سينما بلا نقاد
أم نقاد بلا سينما؟
حول واقع
السينما السورية إنتاجًا ونقدًا*
بدرالدين
عرودكي
لا أدري مدى صلاحيتي اليوم للمشاركة
في هذا التحقيق الذي بدأه علي سفر منذ أكثر من عشرين عامًا حول السينما والنقاد في
سورية. وربما كانت السنوات القليلة التي عشتها في قلب الحياة السينمائية السورية،
أولًا انطلاقًا من عملي في الصحافة كمحرر فني وأدبي في مجلة الطليعة الأسبوعية ثم
في المؤسسة العامة للسينما حين كانت في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، بفضل
مديرها الاستثنائي حميد مرعي، مكانَ إنتاج سينمائي خصب وواعد مثلما كانت أيضًا وفي
الوقت نفسه موئل آمال واسعة لجيل جديد من السينمائيين السوريين؛ وثانيًا بفضل متابعتي
التي كانت يومية للإنتاج السينمائي العربي والعالمي طوال إشرافي على إحياء نادي
دمشق السينمائي الذي كان نجيب حدّاد مؤسسه وعلى تنظيم فعالياته من جديد من خلال
عروض سينمائية أسبوعية كانت تقدم مساء كل يوم أربعاء في سينما الكندي ويجري الإعلان
عنها وتقديمها قبل يوم ضمن برنامج ثقافي كان يعدّه ويخرجه الفنان علاء الدين كوكش
ويُبَثُّ على التلفزيون السوري مساء الثلاثاء. وكان يتلو عرضَ الفيلم نقاشٌ يشارك
فيه سينمائيون ونقاد وأحيانًا المخرجون أنفسهم كما كان يحدث بين الحين والآخر، وكما
جرى مثلًا خلال الأسبوع الذي نظم لأفلام السينمائي الإيطالي بييرو باولو بازوليني
بحضوره أو للسينمائي البولوني أندريه فاجدا بمناسبة الأسبوع الذي خصص لأفلامه بحضوره
أيضًا.
من الواضح أنني أضع حدودًا زمنية
(1969 ــ 1972) لما يمكن أن أتحدث عنه بوصفي شاهدًا ومشاركًا خلال سنوات عدّة شهدت
على سبيل المثال إنتاج أفلام تسجيلية قصيرة استثنائية وبحرفيّة عالية مثل فيلم
"سد الفرات" لعمر أميرالاي أو فيلم "النابالم" لنبيل المالح، سواء على صعيد ابتكار لغة سينمائية تتلاءم
وموضوع الفيلم أو على صعيد طرح المشكلات الاجتماعية الحادّة التي عرفها المجتمع
السوري في تلك الآونة في الإنتاج السينمائي السوري خلال تلك المرحلة، منها الفيلم
التسجيلي الطويل "الحياة اليومية في قرية سورية" الذي أخرجه عمر
أميرالاي وتعاون في كتابته مع سعد الله ونوس، والذي صدر قرار بمنع عرضه بعد أن رآه
أعضاء لجنة رقابة أفلام المؤسسة العامة للسينما المختصة بإجازتها، والأفلام
الروائية مثل فيلم "الفهد" لنبيل المالح، وفيلم "المخدوعون"
لتوفيق صالح؛ بل وكذلك تنظيم أول مهرجان سينمائي عربي في عام 1972 حمل اسم
"مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب"[1]
والذي طرح خلاله السينمائيون السوريون يومئذ، في أثناء الندوات اليومية التي نظمت
على هامش المهرجان، ضرورة العمل على إنتاج سينما بديلة عن السينما السائدة في
العالم العربي؛ وهذا كلّه في الوقت الذي كان يعمل فيه مدير المؤسسة، حميد مرعي، على
ويسعى من أجل وضع الأسس المادية لصناعة سينمائية سورية متكاملة تبدأ ببناء مدينة
سينمائية على غرار تلك التي عرفتها روما منذ عام 1937 (Cinecittà)،
تضم مجموعة من ستوديوهات تستجيب لحاجات مختلف ضروب الإنتاج السينمائي، بدءًا
بالعمل من أجل تمويل هذا المشروع الضخم من ناحية والقيام بالاتصالات الخارجية الضرورية
من أجل البدء الدراسات الخاصة به.
خلال هذه السنوات القليلة المشار
إليها كانت هناك حركة نشيطة وواعدة في الإنتاج السينمائي المحلي الجاد، كما هو
واضح. إلا أنها أيضًا كانت سنوات عطش غير محدود للإنتاج السينمائي العالمي الذي كان
السوريون قد حرموا منه بفعل قوانين كانت قد صدرت آنئذ تمنع استيراد أي فيلم من
إنتاج أميركي أو أي فيلم غير أمريكي تقوم بتوزيعه عالميًا شركة أميركية. وهذا ما
يفسر الإقبال منقطع النظير على الانضمام إلى النادي السينمائي الذي بلغ عدد أعضائه
بعد أشهر عدة من بدء نشاطه الجديد عشرة آلاف عضو من أجل اكتساب الحق في مشاهدة الأفلام
التي كانت تُعرَضُ في النادي والتي كان يجري استئجارها من الموزعين في بيروت ونقلها
إلى دمشق بواسطة الحقيبة الدبلوماسية للبلد المنتج، بصرف النظر عن جنسية شركة
التوزيع، كما كان يجري غالبًا مع بعض الأفلام الفرنسية، وكما جرى مثلًا مع العديد
من الأفلام الإيطالية مثل فيلم لوكينو فيسكونتي الشهير "الموت في
فينيسيا".
رافق هذه الحركة النشيطة في مشروعات
الإنتاج السينمائي نشاطات ملحوظة في المتابعة الإعلامية عرضًا ونقدًا لما كانت
مؤسسة السينما تنتجه من أفلام من ناحية أو ما كانت تقوم مديرية الاستيراد فيها
باستيراده من أفلام أجنبية ويجري أيضًا عرضها في صالات الكندي التابعة لها، في
دمشق وسواها من المدن السورية، من ناحية أخرى. فقد خصصت جريدة "الثورة"
في تلك الفترة صفحة أسبوعية مخصصة للفنون وللسينما، مثلما اهتمت مجلة الطليعة
السورية الأسبوعية بتخصيص مقال أسبوعي حول السينما كان كاتب هذه السطور يتناول فيه
مختلف العروض السينمائية التي كانت تقدمها خصوصًا مؤسسة السينما، سواء لما تنتجه
من أفلام، وقد كان محدودًا، أو لما تعرضه من أفلام أجنبية.
ومع ذلك، ليس بالوسع الحديث عن حركة
نقد سينمائي بالمعنى الدقيق للكلمة. إذ لم يكن الإنتاج السينمائي السوري من الكثرة
بحيث يسمح بتطوّر المتابعات الإعلامية إلى حركة نقدية حقيقية كما كان الأمر في مصر
أو في الجزائر حيث كان الإنتاج السينمائية كمًّا وكيفًا يفرض ذلك أو يشجع عليه.
وأقصى ما يمكن القول في هذا المجال إن ما كان يكتبه الإعلاميون عمومًا حول الأفلام
لم يكن يتجاوز عرض قصة الفيلم وأداء الممثلين خصوصًا، مع تناول إجمالي لعمل المخرج
كان في معظم الأحوال يشي بفهم أقرب إلى السذاجة منه إلى الإدراك العميق لهذه
المهنة المعقدة.
وباستثناء أقلام قليلة جدّا معظمها
أقلام سينمائيين كانت تتناول الأعمال السينمائية بحرفية ودقة، كان معظم من يكتبون
يفتقرون إلى الحدّ الأدنى من الثقافة الأدبية أو السينمائية التي يمكن أن تسمح لهم
بتحليل الأفلام التي كانوا يكتبون عنها بما يمكن اعتباره لغة نقد سينمائي حِرَفي،
على غرار النقد الأدبي أو النقد المسرحي.
تلك مشكلة بدت لي منذ ذلك الحين أكثر
وضوحًا بفعل المقارنة بين ما كنت أقرؤه في مجال النقد السينمائي لكتاب فرنسيين، سواء
في المجلات السينمائية المختصة أو في الصفحات الثقافية التي كانت ــ ولا تزال حتى
اليوم ــ تحفل بها الصحف والمجلات الفرنسية التي كان قد أتيح لي متابعتها والتي كنت
أتابع في بعضها طوال سنوات ما كان يكتبه السينمائي عدد من رواد الموجة الجديدة في
السينما الفرنسية آنذاك، منهم مثلًا المخرجان فرنسوا تروفو وجان لوك غودار من
ناحية، ومقالات الروائي والناقد السينمائي الفرنسي جان لوي بوري في مجلة النوفيل
أوبزرفاتور من ناحية أخرى، أو ما كان يكتبه أو ما يصل إلي من مقالات الشاعر
والكاتب الفرنسي كلود ميشيل كلوني في نقد عدد من الأفلام السينمائية في ستينيات
القرن الماضي. كنتُ ألاحظ الفرق بين نوعين من النقد، أحدهما وليد ممارسة السينما
في واحد من مجالاتها الأساس، الإخراج، أو كتابة السيناريو، أو التصوير، أو المونتاج؛
وثانيهما وليد خبرة عميقة في الكتابة الأدبية، الرواية أو المسرح أو النقد الأدبي،
كانت تدعم حبًا للفن السينمائي يبلغ حد الهوس كالذي كانت كتابات جان لوي بوري تشي
به.
وقد وجدتني فيما يخصني، حين بدأت
الكتابة في مجلة الطليعة السورية عن الأفلام السينمائية التي كانت سينما الكندي
تعرضها في نهاية ستينيات القرن الماضي، أسيرُ على هدْي هذا الناقد الأخير في تناولها،
والتي كنت أعود لمشاهدتها مرات عدة للتركيز على مختلف جوانب الفيلم: المونتاج وتوليف
المشاهد، أو التمثيل والأداء، أو خصائص اللغة السينمائية التي استخدمها المخرج في فيلمه،
مثل زوايا التصوير، والإضاءة، والإيقاع، وتكوين المشاهد، والموسيقى .. وهي مفردات
كنت قد تعلمتها لا من قراءاتي اليومية يومئذ لمعظم ما يقع تحت يديَّ مما يمت
للسينما والأفلام السينمائية بصلة فحسب، بل وكذلك بفضل صداقة وصحبة مخرجين سوريين
وعرب مثل عمر أميرالاي ونبيل المالح وقيس الزبيدي وتوفيق صالح، الذين كانت
نقاشاتهم شبه اليومية لا تنتهي حول تفاصيل الأفلام التي كنا نراها، عربية كانت أم
أجنبية..
وخلاصة القول إنه مثلما كانت حركة
الإنتاج السينمائي الضعيفة كمًّا والهامّة كيفًا في تلك السنوات واعدة، كان
الكتابة عن السينما أيضًا على ضعفها واعدة هي الأخرى..
** كتب هذا النص استجابة لللاستقصاء الذي قام به الصديق علي سفر ونشره في كتابه "حبر الشاشات المطفأة" الذي صدر عن دار موزاييك للدراسات والنشر، اسطنبول، في عام 2022.
[1] يمكن الاطلاع على الملف التسجيلي لوقائع هذا
المهرجان الذي أقيم بدمشق بين 2 و 8 نيسان/أبريل 1972، الذي وضعته ونشرته في مجلة
المعرفة السورية ، العدد 131 الصادر في شهر كانون الثاني 1973.
.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire