mardi 23 avril 2013




 حول

"أرشيف الأدباء"


بعد أن فقدت العديد من الرسائل التي كتبها لي عدد من الأدباء العرب، ومنها على سبيل المثال رسالة من عباس محمود العقاد كتبها لي في عام 1958 (لكني أحفظها عن ظهر قلب!)، صرت حريصاً على المحافظة على كلّ شيء مهما بدت لي قيمته للوهلة الأولى ضئيلة كرسالة، مثلاً، من أحد كبار الأدباء العرب المعاصرين يطلب فيها لقاء مشاركته في نشاط ثقافي كنتُ أنظمه مبلغاً من المال (وهو أمر طبيعي، على ارتفاع قيمة المبلغ بالنسبة إلى ما جرت العادة عليه في وقتها) لكنه أضاف إلى المبلغ صفة (هي التي تعطي الرسالة بالإضافة إلى اسم وصفة صاحبها، طابع الطرافة) أن يكون (خارج الرسوم والضرائب).

صرت أحرص إذن على الاحتفاظ بكلّ شيء يختص بنشاطي أو عملي، مثل حرصي على الكتب التي أشتريها أو التي تهدى إليْ.  ومع مرور الزمان، تكتسب هذه الوثائق قيمة ليست بالضرورة مادية بل رمزية وأحياناً عاطفية.

الأديبة والروائية السورية غادة السمان فقدت مكتبتها حين احترق بيتها في بيروت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. ثم اكتشفت من خلال حديثها معي أنني أملك الطبعة الأولى من مجموعة قصصها الأولى. وأغرتني بالمجموعة الكاملة من أعمالها إذا ما تنازلت لها عن هذه الطبعة. ولقد فعلت، وكتبت آنئذ مقالة صغيرة عن هذه الحادثة حين اكتشفت تعليقاتي كقارئ على قصصها على هامش الكتاب، وكيف تسللت إلى هذه الحميمية بسبب كتابها الذي كان لي..

من المؤسف أن الحرص على الوثائق الخاصة المتعلقة بما نكتبه أو بما يكتب عنا ليس عادة راسخة في ثقافتنا. صحيح أن البعض منا يحتفظ ما وسعه بهذه الوثائق، لوعيه بأهميتها أو لارتباطه العاطفي بها. إلا أنه يكفي أن يأتي من بعده من أولاده أو من ورثته من لا يملك المستوى نفسه من الوعي لكي يتخلى عنها غير محتفظ إلا بما يعتبره ثميناً من مجوهرات أو أثاث مادي. ولننظر اليوم على سبيل المثال في متحف أم كلثوم في القاهرة: هل يعقل أن الأشياء والموضوعات المعروضة في هذا المتحف الجميل والأنيق (والذي يليق في تنظيمه وتنسيقه والحق يقال بكوكب الشرق) هي كلّ ما تركته سيّدة الغناء العربي بعد أكثر من خمسين عاماً من النشاط المتصل؟ الأمر نفسه يُقال عن الكثير من أدبائنا وفنانينا الذي لم يبق لنا منهم إلا ما نشروه في حياتهم أو ما تركوه هم لنا بين أيدينا.

ذلك ليس من شأن الثقافة الغربية الحديثة. فالكاتب نفسه يقوم في كثير من الأحيان بإهداء مخطوطاته ووثائقه إلى المراكز المختصة في هذا المجال، ولاسيما المكتبات القومية. وهو ما يتيح من بعد للباحثين العودة إليها حين يقومون بدراسة هذا الكاتب أو عصره أو أيّ شأن يمتّ إليه بصلة ما. وهو أيضاً ما يتيح للناشر من بعد أن يشرع في نشر ما يسمى "الأعمال الكاملة"، وهو مفهوم يختلف جذرياً في أوربا عما فهمناه نحن منه في الثلاثين سنة الأخيرة في عالمنا العربي. تعني "الأعمال الكاملة" في الغرب نشر لا كلّ ما كتبه الكاتب ونشره في حياته من أعمال  أدبية وفكرية فحسب (كما فهمنا نحن باللغة العربية حتى درجنا على نشر الأعمال الكاملة في حياة الكاتب وكأنه قرر الكف عن الكتابة!!)، بل كذلك نشر مسودّات أعماله المتتابعة، ورسائله الخاصة، ويومياته، بل وتعليقاته إن وجدت على الكتب... إلخ. ذلك يتيح للدارسين أن ينظروا في تطور العملية الإبداعية لدى هذا الكاتب أو ذاك من خلال المسودات المتتابعة لعمل ما. ما حذفه الكاتب أو ما احتفظ به أو ما غيّر فيه. ولم يُعرف أن أحداً من الكتاب أنفسهم قد اعترض في الغرب على هذه العادة، كما لم يُعرف أن أحداً من ورثته قد اعترض على نشر هذا التراث بأكمله.

الاعتراض الوحيد الذي أعرفه جاء لا على عملية النشر بحدّ ذاتها للأعمال كلها، ولكن على الفهم أو التفسير الذي يعطى للأعمال الأساسية بناء على قراءة الأعمال الفرعية أو غير الكاملة. لكن هذا الاعتراض يبقى قابلاً للنقاش.

إن نشر أعمال الكاتب ووثائقه بعد رحيله عمل تاريخي وتوثيقي لا علاقة له بالأخلاق من قريب أو من بعيد. على أنه يجب النظر في الأمر إذا كان ثمة في ما سيتم نشره ما يمكن أن يسيء إلى بعض الأشخاص الذين لا يزالون أحياء. ومن هنا درجت دور النشر الغربية على التدرّج في نشر الأعمال الكاملة التي لا تصير كاملة فعلاً إلا بعد العثور على الوثائق الخاصة بالكاتب كلها وبعد تحقيقها وفحصها ومرور ما يكفي من الزمان حتى يتمّ نشرها. لم تشرع منشورات جاليمار مثلاً بنشر "الروايات الكاملة" (لا الأعمال الكاملة) لستندال في سلسلتها الشهيرة (لا بلياد) إلا قبل عشر سنوات على الرغم من مضيّ أكثر من قرن على وفاة الكاتب وعلى الرغم من سبْق نشرها لرواياته وصدور طبعات أخرى في أمكنة متعددة من أوربا لما سُمِّيَ بالأعمال الكاملة لهذا الكاتب. وإذا كانت قد اقتصرت على نشر الروايات الكاملة فلأنها لا تزال تعتقد أن دوْر الأعمال الكاملة لم يأت بعد، مادام ثمة أعمال لم تكشف حتى الآن.

إن الكاتب بوصفه كاتباً، شخصية عامة. أي أنّ من حق الجميع أن يعرفوا أو أن يتطلعوا إلى معرفة ما كتبه وما أبدعه وإلى الكيفية التي كتب أو أبدع بموجبها. لكنه في الوقت نفسه مواطن فرد له حياته الخاصة وحميميته، وهو الذي يملكها، ولا يمكن لأسراره أو لجوانب حياته الخاصة أن تسقط بالتقادم إلا بعد أن تصير ملكاً للتاريخ، أي ما يعتبره التقليد في الغرب، بعد مرور خمسين عاماً على الأقل من وفاته.


                                                                          بدرالدين عرودكي
نشرت في صحيفة "أخبار الأدب" ـ القاهرة 2009

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire