو لي وليد الصدفة بل نتيجة سنة راسخة. إذ الواقع أن الشخصيات اليهودية الكبرى التي نشأت بعيدة عن موطنها الأصلي في بيئة تتعالى على الأهواء القومية عبرت دائماً عن حساسية استثنائية من أجل أوربا تتعالى على القوميات. أوربا يتم تصورها لا كأرض بل كثقافة. وإذا كان اليهود قد ظلوا حتى بعد خيبتهم المأساوية من أوربا مخلصين لهذه الكوسموبوليتية الأوربية، فإن إسرائيل، وطنهم الصغير الذي عثروا عليه أخيراً ينبثق في نظري بوصفه قلب أوربا الحقيقي، قلب غريب وُضِعَ فيما وراء الجسد"

ولقد تمَّ نشرُ هذا المقطع الذي حذفته الرقابة السورية في طبعات ترجمتي المتتالية، بالدار البيضاء (دار أفريقيا الشرق) ثم بالقاهرة أولاً (المجلس الأعلى للثقافة) ثم  في الطبعة الجامعة لكتب كونديرا الثلاثة (المركز القومي للترجمة).

من الواضح أن السيد حسن حميد لا يقرأ. ويبدو إذا قرأ أنه لا يفهم. لكنه عندما لا يقرأ ولا يفهم يلجأ إلى الكتابة التي ترضي من لا يريد ردّ المشكلة إليه، أعني الرقيب. يطلب إلينا في خاتمة مقاله وهو يشكو لنا حيرته في أمره بسبب "التباين والاختلاف والرضا عن كل مايسوقه الغرب"، أن "من الواجب علينا نحن العرب في حقل الترجمة أن ننقل ما يتوافق وأهدافنا وغاياتنا النبيلة" وأنه إن "كان المكتوب لا يتوافق معها أن نبين أسباب هذا النقل وتوجهاته"...

من حسن حظ الثقافة العربية الكلاسيكية أنها لم تحظ بمترجمين يطبقون ما يدعو إليه حسن حميد. ولا كذلك الثقافة العربية الراهنة.

لا أدري إن كان حسن حميد قد نشر هذا المقال قبل عام 2007 كما أشرت في البداية. ذلك أنه خلال زيارته باريس عام 2005  سألني عن الموضوع نفسه وأوضحت له الأمر كما شرحته في السطور السابقة. لكنه مع ذلك بادر إلى نشر المقال ثانية وثالثة. من الواضح أن همه لا ينصرف إلى تجريم الرقابة السورية. وكيف يفعل وهو جزء من منظومتها؟
 
أهي إذن "مغامرة الشر" أم مغامرة الأشرار؟
 
 
 حسين العودات:
نشرت (دار الأهالي) بدمشق عام 1999 كتاب (فن الرواية) من تأليف (ميلان كونديرا) وترجمة الدكتور بدر الدين عرودكي، وقد حذف الرقيب في وزارة الإعلام المقطع الأول من الفصل السابع، وذهبنا، الدكتور عرودكي وأنا، وقابلنا الرقيب، وحاولنا إقناعه بعدم جدوى حذف هذا المقطع ، خاصة في زمن تفجر الاتصال، لكنه لم يقتنع وأعاد الكتاب بعد يومين مع الحذف المشار إليه، وأود أن أؤكد أن دار الأهالي لم تحذف شيئاً من المخطوط، كما أن الدكتور عرودكي ترجمه وقدمه بلا حذف، وأن الحذف من عمل الرقيب. وفي الحالات كلها لايتجاوز الحذف مقطعاً واحداً، دون أن ينتبه الرقيب إلى الإشارة لما حذفه في المقدمة.

(كتب الأستاذ حسين العودات هذه الشهادة تعليقاً على رابط مقالي الذي أرد فيه على حسن حميد وسليم البيك (المنشور في صحيفة القدس العربي بتاريخ 13 شباط/فبراير 2015) على صفحتي في الفيسبوك تأكيداً لما تضمنه الردّ أعلاه وتكذيباً لمزاعم حسن حميد وسليم البيك حول قيامي بحذف المقطع الأول من الفصل السابع "بقرار ذاتي"!)






 

mercredi 1 mai 2013


المثقف والسلطة

قبل  الحركات الثورية في العالم العربي*

بدرالدين عرودكي


لنقل دفعة واحدة إنه خلال الأربعين سنة الأخيرة، يمكن لعلاقة المثقف بالسلطة في العالم العربي أن تصاغ بالاستفهام التالي: هل من الممكن تواجد المثقف في أنظمة ذات طابع شمولي أو استبدادي؟
الحقيقة أن أية مقارنة سريعة بين هذه الفترة التي نعنيها وما سبقها تبين لنا بما لا يدع أي مجال للشك إلى أيّ حد تراجع دور المثقف النقدي منذ بداية السبعينيات. وأن ذلك يؤلف ظاهرة عامة في مجمل بلدان العالم العربي لا تتفاوت إلا في التفاصيل التي تمليها الشروط الاجتماعية والخلفية التاريخية الخاصة بكل بلد عربي.  والنتيجة التي تقود إليها هذه المقارنه بدهية بالطبع: التناقض بين الاستبداد والمثقف.
في الفترات التي شهدت الحماية الغربية أو ولادة الدول العربية اعتباراً من عشرينات القرن الماضي وحتى خمسينياته، كان وجود المثقفين ملموساً على الأصعدة جميعها: صعيد التربية، والحرية، والتثقيف، والنقد الذي وصل بأحد كبارهم، عباس محمود العقاد، إلى قضاء تسعة أشهر في السجن إثر مقال كتبه يدافع فيه بعنف عن الدستور ضد الملك. ومن الملاحظ أن تلك الفترة لم تشهد نقاشاً أو سجالاً حول دور المثقف أو وظيفته بقدر ما كانت تشهد ممارسة فاعلة ومؤثرة. ولئن ابتعدت الفترة الناصرية في مصر أو البورقيبية في تونس نسبياً عن هذا التقليد الذي كان راسخاً في البلدين، وحافظتا مع ذلك على حدّ أدنى منه، إلا أنهما لم تحققا الانعطاف الحاد الذي ستشهده فترة السبعينيات والذي ستستمر مفاعيله إلى عشية الثورات العربية ابتداءاً من تونس وانتهاء بسورية.
ذلك أن السلطة اعتباراً من بداية السبعينيات وخلال السنوات العشر التي تلتها قد تحولت بالتدريج السريع إلى سلطة مطلقة أو شبه مطلقة لا اعتماداً على شرعية منحتها الجماهير كتلك التي منحتها لعبد الناصر من قبل، بل كأمرٍ واقع وقائم. فقد سعت إلى إعادة تنظيم وهيكلة أجهزة السلطة على نحو عمودي معتمدة في ذلك على جهاز حزب واحد مهيمن وشمولي مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأجهزة الأمنية. سنرى أن الطرق التي اتبعها بن علي في تونس مع التجمع الدستوري الديمقراطي، ومبارك في مصر مع الحزب الوطني، والقذافي في ليبيا مع اللجان الشعبية، وحافظ الأسد في سورية مع حزب البعث، لا تكاد تتشابه فيما بينها فحسب بل تكاد أن تتطابق. بدأ كل منهم بانفتاح شكلي على ممثلي المجتمع المدني من أحزاب أو شخصيات أو مثقفين لينتهي إلى هيمنة كاملة أو شبه كاملة على مختلف البنى الاجتماعية الفاعلة. وإذا كان ثمة تباين بين هذه الدول المذكورة فمردّه التكوين التاريخي لكل منها؛ إذ ثمة فرق بين دولة ذات تقاليد متجذرة تاريخياً في مجال الدولة والسياسة وبين دول حديثة العهد بمثل هذه التقاليد. ولا بد لنا كي ندرك أبعاد هذه الهيمنة الطارئة من أن نتخذ من الوضع السوري مثلاً يمكن أن نرد إليه نقاط التقارب والتباعد بينه وبين الأنظمة العربية المشار إليها.
في بداية استقرار حافظ الأسد رئيساً بعد قيامه بحركته التصحيحية في نهاية 1970، كانت هناك العديد من الرايات معلقة في الساحات العامة وعلى امتداد شوارع العاصمة الكبرى، كتب عليها بعض أقوال "السيد الرئيس الجامعة". يلفت النظر بوجه خاص واحدة منها كتب عليها: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير".
تجسّد هذا "الضمير" من بعدُ في أكثر من ستة عشر جهاز أمني لتغطية قطاعات حياة السوريين كلها. لكن أهم قطاعين وضعا ومنذ البداية في المقدمة كان قطاع القائمين على المساجد والصوامع والجمعيات الدينية من ناحية، وقطاع المثقفين "العلمانيين" من خلال الصحافة ودور النشر واتحاد الكتاب العرب واتحاد الصحفيين السوريين ونقابة الفنانين، من جهة أخرى، فقد قضيَ بأن يُعالجا على عجل وبلا انتظار.
نتج عن ذلك أن "النظام" استطاع بدهاء ومكر أن يكمم الطرفين بالتدريج لكي لا نقول استدراجهما للوقوف إلى جانبه. استعان، في الجانب الديني، بعدد من أكثر المفكرين الدينيين شعبية ليجعل منهم الناطق الرسمي والدعائي والمدافع عن النظام مجسداً في شخصية الرئيس. ولقد تمَّ تحييد هذا القطاع على نحو لم يستطع أشد أقطابه الآخرين شجاعة على الإعلان عن اعتراضهم على ما كان هذا الشيخ أو ذاك منهم يقوله. كانت قمة التحدي إثر مجزرة حماه عام 1982 بوجه خاص، حيث لم يجرؤ أحد على أن يرفع صوته بالتنديد أو بالاحتجاج أو حتى بالسؤال عما جرى! أما في الجانب الصحافي والفكري العلماني، فقد أعاد النظام النظر في طريقة إدارة  مؤسستين من مؤسسات النظام "الديمقراطية" كان نظام البعث قد أنشأهما، بأن وضع على رأس كل منهما رئيساً يتجدد انتخابه في كل دورة، على غرار رئيس النظام نفسه. وظيفته السهر على "حرية الفكر" ضمن إطار "حرية الضمير"! وحدها قنوات التلفزيون والإذاعة خرجت عن هذه القاعدة نظراً لحساسيتها الشديدة ولكثرة إمكانات "الوقوع في الأخطاء الخطيرة" فوضعت تحت الرقابة المباشرة؛ إذ كان يمكن تسريح رئيسها بلا إخطار بناء على أمر مباشر من القصر. أما بالنسبة إلى الفنانين، فقد جرى التكميم على الصعيد الاقتصادي؛ إذ أن ممارسة المهنة كانت تتوقف حصراً على القطاع العام أو، من بعد ذلك، على شركات إنتاجية يملكها رجال النظام نفسه!
 هذا التكميم جعل من الحياة الثقافية والفكرية على مثال بُنى النظام ذاته: فكما أن كل شيء يوحي "من الخارج" بدولة ديمقراطية من خلال وجود المؤسسات السياسية (الدستور، فصل السلطات، رئيس جمهورية، مجلس وزراء) والمؤسسات التمثيلية: النقابات المهنية (ومنها نقابات الكتاب والصحافيين والفنانين..)، والصحافة المتعددة، والأحزاب السياسية، وكذلك وجود عدد من الصحف المنوعة، وكثرة الكتاب في الصحافة وفي القطاع السمعي البصري ونشر الكتب..إلخ. كل شيء مسموح به مادام "الضمير" يقوم بعمله في الرقابة. لكن الخطوط الحمراء غير المعلنة كانت موجودة. والواقع أنه لم يكن مقبولاً نقد القائد، أي رئيس الدولة، ولا نقد الحزب القائد، ولا نقد النظام بوصفه بنىً ونهجاً وتطبيقاً، ولا نقد سياسة الحكومة الخارجية ومواقفها. كل شيء، في ما وراء ذلك، مباح ومتاح!
لا يختلف هذا الوضع عن مثيله في تونس أو في ليبيا إلا في بعض التفاصيل، لكنه في مصر يختلف نسبياً اختلافاً أشد أهمية. فالأزهر بوصفه المرجعية الدينية الأولى، خاضع تاريخياً لسلطة الدولة المدنية. أما الحياة الثقافية والفكرية، فإن التقاليد الراسخة لم تكن تسمح بهيمنة شمولية، ومن ثم فقد كانت الأساليب المتبعة في تدجين هذه الحياة أكثر سلاسة وأدنى إلى الترغيب منها إلى الترهيب.
ذلك لن يحول دون أن ترتكب سلطات أخرى في العالم العربي ما لم تجرؤ السلطة السياسية على ارتكابه بصورة مباشرة: فقد حاولت قتل نجيب محفوظ وقتلت فرج فودة في مصر، واغتالت حسين مروة ومهدي عامل ثم سمير قصير في لبنان، وناجي العلي، الفلسطيني، في لندن..
سيؤدي هذا الوضع على كل حال واعتباراً من بداية هذه الفترة، إلى ظهور ثلاث فئات أساسية من المثقفين: المهجنون؛ المهجرون؛ المؤيدون. وستتواجد هذه الفئات في معظم بلدان الثورات العربية مع فروق تكبر أو تتضاءل حسب طبيعة السلطة وممارستها في هذا البلد أو ذاك.  ستتسم الحياة الثقافية والفكرية أيضاً بطابع النظام القائم. صحيح أن الهامش على ضيقه في مصر قد سمح بظهور أصوات أصيلة وكتابات لم يكن بالوسع السماح بمثلها في تونس بن علي أو في ليبيا القذافي حتى أو في سورية الأسد. لم يهاجر الكتاب في مصر (باستثناء فترة قصيرة أيام حكم السادات) لكي يكتب بحرية كما هاجر الكتاب التونسيون أو الليبيون أو السوريون. وكان بوسع كاتب في مصر أن يرفض جائزة تمنحها له الدولة ، أو أن يكتب آخر رواية تعري النظام الأمني والمافيوي في مصر دون أن يوضع هذا أو ذاك في السجن في اليوم التالي. لكن الكاتب المهجن موجود على الدوام، وهو يحتلُّ مقدمة المشهد الثقافي.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، في سورية، لم يكن نزار قباني يكتب شعره في دمشق، واضطر زكريا تامر إلى الهجرة إلى لندن. وفي ليبيا، لم يكن إبراهيم الكوني وأحمد ابراهيم الفقيه يكتبا رواياتهما في بلدهما. ومن تونس، هاجر المنصف المرزوقي المعارض أو الطاهر بكري الشاعر إلى باريس.  أما من بقي فقد كان مضطراً إلى مداراة أمره يوماً بعد يوم كلما مارس مهمته مثقفاً أو كاتباً أو فناناً. وعندما يحاول البعض الاستفادة من الهامش الذي يكتشفونه في تصدعات النظام، وينجحون، سرعان ما تكمم أفواههم بحرمانهم من الجمهور الذي يريدون الوصول إليه. فأفلام عمر أميرالاي التسجيلية التي أنتجها في سورية لم تعرض في سورية إلا في بداية الحركة الثورية الحالية (أي بعد 15 آذار 2011) وفي المركز الثقافي الفرنسي! في حين أن فيلمه الشهير الذي شاركه فيه الكاتب والمسرحي سعد الله ونوس، الحياة اليومية في قرية سورية، لم ير النور في سورية رغم أن المؤسسة العامة للسينما، وهي مؤسسة سورية من القطاع العام ، هي من أنتجه!
وعلى أن تكميم الأفواه كان هو النظام السائد في سورية مثلما كان كذلك في تونس أو في ليبيا، فإن المثقفين السوريين استطاعوا بجرأة ملحوظة أن يعبروا عن رأيهم ومعارضتهم بوضوح لا لبس فيه: ففي عام 2000 وقع 99 من المثقفين والفنانين بياناً حمل رقم عددهم يطالبون فيه بالحرية وبالإصلاح وبالديمقراطية، ثم في عام 2005 حين قام عدد من الأحزاب الممنوعة وبعض الشخصيات العامة  بتوقيع إعلان دمشق للتغيير الديمقراطي. وما جرى للذين وقعوا على هذا البيان أو ذاك باتت معروفة من قبل الجميع.
خلال أربعين عاماً ونيِف، نحن كما نرى، أمام وضع أقصى، وضع لم تكن الحياة الثقافية فيه سوى حياة سطحية، يُرغم فيه المثقف على أن لا يهتم إلا بشؤون حياته اليومية!

* هذا النص الذي قدم خلال الندوة الدراسية التي عقدت يوم 30 نيسان/أبريل 2013 حول "الحركات العربية الثورية بعد سنتيْن"، والتي نظمتها جامعة ليل 1 بالتعاون مع معهد العالم العربي (فرع الشمال)، يؤلف مدخلاً لموضوع المائدة المستديرة الثانية والتي شاركت فيها إلى جانب زياد ماجد، أسامة محمد، سلام كواكبي : "دور المثقفين والفنانين".

* نشر هذا النص في مجلة "تواصل" ـ العدد الثاني، ص. : 30ـ33

http://www.syria-nass.com/tawasol/Tawasol2.pdf
أحمد الحجري
أصداءُ عوالمَ اختزلَ أزمنتَها حلمٌ بلا نهاية

بدرالدين عرودكي



لا يحصي أحمد الحجري عدد المعارض التي أقيمت لتقديم أعماله. ولا يهمه في الواقع أن يحصيها. ها هو الآن يستجيب لدعوة أصدقائه في بلده الأصلي، تونس،في نهاية شهر نيسان/أبريل، بكونفاس آر غاليري، وفي جنيف، غاليري دانييل بيسيش، طوال شهر أيار/مايو، لتقديم آخر لوحاته. معرضان في آن واحد يقدمان الأعمال التي أنجزها والتي أخفاها عن محبي فنه كي يتمكن من عرضها.
ما أسرع ما تمضي الأيام!
أربعون عاماً انقضت على تلك اللحظة التي انكشف فيها فناناً بالسليقة وبالطبيعة، ثم تبناه من اكتشفه إذ انكشف أمامه..
الطابق الثاني من المبنى 22 حي تامبل (المعبد) بالدائرة الرابعة بباريس، في مكتب المعماري رولان موران. صار اليوم مرسم أحمد الحجري. قبل أربعين عاماً، كان يجلس في زاوية منه كل يوم شابٌّ تونسي في الخامسة والعشرين من عمره، كي يقوم بعمل إضافي ساعتين يومياً يقوم على رسم مخططات كهربائية للمباني التي يصممها ربُّ عمله المعماري. لكنه كان بين الفينة والفينة يشرد عن العمل ليخربش رسوماً مختلفة على وريقات أخرى تمليها عليه سليقة طفل لا يزال شديد الحيوية والخيال في أعماقه.
ذات يوم، يدخل ربُّ العمل المكتب على حين غرة. يفاجئ الشابَّ مرتبكاً وهو يلقي على عجل ورقة في سلة المهملات. يرسله في مهمة كي يستعيد الورقة المجعدة في غيابه. يعود الشاب ليتلقى من ربِّ عمله تعنيفاً لم يكن ينتظره: لم يكن متهاوناً في القيام بعمله الذي يتناول عليه الأجر للقيام به فحسب، بل إنه يرمي رسومه الرائعة في سلة المهملات!
لن يسرِّح رولان موران، ربّ العمل، عامله المُهمِل، بل سيقدم له دفتراً للرسم وسيطلب منه أن يرسم بانتظام ولكن خارج أوقات الدوام؛ ويَعِدُهُ إن هو ملأ الدفتر بالرسوم أن يشتري له دفتراً آخر على حسابه. ما إن يملأ الشاب الدفتر الأول حتى يشتريه منه ربّ عمله بمائة فرنك فرنسي..(حوالي 250دولار بسعر أيامنا). لا يفهم الشاب معنى ذلك.. يصحبه رولان موران، إلى الفنان جان دو بوفيه. يطلع هذا الأخير على رسوم الشاب. يربت على كتفه ويقول له: سنهتم بك، رولان وأنا. ثم ما يلبث موران أن يطلب إليه الاستقالة من المصنع الذي كان يعمل فيه والذي انتشله من بؤس محقق لكي يعكف على الرسم حصراً. يتردَّدُ الشاب في البداية،"لم أكن أفهم ما الذي يحمله على ذلك". لكن إغراء الراتب الشهري يحمله على أن يقبل وقبل أن يفعل، يأتي بأخيه من تونس كي يحلَّ محله في المصنع. في الرابع من نيسان/أبريل 1974 يوقع أحمد الحجري عقد عمله كرسام: "لم أكن أفهم حقيقة ما الذي يحدث لي".
وكيف له أن يفهم ما يحدث له هو الذي عاش ربع قرن يراكم ضروب الخيبة واحداً بعد الآخر؟
لم يكن مسار أحمد الحجري طبيعياً. فقد ولد بتازركه، التي ولد فيها من قبله تونسي شهير آخر، محمود المسعدي، في أسرة فقدت عائلها ولم يكن له من العمر إلا خمس سنوات، فاضطرت الأمّ إلى تأجير خدماتها في بيوت الأسر الثرية في المدينة ومنها بيت محمود المسعدي تحديداً! فكان في غياب أمه يعيش عزلة صارت بعضَ كيانه. يستسلم للبحر وللشمس كلما سنحت له الفرصة، أو لعجوز يلجأ إليها ساعات طويلة يستمع إلى قصصها الحافلة بالمعتقدات والكائنات الخرافية وبضروب السحر والعجائب كانت في نظره، كما يقول، "أفلاماً شفهية" تغذي أحلامه ومخياله.
أمكن له بصعوبة بالغة أن يدرس صنعة تساعده على كسب العيش، وبصعوبة أكبر أيضاً أن يحصل على شهادة عامل في الكهرباء. لكنه كان لا يحلم إلا بالرحيل. تتاح له فرصة اتباع دورة تدريبية في إيطاليا، فيحصل على جواز السفر، لكنه يعزف عن الرحيل إليها. كانت فرنسا محط أمله. وها هو في ربيع عام 1968، يبحر أخيراً إلى مرسيليا وليس في جيبه أكثر من خمسين ديناراً. كان الناس يتحدثون عن أحداث باريس (أيار/مايو 1968) لكنه لم يكن يفقه عنها شيئاً. سرعان ما تبخرت ثروته البسيطة. ومن خيبة إلى أخرى تؤدي به إلى مدينة ليون التي وجد نفسه ينام فيها تحت الجسور أياماً طويلة كان من نتيجتها انهيار صحته وإصابته بأمراض ألزمته سرير المستشفى ستة أشهر كاملة، خرج بعدها ليعمل للمرة الأولى في مجال علمه: الكهرباء، وفي مدينة غرونوبل. يقترح عليه رب عمله فيها بعد لأي أن يسافر ليعمل معه في مدينة ليل بشمال فرنسا. لكن صداماً على الطريق أودى بحياة معلمه وقذف به ثانية إلى المستشفى التي سيخرج منها بعد أشهر عدّة ليعمل اعتباراً من 1973 وحتى 1974 في مصنع بكوربفوا، في ضواحي باريس عاملاً كهربائياً. في كانون الثاني/يناير 1973 يحمل له القدر وهو يتصفح إحدى الصحف إعلاناً. كتب فيه: "نبحث عن رسام كهربائي متخصص، ولو كان مبتدئاً".

كما لو كان حلماً، أو حكاية عجائبية. سيعيد هذا الإعلان رسْم مجرى حياته.
لم يكن صاحب الإعلان سوى المهندس المعماري رولان موران، أحد الفائزين في مشروع تصميم مركز جورج بومبيدو للثقافة، ومصمم متحف الفنان جان دوبوفيه آنئذ..

سيأخذ موران وقد اكتشف موهبة الشاب على عاتقه أن يكون عرّاب أحمد الحجري. ربع ساعة كل يوم يعلمه خلالها اللغة الفرنسية، ثم ساعة أخرى كي يعلمه خلالها تاريخ الفن بل وبعض مبادئ الهندسة المعمارية.. وهاهو يصطحبه خلال عام 1976 إلى إيطاليا: بريسيشيا، ميلانو، بادو.. "يكتشف الحجري تيسيان في فينيسيا، ومرغريتا دوني لرفائيل في فلورنسا، ويتحمس أمام اللوحات الجدارية في فيللا فالمارانا لتييبولو. وسيرسم من وحي هذه الرحلة لوحة حملت عنوان "الجندول في فينيسيا".

عندما قبل أحمد الحجري توقيع العقد لكي ينصرف إلى الرسم حصراً اشترط على رولان موران أن يتركه يرسم على هواه وبكل حرية. سيمتثل موران بلا تردد. ومع ذلك، لم يكن الحجري أنئذ يفهم "ما الذي كان يحمل هذا الرجل على أن يدفع لي مقابل ما أرسمه..".
يدرك اليوم أنه ما كان بوسعه "شق الطريق كرسام وكفنان على النحو الذي جرى لولا موران". كان لإيمان هذا الرجل بموهبة الحجري ورغبته في إبراز هذه الموهبة الأثر الكبير والحاسم على تطور الشاب الذي استطاع أن يشق طريقه بعد وفاة عرّابه وأن يستقل بنفسه فناناً ومبدعاً.

"حمل لي ذات يوم قماشاً وشدّه أمامي ضمن إطار خشبي وطلب إلي أن أبدأ الرسم عليه".من الورق إلى القماش، ومن الأقلام الملونة إلى الريشة والألوان الزيتية..
سيستغرق الحجري في الرسم بلا كلل. وكلما أنجز عملاً كان موران يسارع إلى دوبوفيه يطلعه عليه. بين 1974 و1978، تراكمت اللوحات بحيث صار بوسع موران أن يفكر بتقديم هذا الفنان العجيب إلى الناس. دعا أصحاب قاعات العرض الكبرى في باريس لرؤية اللوحات.سارع توما لوغيو، صاحب غاليري ميسين الواقعة في الدائرة الثامنة بباريس، إلى الموافقة من فوره على إقامة المعرض الذي سيفتتح يوم 9 شباط/فبراير 1978.
""لدى افتتاح أول معرض أقيم للوحاتي صنعوا لي طقماً مفصلاً على مقاسي ليوم (لم أكن أدري ماذا يعني) الافتتاح.. صدقني.. كانت تلك هي المرة الأولى. لم أكن معتاداً.. ويوم الافتتاح باع صاحب الغاليري كل اللوحات بعد أن اشترى لنفسه ستاً منها. في نهاية الحفل وقبل مغادرتي، سلمني رسالة فيها شيك بمبلغ كان يساوي مبلغ راتبي الشهري خلال ثلاث أو أربع سنوات!..حملقت فيه غير مصدق عينيّ. غادرت الغاليري سيراً على قدميّ أحاول استيعاب ما يحدث لي. وكنت أمشي وأتوقف كل مائة متر تقريباً لأخرج الرسالة من جيبي وأنعم النظر في الشيك كي أتأكد من أنني لم أكن قد أخطأتُ القراءة!.."
زار هذا المعرض محمود المسعدي، الكاتب والروائي، وكان آنئذ وزير الشؤون الثقافية في تونس وفي زيارة رسمية إلى فرنسا، هذا المعرض الأول لأحمد الحجري. فقد "اصطحبه مضيفوه الفرنسيون إلى معرضي لأنني تونسي. أعجب بأعمالي، وحين عاد إلى تونس سأل أمي التي كانت تشرف على شؤون بيته: "ألكِ ابن في باريس؟". أجابته أمي: "نعم، وهو يشتغل في الضو!"(أي الكهرباء!).فقال لها: ابنك شهير وفنان كبير..لكنها لم تدرك هي الأخرى ما كان يقوله لها. وطلب إليها أن يراني ما إن أعود إلى تونس. عدت إلى تونس وطلبت إليّ أمي أن أزور سي محمود. رفضتُ في البداية وطلبت إليها أن تكف عن العمل لأنها لن تكون بحاجة إلى المال بعد ذلك اليوم. رأت أنني كنت أريد أن أحيلها على التقاعد! فرفضت، هي التي اعتادت على العمل منذ أكثر من ثلاثين سنة.."

لم يكن أحمد الحجري الوحيد الذي يقف مذهولاً أمام اهتمام الناس بما يفعل لكي يتسلى! الآخرون أيضاً. كلُّ الآخرين. ويتردد السؤال بهمس تارة وبصوت جهير تارة أخرى: "كيف استطاع شاب بخلاف الفنانين المحدثين مثل شاغال أو ماتيس ممن جهدوا بالعلم وبالتقنية كي يصيروا من جديد بدائيين، أن يبدع بسذاجة وعفوية أعمالاً تضعه، هو الذي لم يمتلك ناصية الفن الأكاديمي، مقابل فناني الفن الحديث هؤلاء؟"




لكن ذهوله هذا كان يعكس أيضاً خوفاً عميقاً من الآخرين ومن أحكامهم. يروي أحمد الحجري: "زارت ذات يوم كلارا مالرو (زوجة الكاتب الفرنسي أندريه مالرو) مع عدد من صديقاتها المرسم ورحن يقلبن لوحاتي واحدة بعد أخرى. وحين كن يتأملن لوحة "التليفون" كانت كلمة : شاغال.. شاغال..تتكرر على ألسنتهن. لكني كنت أسمعها: شاكال.. شاكال! الكلمة الفرنسية الأولى هي اسم الفنان الشهير، أما الثانية فتعني الضبع! حسبت أنهن يصفنني بالضبع. لذلك، ما إن غادرنَ مرسمي حتى أمسكت بالفرشاة وطليت بالأبيض كل اللوحات الموجودة. حين رأى موران ما فعلت، وفهم السبب، لم يقل لي شيئاً، لكني رأيت الأسف والحزن في عينيْه.بعد عدة أيام، هتف لي موران يقول لي إنه سيرسل 500 فرنكاً لتفصيل لباس رسمي لي لأننا، هو وأنا، مدعوان لحضور أوبرا "لاترافياتا" في دار الأوبرا. حينما ذهبنا إلى قصر غارنييه، مقر أوبرا باريس، وكنت أزوره للمرة الأولى في حياتي، كنت أنعم النظر في سقف القاعة الكبرى المليء برسوم هي من الجمال بحيث بقي رأسي مشدوداً إلى أعلى أنعم النظر بهذه الروائع. سألت موران: "من رسم هذا السقف؟ فأجابني:شاغال..أقول له: شاكال؟ ويجيب: لا.. شاغال..هو الاسم الذي كانت كلارا مالرو وصديقاتها يشبهن أعمالك بأعماله!.. حينئذ أدركت حماقة ما فعلت.. وأمسك موران بكتاب ضخم وقال لي: هذا هدية لك عن شاغال ما دمت قد أحببت أعماله..".

ذلك بعض ردود فعل من كانوا يشاهدون أعماله قبل أن يظهر على الملأ في معرض رسمي. لا يتوقفون عن مقارنته بكبار رواد الفن الحديث كي ينتهوا إلى الحكم، رغم كل شيء، بفرادته..وكان موران، ببصيرته، قد أدرك منذ اللحظة الأولى التي التقط خلالها الرسم من سلة المهملات، أنه أمام موهبة استثنائية، إن لم تكن، في حال أحمد الحجري، نادرة.

         

ومن ثمَّ، لم يكن من قبيل الصدفة أن يقوده إلى جان دوبوفيه، الذي كان مُنَظِّرّ الفن الغريزي، أو الفن الخام، أو الفن غير المصقول (حين نشر في عام 1949 كتابه حول هذا الفن) ومؤسِّسَ جماعته عام 1948 بصحبة أندريه بريتون، وأندريه مالرو، وهنري ميشو، وكلود ليفي ستروس.

لكن هل ينتمي فن الحجري إلى الفن الغريزي؟

"لا يهتم الإبداع الحقيقي بأن يكون أو لا يكون فناً"، يقول جان دو بوفيه بحق. تلك أيضاً قناعة أحمد الحجري العفوية! وإذا كان النقاد تحدثوا عندما تناولوا أعماله عن "الفن الغريزي"، إلا أن الحجري يبقى عسيراً على التصنيف، فهو، كما يقول زبير لاسرام، "يفلت من التصنيفات التقليدية الخاصة بالفن الغريزي بوصفه كذلك؛ ذلك أنه يتجاوز الموضات والفواصل. إنه ساحر، يتلاعب بعقلانيتنا الضيقة. ولا شيء يمكنه أن يحول بينه وبين الاستمرار في التطور في عالم هوائي هو عالمه، الموسوم بالنور وبالعذوبة. فمن داخل لوحاته يرقب العالم، دون أن يكف عن دعوتنا كي نتقاسم معه رؤيته الفاتنة والفريدة".

والحقيقة أننا، أينما طفنا بنظرنا في لوحات أحمد الحجري أو رسومه أو دفاتره، نعثر على صور بسيطة، ساذجة، عفوية، تتجاوز الكثير من التفاصيل محتفظة بما هو الأساس: الحلم وقد تجسَّد خيالاً أو الخيال وقد تجلى حلماً. عالم اختزنته ذاكرة جماعية اختزلت أزمنة وعصوراً ثم استقرت في لاوعي فرد تكاد من غليانها أن تنفجر فتحيله حطاماً لولا أنه عثر على أداة تتيح له أن يخرج بها على الملأ..

تلك حالة يعيها أحمد الحجري تمام الوعي: "أتعلم؟ إن ما يهمني حين أرسم يداً ما هو الحركة التي تقوم بها هذه اليد... لا عدد الأصابع. الواقع، لم أؤمن به يوماً؛ ما أنقله في لوحاتي هو عالم الأحلام، وبصورة مباشرة. وهي بالطبع أحلامي، أحلام فتى راشد يجرُّ وراءه طفولة معجونة بالآلام وبالحرمان (...) لقد بقيت اليتيم الصغير الذي يشعر بنفسه بشعاً، ونكرة، وأن العالم، كله من حوله، يجهله. (...) كانت أمي تعمل خادمة مياومة لدى أثرياء القرية. وعندما بلغت التاسعة من عمري وُضِعْتُ في ميتم وعرفت الوحدة المطلقة. فكان الحلم مهربي الوحيد. كنت أحلم مستيقظاً أو نائماً، وفي أحلامي كنت أراني، وأراني دوماً، طائراً فوق العالم الواقعي، فوق عقباته، فوق مصاعبه. أما شخصيات لوحاتي فهي تفعل الشيء نفسه، لأنها شخصيات قصص غالباً ما تكون حزينة".

منذ البداية، التقط توما غيّو هذا الجوهر في لوحات الحجري ورسوماته: "يَعْبُرُ الإنسان العالم كمحنة لا يمكن احتمال عنف قسوة مراحلها. في هذه اللحظات المأساوية ، يمكن للعودة إلى الفن أن تجعل الألم ذا دلالة. وتقوم قوة الفنان كلها على نقل الدراما الخاصة إلى مستوى جماعي، أو، وهو الأفضل، إلى مستوى عام." (...) يتحدث جيرار آزولاي بحق عن الوحي وهو يذكر رؤى الحجري الكونية. فببصيرته يمكن تشبيه الفنان بجنس (قيد الانقراض) الأنبياء ."

* * *

والحقيقة، أن لوحات الحجري، بعيداً عن الموضعة في مكان أو زمان محددين، وفي ما وراء التصنيفات، تعيدنا على الدوام إلى فكرةٍ لازمنية عن الطبيعة البشرية المتألمة تارة والفرحة تارة أخرى، لكنها في أغلب الأحيان مضطربة أو هاربة.

"حلمُ حياةِ قلبٍ نقيّ".

نشر في مجلة الدوحة، العدد 67 ، 1 أيار/مايو  2013  ، الصفحات 122 ـ 125

http://www.aldohamagazine.com/article.aspx?n=772708C9-0EAF-406C-8274-DFD43447B620&d=20130501

http://www.aldohamagazine.com/emagazine/viewmagazine.aspx

http://www.aldohamagazine.com/emagazine/data/20130501/pdf/doha%2067%20web.pdf