lundi 6 décembre 2021

الثقافة في سورية، من الدمار إلى البناء




الثقافة في سورية

 من الدمار إلى البناء

1

محاولة في تشخيص الدمار الثقافي في سورية

(1963 ــ 2010)

 

 


 د. بدر الدين عرودكي

 

 

المحتويات


الملخص التنفيذي...........................................................................

توطئة..........................................................................................

مدخل.........................................................................................

1) تشخيص الدمار الثقافي في سورية (1963 ــ 2010)...........................

أ) المرحلة "البعثية 1963 ـ 1970..........................................

ب) المرحلة الأسدية الأولى 1970 ـ 2000................................

1.                 مفهوم السياسة الثقافية الأسدية................................................

2.                 المفهوم في الممارسة............................................................

 ـــ وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية.......................................

 ـــ تجليات الرقابة وممارساتها...............................................

 ـــ ثمن عدم الامتثال...........................................................

 ـــ محرمات البحث الفكري والاجتماعي وهوامش الحرية فيهما......

أ‌.         الترجمة والنشر في ميدان العلوم الإنسانية...................

ب‌.    في مجال العلوم الاجتماعية: الاقتصاد..........................

 ج. في مجال العلوم الاجتماعية: البحث الاجتماعي...............

ج) المرحلة الأسدية الثانية 2000 ـ 2011...............................

3.                 الآمال القتيلة....................................................................

4.                 المثقف الامتثالي.................................................................

المراجع.....................................................................................

ملحق: شهادات حول الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا...........

مقدمة: هذه الشهادات، بدرالدين عرودكي

أحمد برقاوي ــ أحمد اليوسف ــ حسام الدين درويش ــ حميد مرعي ــ خلدون الشمعة ـ جمال سليمان ــ راشد عيسى ــ زياد عدوان ــ عاصم الباشا ــ علي فرزات ــ علي سفر ــ سلام كواكبي ــ طلال المصطفى ــ مأمون البني ــ محمد الخطيب ــ موفق قات ــ مي سعيفان ــ وائل سواح ــ واحة الراهب


 

 الملخص التنفيذي

يحاول هذا البحث، وهو يستعيد وضع الثقافة والعمل الثقافي في سورية خلال ما يقارب خمسين عامًا (1963 ـ 2011)، تشخيص عناصر الدمار الثقافي في سورية، عبر الكشف عن أسس السياسة الثقافية غير المكتوبة التي اعتمدتها السلطة البعثية والأسدية، على صعيد المؤسسات الرسمية المعتمدة للإشراف على الفعل الثقافي، وكان من نتائج تطبيقها ما شهدناه ولا نزال نشهده من دمار، على صعيديْ الاحتواء الناعم والاحتواء القمعي، من ناحية، والكيفية التي كان الفاعلون الثقافيون في مختلف قطاعات ومجالات الثقافة يتفاعلون مع هذه السياسة سلبًا أو مقاومة أو امتثالًا.

يتناول مدخل البحث مفهوم الثقافة وتجلياته لغةً وتطبيقًا، لينتقل إلى تحديد الفضاء الذي يغطيه المفهوم في هذا البحث (كل فعالية تسهم في التوعية الفكرية أو في تكوين رأي عام إزاء مختلف القضايا الاجتماعية والتربوية والسياسية)، كي يفتتح ببدايات اهتمام الدولة بالموضوع الثقافي حين أنشئت، خلال الوحدة السورية المصرية، وزارة الثقافة والإرشاد القومي في كلٍّ من مصر وسورية، التي كانت تعلن ولادة إشكالية العلاقة بين السياسة والثقافة في سورية بوجه خاص، ولا سيّما حين أدرك النظام الذي سيطر عليه العسكر إثر انقلاب آذار 1963، تدريجيًا، خطورة الدور الذي يمكن أن يقوم به الفاعلون الثقافيون في مختلف الميادين على مشروعهم، ومن ثمَّ أهمية هذه الوزارة، التي كانت شبه مهملة طوال سنوات الوحدة والانفصال، في ضبط وتأطير هذا الدور.

كانت هناك، خلال المرحلتين البعثيتين الأولى والثانية، هوامش حرية نسبية، نظرًا لانشغال نواة الانقلابيين العسكرية الرئيسة بتثبيت سلطتها عبر صراع مع شركائها من البعثيين والناصريين أولًا، ثم الصراع فيما بين البعثيين أنفسهم الذي انتهى بانقلاب 23 شباط/ فبراير 1966 الذي أقصى مؤسسي البعث، وأبقى على اللجنة العسكرية، نواة انقلاب آذار. وربما لهذا السبب لم تعرف وزارة الثقافة خلال هذه الفترة وزيرًا يحمل مشروعًا ثقافيًا، على غرار وزير الثقافة المصري. ومع ذلك، فقد كانت هذه المرحلة في آن واحد بداية تعبير "خجول" عن طموح القيادة البعثية في مجال الثقافة، تجلّى في إنشاء مؤسسات ثقافية، كالمؤسسة العامة للسينما، أو اتحاد الكتاب العرب، وفي الوقت نفسه بداية التمييز الطائفي أو المناطقي على صعيد اختيار العاملين في الفضاء الثقافي، في الإعلام أو في مختلف ميادين الإنتاج الثقافية من مؤسسات عامة أو خاصة.

على أن مفهومًا آخر للسياسة الثقافية سيرى النور بالتدريج بفعل انقلاب عام 1970 الذي سيكرّس الانتقال من العهد البعثي إلى العهد الأسدي. فهوامش التعبير الثقافي التي كانت متاحة ستضيق ثم ستختفي شيئًا فشيئًا، وكذلك الجمعيات الأهلية. أما الشعار الذي سيمثّل المرحلة الجديدة، فقد تمثّل في قول لرئيس النظام جرى إعلانه في شوارع العاصمة خصوصًا: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير"، الضمير الذي سيتكشف مع الأيام مجسَّدًا في المؤسسات الأمنية رادعًا قمعيًا، في الوقت الذي ستقوم وزارة الثقافة بدور الاحتواء الناعم.

يتناول البحث على إثر ذلك عناصر هذا المفهوم الثلاثة كما تجلت، سواء في ممارسات المسؤولين الثقافيين في وزارة الثقافة والمؤسسات المرتبطة بها، أو في تلك التي اعتمدتها المؤسسات الأمنية التي نشرت عناصرها في مختلف ميادين الفعل الثقافي: المُحَرَّم: الرئيس شخصًا ومؤسسة؛ المسموح أو المُباح: كنقد طريقة تنفيذ قرارات الحكومة (لا قراراتها بالذات) وممارسات موظفي وزاراتها؛ المجالات التي يمكن أن تسمح الرئاسة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمقاربتها في المجال الثقافي والتعليمي. يشير البحث خلال التحليل أو العرض إلى ازدواج المعايير في النشر في الصحف الرسمية، أو إلى ما عرف بـ "أدب التنفيس" لا عبر المسرح فحسب، بل كذلك في المجالين الديني (تسهيل عمل رجال الدين تحت الرقابة) والعلماني (باستثمار الكتاب اليساريين الذين لم تكن الحرية الفردية أو الديمقراطية بالضرورة ضمن أولوياتهم)، وذلك اعتمادًا على قاعدة جوهرية في الممارسة السياسية عمومًا، ومنها السياسة الثقافية، تتمثل في الفصل بين المبنى والمعنى، أي الممارسة الديمقراطية شكلًا، وتفريغها من محتواها ومعانيها ومقتضياتها تطبيقًا.

ينتقل البحث من ثمَّ إلى استعراض تجليات الرقابة وممارساتها المتباينة في مختلف مجالات الفعاليات الفنية (كالأعمال السينمائية والمسرحية والمسلسلات التلفزيونية والفنون التشكيلية)، وكذلك النشاطات الفكرية والبحثية في ميادين الفكر السياسي والفلسفي والاقتصاد والاجتماع، ولا سيّما عبر النشاطات الجماهيرية التي كانت السلطات تسمح بالقيام بها تحت الرقابة الرصينة التي يقوم بها ممثلها في الجامعة، كالأسبوع الثقافي الفلسفي، أو في الجمعية كتلك التي كانت تقوم بها جمعية العلوم الاقتصادية عبر محاضراتها العامة، وكذلك في ما عُرف بـ "ندوة الثلاثاء الاقتصادي"، بحيث يحول دون أي تجاوز للسقف الموضوع سلفًا لهذه الفعالية أو تلك، وهو سقف يختلف لدى وزارة الثقافة أو الجامعة عن ذلك الذي يُعتمد في نشاط جمعيات أو دور نشر خاصة. هكذا يستعرض البحث تحليلًا وتوصيفًا محرمات البحث الفكري والاجتماعي، وهوامش الحرية في الترجمة والنشر في ميدان العلوم الإنسانية، والحدود المقبولة في أي مشروع يمكن لوزارة الثقافة المكلفة بالاحتواء أن تقبله كليًا، أو أن تتقاسم مسؤوليته بصورة غير رسمية في حدود إمكاناتها -وضمن حدود سياسية مرسومة أيضًا- مع مؤسسات خاصة كدور النشر، كما حدث في مشروع "قضايا وحوارات النهضة العربية" أو مشروع الكتاب الدوري الذي حمل عنوان "قضايا وشهادات"؛ ويبين في سياق ذلك كله هدف النظام السياسي من وراء ما يبديه من تساهل في هذا المجال أو ذاك، وهو تسويق "انفتاحه" و"ديمقراطيته". وكان المثل الأهم بين الأمثلة التي قدّمها البحث هو وضع الدراسات والبحوث الاجتماعية تدريسًا وإنتاجًا، والهيمنة القمعية على موضوعاتها في مجال النشر الرسمي كما في مجال النشر الخاص، التي طالت خصوصًا ميدان التعليم الجامعي في ميدان العلوم الإنسانية والاجتماعية، بدءًا من تعيين الأساتذة وتفضيل الموالين على المختصين، وانتهاء بسوء إعداد الطلبة، حيث جرى العمل حثيثًا للحيلولة دون استخدام مناهج علم الاجتماع الراهنة في تناول أو تحليل المشكلات الاجتماعية الراهنة في سورية، الذي يمكن أن يؤدي إلى تعرية ممارسات السلطة وزيف إنجازاتها "الإعلامية" أو الخلّبية، ومن ثمّ إلى تهديد وجودها نفسه. ولم تكن السلطات الثلاث التي أنشأت مكاتبها لأول مرة في تاريخ الجامعة السورية إلا من أجل مراقبة الأساتذة والطلبة معًا، ولا سيّما الذين يتابعون الدراسة في كلية الآداب بفروعها المختلفة: سلطة المخابرات، وسلطة الحزب، واتحاد الطلبة الذي تهيمن عليه السلطتان السابقتان.

ثم يتناول البحث دراسة وضع الثقافة والمؤسسات الثقافية خلال المرحلة الأسدية الثانية بعد انتقال سلطة الحكم بالوراثة، وخلال السنوات العشر التي سبقت انطلاق انتفاضة السوريين، والتي بدأت بتفجير جدران الخوف ونشر بيان وقّعه تسعة وتسعون مثقفًا يدعو إلى إلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن معتقلي الرأي والضمير لأسباب سياسية، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القيود والرقابة، وهو البيان الذي كان يعلن ربيع دمشق الذي جسَّدته حرية التعبير التي سادت في نشاطات المنتديات السياسية الخاصة التي سرعان ما عمدت السلطة الأمنية إلى التضييق عليها، وصولًا إلى إغلاقها نهائيًا بعد أشهر من انطلاقها في آذار/مارس 2001، واعتقال العديد ممن شاركوا في نشاطاتها. وهو ما كان يدشن مرحلة أخرى من التدمير لا تختلف عن سابقتها، كان جيل جديد من الفاعلين الثقافيين يبدأ التعرف على شروطها في الاحتواء أو في القمع، وذلك سواء في ميدان المؤسسات الثقافية الجديدة في مجال النشاط الكتابي أو في مختلف ميادين فنون المسرح والموسيقى والرقص والإخراج.

ويختتم هذا القسم الأول من البحث بتقديم نموذجي المثقف اللذين برزا في سورية خلال العهدين البعثي والأسدي: المثقف العضوي الذي سجّل حضوره بقوة في المشهد الثقافي السوري ولا سيّما في عام 1979 وربيع دمشق في النصف الثاني من عام 2000؛ والمثقف الامتثالي الذي احتل مع ذلك بوجوهه المختلفة المكانة الأولى في هذا المشهد طوال خمسين عامًا.

توطئة

أمام مشاهد الدمار المادي التي تقدمها اليوم مدن سورية وقراها وحقولها، وما أدى إليه من إرغام أكثر من نصف سكانها على النزوح داخل سورية أو الهجرة إلى جهات الأرض الأربع، يبدو الحديث عن الثقافة ضربًا من الترف المجاني، ولا سيّما أن خمسين عامًا من تغييب السياسة، خصوصًا بمعناها الديمقراطي الحديث، في المجتمع السوري، أدَّت لا إلى تزييف مفاهيم كانت قد أخذت بالرسوخ والانتشار فيه فحسب، بل إلى تشويه معانيها كليًّا إن لم يكن إلى تغييبها هي الأخرى من مختلف فضاءات الحياة اليومية. إذ اكتسبت مفاهيم كالديمقراطية والحرية والفردية والجماعة والإبداع والنقد، تحت وطأة هيمنة الاستبداد، أو أُكسِبَت بفعله المباشر، معانٍ أخرى، طغت أو قضت على معانيها الأولى إما تشويهًا وإما تغييبًا. ولم تنجُ الثقافة -بوصفها تجسيدًا للإبداع في مجال الفنون والآداب والعلوم الإنسانية والاجتماعية في تجلياتها المختلفة: أدوات ومؤسسات ومنجزات، ترسم سمات وجه المجتمع والبلد الذي تعكسهما تضاريسه ومكوناته- من الآثار التي تراكمت خلال العقود الخمسة السابقة على انتفاضة السوريين في منتصف آذار/ مارس 2011.

لذلك، وضمن إطار برنامج خاص وضعه مركز حرمون يستهدف إنجاز أبحاث ودراسات تتناول إعادة البناء في سورية، كان من الطبيعي، إن لم يكن البدَهي، أن يولى المجال الثقافي اهتمامًا موازيًا إن لم يكن أولويًّا. إذ ما دام الهدف الأقصى والجوهري هو الوصول إلى مجتمع المساواة والحرية والمواطنة المتساوية في سورية الجديدة المأمولة، فلا بدّ من تشخيص مفهوم الثقافة ومؤسساتها الذي اعتمده النظام البعثي/ الأسدي في سورية خلال خمسة عقود فهمًا وممارسة، وتحديد عناصر ما نصفه بـ "الدمار" الثقافي المتواصل الذي طال الثقافة ومؤسساتها، من أجل الانتقال إلى إعادة البناء الثقافي انطلاقًا من مفهوم الثقافة الذي يعتبر أحد أهم ميادين الممارسة الفعلية للحرية والديمقراطية في المجتمعات المدنية.

ذلك يتطلب بداية تحديد إطار الفضاء الثقافي الذي أصابه الدمار في سورية خلال نصف القرن الماضي، بما يسمح بتحديد عناصر الدمار ونتائجه على الحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية، للانتقال إلى دراسة المعوقات والمصاعب التي يمكن أن يواجهها أي مشروع لإعادة البناء الثقافي في سورية القادمة.

من الواضح أن غياب الكتابات المباشرة التي تتناول الوضع الثقافي في سورية تحت هيمنة البعث ثم العائلة الأسدية خلال العقود الخمسة الماضية، باستثناء إشارات عابرة في عدد من الدراسات والأبحاث مخصصة لموضوعات تتناول مختلف جوانب الوضع السوري سياسيًا أو اجتماعيًا، هو ما دفع إلى الاعتماد على التجربة والممارسة الشخصية والعملية لكاتب هذه السطور في سورية بين عاميْ 1962 و1972 (في الجامعة، وفي الصحافة الثقافية، وفي المؤسسة العامة للسينما، وفي النادي السينمائي،) ثم انطلاقًا من فرنسا، في معهد العالم العربي بباريس بين عاميْ 1983 و2012 انطلاقًا من باريس (وخصوصًا عند تنظيم معرض كبير بباريس عن تاريخ سورية في معهد العالم العربي "سورية، ذاكرة وحضارة" خلال عاميْ 1993 و1994، إلخ.). لكن التجربة الشخصية، على أهميتها، تبقى قاصرة عن الإحاطة بمختلف جوانب موضوع الدراسة. ولذلك، كان لا بدّ من الاعتماد على رؤية عدد من العاملين الفاعلين في مختلف ميادين الثقافة المعنية في سورية خلال العهدين البعثي والأسدي عبر الشهادات التي طلب كاتب هذه الدراسة إليهم تقديمها (وهم من الجامعيين والكتّاب والمفكرين والسينمائيين والممثلين والمخرجين المسرحيين والسينمائيين والفنانين التشكيليين، إضافة إلى مديري المؤسسات الثقافية) حول وضع الثقافة والعمل الثقافي كما عاشوه وخَبِروه انطلاقًا من تجربتهم الشخصية ورؤيتهم، جوابًا على أسئلة محددة وُجِّهَت إليهم فرديًا، لإغناء هذه الدراسة بشهادات معيشة في مختلف قطاعات الفضاء الثقافي. كان ذلك هو الطريق شبه الوحيد لجمع عناصر المادة الأساس التي اعتمدها البحث في التحليل والتوصيف وتقديم الأمثلة في هذا القسم الأول من هذه الدراسة. أما بالنسبة إلى القسم الثاني الذي يجري حاليًا إعداده تمهيدًا لنشره في وقت لاحق، فسوف يتضمن فصليْن: الأول منهما يتناول السنوات التالية على انتفاضة الشعب السوري (آذار 2011)، وسيستعرض عرضًا وتحليلًا مختلف التحولات الرئيسة التي طرأت على الثقافة إبداعًا وممارسة وإدارة وإنتاجًا، في مختلف المناطق، سواء الواقع منها تحت سلطات الأمر الواقع شرقًا وغربًا، أو في تلك التي بقيت واقعة تحت هيمنة النظام الأسدي وحلفائه الإيرانيين والروس، أو تلك التي استعادها تدريجيًا بمساعدة حليفيْه المذكوريْن؛ في حين سيتناول الفصل الثاني سمات الوضع الثقافي المأمول في سورية الجديدة، انطلاقًا من هذا التشخيص، بدءًا بمقاربة واستعراض التحديات والمعوقات التي ستواجه محاولات إعادة البناء الثقافي السوري، عبر استشراف إمكانات هذا البناء مفهومًا وفضاء ومؤسسات وفاعلين، ومن خلال انعطافات سريعة تستهدف المقارنة مع الوضع الثقافي في مجتمعات أخرى، عربية أو أجنبية، تمهيدًا لاستخلاص أسس وعناصر البناء الثقافي المنشود في مجتمع سورية الجديدة ضمن إطار دولة ديمقراطية تسودها الحرية المسؤولة والمواطنة المتساوية.


مدخل

مفهوم "الثقافة" نفسه حديث الاستخدام نسبيًا في لغتنا العربية، ولا سيّما أنه كان بقلم أوائل من استخدموه في العالم العربي، وأولهم سلامة موسى، ترجمة للكلمة الفرنسية/ الأوروبية (culture)، مع اعتماد معانيها المتعددة أيضًا في مختلف ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية أيضًا. على أن السجال حول صلاحية هذه الكلمة لتغطية مختلف الدلالات التي تستخدم بمناسبتها أو بصددها ما زال شديدًا، ولم ينقطع في مختلف اللغات الأوروبية، على الأقل حتى اليوم، شأن كلمة الثقافة التي بقيت في اللغة العربية تتبنى دلالات الأصل الأوروبي عمومًا، وتشير إليها بحيث بقيت مجالات "ثقافية" أخرى، كالعلوم الدينية أو الفقهية على سبيل المثال، مستقلة وخارج إطار استخدام المفهوم كليًا كما يقول جاك بيرك في محاضرة له[1]، وإن كان البعض كان يدمج مجالات كالتربية أو العلوم ضمن مفهومها كما فعل على سبيل المثال طه حسين، حين وضع لكتابه عن التربية والتعليم عنوان: "مستقبل الثقافة في مصر"، الصادر عام 1938، أي قبل تأسيس المنظمة الدولية (اليونسكو) في عام 1945، التي ميزت -باعتماد دولي هذه المرة- بين المجالات الثلاثة التي تعنى بها: "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة".

ومع ذلك، فإن كلمة (culture) الفرنسية التي ترجمت إلى العربية بكلمة (ثقافة) بقيت في أوروبا عصية على تعريف جامع مانع يمكن له أن يتجاوز ويغطي ما لا يقل عن مئة وخمسين تعريفًا سبق أن توازع وضعَها علماء الإناسة أو الاجتماع أو السياسة أو الفلاسفة. لذلك، ونظرًا للفضاء الواسع الذي يمكن أن يغطيه مفهوم الثقافة في اللغات الأوروبية، مثلما هو الأمر بالضرورة في اللغة العربية، وتلافيًا لسوء الفهم أو الالتباس، فإنَّ تحديد إطار هذه الدراسة على نحو دقيق يفرض نفسه.

 ما المقصود من كلمة "الثقافة" الموضوعة في عنوان هذه الدراسة، واستخدامها موضوعًا للدمار أو للبناء؟ وما الذي تعنيه تعبيرات مثل "المجال الثقافي" أو "المؤسسات الثقافية" أو "الإنتاج الثقافي" التي سيجري الحديث عنها في الصفحات التالية؟

يفرض الإطار الأعم لهذه الدراسة التي تندرج ضمنه، أي إعادة الإعمار، أن يقتصر الفضاء الثقافي المستهدف منها على كل ما يمكن للسلطة السياسية أن تؤثر فيه، إما بالقوانين التي تسنها أو بأي وسيلة أخرى يسعها أن تؤثر على طبيعة أو على ممارسة العمل "الثقافي" من خلال محاولاتها فرض قواعد تقولب مختلف المنتجات في المجال "الثقافي" الذي تعتمده فضاءً بما يخدم سياساتها وأهدافها. أي، بعبارة أخرى، الثقافة والمجال الثقافي في علاقتهما الوثيقة بالمجال السياسي، وهي العلاقة التي تتجلى في كل فعالية تسهم في التوعية الفكرية أو في تكوين رأي عام إزاء مختلف القضايا الاجتماعية والتربوية والسياسية (بالمعنى اليوناني للكلمة: تنظيم شؤون المجتمع وإدارته). ذلك هو إطار الفضاء الثقافي المستهدف بهذه الدراسة، والذي يمكن أن تندرج ضمنه الفعاليات "الثقافية" التالية: 1) كل ما يرتبط بالإنتاج الفكري والأدبي والفني كتابة أو إنتاجًا سمعيًّا بصريًّا؛ 2) المؤسسات الثقافية المعنية بهذا الإنتاج: وزارة الثقافة، والمؤسسات التابعة لها: مثل مؤسسة السينما، المسرح القومي، المراكز الثقافية، المكتبة الوطنية؛ معاهد التعليم الثقافية: المعهد الموسيقي، المعهد العالي للفنون المسرحية؛ المؤسسات الثقافية "الخاصة": اتحاد الكتاب العرب؛ دور النشر العامة والخاصة؛ وسائل الإعلام الثقافية: البرامج الثقافية في الإذاعة والتلفزيون، المجلات الثقافية، الصفحات الثقافية في المجلات أو الصحف.

يفرض هذا التحديد أيضًا دراسة واقع هذا الفضاء المشار إليه خلال السنوات الخمسين الماضية في سورية. إذ لم تنج فعالية أو مؤسسة أو جمعية في هذا المجال الثقافي السوري من ممارسات الاحتواء أو التدوير أو الرقابة الصارمة وصولًا إلى الإعدام. ومن ثمَّ، كان لا بد للنظام البعثي أولًا والأسدي خصوصًا، وهو يحث الخطى على طريق تفريغ المجتمع السوري من السياسة تمهيدًا لاحتكار ممارستها، من أن يأخذ بعين الاعتبار رديفها الأكبر: النشاط الثقافي في مجال الفكر والأدب والإبداع والتعبير الحر لغة وصورة وصوتًا، وأن يعمل على الهيمنة عليه بمختلف الطرق مع الاحتفاظ، كما فعل في مؤسسات الدولة الأخرى، بكل ما يشير إلى هذه الفعالية عن طريق مؤسسات لا وظيفة حقيقية لها سوى ما توحي بفعله، لا ما تفعله حقيقة.

ولاشك أن مردَّ ذلك كان خطورة الدور الذي يمكن أن يؤديه الفاعلون في هذا الفضاء الثقافي، على اختلاف ميادينه، في عرقلة بناء النظام الذي كان العسكر الذين سيطروا على مقاليد الحكم في سورية إثر الانقلاب الذي حققوه في آذار/مارس 1963 في طريقهم لوضع أسسه وبنائه، البناء الذي استطاعوا خلال العشرين سنة التالية على هذا التاريخ أن يضمنوا رسوخه واستقراره على الصورة التي أرادوها له منذ البداية: تفريغ السياسة، وإعادة تدوير الثقافة من أجل توظيفها عبر صوغ مضامين جديدة لها وتطويع الفاعلين في مجالاتها لصالح مشروع النظام الجديد.

تتطلع هذه الدراسة في قسمها الأول الحالي إذن إلى تشخيص هذه العلاقة التي قامت في الواقع السوري خلال الخمسين عامًا الماضية بين الفضاءين السياسي والثقافي، اعتبارًا من اللحظة التي هيمن فيها الأول على الفضاء السوري العام بدءًا من عام 1963، ثم، مع توجيه حثيث ومركَّزٍ وهادف، اعتبارًا من نهاية عام 1970، أي مع بدء الهيمنة الأسدية على مفاتيح سورية كلها، ومن ثم هيمنته على المجال الثقافي كما سبق تحديده. وسيقود تشخيص هذه العلاقة إلى بيان ما نطلق عليه عناصر الدمار الثقافي في مختلف الميادين، بتفصيل في توضيح الكيفية العلنية أو المضمرة التي جرى بها هذا التدمير تدريجيًا، والذي استمر مع عهد الوريث حتى انطلاق الثورة في عام 2011، التي عمل شبابها على التحرر من مختلف ضروب الشلل بتحريرهم الكلمة والصورة اللتين كانتا أول أهداف قمع النظام في محاولته قمع الثورة ثم تشويهها والعمل على تحويلها إلى حرب أهلية بمساعدة حليفه الإيراني وممثله الرئيس في لبنان، ثم بدعم روسي سياسي وعسكري، محليًا ودوليًا، وبتواطؤ أميركي واضح. حربٌ أهلية أدت إلى سيطرة مختلف الفصائل الإسلاموية المسلحة ومحاولات فرض هيمنتها على الكلمة والصورة معًا في الأمكنة التي سيطرت عليها.

 

تشخيص الدمار الثقافي في سورية (1963 ــ 2010)

ولدت إشكالية العلاقة بين السياسة والثقافة في سورية منذ تأسيس أول وزارة للثقافة فيها، حين أُضيف إلى مسؤوليتها عن الثقافة وظيفة أخرى إعلامية وتوجيهية: الإرشاد القومي، أي حين قررت السلطة السياسية ربط الثقافة بمؤسسات كانت قائمة فأعادت تحديد وظيفتها أو أخرى بدأت الدولة في إنشائها آنئذ كي تشرف على الثقافة في فضاءاتها المختلفة وتوجهها، وذلك اعتبارًا من عام 1958.

صحيح أن فرنسا كانت أول دولة أوروبية تنشئ وزارة للثقافة، في أوائل عهد جمهوريتها الخامسة التي أرسى أسسها ودستورها الجنرال شارل ديغول، وذلك في شهر شباط/ فبراير 1959، وعين وزيرًا لها أحد كبار روائييها ومثقفيها في القرن العشرين، أندريه مالرو، وهي وزارة اقتصرت مهمتها حصرًا على دعم النشاط الثقافي إنتاجًا ونشرًا في كل المجالات داخل فرنسا وخارجها، إلا أن مصر كانت هي التي بادرت في عام 1958 إلى إنشاء أول وزارة ثقافة في العالم العربي -وربما في العالم- لكنها، بخلاف فرنسا، ضمَّت إليها مهمات وزارة الإرشاد القومي التي كانت قد استحدثت مع أولى حكومات العهد الجمهوري في مصر عام 1952، فصار اسمها جامعًا المهمّتيْن معًا: وزارة الثقافة والإرشاد القومي. وعلى الرغم من أن إنشاء هذه الوزارة بمصر في عهد الوحدة السورية المصرية (1958ـ1961)، اقترن بإنشائها في الوقت نفسه وبالاسم نفسه في سورية أيضًا؛ فإنّ تعاقب خمسة وزراء على الوزارة في الإقليم السوري، حتى وقوع الانفصال، لم يسمح بوضع أية سياسة ثقافية خاصة بها، كما جرى في سميّتها المصرية. وحين سمي ثروت عكاشة وزير الثقافة المصري، الذي صار بفعل مشروعه الثقافي كبير وزراء الثقافة في العالم العربي[2]، وزيرًا للثقافة في الإقليم السوري في 16 آب/ أغسطس 1961، كان على وشك أن يباشر عملًا مماثلًا في سورية[3] لولا أن وقوع انقلاب الانفصال بعد شهر ونصف من تسميته حملهُ على العودة إلى مصر في 29 أيلول، ولن يكون حظ هذه الوزارة خلال الأشهر السبعة عشر التي دامها الانفصال بأفضل مما كان عليه خلال سنوات الوحدة التي رأت النور في بدايتها. فقد توالى على رأسها خمسة وزراء تراوحت مدة كل منهم بين شهر وستة أشهر. وكان تأسيس مجلة "المعرفة"، في آذار/مارس 1962، التي عهد برئاسة تحريرها إلى الكاتب والإعلامي فؤاد الشايب، هو الإنجاز الأهم خلال هذه الفترة.

 

أ. المرحلة البعثية 1963 ـ 1970

مع انقلاب آذار العسكري عام 1963، الذي سمح لحزب البعث أن يضع يده على مقاليد الحكم والسلطة في سورية، احتفظت وزارة الثقافة باسمها الذي حملته منذ إنشائها. ذلك أن الإرشاد القومي لم يكن يتنافى لا في مبادئه ولا في تطلعاته مع مفهوم الفكر البعثي الأساس الذي أوجزَ هدفه بشعار من كلمات ثلاث (وحدة، حرية، اشتراكية)، وكان يريد العمل على ترسيخه في عقول السوريين أولًا، وفي مقدمتهم الأجيال الصاعدة خصوصًا، وإن لم يجد بين أتباعه وأنصاره من مدنيين وعسكريين من استطاع لو أراد أن يجسِّد أيًّا منها على صعيد الواقع العملي. ولم يكن من قبيل الصدفة في الواقع أن أحد ألمع الأكاديميين الذين عرفتهم سورية في النصف الثاني من القرن الماضي، بديع الكسم، ألقى محاضرة عام 1963 في المنتدى الاجتماعي بدمشق حملت عنوان: "الحرية أساسًا". أي الحرية التي لا بدّ منها أولًا للسير على طريق الوحدة والاشتراكية. يبدو اليوم كما لو أن موضوع المحاضرة ومكان تقديمها على وجه الدقة كان تدشينًا لختام حقبة كان لا يزال ممكنًا خلالها لمؤسسة ثقافية خاصة كالمنتدى الاجتماعي أن تقوم بنشاطات ثقافية أو اجتماعية، دون أن تحتاج إلى إعلام المؤسسة الأمنية بله الحصول على موافقتها مسبقًا، مثلما كان ممكنًا لمفكر أو لكاتب أن يدلي برأيه الصريح في مسألة تمسُّ فكر أو مواقف حزب وصل إلى السلطة عن طريق انقلاب عسكري دون التعرض للمساءلة وظيفيًا أو أمنيًّا.

لم يكن ذلك تهاونًا من قبل السلطة البعثية أو سياسة مرسومة. ذلك أن السنوات التي انتهت بانقلاب جذري اتخذ لنفسه اسم "الحركة التصحيحية" كانت حافلة بصراعٍ، بين الشركاء في انقلاب آذار 1963، البعثيين والناصريين في الجيش أولًا، انتهى باستبعاد الأخيرين من الجيش، ثم بصراعٍ بين البعثيين أنفسهم، بين مؤسس البعث وجناحه من جهة، واللجنة العسكرية في الجيش من جهة أخرى، انتهى بانقلاب 23 شباط/فبراير 1966 الذي أقصى مؤسس البعث وأنصاره من الحزب ومن السلطة، وثبَّتَ ممثلي اللجنة العسكرية في السلطتين العسكرية والمدنية معًا، ثم وصولًا إلى عام 1970، حين انقلب أحد أعضاء اللجنة العسكرية، حافظ الأسد، على رفاقه الذين شاركهم حركة 23 شباط، فأودعهم السجن، وجعل من انقلابه أداة احتكار السلطة المطلقة، وصيرورته قائدًا فردًا لا شريك حقيقيًّا له في حكم سورية.

ذلك كله أدى إلى هوامش محدودة من الحرية في الفضاء الثقافي، لم يتوان العاملون في مختلف قطاعاته عن الاستفادة منه، وذلك في الوقت الذي كان يجري فيه إنشاء مؤسسات ثقافية جديدة مرتبطة بوزارة الثقافة والإرشاد القومي لكنها تتمتع باستقلال إداري، كالمؤسسة العامة للسينما التي أنشئت في عام 1963، أو غير مرتبطة بها كاتحاد الكتاب العرب الذي جرى تأسيسه بموجب مرسوم تشريعي صدر عن رئاسة مجلس الوزراء في الشهر الأول من عام 1969. أما ضمن وزارة الثقافة، فقد جرى وضع أسس مشروعات وزارة الثقافة -تلك التي وضعها ثروت عكاشة حين تولاها عام 1961 رغم قصر المدة- التي سيجري البدء بالتخطيط لتنفيذها تدريجيًا بعد عام 1963، ومنها على سبيل المثال المكتبة الوطنية التي ستحمل اسم مكتبة الأسد، أو دار الأوبرا التي ستحمل هي الأخرى اسم "دار الأسد للثقافة والفنون"، أو المراكز الثقافية في العديد من المدن السورية [4]. على أن وضع هذه المشروعات موضع التنفيذ لم يبدأ إلا بعد سنوات السبعينيات. أما خلال الفترة ما بين 1963 و1970، فقد أُنشئت دوائر ستكون فيما بعد بمثابة نواة هيئات مختصة، كمديرية التأليف والترجمة والنشر التي ستتحول عام 2006 إلى الهيئة العامة السورية للكتاب، أو مديرية الفنون التي أُلحق بها المسرح القومي عند تأسيسه في عام 1959.

لم تكن ثمة سياسة ثقافية معلنة بوضوح تعمل حكومة البعث على تطبيقها خارج إطار ما كان يكتبه وينشره مفكرو حزب البعث. كان الأمر موكولًا إلى المسؤول الأول في المؤسسة الثقافية، مديرًا أو نقيبًا أو رئيس تحرير، وغالبًا ما تجري تسميته بقرار من رئاسة الوزراء بعد الموافقة الأمنية عليه. وكان من الطبيعي والحالة هذه أن يجري اختيار المسؤولين الكبار من بين أعضاء الحزب الحاكم للسهر على تنفيذ سياسة غير معلنة لكنها تنسجم مع فكر ومواقف الحزب الحاكم الذي ينتمون إليه. من الطبيعي والحالة هذه ألا تكون أبواب الرأي والرأي الآخر مفتوحة إلا في إطار الفكر القومي أولًا ثم بعد توسيع هذا الإطار كي يشمل الفكر الماركسي بعد الانعطاف الذي حققه انقلاب 23 شباط/ فبراير 1966 نحو اليسار إثر إقصاء القادة المؤسسين للحزب. على هذا النحو استمرت الهوامش التي استفاد منها العاملون في مختلف قطاعات الفضاء الثقافي، سواء أكانوا على رأس المؤسسات الثقافية أم من الفاعلين الثقافيين، كتابًا أو فنانين والذين كانوا في غالبيتهم العظمى ممن ينتمون إلى اليسار أو ممن تأثروا بالفكر الماركسي. هكذا كان يمكن -على سبيل المثال- أن يجري الحديث عن "هزيمة" حزيران عام 1967 لا "نكسة" حزيران التي كانت التوصيف الرسمي يومئذ، كما فعل صادق العظم في كتابه (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، الذي لم تمنع الرقابة دخوله يومئذ، وإن كان قد طُبع في بيروت؛ بل نُشر في الصحف أو المجلات الرسمية كمجلة المعرفة[5]. لكن ذلك لم يكن يعني غياب الرقابة التي كان يمارسها الحزب نفسه على المطبوعات الناطقة باسمه، كجريدة البعث أو مجلة "الطليعة" الأسبوعية التي كانت تصدر عن مؤسسة دار البعث. لكنها تبقى رقابة هشة أو محدودة كما يمكن أن يبين ذلك حادثة عاشها كاتب هذه السطور عام 1969، خلال أول مهرجان للفنون المسرحية أقيم عام 1969 بدمشق[6]، فقد انصب القلق على الهوية الأيديولوجية لممثلة في مسرحية، كان الحديث عنها أو معها في الصحافة الرسمية يسيء إلى سمعة الحزب أو يثير الشكوك في مراميه من وراء ذلك. لم تكن المسرحية نفسها موضع النقد، بل انتماء ممثلة تؤدي فيها دورًا رئيسًا لأيديولوجية مغايرة أو مضادة لتوجهات الحزب الحاكم يومئذ. لكنّ هذا الحكم لم يكن يعبّر في حقيقة الأمر -كما بدا بعد ذلك- عن اتجاه سادة القرار في الحزب، أي اللجنة العسكرية، التي ما كان لأحد أعضائها، ومن سينقلب عليها في 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، حافظ الأسد، على وجه الدقة، ليوافق على رأي مالك الأمين المشار إليه لو علم به [7].

كانت أبرز دلائل غياب سياسة ثقافية واضحة خلال السنوات الثماني التي تلت انقلاب آذار/ مارس 1963 تتجلى في عمل المؤسسات الثقافية التي كانت بدأت بوصفها جزءًا من وزارة الثقافة، مثل مديرية التأليف والترجمة والنشر، أو معهد الموسيقا، أو مديرية المسارح، أو تلك التي أنشئت من بعد وربطت بها مثل المؤسسة العامة للسينما. ويكفي إلقاء نظرة على طبيعة منجزاتها خلال هذه السنوات، كي ندرك في آن واحد غياب هذه السياسة الذي استفاد منه أو استثمره بعض من قاموا على إدارة هذه الأقسام أو المؤسسات. لم تعرف وزارة الثقافة والإرشاد القومي وزيرًا طموحًا يحمل مشروعًا ثقافيًا واضحًا على غرار الوزير الذي عرفته مصر في الفترة ذاتها، ومن ثمَّ كان من الطبيعي -والحال هذه- أن يكون مَن اختار هؤلاء للقيام بمهام هذه الإدارات المختلفة هو قيادة حزب البعث التي أخذت على عاتقها متابعة القطاع الثقافي والإعلامي على الأقل حتى حركة 23 شباط 1966. ومن ثمَّ فقد كان أنطون المقدسي الذي أشرف على مديرية التأليف والترجمة معرفيًا وفكريًّا أستاذ من سعى لتكليفه بهذه المهمة في الوزارة، ولهذا السبب لم تكن المرجعية التي كان يستند إليها في عمله وفي خياراته محددة وظيفيًا بقدر ما كانت مرجعية عامة شارك هو نفسه في وضعها مع مؤسسي حزب البعث. على أن يده لم تكن مطلقة في وضع مشروع متكامل في النشر وفي الترجمة، على غرار المشروعات التي وضعت ونُفذت في مصر منذ تأسيس وزارة الثقافة فيها نظرًا لضعف الميزانية المخصصة لهذا القطاع من النشاط الثقافي الذي لم يكن من الممكن لنتاجه أن يسهم في التمويل الذاتي لفعاليات المديرية التي كان يشرف عليها من ناحية، وما كان بوسعه على كل حال أن ينتج في غياب مشروع متكامل ما يغطي قصور الميزانية مهما كانت مطامح أو تطلعات المسؤولين في هذا المجال.

لم يكن ذلك حال قطاعات ثقافية أخرى كالصفحات الثقافية في الجريدتين الرئيستين اللتين كانت إحداهما مرتبطة بوزارة الإعلام، جريدة الثورة، وثانيتهما مرتبطة بالقيادة القومية لحزب البعث، جريدة البعث. لن يكون مسموحًا يومئذٍ، لمن لم يكن منتميًا للحزب الحاكم أو لم يكن مصنفًا من أنصاره، العمل في الحقل الثقافي. يمثل مسار الناقد خلدون الشمعة مثالًا صارخًا على هذا الوضع خلال السنوات التي سبقت مغادرته سورية نهائيًا. فقد تكرر فصله من عمله مرات عدة من دون سبب كما حدث على إثر نجاحه في مسابقة فاز فيها على مائتي متسابق وتعيينه على إثر فوزه رئيسًا لقسم الدراسات في وزارة الخارجية. بل وجرى منعه من الكتابة في جريدة الثورة التي كان فيها مسؤولًا عن القسم الثقافي مع وصول مسؤول جديد عن الجريدة استهل فترته بأن طلب إليه بدلًا عن الكتابة الاقتصار على ترجمة مقالات الصحف الإنكليزية. لا بل إن الأمر وصل إلى منع كتاب قام بترجمته للكاتب الإنكليزي كولن ويلسون، أي كتابه "رجل بلا ظل" -وهو الكتاب الوحيد الذي حرم القارئ العربي من قراءته- من دون سبب سوى أن مترجمه -كما يرى خلدون الشمعة- كان دمشقي المولد والمنشأ والانتماء[8].

على أن المؤسسة العامة للسينما تقدم نموذجًا شديد الدلالة في آن واحد على طبيعة ومدى الاهتمام محض الشكلي بالقطاع الثقافي في مختلف المجالات، الذي أولته الحكومات البعثية المتوالية خلال هذه الفترة (1963ـ 1970) من جهة، وعلى الدور الذي اختص به مديرو المؤسسات الثقافية في غياب سياسة ثقافية رسمية محدّدة، من جهة أخرى. فالميزانية التي رصدت لهذه المؤسسة بقيت حتى عام 1968 كانت تقتصر على تغطية رواتب الموظفين فيها ومختلف الشؤون الإدارية. ومن ثمَّ فلم تستطع أن تنتج إلا فيلمًا واحدًا خلال ثماني سنوات قبل أن يُعّيّنَ على رأسها حميد مرعي الذي استطاع خلال فترة وجيزة أن ينجز وأن يجمع من حوله عددًا من السينمائيين والكتاب والفنانين سواء عن طريق تعيينهم في المؤسسة أو عن طريق تسميتهم في لجان استشارية لاختيار موضوعات الأفلام التي يتطلع مع فريق العمل في المؤسسة إلى إنتاجها. على أن القرار الرئيس الذي سيسمح له فتح باب الإنتاج السينمائي في المؤسسة الرسمية الحكومية ينافس به بل يتغلب على إنتاج القطاع الخاص يومئذ سار في اتجاهات ثلاثة: الأول حصر استيراد الأفلام العربية والأجنبية بالمؤسسة التي يديرها من جهة، وهو ما سيؤدي إلى تأمين موارد مالية ذاتية للمؤسسة يمكن تخصيص جزء مهم منها للإنتاج السينمائي من جهة ثانية، وفتح صالات سينمائية في العاصمة وفي مدن أخرى تديرها المؤسسة وتعرض فيها الأفلام المهمة التي تنتجها السينما العالمية ويقدم لمحبي السينما ما افتقدوه خلال سنوات، من جهة ثالثة. بذلك، أمكن للمؤسسة أن تغير خلال سنتين المشهد السينمائي في سورية على صعيد العروض السينمائية للجمهور السوري[9] التي باتت شديدة التنوع، والإنتاج السينمائي الذي بدأ يتيح اكتشاف مواهب سينمائية كانت مجهولة كليًا، أو تقديم مواهب جديدة وجدت مكانًا لها فور عودتها إثر تخرجها من معاهد السينما الأجنبية.

كان مدير المؤسسة العامة للسينما حميد مرعي قد بدأ -فور تعيينه- بتشخيص وضع السينما في سورية عروضًا وإنتاجًا محليًا، سواء على صعيد ما ينتجه القطاع الخاص من أفلام، أو على صعيد المؤسسة العامة للسينما في سورية التي كانت مخصصات الإنتاج السينمائي فيها شبه المعدومة، مقتصرة على الجرائد الرسمية[10]، وتحديد الدور الذي يمكن لها، وقد صار على رأسها أن تقوم به من أجل تغيير المشهد عمومًا من خلال تفعيل دور المؤسسة خصوصًا من جهة أخرى. إذ إنه كان واعيًا يومئذ أن السينما كانت "آخر اهتمامات [الدولة]، وتنظر إليها كمصدر تسلية فقط (...) مثل جميع أوجه الثقافة عمومًا". إلا أنه ما كان لينجز شيئًا في غياب سياسة ثقافية مدعومة اقتصاديًا لو لم يقرر أن يضع إمكاناته وتجربته في خدمة الهدف الذي حدّده لنفسه، وأن يفعل كل ما تتيحه له هذه الإمكانات، بما فيها استثمار علاقاته الشخصية مع مسؤولين حكوميين كبار بحكم وظيفته السابقة كأمين عام لمجلس الوزراء لتحقيق ما كان يراه ضروريًا لنجاح مشروعه، كحصر استيراد الأفلام الأجنبية بالمؤسسة خصوصًا، أو لاعتبار نفسه المسؤول الأول عن المؤسسة وعن تنفيذ مشاريعها من دون الخضوع إلى وزير الثقافة الذي كان يمكن له بصفته رئيس مجلس إدارة المؤسسة أن يضع العراقيل للحيلولة دونه ودون تنفيذ ما يريد. على أن السنوات الأولى من ممارسته مهمته في المؤسسة كانت تتيح له، بفعل الانسجام الذي كان سائدًا بين الوزير والمدير بين عامي 1968 و1970، أن يباشر تنفيذ الخطوات الأولى في مشروعه بحماس اعتمادًا على فريق عمل لا يقل حماسًا ورغبة في إنجاز ما أجمع عليه أعضاؤه يومئذ بانسجام نادر على أولويات العمل في مجال المشهد السينمائي السوري في قطاعاته المختلفة.

لكن انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 الذي أطلق عليه صاحبه اسم "الحركة التصحيحية" سوف يبدأ شيئًا فشيئًا بتغيير قواعد العمل والسلوك، وسيتمكن من تثبيت قواعد حكمه ما إن ضمن لنفسه البقاء قائدًا أوحد و"أبديًّا" كما روجت يومها مقولة "قائدنا إلى الأبد حافظ الأسد" التي كانت تؤكد حين رسمت على سفح جبل قاسيون المُطلِّ على دمشق، ما تعنيه بيانًا وتبيينًا.

 

ب. المرحلة الأسدية الأولى 1970 ـ 2000

 

مفهوم السياسة الثقافية الأسدية:

اعتبارًا من ذلك التاريخ، ستبدأ سياسة السيطرة الناعمة تدريجيًا على الفضاء الثقافي والاحتواء الصارم للعاملين فيه، ولن تكون وزارة الثقافة والإرشاد القومي إلا أداة من أدوات أخرى لتنفيذها. أما الهوامش التي كانت متاحة من قبل نظرًا لغياب أية سياسة ثقافية محدّدة فقد أخذت إما في التلاشي مع الشهور كليًا أو في خضوعها لإدارة محكمة تتيحها بهذا القدر أو ذاك حسب الظروف السياسية أو على كلّ حال إرادة "القائد المؤسس" الذي كان يحتكر شخصيًا توجيهها. فالحرية التي ظن عدد من الفنانين والكتاب أن بوسعهم استغلالها من خلال طرح عدد من المشكلات الاجتماعية الخطيرة في سورية سرعان ما أصيبوا منذ البداية بخيبة الأمل.

كان أول قرار افتتح به العهد الأسدي مفهومه للثقافة وممارستها قد صدر عن "وزارة الثقافة والإرشاد القومي" يمنع فيه عرض فيلم وثائقي طويل أنتجته المؤسسة العامة للسينما، وأخرجه عمر أميرالاي، وتعاون معه على كتابته سعد الله ونوس، وهو فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية". إذ نظر إليه المسؤولون في الوزارة يومئذ على أنه "شتيمة للدولة التي موّلته، وأنه لا يمكن السماح بمثل هذا الفيلم الذي مضى بعيدًا في النقد وفي الحديث عن سلبياتٍ أقرب إلى التأويل منها إلى التوثيق"[11] بعد عقد من حكم البعث. في تلك السنوات على وجه الدقة، أي بداية سبعينيات القرن الماضي، امتلأت شوارع دمشق خصوصًا بلافتات كتب عليها أحد أقوال "الرئيس القائد المؤسس" التي كانت تحمل دلالتها وبرهانها الذي لن يتأخر عن الكشف عن نفسه: "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير"[12]. والحق أن "الضمير" الذي يطوي في ثناياه معنى مسؤولية أخلاقية، سلبية كانت أو إيجابية، سرعان ما سيتكشف مجسَّدًا في الدوائر الأمنية المختلفة التي بلغ عددها في دمشق وحدها ستة عشر دائرة، وتوزعت فروعها في المدن السورية الرئيسة كلها للإشراف على "حرية الفكر والتفكير" في ممارساتها كلها.

كان ذلك يعني بوضوح أن مفهومًا للسياسة الثقافية التي غابت في السنوات السابقة على انقلاب تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 في طريقه إلى أن يكون من أولويات مهام النظام الأسدي في بداياته، كي تحدد مضامينه، وسقفه، ومحرماته، وهوامش الحرية المتاحة والرجراجة حسب الظروف السياسية وإرادة "القائد المؤسس". لم يكتب أحد حول هذا المفهوم، ولم يكن ثمة ما يمكن أن يدل عليه شكلًا ومضمونًا وممارسة على صعيد السلطة الحاكمة سوى الطريقة التي كانت تدار بها المؤسسات الثقافية الرسمية التي كانت موجودة قبل عام 1970 كالمؤسسة العامة للسينما واتحاد الكتاب العرب، أو تلك التي جرى إنشاؤها بعد ذلك التاريخ إما تطويرًا[13] لما كان يؤلف أقسامًا في وزارة الثقافة كمديرية التأليف والترجمة والنشر التي صارت الهيئة السورية العامة للكتاب، أو مديرية المسارح التي صارت المسرح القومي أو معهد الموسيقى الذي صار المعهد العالي للموسيقى أو تلك المؤسسات التي أنشئت لأول مرة في سورية كالمكتبة الوطنية (التي أطلق عليها اسم "مكتبة الأسد")، أو المعهد العالي للفنون المسرحية أو مدرسة الباليه، فضلًا على المراكز الثقافية التي كان عددها يزداد في مختلف مدن المحافظات السورية كلها.

المفهوم في الممارسة

صحيح أن المفهوم الجديد بدأ باعتماد المفهوم العام الذي كان سائدًا قبل عام 1970، والذي كان يؤطره الفكر القومي في تفسيره البعثي الأصولي، وبوجود تيار قومي يساري شديد التأثر بالفكر الماركسي مع بعض هوامش تحمل على ما ظنه البعض حريات إضافية في التعبير عن الرأي على مختلف الصعد الفنية والفكرية، إلا أن الحدود الجديدة سرعان ما برزت من خلال قرارات متعاقبة أدركت مراكز القرار في السلطة الجديدة ضرورتها لبدء الاحتواء الذي كان على المؤسسات الثقافية القائمة القيام به، حتى قبل تغيير المسؤولين الذين كانوا على رأسها قبل تشرين الثاني 1970، والذين بدأت الرسالة تصلهم عبر القرارات المتخذة ضدّ عدد مما كانوا يعتبرونه إنجازاتهم، مثل قرار منع فيلم "الحياة اليومية في قرية سورية" الذي كان يعرّي "المنجز" الاجتماعي الذي "حققه" حزب البعث خلال عشر سنوات على رأس السلطة، نظريًا وعمليًا من جهة، ويفكك وثائقيًا خطاب هذا المنجز على صعيد الواقع المرّ في واحدة من آلاف القرى السورية.

1.                    وزارة الثقافة والمؤسسات الثقافية

كان أول المكلفين بوضع هذا المفهوم موضع التنفيذ وزير الثقافة الجديد، الذي عُيّن في أول وزارة على إثر نجاح انقلاب 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970، وكان حافظ الأسد نفسه هو من شكّلها تحت رئاسته. بدأ الوزير الجديد بمؤسسة السينما، لا بمنع فيلم "الحياة اليومية" فحسب، بل بالعمل على زعزعة مدير المؤسسة الذي كان يعتبر أن سلطة الوزير لا تتعدى في نظام التأسيس سلطة رئيس مجلس إدارتها التي لا تتجاوز مجرد وضع الخطوط العامة لعملها ولمهامها سنويًا، وأنه كمدير لديه "الصلاحيات الكاملة" في إدارة المؤسسة التي كان يدعمه في استثمارها، كما يقول، كلّ "الأشخاص العاملين معي. فقد كانوا متحمسين جدًا وطموحين وأصحاب دافع ورغبة قوية لرفع مستوى هذه المؤسسة في بلد 90 % من شعبها لا يقرأ، بل يشاهدون الأفلام"[14]. سيدوم هذا الصراع عمليًا أربع سنوات[15] أمكن خلالها للمؤسسة أن تنجز عددًا من أهداف خطة مديرها: إنتاج أفلام ذات مستوى فني رفيع تعالج مشكلات المجتمع السوري خصوصًا وقضاياه السياسية والوطنية والعربية عمومًا كفيلم "الفهد" الذي أخرجه نبيل المالح، أو فيلم "المخدوعون" الذي أخرجه توفيق صالح؛ بل وكذلك تنظيم وإنجاز مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب[16] الذي جرى بين 2 و8 نيسان/ أبريل 1972. ولكن لن يتاح له تنظيم الدورة الثانية من هذا المهرجان، مثلما لن يتاح له أيضًا البدء في تنفيذ مشروعه الأكبر لصناعة سينمائية حقيقية ومحلية، والذي كان قد بدأ بالتمهيد له بالدراسات والاستشارات، من أجل بناء مدينة سينمائية كاملة التجهيز بالمعدات الضرورية لإنتاج الأفلام السينمائية على غرار المدينة السينمائية (Cinecittà) في روما. ذلك أن قرار تعيين بديلٍ عنه كان قد صدر في عام 1974 واضعًا المؤسسة تحت رقابة وزير الثقافة مباشرة، أي رقابة النظام الجديد.

على هذا النحو كانت الهوامش المتاحة قبل انقلاب "الحركة التصحيحية" تتلاشى بالتدريج، ابتداءً بالجمعيات الثقافية الخاصة كالمنتدى الاجتماعي الذي تأسس في بداية الستينيات من القرن الماضي وكان في نشاطه يقدم مثالًا للدور الذي كانت تؤديه جمعيات ثقافية مماثلة في الغالبية العظمى من مدن سورية على صعيد التنوير والتوعية. ففي المنتدى الاجتماعي بدمشق ألقى صادق العظم، عام 1963، أول محاضرة له حملت عنوان "مأساة إبليس"، وستؤلف من بعد فصلًا رئيسًا في كتابه القادم "نقد الفكر الديني"، مثلما ألقى بديع الكسم في السنة نفسها محاضرته الشهيرة أيضًا "الحرية أساسًا". وستدعو إدارة المنتدى نفسه ممثلي الفصائل الفلسطينية في عامي 1968 و1969 كي يتحدثوا عن المقاومة الفلسطينية التي برزت إنجازاتها في الميدان بعد حرب حزيران/ يونيو 1967 وهزيمة الجيوش العربية فيها. لكن الأمن السياسي كان بالمرصاد، إذ طلب إلى مدير المنتدى على إثر ذلك التوقف عن النشاطات الثقافية حتى إشعار آخر. على أن المنتدى، بعيد انقلاب "الحركة التصحيحية"، وخلال الفترة التي بدا فيها النظام الجديد وكأنه يعيد ما استلب من حرياته إلى المجتمع المدني السوري، والذي عبرت عنه اليافطات التي نشرها رجال الأعمال والتجار حاملة جملة "طلبنا من الله المدد فجاءنا حافظ الأسد"، عاد إلى نشاط اجتماعي كملتقى لأعضائه، وكمقرٍّ للنادي السينمائي بين عامي 1971 و1972، ثم استُخدم اعتبارًا من عام 1973 1973 كقاعة عرض لأفلام النادي السينمائي بدلًا من سينما الكندي، إلا أن نشاطه هذا لم يستمر أكثر من أشهر معدودات بعد أن رفضت الدوائر الأمنية إجازة العروض السينمائية والندوات المنظمة بمناسبتها فيه[17].

استمر الكشف التدريجي غير المباشر عن هذه السياسة الثقافية الجديدة حتى عام 1976، حين عزم حافظ الأسد على ربط وزارة الثقافة مباشرة به عبر اختياره نجاح العطار التي كانت موظفة إلى جانب أنطون المقدسي في مديرية التأليف والترجمة والنشر، وتعيينها على رأس الوزارة في حكومة عبد الرحمن خليفاوي الثانية عام 1976. وشأن عدد قليل من الوزراء الذين سيرافقون حافظ الأسد في طريقه لترسيخ سلطته، ستبقى العطار ثابتة في موقعها مع توالي تشكيل سبع حكومات حتى عام 2000، أي عام وفاة حافظ الأسد. كان قد اتضح منذ بداية تسميتها وزيرة، وطوال ربع القرن الذي شهد ممارستها لمهامها الوزارية، أن رئيسها المباشر ومرجعيتها الدائمة بصورة شبه يومية كان الرئيس نفسه. وهو الأمر الذي أتاح لها ضربًا من الاستقلال في قراراتها التي كانت تحظى مسبقًا بموافقة الرئيس، فاستطاعت بفعل ذلك أن تحول نسبيًا دون الهيمنة المطلقة التي كانت مختلف الدوائر الأمنية قد فرضتها على مختلف قطاعات الحياة الاقتصادية والاجتماعية، وكانت تسعى لفرضها على الفضاء الثقافي. سوى أن هذا الاستقلال "النسبي" الذي أراده حافظ الأسد بوضوح عبر دعمه المباشر لها لم يكن يشمل سوى وزارة الثقافة بمديرياتها جميعًا، وبما كان يرتبط بها أو ما سيُربط بها من مؤسسات[18]. أما القطاعات الأخرى، كاتحاد الكتاب العرب، أو الصفحات الثقافية في مختلف الصحف الرسمية، فقد كانت إما تحت رقابة وزارة الإعلام أو تحت رقابة الحزب، وستنتقل هذه الهيمنة تدريجيًا ولا سيّما مع بداية الثمانينيات في كلا الحالين إلى هيمنة مختلف الدوائر الأمنية في العاصمة وفروعها في المحافظات كلها.

هكذا، وبدءًا من سبعينيات القرن الماضي، قام محرك السياسة التي وضعها حافظ الأسد على تحقيق توازن دقيق يحفظ سلطته التي كان يعمل على ترسيخها واستمرارها والحيلولة قدر الإمكان دون توصيفها بالسلطة الديكتاتورية من ناحية، والوقوف في وجه مواجهة هذه السلطة في رموزها المادية والمعنوية بالنقد العلني أيًا كانت موجباته من ناحية أخرى. ومن الممكن إيجاز عناصر هذه السياسة غير المكتوبة التي تجلت في مختلف الممارسات وانطلاقًا من الجملة التي سبق ذكرها، والتي كان يرددها كما يبدو حافظ الأسد في سنوات حكمه الأولى على مسامع من يلتقيهم من المثقفين والكتاب، وجرى نشرها آنئذ على يافطات ملأت شوارع المدن السورية في مبادئ ثلاثة: الأول يخص المُحَرَّم: الرئيس شخصًا ومؤسسة، وكل ما يتعلق بهما قولًا وعملًا، وحزب البعث فكرًا وسياسة وممارسة، والحكومة في ما تتخذه من قرارات في مختلف اختصاصات وزاراتها؛ الثاني يخص المسموح أو المُباح: كنقد طريقة تنفيذ قرارات الحكومة (لا قراراتها بالذات) وممارسات موظفي وزاراتها في مجال إدارة الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والثقافية؛ والثالث يخص المجالات التي يمكن أن تسمح الرئاسة بصورة مباشرة أو غير مباشرة بمقاربتها في المجال الثقافي والتعليمي. وهي مبادئ تشكلت تدريجيًا تحت وطأة الضرورات التي كان يفرضها ترسيخ نظام الحكم الجديد وتوطيده، وبدا وكأنَّ وضعها موضع التنفيذ كان مناطًا بسلطة "لا تملك البشر والحجر باسم حق القوة بدلًا من قوة الحق، بل تملك فضلًا عن ذلك السلطة والمعارضة معًا". كما كتب خلدون الشمعة[19]. السلطة التي كانت في مظاهرها المباشرة تتمثل على صعيد المؤسسات الرسمية المعنية مثل وزارة الثقافة واتحاد الكتاب العرب، أو على مستوى ظواهرها غير المباشرة أو الخلفية، ممثلة في المؤسسة الأمنية التي بات جزءٌ من مهام دوائرها الرئيسة مراقبة الفاعلين الثقافيين أشخاصًا معنويين وماديين أو إنتاجهم في مختلف قطاعات الثقافة عبر صيغها العديدة؛ و"المعارضة" الثقافية الخفية التي يتمتع أفرادها أينما كانوا داخل هذه المؤسسات الثقافية الرسمية أو خارجها بضرب من الحرية توضح ازدواج المعايير في قبول مقال ينشر مثلًا في صحيفة "الثورة" السورية غداة الهجوم على تل الزعتر في بيروت، دون أن يُمنع نشر هذا المقال أو أن يحاسب كاتبه بواحدة من الطرق التي اعتاد النظام استخدامها إزاء معارضيه غير المحميين، أو في تسريح كاتب ومفكر غداة توجيهه إلى بشار الأسد رسالة يدعوه فيها إلى حلٍّ سلمي لأحداث سورية.

في مجال المحرَّم، مثلما هو الأمر في مجال المسموح أو المتاح أو ما تتيحه السلطة في وجوهها المختلفة: وزارة الثقافة، أو المؤسسات الرسمية ذات الطابع الثقافي كاتحاد الكتاب العرب، أو الإدارات الأمنية، لا يمكن لأي سوريّ مهما بلغت مكانته أو وظيفته أن يفلت من العقاب حين يرتكب ما يمكن للرئيس أن يعتبره من المحرمات غير المعلنة. فحين عبَّر وزير الثقافة فوزي الكيالي عن رأيه محذِّرًا حافظ الأسد علنًا من الدخول إلى لبنان، جرت تنحيته عن قيادة حزبه الناصري، ثم جرى طرده على إثر ذلك من وزارة الثقافة.

وحين قُدِّمَت مسرحية سعد الله ونوس "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران"[20] على مسرح سينما الحمراء بدمشق، وهي في نصها المنشور تقدم نقدًا لاذعًا لما جرى في حرب الخامس من حزيران 1967 والهزيمة التي كانت نتيجتها، حضر حافظ الأسد شخصيًا عرضها، بعد أن جرى تحويرها وتأويلها على النحو الذي كان يريده[21]. وكانت الأفلام السينمائية "الصريحة" في نقدها التي تنتجها المؤسسة العامة للسينما تُمنع من قبل لجنة رقابة وزارة الثقافة مباشرة، أما الأفلام التي تعتبر "إشكالية" فهي تعرض أولًا على الرئيس، كما جرى بالنسبة إلى فيلم أسامة محمد "نجوم النهار" الذي مُنع من العرض في سورية، وسُمِحَ في الوقت نفسه أن يشارك بتمثيل السينما السورية في المهرجانات الدولية كلها[22]. هذا في الوقت الذي كان يسمح بما اصطلح على تسميته بدءًا من سبعينيات القرن الماضي "أدب أو فنُّ أو مسرح التنفيس" الذي كان يسرف أحيانًا في ما يبدو أنه نقد اجتماعي أو اجتماعي سياسي دون أن يطال الجوهري في موضوع نقده، ولعل أشهر الأمثلة على ذلك مختلف المسرحيات والأفلام التلفزيونية التي كان يُسمَح بإذاعتها أو عرضها، ومنها خصوصًا تلك التي كان يقوم ببطولتها دريد لحام، مثل مسرحية "كاسك يا وطن" أو "مسرح الشوك". على هذا النحو، لم تكن معظم المسرحيات الهزلية التي قدمها دريد لحام تخرج عن هذا الإطار، بحيث أنها كانت تؤدي دورًا شديد الأهمية في الخديعة الكبرى التي مارسها النظام في الترويج لانفتاحه وقبوله ضروب النقد، ومن ثمَّ لترسيخ جذور سلطته تدريجيًا لكي تبدو قراراته بالمنع أو بالقمع قانونية نظرًا لمختلف الأسباب التي يوردها في تبريرها.

على أن عناصر هذه الخديعة لم تكن تقتصر على مجال الإنتاج الفني. إذ من الممكن أن يمتد توصيف التنفيس هذا إلى المجال الديني أيضًا، وذلك انطلاقًا من جوهر الحركية السياسية التي ابتكرها وسار عليها الأسد، والتي قامت على الفصل بين المبنى والمعنى في السياسة وفي الإدارة، أي اعتماد صيغ المؤسسات والممارسات الديمقراطية المعروفة من ناحية، وإضفاء معان جديدة عليها في الممارسة وفي التطبيق بعد تفريغها كليًا من معناها المعتمد والراسخ في الديمقراطيات الحديثة من ناحية أخرى: دستور، فصل السلطات، صحف متعددة، أحزاب متعددة، حرية فكر لا يحميها "الضمير" بل الدستور والقوانين المصاغة اعتمادًا عليه، إلخ. مثل هذه الممارسة لم تكن تجد والحالة هذه حرجًا في السماح لمفتي الجمهورية الشيخ أحمد كفتارو أن يجعل من مسجد "أبو النور" الذي كانت مساحته لا تزيد عن 70 مترًا مربعًا، نواة مجمع جرى توسيعه وتطويره اعتبارًا من بداية السبعينيات كي تبلغ مساحته 1800 مترًا مربعًا في القرن الماضي، بعد أن أضيفت إلى جانب المسجد "مجموعة من المباني تضم قاعة كبرى للصلاة، وفضاء تربويًا، ومكتبة، ومكاتب، ومخازن صغيرة. وفي السنوات الأخيرة هذه اقتضى التوسيع أيضًا بناء مساكن طلبة ملحقة بالمسجد ودار أيتام يمكنها أن تستقبل مائتي فتاة من الحي. وينوي المجمع اليوم شراء الممتلكات الواقعة بين المسجد ودار الأيتام لتوسيع مجموعة المباني. وفي إطار هذا التوسيع، حاول المجمع أن ينشئ جامعة حديثة مختصة بالدراسات الإسلامية، وكان بوسع الطلبة في مجمع "أبو النور" من قبل الحصول على الدكتوراه، بفضل الاتفاقيات المبرمة مع جامعات إسلامية في البلدان الإسلامية، مثل جامعة أم درمان (السودان) ومنذ عهد قريب جامعة الأزهر (القاهرة)"[23].

كان الهدف من ذلك بالطبع كسب قطاعات واسعة من السوريين لصالح النظام الأسدي اعتمادًا على وقوف شخصيات دينية ذات شعبية نسبية في العاصمة وضواحيها مثل أحمد كفتارو الذي كان يحتل منصب المفتي العام للجمهورية، وكذلك الشيح محمد سعيد رمضان البوطي الذي كانت كتبه ومقالاته تجعل منه صوتًا مسموعًا في الأوساط الدينية والفكرية. وكانت مواقفه المعادية للعنف الذي لجأ إليه الإخوان المسلمون لمقاومة النظام الأسدي، والدعوة إلى احترام الحاكم ما لم يكن صريح الكفر (وبالتالي حاكم سورية يومئذ)، قد جعلت منه مقربًا من زعيم النظام نفسه الذي كان يلتقيه بين الحين والآخر ساعات طوال، ويستجيب لمقترحاته، كالسماح للمنقبات بالدراسة في الجامعة، أو الإفراج عن عدد كبير من المعتقلين الإسلاميين، أو حتى إلغاء الامتياز الذي كان قد منح لاستثمار كازينو وحيد افتتح على طريق مطار دمشق. لا بل إن حافظ الأسد سمح له بتأسيس محطة فضائية لترويج الفكر الديني الوسطي كان يشرف عليها البوطي نفسه وسُمِّيت بـ "نور الشام". كانت هذه "المكرمات" التي كان حافظ الأسد يمنحها للبوطي ويتيح له أن يعلن أمام تلامذته ومريديه صدورها بفضله تزيد في تأثير البوطي، وتزيد في أعداد أفراد جمهوره من جهة، وتحمل في الوقت نفسه هذا الجمهور على أن يسير على هدي ما يدعو إليه شيخ عالم كالبوطي مسموع الكلمة عند رئيس الدولة حين يفتي بتحريم الخروج على الحاكم، أو في دفاعه المستمر عن شرعية حكم عائلة الأسد.

إلى جانب ذلك كله وعلى غرابته، كان النظام الأسدي يستثمر في مواقف اليسار السوري الذي لم تكن الحرية الفردية أو الديمقراطية أو المجتمع المدني لدى معظم فصائله ضمن برامجها أو مطالبها السياسية. ومن ثم كان من السهل عليه احتواء ثم قمع بعض الأصوات التي خرجت عن شبه هذا الإجماع المطلوب، كما حدث مع ميشيل كيلو وممدوح عدوان خصوصًا حين دعت الجبهة التقدمية في النظام السوري مجموعة من الكتاب السوريين في محاولة لاحتوائهم بعد مجزرة مدرسة المدفعية بحلب في صيف عام 1979. سيعاني الاثنان لقاء موقفهما الذي بدا للسلطة الأسدية تحدّيا لها ولمحاولتها تدجين المثقفين ضمن مشروعها الأساس لتدجين الثقافة. دخل ميشيل كيلو السجن مرات عدة، ومُنعت مسرحيات ممدوح عدوان من العرض، وحوصر الاثنان بمختلف الوسائل كي لا يكون لمداخلتهما الشهيرة في ذلك الاجتماع التي انتشرت كالنار في الهشيم مُسَجَّلة أي تأثير على سواهما من بعد.

على أن شهادتيْ ميشيل كيلو وممدوح عدوان لم تقدما إلا عنوانًا شديد الإيجاز والتكثيف لدلالات ما كان يجري سياسيًا واجتماعيًا مما يمكن أن ينسحب بسهولة على مختلف صعد الحياة الثقافية، سواء عبر المؤسسات المكلفة بالإنتاج الثقافي (المؤسسة العامة للسينما، مديرية المسارح أو المسرح القومي..)، أو تلك المعنية بالتعليم والتربية على المستوى الجامعي (جامعة دمشق، المعهد العالي للموسيقى، المعهد العالي للفنون المسرحية، مدرسة الباليه..). وسيتيح مجرد استعراض مختلف الممارسات على صعيد أداء الوظيفة المناطة بكل واحدة من هذه المؤسسات، أو على صعيد إدارتها في عدد من تفاصيله، إدراك "الحرية" التي أتاحها للنظام تحييد قطاعيْن جماهيريين واسعيْن من السوريين -الديني والعلماني في آن واحد- سواء إزاء ضروب التعسف في مثل هذه الممارسات، أو في مختلف ضروب التخريب التي كانت ترتكب في المجالات الثقافية والفنية عمومًا والجامعية خصوصًا. كل ذلك، كما سبقت الإشارة في الصفحات السابقة، كان جنبًا إلى جنب الهوامش التي كانت متاحة نسبيًا للاستثمار، وأحيانًا للاستغلال من قبل الفاعلين الثقافيين على اختلافهم. والحقيقة أن استثمارات السلطة الأسدية في هذين القطاعين، الديني والعلماني اليساري معًا، أتاحت لها في الوقت نفسه السماح بهذه الهوامش الرجراجة والمتباينة بين ميدان وميدان في مجال حرية التعبير على الصعد الفنية (المسرح أو السينما أو التلفزيون)، وكذلك على صعيد التعبير الأدبي (القصة والرواية خصوصًا).

2.                    تجليات الرقابة وممارساتها

كان العنوان العام لهذه الممارسات، وفي مختلف الميادين المشار إليها، يعتمد وسائل مختلفة للحيلولة دون توجيه أي ضرب من النقد يمسُّ بصورة أو بأخرى النظام السياسي القائم في مفهومه وفي ممارساته. أي أن كل ما يخص المشكلات الراهنة، أيًا كانت طبيعتها، يدخل في باب المحرمات على الأشكال الفنية جميعها. وأي لجوء في الكتابات الحديثة، وخصوصًا في المسرح، إلى قصص التاريخ أو أساطير الماضي، لا بدّ لها من مراعاة الابتعاد عن أي دلالة يمكن أن تخص هموم الحاضر، ولذلك كانت معظم العروض المسرحية تعتمد إما المسرحيات المترجمة أو المسرحيات العربية الكلاسيكية. وما حاوله ذات يوم سعد الله ونوس وفواز الساجر على سبيل المثال عند إطلاق "المسرح التجريبي" الذي جرت الموافقة عليه رسميًا -باستطاعتهما تقديمَ عددٍ من التجارب المسرحية الطليعية التي تتحدث عن "الاستغلال والقمع السياسي والاجتماعي كما في مسرحية "ثلاث حكايات" (و خاصة حكاية "الرجل الذي أصبح كلبًا" عندما تحول الرجل إلى مخبر انتهازي)، ومسرحية "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" حيث كانت يقظة هذا الرجل المسكين في إدراكه عبثية بحثه عن خلاصه الفردي وأن الخلاص لا يمكن إلا أن يكون جماعيا من خلال القضاء على سلطة القهر سواء كانت سياسية أو فكرية- كان مع ذلك ينطلق من مفاهيم ثورية لا يمكن أن تتسق مع رؤية سلطة شمولية"، كما كتب جمال سليمان[24]. لكن هذا الهامش الذي سمح به في مجال المسرح والعروض المسرحية لا يمكن بالفعل إلا أن ينظر إليه على أنه كان وليد قناعة بضرورة الاعتراف للكتّاب بحقهم في التعبير الحرّ بقدر ما كان وليد قناعة بمحدودية تأثير المسرح جماهيريًا من ناحية، وفي الوقت نفسه بدافع رغبته في أن يقنع المراقبين الخارجيين بوجود هامش من الحرية لا يمكن إنكاره دون الانتباه إلى أنه لم يكن يشكل أي خطر على النظام[25]. ولهذا سرعان ما تلاشى هذا المسرح فعليًا حين استحال إلى "مجرد اسم فارغ من معنى التجريب والمغامرة"[26] لا يستطيع ارتياد آفاق أخرى كانت التجارب المسرحية في أوروبا النصف الثاني من القرن العشرين حافلة بها.

يتساءل علي سفر في شهادته عن "الأمداء التي كان يمكن للثقافة السورية ومنتجاتها أن تصل إليها في حال لم يطور النظام تلك الآليات القمعية الرهيبة الذاتية والعامة، ويجعلها سياقًا متعارفًا عليه، راسخًا ومستمرًا". فقد كانت الرقابة الصارمة تمارس بحجة أسباب واهية: "يذكر المسرحيون كيف أن عرض مسرحية ممدوح عدوان «ليل العبيد» الذي أخرجته نائلة الأطرش تمَّ منعه قبل بدء تقديمه على خشبة مسرح الحمراء بيوم واحد في العام 1977، بذريعة مخالفة خطابه لتوجهات المؤسسة الدينية، كما مُنع عرض مسرحيته «حكايا الملوك» الذي عمل عليه المخرج وليد القوتلي في العام 1986، بحجة سخيفة تقول بأن برنامج المسرح المزدحم لا يسمح بتقديم هذا العرض"[27].

وإذا كان وضع المسرح والكتابة المسرحية ينسحب على الكتابة الأدبية في القصة والرواية، فإنه لا يمكن أن ينسحب على الشعر ولا سيّما لدى الشعراء ذوي الشعبية الجماهيرية الواسعة، مثل نزار قباني الذي لم يكن يبالي بتسمية الأشياء بأسمائها، كما فعل على سبيل المثال في قصيدته "الديك". ولإدراك معنى الرقابة البوليسية على الكلمة المكتوبة، يكفي أن نقرأ بعض قصص عبد السلام العجيلي التي كتبت بعد هزيمة حزيران 1967، أي حينما كان قائد الانقلاب القادم وزيرًا للدفاع، ولا سيّما القصة التي ضمتها مجموعته وحملت عنوانها: "فارس مدينة القنطرة"، التي لجأ فيها العجيلي إلى التاريخ العربي كي يقول رؤيته لهذه الهزيمة المعاصرة من خلال سردية تخييلية/ تركيبية لواحدة من الهزائم المتوالية التي عاشتها الأندلس في عصر أفولها[28]؛ أو قصص زكريا تامر في تلك السنوات على وجه التحديد، التي لجأ فيها إلى عدد من المفارقات الرمزية بصدد أحداث تاريخية معروفة: قصة "الذي أحرق السفن"، وقصة "الجريمة"[29]. في القصة الأولى، يحاكَمُ طارق بن زياد لأنه أحرق السفن قبل خوض المعركة وإهداره على هذا النحو أموال الدولة، وفي القصة الثانية، يُعتقل سليمان الحلبي ويستجوب، لا لأنه قتل الجنرال كليبر بالفعل، كما روى التاريخ، بل لأنه "في ليلة السادس من حزيران، شاهد سليمان الحلبي حلمًا قتل فيه الجنرال كليبر"، وعلى أن المجموعة التي ضمت هذه القصة صدرت للمرة الأولى عام 1963، والثانية في عام 1978، والثالثة في عام 1994، إلا أن أية دراسة نقدية لم تكتب عن هذه المجموعة خصوصًا لتحلل صراحة ومباشرة دلالات هذه القصة أو سواها من تلك التي ضمتها المجموعة كلها. ومع ذلك، فقد كانت الدوائر الأمنية بالمرصاد لصدى هذه القصص، وحين أدركت خطورة كتاباته مع اتساع جمهوره، أخذت في التضييق عليه إلى أن حملته على مغادرة سورية بصورة نهائية.

وعلى أن السينما كانت قد استُهدِفَت منذ بداية الحكم الأسدي، حين مُنِعَ فيلم عمر أميرالاي "الحياة اليومية في قرية سورية"، كما سبقت الإشارة، إلا أن المسلسلات التلفزيونية التي ينتجها التلفزيون السوري كانت هي الأكثر خضوعًا لرقابة صارمة لم يكن للهوامش في ظلها وجود بصورة مطلقة، ولو كان أحدها خطأ عابرًا غير مقصود، يمكن أن يرتكبه ضيف دائم في برنامج أثناء البث على سبيل المثال [30]. ومع ذلك، استطاعت قلّة من المخرجين العاملين في التلفزيون أن تنجح أحيانًا مسلحة بالحيلة في الالتفاف على هذه الرقابة وتمرير بعض المسلسلات التي ما إن يكتشفها المسؤول الأمني في لجنة الرقابة حتى يهرع إلى رئيسه المسؤول عن العمل مرتعدًا ومشيرًا إلى خطورة هذا العمل، كي يطمئنه إلى أن المسلسل يتحدث عن دكتاتور آخر، لكنها كانت تفشل أحيانًا أخرى حتى بعد حصولها على الموافقة المسبقة لإنتاج المسلسل، حين تقوم لجنة الرقابة عند عرضه عليها بمنعه وحظر التعامل معه في سورية، في حين تنجح بتمريره إلى خارج سورية حيث ينجح المسلسل نجاحًا باهرًا ويحصد خمس جوائز في مهرجان القاهرة عام 2008[31]. وربما تنجح في أحيان نادرة بتنفيذ أعمال تتضمن صورًا عن الفساد الإداري والاجتماعي والسياسي، لكن السماح بها لا يخرج مع ذلك عن اعتماده واحدًا من الدافعين اللذيْن سبقت الإشارة لهما: إما التنفيس أو الدعاية غير المباشرة على الصعيد الخارجي لنظام "ديمقراطي" و"مستقر" يتيح حرية التعبير والنقد.

3.                    ثمن عدم الامتثال

لم تكن الرقابة وحدها سيفًا مسلطًا باستمرار على أعمال الفاعلين الثقافيين، بل كان السيف يطال حرية وكرامة الذين رفضوا التدجين أو الولاء غير المشروط، أو الإغراءات العديدة التي كانت تعرض على من كانت السلطة تتطلع إلى تطويعه، قبل وضعه عند فشلها في ذلك في سجونها لا أيامًا بل سنوات، أو على قائمة الممنوعين من السفر، وفي كل الأحوال تسريحه من العمل إن كان موظفًا في أحد مؤسساتها. يكتب وائل السواح الذي قضى عشر سنوات سجينًا في عهد الأسد الأب في شهادته: "النسبة العظمى من المعتقلين والمغيبين والمهجَّرين والممنوعين من السفر خسروا حياتهم وحريتهم بسبب حرية التعبير"[32]. مثل هذا التغييب بمختلف الوسائل كان يطال المرأة أيضًا، كما يمكن استخلاص ذلك من شهادة السينمائية والروائية واحة الراهب التي كان عليها طوال سبع سنوات أن تواجه عرقلة إنتاج فيلمها "رؤى حالمة" بعد قبول السيناريو الذي قدمته والإشادة به، بحجة "إضافة ملاحظات جديدة تعجيزية"؛ وكان عليها انتظار وصول مدير جديد للمؤسسة دفع بالفيلم للإنتاج على الرغم من محاولات أخرى من قبل زملاء لها الحيلولة دون إنتاجه[33].       

ربما لم يواجه الفنانون التشكيليون الأصيلون، بحكم طبيعة عملهم، ما واجهه زملاؤهم في الميادين الفنيّة الأخرى. لكن السوريين كانوا يرون يوميًا نتاج الفنانين "الموالين" في اللوحات شديدة الرداءة التي كانوا يرسمونها كيفما اتفق لـ "القائد المؤسس"، والتي كانت تحفل بها مكاتب الوزراء ومعاونيهم، والمؤسسات العامة على اختلافها؛ ولا بدّ أن أحدهم كان قد اقترح عليه همسًا ضرورة الأمر برفعها من هذه المكاتب والاستعاضة عنها بصور فوتوغرافية رسمية. أما التماثيل البرونزية التي صنعت له بمختلف المقاييس والأحجام والأوضاع، فقد وضعت في كل مكان، بحيث لم يفت أي سوري رؤيتها أينما كان في طول سورية وعرضها. لكنها كانت جميعها تفتقر إلى أدنى معايير فن النحت المدرسية، وتقول بوضوح رداءة مستوى الذين أنجزوها، فنيًا وجماليًا.

ولعل هذا ما يفسّر في المقام الأول موقف فنان ونحّات أصيل كانت وزارة التعليم العالي، التي سبق أن أوفدته لدراسة الفنون التشكيلية والنحت في موسكو بعد أن فاز بمسابقتها لهذا الغرض، قد رفضت، بعد إنجاز دراسته وعودته إلى سورية للوفاء بالتزامه العمل أستاذًا جامعيًا في حقل اختصاصه لمدة تعادل ضعف تلك التي دامها إيفاده في سورية، تعيينه في كلية الفنون الجميلة بدمشق التي كان يفترض بها أن تكون مآله الطبيعي. فقد أُرسل بدلًا عن ذلك إلى الحسكة للتعليم في مدارسها الابتدائية بانتظار قرار تعيين لم يصدر أبدًا، وهو الذي كان أساتذته الروس الذين اكتشفوا موهبته الاستثنائية كنحّات منذ بدء دراسته قد عرضوا عليه إثر تخرجه أن يعمل أستاذًا مساعدًا في أعلى معهد للفنون التشكيلية في الاتحاد السوفياتي، وهو العرض الذي اضطر لرفضه بسبب التزامه المذكور بالعودة. كان ذلك نتيجة التقارير الأمنية التي كانت تُكتب بحقه طوال سنوات دراسته، والتي حملت الدوائر الأمنية على العمل بموجبها باستخدام مختلف وسائل الترهيب والتحقير، وصولًا إلى الطلب إليه أن يقوم بصنع تماثيل لطاغية سورية، وكان من الواضح أنه العرض الذي أريد به أن يكون ثمن خضوعه. فما كان منه إلا أن اتخذ قرارًا مزدوجًا: رفض صنع تماثيل لمن كان يرى فيه طاغية سورية، ونفيَ نفسه بعيدًا عن البلد الذي كان في النهاية بلده. حدث ذلك في عام 1987، وكان قد أدرك يومئذ ما سوف يشهده من منفاه، ويتأكد له طوال أربعة وثلاثين عامًا أن الخيار الذي فرض نفسه عليه كان بين أمريْن أحلاهما مرّ: إما أن يكون واحدًا من القلة المبدعة التي ستموت ضيقًا، وإما "النجاة خارج البلد لتسود في الداخل حثالة تقول إنها تمارس الثقافة"[34]. وحين أُقيم له معرض استعاديّ لأعماله، بدمشق عام 2010، أثار إعجابَه إقبالُ الشباب واهتمامهم بمنجزاته، وهو ما جعله بعد عودته إلى منفاه في غرناطة أن يقرر ألا يعمل إلا لبلاده، "بلاد الشام" كما كتب. عاد في شباط/فبراير 2011، وعمل على صنع الصناديق الضرورية لجمع أعماله التي أنجزها في المنفى خلال أربعة وعشرين عامًا كي يعود بها إلى مقر أسرته في يبرود، "قبل إعلان الحراك الذي غدا ثورة بثمانية أيام. لكنه اضطر بعد أشهر عدة إلى العودة لإنقاذها من قصف شبه يومي، كان قد أصاب في يبرود منطقة المشغل الذي وضع فيه منجزات أربع وعشرين سنة من العمل، وذلك بمحاولة دفنها في باطن الأرض.. وبقيَ حتى اليوم يجهل المصير الذي آلت إليه. يبرز عاصم الباشا على هذا النحو بمعنى ما، بوصفه نموذج الفنان الذي عمل العهد الأسدي على الحيلولة دون وجوده فاعلًا، بعد أن أتاح وجود الفنان الرديء الذي صنع تماثيل قائده المؤسس: منفيٌّ تعرض أعماله في ساحات مدن بلد منفاه وفي سواها، أو عائدٌ إلى بلده كي يجد نفسه مضطرًا إلى دفن أعمال أربعة وعشرين عامًا بعد أن راوده الأمل في تقديمها إلى شباب بلده.

بيد أن علي فرزات يمثل نموذجًا آخر لفنان نذر نفسه للرسم الساخر السياسي والاجتماعي الذي لا يتوانى عن نقد كل الطغيان المجسد في بلداننا العربية. حين شارك برسومه في معهد العالم العربي بباريس ضمن معرض كان مخصصًا لفن الرسم الساخر، أو الكاريكاتير، في العالم العربي في شهر حزيران/يونيو 1988، أثار أحد الرسوم التي شارك بها عاصفة في فرنسا وفي سورية وفي العراق خصوصًا. كان الرسم يمثل جنرالًا مرصعًا بالأوسمة يقف أمام حلَّة مليئة بالأوسمة، ويسكب في صحون الفقراء الأوسمة بدلًا من الحساء، لم يكن ثمة سوى الرسم يقول عبر المشهد كل المعاني التي كان علي فرزات يريد قولها. لكنه، بالإضافة إلى العاصفة الإعلامية التي أثارها الرسم بباريس، واحتجاج سفير العراق الرسمي ضده وضد المعرض، كان قد أثار أيضًا حفيظة وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس الذي رفع دعوى يومئذ ضد علي فرزات لدى المحكمة العسكرية [35]. لكن حفيظة وزير الدفاع لم تقتصر عليه أو على سفير العراق بباريس وحدهما، بل كانت في الواقع حفيظة النظام السوري الأمني الذي انتهى به الأمر، بعد ثلاثة وعشرين عامًا من ذلك، وبتاريخ 24 آب/أغسطس 2011، إلى خطف علي فرزات بدمشق على أيدي رجاله الذين انهالوا عليه ضربًا وحطموا أصابع يديه، ثم رموا به من السيارة على حافة طريق مطار دمشق فجرًا بين الموت والحياة، كي يكون درسًا لكل من تسوّل نفسه ممارسة النقد أو السخرية[36].

4.                    محرمات البحث الفكري والاجتماعي وهوامش الحرية فيهما

لعل أهم "إنجاز" بدأ بتحقيقه النظام البعثي، ثم أنجزه من بعده النظام الأسدي خصوصًا، كان يتمثل في ما يمكن وصفه بـ "التصحير" على الصعد كلها، بدءًا بالصعيد المادي كما جرى على سبيل المثال بدمشق التي قضي فيها على غوطتها، أي على كل المساحات الخضراء التي كانت بمثابة رئتها المادية وحلت محلها مساحات الإسمنت المسلح، والاعتداء الصفيق على تاريخها المعماري والعمراني سواء في أوابدها الأثرية التي لم يكن أقلها مسجد جامع بني أمية بدمشق أو أحياء دمشق القديمة، وليس انتهاءً بتفريغ السياسة، فكرًا وممارسة، على الصعيدين الثقافي والاجتماعي في سورية كلها، وحصرها بشخص الحاكم الانقلابي الذي وضع أسس نظامه وعَمِلَ على أن يحمل اسمه، ثم من سَيَرثه ويسير على هديه، محتفظًا هو الآخر بهذا الامتياز.

لكن ما أصاب ميدان البحث الفكري والاجتماعي، في ظل المحرّم والمباح من مختلف ضروب التعقيم والنقد، لا يقلّ أهمية في آثاره التدميرية عن كل ما أصاب ميادين المجتمع السوري الأخرى. فالخط السياسي الذي وسم السياسة الأسدية على صعيد شكل النظام الذي أقامه، ومؤسساته المختلفة، في مبناه الخارجي "الديمقراطي"، وفي معناه الداخلي "الأسدي" والذي سبقت الإشارة إليه، يجد تطبيقه حرفيًا في وضع سياسته الثقافية موضع التنفيذ. كما لو أن هناك تقاسم أدوار غير معلن: وزارة الثقافة من أجل الاحتواء "الناعم"، والمؤسسة الأمنية وراء مختلف المؤسسات الثقافية الأخرى أو ذات الارتباط بالميدان الثقافي غير المرتبطة رسميًا بوزارة الثقافة، من أجل الاحتواء الصارم. ولعل أكثر الأمثلة تجسيدًا وبلاغة في هذا المجال، تلك التي يمكن إضافتها إلى قول هذه السياسة الثقافية المزدوجة في التطبيق خلال العهد الأسدي: مثال الترجمة والنشر في مجال البحوث الفكرية، ومثال العلوم الاجتماعية في فرعين من فروعها، الاقتصاد على صعيد النشاط النظري والفكري، وعلم الاجتماع على صعيد التعليم والبحث والترجمة.

أ‌.                   الترجمة والنشر في ميدان العلوم الإنسانية

وعلى أن وزيرة الثقافة التي اختارها حافظ الأسد لتطبيق سياسته الثقافية في أحد قطبيها، "الاحتواء الناعم"، سبق لها أن عملت سنوات في مديرية التأليف والترجمة في وزارة الثقافة التي كانت تحت إدارة أحد كبار المثقفين والمفكرين، أنطون المقدسي، الذي سبق له أن كان، تاريخيًا، أستاذ معظم أفراد قيادة حزب البعث يومئذ، ويحظى بسبب ذلك على وجه الدقة باحترام خاص أتاح له هامشًا من الحرية لا يستهان به، تشهد عليه خياراته وقرارته الشخصية في الكتب المترجمة أو الموضوعة التي صدرت عن وزارة الثقافة حتى نهاية سبعينيات القرن الماضي، لكن محاولات التوجيه والرقابة من قبل قيادة حزب البعث مع ذلك كانت مباشرة وذات دلالة. وإذا كانت معظم الكتب المترجمة عن اللغة الفرنسية التي نشرتها وزارة الثقافة تتناول موضوعات فكرية سياسية أو اجتماعية لا تخرج عن إطار الفلك الفكري العام لهذا الحزب منذ وصوله إلى السلطة عام 1963، إلا أن ذلك كان وراء محاولات قيادته القومية في التدخل مباشرة في عمل مديرية التأليف والترجمة، سواء عبر شكواها في كتب رسمية من نشر كتب موجهة للخاصة وليس للشعب، أو من عدم وجود كتب قومية أو عن القومية ضمن منشورات الوزارة، وصولًا إلى طلبها إخضاع منشورات الوزارة للرقابة المسبقة من قبل القيادة القومية. وكانت استجابة أنطون المقدسي أن أرسل تكليفًا لعدد من أعضاء القيادة القومية بتأليف كتب حول الموضوعات التي اقترحوها، فلم يستجب أحدٌ منهم، كما أرسل لهم عشرين كتابًا للرقابة قبل النشر فكان أن رُفِضَ بعضها لكنها كانت المرة الأولى والأخيرة التي يخضع فيها خياراته في النشر للرقابة بعد اكتشافه ضحالة ثقافة الرقيب، وكانت النتيجة أن نُسِيَ الموضوع تمامًا، كما كتب محمد الخطيب في شهادته[37].

لا بدّ من الإشارة إلى أن محاولات التغيير التي قامت بها الوزيرة في هذا الميدان كانت تبدو على طرفي نقيض من محاولات قيادة الحزب في بسط هيمنتها ورؤيتها على منشورات وترجمات وزارة الثقافة. إذ إنها عملت بادئ ذي بدء على زَرْقِ مديرية التأليف والترجمة بدم جديد شاب، تمثل بوجه خاص في الكاتب القصصي محمد كامل الخطيب، الذي سرعان ما بدا شديد النشاط والفعالية في عمله بحيث أثار انتباه دوائر الأمن التي سارعت عبر وزير الداخلية يومئذ إلى طلب "إنهاء عمل العامل لديكم محمد كامل الخطيب لأنه يشكل خطرًا على أمن الدولة. التوقيع - اللواء أركان حرب عدنان دباغ وزير الداخلية"[38]. لكن الوزيرة التي تلقّت هذه الرسالة، بما تملكه من صلاحيات، طمأنت الخطيب بأنه "باق في الوزارة طالما أنها فيها".

وعلى أنه أسهم خلال السنوات التي قضاها في وزارة الثقافة في نشر عدد من المؤلفات الكاملة أو المهمة لعدد من كبار المفكرين والسياسيين السوريين في النصف الأول من القرن العشرين مثل عبد الرحمن الشهبندر وأحمد قدري، وفي العمل على اقتراح ترجمة ونشر عدد من الكتب الأدبية والفكرية عن لغات أخرى غير الفرنسية كاللغة التركية أو الإنكليزية، يتحدث محمد كامل الخطيب في سلسلة النصوص المتممة لشهادته والتي نشرها على صفحته في (فيسبوك) عن مشروعه الكبير: "قضايا وحوارات النهضة العربية" من أجل "تغطية توثيقية شاملة، ومتتابعة زمنيًا، لمناحي ومحاور الثقافة العربية الحديثة وقضاياها في الفترة ما بين 1800 ــ 2000، وهي الفترة المعروفة بعصر النهضة". فقد اقترح مشروعه على أنطون مقدسي الذي تبناه بحماس، وقام بعرض المشروع على الوزيرة التي وافقت على تنفيذه وتكليف الفريق المقترح لإنجازه، وفيه سعد الله ونوس وفيصل دراج، كلًا حسب اختصاصه، بكتاب رسمي. لكن محمد كامل الخطيب هو الذي أخذ على عاتقه تنفيذ كامل المشروع الذي شغله عشرين عامًا، بعد أن التفت زميلاه إلى تنفيذ مشروع آخر، "قضايا وشهادات" الذي رعته المنظمة الشعبية لتحرير فلسطين، والذي صدر في شكل كتاب ثقافي دوري خلال أربع سنوات، أي بين عامي 1989 و1993.

من الواضح أنه لا بدّ في سياق الحديث عن المحرمات في مجال البحث الفكري والاجتماعي أن يستدعي كلٌّ من مشروع محمد كامل الخطيب الذي صدر بين عامي 1989 و2008، ومشروع سعد الله ونوس وفيصل دراج الذي كان سبب انفصالهما عن المشروع الأول، عددًا من الملاحظات تتعلق بسقف ما كان ممكنًا القيام به باسم الوزارة (الفضاء العام)، أو خارج جدرانها (الفضاء الخاص) في مجال البحث الفكري المعنيِّ هنا، وهو سقف -بطبيعته- شديد الاختلاف عن كل السقف المعتمد في ميدان فعاليات ثقافية أخرى ذات طابع جماهيري كالسينما أو المسلسلات التلفزيونية أو المسرح.

كانت خطة مشروع "قضايا وحوارات النهضة العربية"، التي عرضها الخطيب بصحبة ونوس ودراج، على أنطون المقدسي الذي تبناها بدوره، وكتب بها إلى وزيرة الثقافة التي وافقت عليها -كما كتب الخطيب- تقوم على "تغطية توثيقية شاملة، ومتتابعة زمنيًا، لمناحي ومحاور الثقافة العربية الحديثة، وقضاياها في الفترة ما بين 1800-2000، وهي الفترة المعروفة بـ (عصر النهضة)"، على أن يجري تقديم هذه المناحي والمحاور والقضايا بطريقة سجالية، الرأي والرأي الأخر، متسلسلة زمنيًا وحواريًا، ومرتبة حسب موضوعاتها، وعبر مختلف وجهات النظر، منذ نشأت هذه القضايا والموضوعات، إلى أن دخلت واستقرت في السلسلة الثقافية العربية ونسيجها التاريخي، مكونة سلسلة ثقافية جديدة. لكن تنفيذ هذه الخطة التي كان سعد الله ونوس وفيصل دراج قد وافقا عليها، حين لقاء الشركاء الثلاثة بأنطون مقدسي، سارت في طريق آخر حين فضَّلَا توجيه اهتمامهما إلى مشروع "قضايا وشهادات" الذي أضافا إلى هيئة تحريره كلًا من جابر عصفور وعبد الرحمن منيف. وكان على محمد الخطيب أن يعمل عليها، ويحمل عبء تنفيذها وحده في إطار وزارة الثقافة بطبيعة الحال.

كان قبول وزيرة الثقافة تنفيذ مشروع قضايا وحوارات النهضة العربية محاولة احتواء شديدة الوضوح تتيح لها الإشراف مباشرة على كل ما يمكن أن يكتبه أو يريد نشره مثقفون يساريون. وذلك ما يفسر عدم موافقتها على نشر بعض مجلدات المشروع باسم وزارة الثقافة، واضطرار محمد الخطيب إلى نشرها بواسطة دور نشر خاصة في دمشق أو في بيروت. لكن أكبر الظن أن هذا ما حمل أيضًا ونوس ودراج على البحث عن راع آخر لمشروعهما، وجداه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الأقرب في توجهها الفكري والسياسي إلى ما كان ونوس ودراج يسعيان إلى تحقيقه عبر مشروعهما[39]. وما يمكن أن يؤيد هذا الظن أن عددًا من المجلدات التي أنجزها محمد الخطيب في مشروعه لم يُطبَع باسم وزارة الثقافة، بل باسم دور نشر خاصة بين دمشق وبيروت. باستثناء ذلك، لم يكن للمشروعين، على اختلاف توجهاتهما الفكرية أو الطريقة المُتَّبعة من كلٍّ منهما في وضع الأسس المتفق عليها، أن يستدعيا ردات فعل سلبية أو عدائية من قبل وزارة الثقافة أو المؤسسات الأمنية. لا لأن جمهور المشروعين يبقى مقتصرًا على فئة محدودة جدًّا من المثقفين أو الباحثين الأكاديميين فحسب، بل لأنهما يستجيبان -واقعيًا وخصوصًا- إلى ما كانت السلطة الأسدية تسعى لتسويقه في الخارج حول الحرية التي تتيحها للمثقفين في الكتابة والنشر. فحصيلة ما أمكن لوزيرة الثقافة أن تجيزه من نشر عدد من مجلدات المشروع باسم الوزارة اقتصر على المؤلفات الكاملة أو المختارة لعدد من المفكرين السياسيين أو الأدباء السوريين التي باتت كتاباتهم، على حداثتها مثل عبد الرحمن الشهبندر وسعيد حورانية، وبفعل تاريخيتها وسياقها الزمني الذي كتبت فيه، لا تتناقض مع الإطار الفكري العام المقبول من الحزب الحاكم، في حين لم يكن بوسعها إجازة كتب مثل "حرية الاعتقاد الديني" الذي جرى نشره ضمن السلسلة، ولكن لدى دار نشر خاصة، نظرًا لطرحه مشكلات لا تزال مطروحة حتى اليوم، مثلما لم يكن بوسعها أن توافق على الكتاب الثقافي الدوري ضمن مشروع "قضايا وشهادات"، الذي ذهب المشرفون عليه إلى الجمع فيه بين مختارات من كتابات النهضة وطروحاتها الثقافية والاجتماعية من ناحية، وكتابات راهنة تستعيدها أو تعيد مجدّدًا طرح المشكلات التي قاربتها والتي لا تزال راهنة، لا على الصعيد السوري بالضرورة بل على الصعيد العربي، حين افتتحت هذه السلسلة من الكتب الدورية بكتاب عن طه حسين ومشروعه التنويري. وكما أشارت هيئة تحرير الكتاب في الصفحة الأولى منه: "كتاب دوري يتطلع إلى عمل ثقافي جماعي، يبدأ من أسئلة الواقع اليومي التي تمس المثقّف ودوره، بقدر ما تمسّ الإنسان العادي الباحث عن الخبز والحرية والكرامة الوطنية. يطمح الكتاب إلى ربط الثقافة الديمقراطية العربية الراهنة بماضيها الثقافي الذي قاتل من أجل العقلانية وكرامة الإنسان وبناء مجتمع مدني تكون فيه المصلحة العامة متَّكأً للقول والفعل والمبادرة. لا يسعى الكتاب إلى إجابات جديدة للأسئلة المطروحة، بقدر ما يعمل على طرح جديد للأسئلة القائمة".

الواقع أن استعراض موضوعات أيّ كتاب من الكتب الدورية التي صدرت خلال السنوات الأربع المشار إليها يكاد يكفي لفهم السبب الأعمق وراء موافقة سعد الله ونوس وفيصل دراج على المشروع الذي اقترحه محمد الخطيب، وفي الوقت نفسه عدم استجابتهما لوضعه موضع التنفيذ في ظلّ وزارة الثقافة التي لم يكن بوسع المسؤولة الأولى عنها، رغم ما تمتعت به من صلاحيات استثنائية، أن توافق على خطتهما في تنفيذ مشروعهما كما فعلا، سواء في حرية اختيار أعضاء هيئة التحرير أو في استكتاب المفكرين والكتاب العرب الذين يمكن لإسهاماتهم أن تحقق الغاية المعلنة لهذا المشروع. إذ كانت هذه الخطة تتطلع إلى تجاوز الطروحات السابقة لأسئلة الواقع وإشكالياته التي كان اليسار العربي يطرحها عن طريق تجديد الطرح وصوغه، ومن ذلك طرح مفهومي الحرية والديمقراطية اللذين أخذا يحتلان مكانة أولى في خطاب مثقفي اليسار منذ عام 1979. لم يكن الاحتفال بطه حسين في أول كتاب من هذه السلسلة محض صدفة، وإن كان صدوره قد جرى في الوقت الذي كان العقلانيون العرب يحتفلون بمئوية ميلاده. إذ إنه كان يضع في مقدمة اهتماماته معظم المفاهيم التي لم يكن اليسار العربي عمومًا والسوري خصوصًا يضعها من قبلُ في أولويات أهدافه، لا عبر الاكتفاء بذكرها كشعارات، بل في إعادة تعريفها وصوغ مضامينها كي تستجيب لضرورات اللحظة الراهنة. وجاء ربيع دمشق في بداية الألفية الثالثة شاهدًا على صحّة الرؤية، وعمق التحليل، مثلما كانت انتفاضة آذار 2011 تعبيرًا عما كان يمور في عمق المجتمع السوري الذي كان هذا العمل الطموح يشخِّصه على حذر، والذي لم يكتب له الاستمرار بعد وفاة كل من سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف.

يبقى أن السقف المفروض على مثل هذه البحوث، الذي لم يكن يسمح بالمضي بعيدًا في طروحاتها، كان مع ذلك يسهم -إذ يُسمح له بالعرض على زبائن المكتبات السورية- في التسويق الخارجي لنظام سلطوي في أساسه، بوصفه نظامًا منفتحًا، بل وديمقراطيًّا.

ب‌.               في مجال العلوم الاجتماعية: الاقتصاد

وعلى مثال هذه الحرية النسبية التي كان من الممكن ممارستها بِرِضا السلطتين السياسية والأمنية، ما دامت تبقى ضمن السقف المحدد لها في مختلف ميادين الفعاليات الثقافية، وتقتصر على جمهور مختصٍّ أو محدَّد، كان نشاط جمعية العلوم الاقتصادية السورية التي تأسست عام 1965، أي بعد سنتين من الانقلاب البعثي، والتي لا تزال مستمرة في الوجود، رغم توالي انقلابيْ 1966 و1970، ومن بعدهما عام 2000، عام توريث السلطة. فهي من حيث وضعها القانوني، جمعية أهلية تأسست وفق قانون الجمعيات رقم 93 لعام 1958، ولا تزال مستمرة في نشاطها بلا توقف طوال ستة وخمسين عامًا، في الوقت الذي تلاشت خلالها عشرات الجمعيات الأهلية الأخرى تحت وطأة محاصرتها أو التضييق عليها أمنيًّا. ومن ثمَّ، ما كان لهذه الجمعية والحالة على هذا النحو أن تستمر من دون "موافقة" -وربما دعم- المؤسسات الأمنية، سواء على أشخاص المسؤولين عن إدارتها، أو على مختلف نشاطاتها. ولعلها كانت الجمعية الوحيدة التي نشطت طوال هذه السنوات كلها، وصولًا إلى الاحتفال بمرور خمسين عامًا على تأسيسها في الوقت الذي لم تتمكن مجموعة من المختصين في العلوم السياسية من القيام بتأسيس جمعية على غرارها، رغم محاولات عدد من المختصين في هذا الميدان الحصول على الموافقات الضرورية[40]. ولعل المادة الرابعة من الفصل الأول في نظام الجمعية الاقتصادية المنشور على موقعها تقول السبب بكل وضوح: "المادة 4: لا يجوز للجمعية أن تتدخل في الأمور السياسية والعقائد الدينية".

كان لا بدّ لهذه الجمعية إذن من أن تخضع لمتطلبات سياسة النظام الجديد التي سبقت الإشارة إليها، شأنها شأن مختلف المؤسسات الرسمية أو شبه الرسمية، حتى الثقافية الأخرى التي أُنشئت خلال الفترة البعثية بقسميها السابقين على انقلاب 16 تشرين ثاني 1970 واحتفظ بها بعده كمؤسسة السينما أو كاتحاد الكتاب العرب. فالسقف المحدد للحرية في كلِّ نشاط تقوم به أيّة واحدة من هذه المؤسسات قابل للتغيير حسب الظروف التي يقررها رأس النظام عند الضرورة القصوى، أو المؤسسات الأمنية المختصة في الأوضاع العادية. سواء النشاط الإداري الذي يرتبط بتعيين أو انتخاب المسؤولين أو برنامج العمل الخاص بكل منها، ولا سيّما ندوات الثلاثاء الاقتصادي التي كان جمهورها الواسع نسبيًا، نظرًا لطبيعة بعض الموضوعات التي كانت تعالج فيها، شديد الاهتمام بمتابعتها والمشاركة في نقاشاتها[41] والتي كانت بالفعل أهم نشاطات الجمعية طوال ستة وخمسين عامًا.

على هذا النحو، يمكن فهم طبيعة موضوعات المحاضرات خلال العقود الماضية التي بلغ عددها حسب آخر إحصاء على موقع الجمعية 640 محاضرة. إذ إن غالبيتها العظمى التي كانت تتناول إما مسائل اقتصادية تقنية، أو موضوعات تتناول العلاقات الاقتصادية الدولية، سواء على الصعيد النظري أو على الصعيد التطبيقي المحلي، لا يمكن أن تثير حفيظة السلطة السياسية أو الأمنية. إلا أن عددًا منها مع ذلك كان يتناول موضوعات اقتصادية شديدة الحساسية تجرأ الذين حاضروا فيها على مقاربتها وإن لم يكونوا بالضرورة من أعضاء الحزب الحاكم. ذلك أن طرح موضوعات في عام 1995 تتناول "الآثار الاجتماعية لاقتصاد السوق ودور الدولة"، أو في عام 1998 "التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية"، أو في عام 2009 "تحديات الاقتصاد السوري وآثار تجاهلها، وفي عام 2010 "الآثار الاجتماعية للسياسات الاقتصادية في سورية" على سبيل المثال لا الحصر، كان يثير نقاشات حادة بين المحاضر والجمهور، بقيت تعتبر ضمن الهامش المُتاح من قبل السلطة، شأن سواها في المجالات الأخرى، ولا سيّما أنها تجري على نطاق جماهيري يبقى محدودًا في قاعة لا تتسع لأكثر من مائة شخص، كقاعة المركز الثقافي العربي في شارع أبو رمانة بدمشق من ناحية[42]، وأنها تقدم مثلًا على "حرية التعبير" التي يتيحها النظام في مجال شديد الأهمية سياسيًا واجتماعيًا، من ناحية أخرى. معظم الذين أقدموا على مقاربة الموضوعات الحساسة المشار إليها تعرضوا للملاحقة وأحيانًا للسجن لمواقفهم السياسية، وغادر أغلبهم سورية مُكرهًا بعد القمع العنيف للانتفاضة الشعبية السلمية في عام 2011.

ولا بدّ أن الاعتراف بأنه على أهمية الاقتصاد وأولويته، نظريًا وعمليًا وممارسةً في أي نظام سياسي، وعلى خطورة كل المشكلات الاقتصادية التي عانت منها سورية منذ الانقلاب البعثي في عام 1963، وبفعل طبيعة النظم السياسية الثلاثة التي توالت على إثره، لم يكن بوسع جمعية اقتصادية أيّا كانت قدرات أعضائها أن تشخص الوضع الاقتصادي في سورية بلا أية مواربة، وأن تجرؤ على اقتراح الحلول الممكنة لمشكلاته على السلطة السياسية. وطوال أكثر من خمسين عامًا، وباستثناء بعض الدراسات التي كانت تتناول على استحياء أو حذر هذا القطاع أو ذاك في الاقتصاد السوري، لم يبادر أحدٌ من الاقتصاديين السوريين الأكفاء حتى اليوم أن يشخِّص الوضع الاقتصادي السوري خلال العهد البعثي ثم العهد الأسدي خصوصًا، في غياب أي مشروع حقيقي لدى السلطة السياسية في النهوض بالبلد اقتصاديًا وثقافيًا واجتماعيًا، ومدى الخراب الذي أصابه بفعل انتشار الفساد والعقلية الانتهازية.

هكذا، وفي محاولة العمل دومًا بوسائل مختلفة على سدِّ مختلف الثغرات الناتجة عن مشكلات الوضع الاقتصادي السوري، التي كان لها على الدوام آثارها على حياة السوريين اليومية، وجد النظام الأسدي في جمعية اقتصادية قائمة قبل استحواذه على السلطة خير أداة يستثمر فيها خبرات الاقتصاديين السوريين، في الوقت الذي يتيح لهم أيضًا فرصة المشاركة الممكنة بصورة ما، تحت رقابته وبموافقته، من خلال تقديم خبراتهم ورؤاهم في حل مشكلات الوضع الاقتصادي السوري. لكنه بالمقابل، لم يكن ليسمح في إنشاء جمعية للعلوم السياسية أو مركز بحوث ودراسات اجتماعية تدرس مختلف المشكلات الاجتماعية التي تنخر في نسيج المجتمع السوري، في مدن وقرى مختلف المناطق السورية.

ج‌.                 في مجال العلوم الاجتماعية: البحث الاجتماعي

 سبقت الإشارة إلى الكيفية التي منعت بها وزارة الثقافة فيلمًا وثائقيًا كان حرفيًا دراسة توثيقية بالصوت وبالصورة لحياة قرية سورية عادية في منطقة الجزيرة. لم يكن هذا المنع صدفة ولا قرارًا عابرًا بقدر ما كان مثالًا صارخًا وصفيقًا على موقف أية سلطة استبدادية من كل محاولة لوضعها بوصفها كذلك أو لوضع ممارساتها موضع نقد ولا سيّما عندما يضع هذا النقد النقاط على الحروف على نحو لا يُردّ. تتسامح في ضروب النقد المختلفة ما دامت عامة أو نسبية تثير النقاش والاختلاف، لكنها لا تسمح بأي نقد يتجاوز الحدود التي يمكن لتجاوزها في أي عمل نقدي أن يهدد وجود هذه السلطة. والميدان الأهم الذي يمكن أن يكون مصدر مثل هذا النقد، سواء في مجال الدراسات الميدانية أو الوصفية أو التحليلية، هو ميدان علم الاجتماع ولا سيّما في فروعه المشار إليها، أي تلك البعيدة عن المجال النظري أو التاريخي. إذ بخلاف ميادين الثقافة أو المعرفة الأخرى، يمكن لتاريخ مسار علم الاجتماع دراسة وبحثًا وتدريسًا في سورية أن يقدم مثلًا حيًّا على هذا الوضع الفريد في العالم العربي. لا بدّ من الإشارة إلى أن ذلك لم يبدأ مع النظام البعثي والأسدي، لكن هذا الأخير حاول بفعل الضرورات السياسية، احتواءه والاستفادة منه في إطار سياسته الثقافية في الإدارة وفي التسويق.

ذلك أنه كان قد حيل بين المثقفين السوريين، أكانوا أساتذة جامعيين أو باحثين في العلوم الاجتماعية، القيام بأي بحث يمكن أن يتناول أي جانب من جوانب المجتمع السوري المعاصر، لا تاريخيًا ولا اجتماعيًا. بل إن الذين درسوا منهم علم الاجتماع في أوروبا أو في الولايات المتحدة، خلال النصف الأول من القرن العشرين، على ندرتهم، لم تتح لأيٍّ منهم الفرصة أن يدرّسَ في جامعة دمشق التي لم تكن قد خصصت لهذا الفرع من العلوم الاجتماعية قسمًا خاصًّا به قبل ثمانينيات القرن الماضي، بعد أن كان مجرد فرع إلى جانب الفلسفة في كلية الآداب: قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية الذي أنشئ عام 1947. لكن تعليم العلوم الاجتماعية أو الدراسات الاجتماعية، حين كان جزءًا من قسم الفلسفة، اقتصر حتى عام 1976 على تدريس مادتين خلال السنوات الأربع الجامعية المقررة لنيل الإجازة في الفلسفة وفي عِلمَيْن: علم الاجتماع، من خلال دراسة نظريات علم الاجتماع ومناهجه وتاريخه من دون دراسات تطبيقية تمس المجتمعات العربية عمومًا والمجتمع السوري خصوصًا، وعلم النفس الذي كان تعليمه يتناول مدارس علم النفس ومناهجه وتاريخه. كان لكل من المادتيْن أستاذها المختص. واعتبارًا من عام 1983/1984، حسب أحمد برقاوي، جرى الإعلان عن هيكلة جديدة لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية الذي صار يضم شعبتيْن: شعبة الفلسفة وشعبة علم الاجتماع، يرأس كلًّا منهما رئيس[43]. ولم يجرِ إنشاء قسم علم الاجتماع وتدريسه بصورة مستقلة على غرار معظم الجامعات العربية والأجنبية إلا في عام 1999/2000، بعد أن بدأ بالعودة إلى سورية للتدريس مبعوثو وزارة التعليم العالي للحصول على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع، سواء في الجامعات المصرية أو الجامعات الأوروبية أو جامعات بلدان الكتلة الشرقية قبل انهيار الاتحاد السوفياتي[44].

لكن مثل هذا التغيير، الذي كان يمكن أن يكون ذا دلالة تاريخية، لم يكن أكثر من تغيير شكلي على غرار البنى السياسية والاجتماعية والثقافية الأخرى في النظام الأسدي، التي لخصتها الباحثة الأميركية ليزا وادين، في كتابها (السيطرة الغامضة)[45]: "كما لو أنّ"! يكفي الاطلاع على عناوين الكتب التي وضعها أساتذة علم الاجتماع لطلابهم في الفرع الذي لم يكن أكثر من فرع تابع لقسم الفلسفة، كي نتبين أن الرقابة كانت تفرض عليهم، مثلما تفرض على زملائهم في الكليات الأخرى، ضربًا من الرقابة الذاتية التي تحقق مراد السلطة القائمة من خلال عدد من ممثليها، كما يكتب أحمد برقاوي في شهادته، إذ إنه "بقرب كلية الحقوق التاريخية بُني مقر الحزب. ومع وجود مكتب يُدعى مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية فقدت الجامعة شخصيتها واستقلالها، وأصبحت الجامعة محكومة بثلاثة سُلط: سلطة المخابرات، سلطة الحزب- مكتب التعليم العالي، فرع الحزب لجامعة دمشق، اتحاد الطلبة"[46]. كانت هذه السلطات الثلاث (التي لم يكن لها وجود قبل انقلاب عام 1970) التي اتخذت مقرها في قلب الحرم الجامعي، تقوم بتجسيد "الضمير" الذي كان حافظ الأسد يكرر الحديث عنه بوصفه الرقيب الوحيد على الفكر، من دون أن يحدّد ما إذا كان ضمير الفرد السوري الحر أم ضمير الأمن السوري.

بل إن ضروب التنافس الصامت بين مؤسسات الدولة ذاتها كانت تمارس فعلها التخريبي في تفضيل هذا الخيار أو ذاك حسب القوة الداعمة لمسؤول هذه المؤسسة أو تلك، كما كان يحدث على سبيل المثال بين وزير التعليم العالي ورئيس جامعة دمشق ومجلس الجامعة، أو بين وزير الثقافة ومدير عام إحدى المؤسسات المرتبطة بالوزارة كالمؤسسة العامة للسينما أو المعهد العالي للفنون المسرحية. وكانت حصيلة هذا التنافس دومًا تتجلى في تحقيق الغاية المرجوة من سماح السلطة العليا بوجوده: وضع جميع الفاعلين الثقافيين تحت الهيمنة القصوى. هكذا ستؤدي شعبة علم الاجتماع -تحت الرقابة- وظيفة تأخر البدء بتنفيذها قرابة سبعين عامًا، أي منذ عودة أوائل الطلبة السوريين، الذين حصلوا بتفوق على الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة باريس، إلى سورية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كي يُعينوا في كلية الآداب التي ما لبثت أن ألغيت من قبل سلطة الانتداب الفرنسية، وكي ينقل أحدهم بعد ذلك إلى القصر الجمهوري أمينًا عامًا لرئاسة الجمهورية[47].

لم يكن اختيار الحديث هنا حول قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية عمومًا وعلم الاجتماع خصوصًا إلا مثالًا على الطريقة التي اتُّبعت في تدمير التعليم العالي، للحيلولة دون نشوء جيل نشيط من المفكرين والباحثين في قضايا المجتمع السوري الراهنة، ودليلًا مباشرًا وماديًّا على هذا الدمار والغرض المنشود منه. ذلك أنه يفترض بهذا القسم أن يكون في ما يتعلق بالفلسفة ميدان تنمية التفكير الحر وتنشئة جيل يعرف صوغ الأسئلة الخاصة بالإنسان ومناقشتها وبحثها في كل مجال يتعلق بوجوده في العالم وفي المجتمع. وأن يكون في ما يتعلق بعلم الاجتماع مدرسة عليا لإعداد جيل من الباحثين يتناولون مشكلات مجتمعهم بالبحث والدراسة وفق معايير البحث العلمي، بمعزل عن المحرمات التقليدية أو التي يقررها النظام السياسي الأمني. سوى أن هذا الأخير كان بالمرصاد لكل خطوة يمكن أن تؤدي إلى خرق هذه المحرمات.

والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تُحصى. على صعيد النشاط الفكري الجامعي، هناك مثلًا الأسبوع الثقافي الفلسفي الشهير (1994 ـ 1997) الذي اقترح تنظيمه بناء على خطة مسبقة لدى السلطة، حامد خليل، عميد كلية الآداب الذي كان "يؤدي وظيفة إدارية وحزبية وسياسية"، والذي دعا للمشاركة في تنظيمه أربعة أساتذة متمردين من بين سائر أساتذة قسم الفلسفة ـ وربما لأنهم كانوا على وجه الدقة متمردين، لا يمكن النظر إليه إلا بوصفه محاولة من السلطة التي وافقت عليه لاحتواء من جرى اختيارهم لتنظيمه من ناحية، وللبرهنة على أن هذه السلطة تتيح حتى لمعارضيها حرية التفكير والنقاش، كما هي العادة في الجامعات المرموقة في العالم؛ ومع ذلك كان المخبرون لا يتوانون عن كتابة التقارير لمسؤوليهم حول نشاطات الأسبوع الثقافي، وكانت ترسل التقارير بصورة روتينية إلى حامد خليل للرد عليها، وحين مرض هذا الأخير، لم يعد ثمة في نظر السلطة التي عملت على تنظيم الأسبوع بواسطته ما يبرر استمراره، فتوقف منذئذ نهائيًا[48].

أما على صعيد اختيار الأساتذة الجامعيين، فلم يكن المعيار الأساس هو الشهادة والخبرة والقابلية، بقدر ما كان الانتماء إلى الحزب الحاكم. أما الذين استطاعوا الفوز بالتعيين أساتذة في الجامعات السورية، من دون ملء هذا الشرط الأساس، فقد كانوا في الغالبية العظمى منهم، وعلى قلة عددهم، إما ممن سبق أن أوفدتهم وزارة التعليم العالي في بعثة دراسية، والذين لم تكن معايير اختيارهم للإيفاد تختلف، مع استثناءات نادرة، عن تلك المتبعة في مختلف مؤسسات الدولة، أو ممن كانت أسماؤهم قد فرضت نفسها في المشهد الثقافي والفكري داخل سورية وخارجها، أو اضطرارًا على الصعيد الإداري كما جرى تعيين حسام الدين درويش مدرسًا في قسم الفلسفة بجامعة تشرين السورية. كان ذلك أحد الأسباب الرئيسة في هبوط مستوى التعليم الجامعي إلى مستويات غير مسبوقة في جامعة كان تصنيفها بين أوائل الجامعات العربية. وباستثناء عدد قليل من الأساتذة بجامعة دمشق، كان معظم الأساتذة العاملين في مختلف الجامعات السورية يمارسون مهنة التعليم في غياب أي معيار من معايير المهنة أو المسؤولية التربوية، كما تشهد على ذلك سرديات العديد من الطلبة الجامعيين الذين درسوا في هذا القسم، ليس أقلها أن بعض الأساتذة يمنحون الدرجات على أبحاث لم يقرؤوها، أو أنهم يدرسون واحدًا من أصعب كتب ابن عربي، "فصوص الحكم" بقراءة فصوصه واحدًا بعد الآخر، أو بمناقشة رسالة نيل الدكتوراه من دون قراءة الرسالة[49]. كان أحمد اليوسف، حامل الدكتوراه في الفلسفة من جامعة بوردو بفرنسا، بعد أن درس الفلسفة في المرحلة الجامعية الأولى في كلٍّ من جامعة تشرين باللاذقية وجامعة دمشق، يسرد في شهادته المنشورة في الملحق، والتي وضع لها عنوانًا يقول حقيقة ودلالة التعليم الجامعي "في العهد الأسدي: جامعات التأديب"، بعض المشاهد التي تبدو كما لو كانت ضروبًا من غرائب وعجائب مسرح ساخر لكن مسرحها كان يتمثل واقعًا في الجامعات السورية طوال العهد الأسدي، الأب والابن[50].

ولعلَّ تطور تدريس علم الاجتماع في جامعة دمشق يقدم أوضح الأمثلة على منطق وفحوى السياسة التعليمية في مجال العلوم الإنسانية والاجتماعية، فضلًا على الحدود المقررة لها شكلًا وموضوعًا. لم يكن علم الاجتماع يحتل في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية عند إنشائه عام 1947، كما سبق القول، إلا جزءًا بسيطًا من مجمل برنامج القسم يكاد يقتصر على مادتي علم الاجتماع وعلم السكان، اللتيْن كانتا تُدرسان في خطوطهما النظرية العامة. وحين تقرر الاهتمام بهذا العلم بصورة خاصة، أُنشئت في إطار القسم ذاته شعبة خاصة به جنبًا إلى جنب وباستقلال عنها شعبة الفلسفة، ما لبثت بعد سنوات عشر أن أعيدت هيكلتها قسمًا مستقلًا على قدم المساواة الإدارية والتنظيمية مع قسم الفلسفة وسواه من أقسام كلية الآداب الأخرى[51]. تضمن برنامج المواد في هذا القسم، بدءًا من المرحلة الجامعية الأولى (الإجازة أو الليسانس)، ومرورًا بالمرحلة الثانية (الماجستير)، وانتهاء بالمرحلة الثالثة (الدكتوراه)، تدريس كل الميادين الضرورية في مجال علم الاجتماع، أي من الميدان النظري المحض، مرورًا بالمدارس والمناهج، ووصولًا إلى ميادين الدراسات التطبيقية. وقد ذكر طلال المصطفى في بحثه حول "السوسيولوجيا الأكاديمية السورية"[52] مختلف الموضوعات التي وضعتها هيئة المدرسين حين إنشاء شعبة علم الاجتماع، والتي أعيد النظر فيها مع إنشاء قسم علم الاجتماع للاستجابة كما يقول الكاتب "لواقع المقررات التدريسية لعلم الاجتماع في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية السياسية الجديدة التي طرأت في المجتمع السوري، بداية بالانفتاح الاقتصادي بتشجيع الاستثمار الخاص السوري والعربي والأجنبي مرورًا بمجموعة من القوانين الاقتصادية، وانتهاء بتبني اقتصاد السوق الاجتماعي من قبل الحكومة عام 2005 م، والانفتاح الإعلامي من خلال توفر (الدشات [هوائيات التلفزيون]، الأنترنيت، الكمبيوتر… الخ ) وبروز العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية كنتيجة للتحضر والتصنيع والتحديث المشوه،..". إلا أنه ما كان لهذا الاحتفاء المتأخر بعلم الاجتماع، عن طريق إنشاء قسم خاص به، أن يؤدي إلى ملء الفراغ الكبير الذي عانى منه التعليم الجامعي في مجال العلوم الاجتماعية عامة، نظرًا لغياب سياسة تعليمية جامعية متسقة كان يمكنها التنسيق بدايةً على صعيد إعداد الأساتذة والمدرسين. هناك من جهة وجود تفاوت مناهج ونظم التعليم في هذا الميدان ما بين التي خضع لها الأساتذة العائدون من جامعات البلدان الاشتراكية، أو تلك التي تأثر بها من درسوا في الجامعات الغربية عمومًا بما في ذلك التفاوت ما بين نظم ومناهج التدريس في الجامعات الأنكلوساكسونية (الأميركية والبريطانية) وفي الجامعات الفرنسية. وهناك من جهة أخرى غياب الحرية الجامعية الراسخة في جامعات الدول الديمقراطية العريقة، وتنافس فصائل السلطة الأسدية (قائد سرايا الدفاع حتى خروجه من سورية، وحزب البعث، ومختلف الدوائر الأمنية بكل اختصاصاتها جنبًا إلى جنب) من أجل الهيمنة عبر أتباعها أو محميّيها أو عملائها من أساتذة وطلبة على مختلف أقسام الجامعة وأدائها وظائفها. ولذلك لا يمكن أن تأتي استنتاجات دراسة قام بها طلال المصطفى حول واقع البحث السوسيولوجي في جامعة دمشق بين عامي 2005 و2014 من خلال دراسة تقويمية للرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) التي أنجزت فيها خلال الفترة المذكورة مفاجئة في تشخيص هذا الواقع المريض. إذ إن الرسائل المدروسة التي بلغ عددها 123 رسالة، منها 41 رسالة دكتوراه حققت الشروط في نظر كاتب البحث، أي " الشروط المنهجية المطلوبة كافة، بمعنى توفر إطار نظري وصياغة واضحة للمشكلة والفرضيات، والمنهجية وربط الإطار النظري بالإطار الميداني، ولكنها قليلة جدًا حيث لم تصل نسبتها إلى 17 % من عينة الرسائل المبحوثة"[53]. وعلى أن باقي الرسائل لم يحقق هذه الشروط، إلا أن أصحابها حصلوا على الدرجة العلمية التي قدموا رسائلهم من أجلها. وهو ما يشير بوضوح إلى انحدار مستوى التعليم الجامعي وضحالته في قسم أُنشئ حديثًا، وجرى اختيار أساتذته وإعدادهم في الجامعات الأجنبية، كما سبقت الإشارة، خلال سنوات السبعينيات والثمانينيات.

في خاتمة بحثه عن السوسيولوجيا الأكاديمية السورية، يخلص طلال المصطفى إلى أن المشكلة التي تعترض سبيل علم الاجتماع في سورية هي "القيود السلطوية الاستبدادية" التي تمنع الباحثين الاجتماعيين السوريين "من دراسة الجوانب المختلفة للمجتمع، خصوصًا الجوانب السياسية والأيديولوجية والقيمية، دراسة علمية وموضوعية، وبالتالي وجدنا معظم رسائل الماجستير والدكتوراه والأبحاث العلمية المحكمة تدور في فلك السياسة العامة للنظام السياسي الاستبدادي. ومثل هذه الظروف لا تشجّع الباحثين على معرفة ماهية الأسباب والظواهر التي تكمن خلف جمود وسكون بعض قطاعات وأجهزة المجتمع". وعلى أنه يحدد المشكلة "التي يعاني منها علم الاجتماع في سورية وهي ميل بعض الباحثين الاجتماعيين نحو اعتماد الأسلوب الوصفي في الدراسة والتحليل"، وأنه "لما كان هذا الأسلوب يقتصر على الوصف ويبتعد عن التحليل العلمي الموضوعي للظواهر الاجتماعية، فإن علم الاجتماع لا يستطيع فهم ظواهر وملابسات المجتمع فهمًا كليًا ودقيقًا إلا بالاستناد الى منهجية علمية نقدية". لكنَّ مردَّ هذه المشكلة واقعيًّا يتجسَّد في المشكلة الأم، أي في الفوضى التعليمية المتمثلة في تكوين الأساتذة العلمي، وفي قدراتهم الفعلية لممارسة التعليم، فضلًا عن غياب سياسة تعليمية واضحة، من جهة، وكذلك إلى غياب الإرادة الرسمية لدى السلطة في تكوين باحثين علميين يسهرون على تطوير وممارسة البحث الاجتماعي العلمي الذي يمكن أن تستخدمه دليلًا لها في حل المشكلات الاجتماعية المختلفة التي تواجهها.

ج. المرحلة الأسدية الثانية 2000 ـ 2011:

الآمال القتيلة

بدت أشهر السنة الأولى التي تلت وفاة الأسد الأب، وافتتحت باستعارة التقليد الملكي في وراثة السلطة من أجل نظام يعتبر نفسه "جمهوريًّا"، وهو ما تجلى في توريث غير مكتوب لابن الرئيس في النصف الثاني من عام 2000، وكأنها تقدم سمات السنوات القادمة في التلفيق والكذب والمظاهر الخدّاعة. أول مظاهر الخداع أنه لا بدّ من احترام دستور كان الأب قد أقرّه قبل وفاته بتعديل السنّ القانونية المحددة فيه للرئيس القادم، وهو ما حمل "مجلس الشعب" على الاجتماع في الساعة التي أذيع فيها خبر وفاة حافظ الأسد (الساعة السادسة مساء يوم 10 حزيران 2000) من أجل تعديل المادة 83 من الدستور الخاصة بالسن القانونية الواجبة لمرشح الرئاسة من 40 إلى 34 سنة، والتي جرت الموافقة على تعديلها بالإجماع في الجلسة ذاتها.

ومع أن مجرد القيام بهذه الخطوة بصفاقة منقطعة النظير كان يجب أن يثير الشكوك بكل الخطابات التي سيسمعها السوريون من الرئيس الجديد، بدءًا بخطاب القسم عند توليه رئاسة الجمهورية رسميًا، حول الانفتاح واحترام الرأي الآخر والمواطنة، فإن المثقفين السوريين الذين كانوا قد عرفوا وعانوا مصائب "جمهورية الصمت" التي رسَّخ الأسد الأب جذورها، فجروا بالسرعة نفسها جدران الخوف، وأطلقوا ما سيحمل اسم ربيع دمشق من خلال البيان الذي وقّع عليه تسعة وتسعون منهم يطالبون فيه بإلغاء حالة الطوارئ، والإفراج عن معتقلي الرأي والضمير لأسباب سياسية، وإطلاق الحريات العامة، والاعتراف بالتعددية السياسية والفكرية، وحرية الاجتماع والصحافة والتعبير عن الرأي، وتحرير الحياة العامة من القيود والرقابة، وطفقوا، اعتبارًا من شهر أيلول 2000، يؤسسون المنتديات الخاصة ذات الطابع السياسي في دمشق وحلب وحمص وطرطوس واللاذقية، دون الحصول أو محاولة الحصول على ترخيص رسمي، فارضة بنشاطها نفسه شرعية الأمر الواقع. وقد استطاعت هذه المنتديات طوال سبعة أشهر تقريبًا تفعيل الحوار بين السوريين، وطرح مشكلات النظام السوري بلا مواربة على الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والإنسانية والثقافية وبصوت عالٍ، من خلال المحاضرات والمناقشات التي شارك فيها معظم المثقفين السوريين داخل سورية وخارجها. وكان لا بدّ لذلك كله من أن يثير حفيظة المنظومة الأمنية التي بدأت عن طريق عملائها طرح مشكلة شرعية هذه المنتديات على الصعيد الرسمي، نظرًا لعدم إشهارها قانونًا بوصفها جمعياتٍ ثقافية أو أحزابًا سياسية، والبدء في تشديد الإجراءات تدريجيًا على نشاطاتها. إذ حين قام رياض سيف مع ذلك بإعلان إعادة تنشيط منتدى الحوار الوطني الذي سبق أن افتتح نشاطه تحت هذا الاسم، في أيلول/ سبتمبر 2000، وأعلن قبل شهر من موعدها عن محاضرة يلقيها برهان غليون في السادس من أيلول 2001، قامت السلطة باعتقاله غداة إلقاء المحاضرة، وقُدّم للمحاكمة، وحُكم بالسجن خمس سنوات، مثلما قامت باعتقال عدد آخر من المثقفين والمحامين والأطباء الناشطين في منتديات دمشق وحلب وحمص الأخرى، فارضة بذلك حظر كل نشاط سياسي أو ثقافي في إطار جمعيات غير مرخصة قانونًا كانت قد رفضت الترخيص لها عند طلبها ذلك، بعد أن قامت بإغلاق المنتديات السياسية نهائيًا، في آذار/ مارس 2001، واضعة بقرارها هذا خاتمة لربيع دمشق.

كانت هذه الخاتمة لفيض من الآمال والطاقات المتجددة تعني بكل وضوح استئناف المنظومة الأمنية ممارسة مهامها في الهيمنة مجدَّدًا على مفاصل الحياة السياسية والاجتماعية في سورية. وكان جيل آخر جديد قد بدأ حياته العملية في مجالات الثقافة المختلفة يقع تحت وطأة هذه الهيمنة التي عرفها جيلان من قبله. هيمنة أمنية وطرق في الاحتواء من قبل وزارة الثقافة كانت في بعض الميادين وبطرق أخرى تطال التعليم أو الإنتاج الفني في مجال الموسيقى أو المسرح أو رقص الباليه الذي كان مبنى دار الأوبرا الجديدة بدمشق، والتي حُمِّلت اسم "دار الأسد للثقافة والفنون" -على غرار المكتبة الوطنية التي أضحت هي الأخرى "مكتبة الأسد"- يضم فيه معهديْ الموسيقا والمسرح، ومدرسة الباليه.

كان الأساتذة الذين جيء بهم من الاتحاد السوفياتي، ثم من روسيا بعد انهيار هذا الأخير، يدرّسون الموسيقى الكلاسيكية في معهد الموسيقا، أو رقص الباليه في المدرسة المخصصة للباليه. ومن ثم فقد كانت المناهج المتبعة في التعليم تسير على هدي معاهد الموسيقا والباليه في موسكو: صارمة صرامة التربية العسكرية، ومعادية لكل تجديد يخرج عن القواعد الكلاسيكية في هذين الميدانين[54]. لكن الشروط الاجتماعية والتربوية التي كان التلامذة السوريون يعيشون وفقها في سورية كانت مختلفة كليًّا عن تلك التي كان التلامذة الروس يعيشون وفقها في دولة شمولية كانت تولي هذين المضمارين اهتمامًا خاصًا تربويًا ومنهجيًا لتنشئة جيل متفوق عالميًا من الموسيقيين أو راقصي الباليه حرصًا على استمرارية تراث عريق عرفه كونسرفاتوار تشايكوفسكي، أو مسرح البولشوي بموسكو. لم تكن سورية تعرف هذا التراث في الميدانين: الموسيقى الكلاسيكية والباليه. ومن ثم ما كان للنهج الذي سار فيه هذان المعهدان، الموسيقا والباليه، أن يؤدي إلى الغاية المرجوة منهما. مضى على تأسيس معهد الموسيقى بدمشق أكثر من أربعين عامًا تخرّج منه العديد من الطالبات والطلبة السوريين الموهوبين، لكن تنشئتهم ورعايتهم التي اقتصرت على هذين المعهدين كما يبدو لم تؤد بهم إلى أن يقدّموا نتاج مواهبهم داخل بلادهم من أجل تنمية الذائقة الفنية لدى الجمهور في هذين المجالين، كما لم يكن بوسعهم لأسباب مختلفة أن يقدّموا هذا النتاج خارجها على غرار أمثالهم من موسيقيين عرب آخرين أتيحت لهم فرص التعليم في المعاهد الموسيقية الغربية على اختلافها ولمعت أسماؤهم سواء على الصعيد المحلي في بلدانهم أو على الصعيد العالمي[55].

لكن هيمنة دوائر الأمن أو الاحتواء الذي تحاوله باستمرار وزارة الثقافة كانا لا يقتصران على مراقبة كل حركة ونأمة في كل نشاط ثقافي، بل يطالان أيضًا كل ما يخص المبادرات الفردية أو الخاصة في مجال الإنتاج الفني. ذلك ما اكتشفه جيل الشباب السوري الذي كان يبدأ حياته العملية عندما استبشر خيرًا بربيع دمشق. لكنه سرعان ما تبيَّن له أنه سيعيش بدوره ما عاشه الجيل السابق، مع بعض تعديلات تجميلية في الشكل لم تكن تمسُّ الجوهر، فضلًا عن ضروب من الفساد بدت في ممارستها العلنية وكأنها باتت تقليدًا اجتماعيًا واقتصاديًا لا غبار عليه[56].

يوجز المسرحي زياد عدوان في نصٍّ له الوضع السوري كما رآه بأم عينيْه بعد غياب فترة طويلة عنه قائلًا: "عبارات من نوع (الأسد أو نحرق البلد، بالذبح جيناكم، الموت ولا المذلة، زحف اللاجئين نحو أوروبا) هي ما يحدث بالفعل. ليس الأمر استعارات، بل توصيف حرفي لما يحدث. تجاوز الواقع السوري الشعر والاستعارة، وكل ما يقال هو ما يحدث حقيقة. كيف لنا كمسرحيين أن نعبر عما يحدث؟ مجالنا هو الخيال، ولكن الواقع استحوذ على الخيال، وبات كل ما يمكن أن يقال هذرًا أمام ما يحدث. يشكو البعض من أن الشعر هو الكلام الغامض وغير المفهوم، وسورية كانت، ولا زالت، غامضة وغير مفهومة. سورية كانت ولا زالت، منطقة عسكرية: يمنع الاقتراب أو التصوير"[57].

المثقف الامتثالي

على نقيض المثقف العضوي، يمكن القول إن المثقف الامتثالي يقال على معان عدة أو أنه يتمثل في وجوه عدّة، فهو في واحد من وجوهه، موجود في كنف السلطة، أيًّا كانت طبيعة نظامها أو أيديولوجيتها، ومن ثم فهو يعتنق مبادئها، ويؤمن بقيمها، ويردد خطابها مدافعًا عن مواقفها وقراراتها، فضلًا عن أنه يتجاهل بصفاقة منقطعة النظير قيم الحرية والعدالة؛ وفي وجه آخر موجود في كنف طائفته، معتنقًا قيمها تاريخيًا وراهنًا، ومدافعًا عن مصالحها المعنوية والمادية، وفي وجه ثالث موجود في كنف الانتماء الإثني العرقي، قيمًا وتاريخًا ومصالح. وهو نوع من المثقفين عرفته مختلف بلدان العالم العربي، حسب ضروب التنوع التي تميزها عن سواها طوال السنوات السبعين الماضية، مثلما عرفت في الوقت نفسه نقيضه المثقف العضوي، سوى أن دوافعه، بخلاف هذا الأخير، لا تصدر في أغلب الحالات عن موقف أخلاقي أو فكري أو سياسي بقدر ما تصدر، بصورة عامة، عن موقف مادي يتجوهر في "المصلحة المادية" التي تتخذ وجوهًا متعددة حسب ظرفيْ المكان والزمان. وهي مصلحة تراوحت في سورية خلال العهد الأسدي خصوصًا بين المنفعة المادية المرتبطة أيضًا بالانتماء الطائفي وبسببه، وبين المصلحة التي تمليها المنفعة المادية البحتة بمعزل عن أي وازع أو موقف أخلاقي، أي تلك التي لا يمكن ردّها إلا إلى عقلية انتهازية محضة.

برز هذان النموذجان من المثقفين في سورية في العهد الأسدي خصوصًا، لكن نموذج المثقف الامتثالي بوجوهه المختلفة احتل في المشهد الثقافي السوري المكانة الأولى خلاله طوال أربعين عامًا، هذا في الوقت الذي سجل نموذج المثقف العضوي وجوده وحضوره في هذا المشهد بقوة وفي مناسبات مختلفة، كان أهمها، كما سبقت الإشارة، عام 1979، وربيع دمشق عام 2000 إثر توريث بشار الأسد رئاسة الجمهورية، نظرًا لمختلف ضروب القمع التي واجهها على إثر كل من الحدثين المذكورين. ولعل ما أسهم في رواج هذا النموذج من المثقفين تغييب المثقفين العضويين في السجون أو في دفعهم إلى الهجرة أو الاختفاء الإرادي بعيدًا عن أعين رجال الأمن. وكان حضور المثقف الامتثالي في مختلف وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية طاغيًا على الصعد كلها، وفي مقدمتها الترويج لصورة الرئيس ومآثره وحنكته وعبقريته السياسيتين، وتفرده تاريخيًا بين سواه على الصعيد السوري والعربي. لكن المثقف الامتثالي كان أيضًا في خدمة دوائر الأمن بمختلف فروعها واختصاصاتها. فهو من يكتب التقارير خلال المؤتمرات التي يشارك فيها السوريون داخل سورية وخارجها، وهو الذي يراقب الكتب المقدمة للسماح بنشرها، سواء أكان الناشر مؤسسة رسمية أو دار نشر خاصة. كما أنه، وهو الذي لا تستيقظ قدراته النقدية إلا حين يرغب في الإساءة إلى من لم تسعفه الفرصة كي يمنع كتابه، يدبّج مقالات نقدية غنية مستخدمًا الحجة الناجحة دومًا في المجال السياسي، عن طريق الإشارة على سبيل المثال إلى "صهيونية" هذا الكاتب الأجنبي أو "يهوديته" الذي جرت ترجمة أعماله الأدبية، ينشرها في إحدى الصحف السورية الثلاث، ويسوق في الوقت نفسه نشرها في مختلف الصحف العربية لتثبيت "مواقفه الوطنيته".

على أن وجود المثقف الامتثالي في نسخته الأشد جهلًا كان قد تمثلت في ميدان التعليم العالي خصوصًا، ولا سيّما في السنوات الثلاثين الأخيرة. وكان لهؤلاء الذين جرى تعيينهم أساتذة أو رؤساء أقسام أو عمداء كليات في العلوم الإنسانية والاجتماعية جولات وصولات في التأثير السلبي على مجرى التعليم العالي، وكذلك في تدمير ثقة الطلبة الواعين بمؤسساتهم التعليمية وبجدواها. وهو ما يفسر وضع الهبوط الاستثنائي الذي وصلت إليه جامعات سورية ومؤسسات التعليم العالي فيها خلال العهد الأسدي.

خلال العقد الأول من الألف الثالث، ولدت أول وسيلة للتواصل الاجتماعي "فيس بوك" على إثر بدء انتشار الهواتف المحمولة. وسيكون الجيل السوري الجديد الذي كان يجتاز العقد الثاني من عمره آنئذ أول المستفيدين/ المستثمرين لإمكانات هذه الفضاءات الجديدة التي ستتكاثر شهرًا بعد شهر. إذ بدا لأفراده مدى الحرية التي تتيحها فضاءات هذه الوسائل الجديدة المبتكرة للتعبير بالكلمة وبالصورة بداية عن كل ما يمكن أن يجول في أذهانهم. ولسوف يكون الشباب السوري اعتبارًا من عام 2008 من أوائل المستفيدين من هذه الوسيلة في التواصل التي سيستخدمونها بعد سنتين في إطلاق ثورتهم والتواصل فيما بينهم على الأرض السورية التي استجابت مدنها وقراها لنداء الحرية والكرامة في آذار/ مارس 2011.

 

المراجع باللغة العربية:

ــ عن العمل الثقافي السوري في سنوات الجمر، تقديم سلام كواكبي، شارك فيه د. ماري إلياس، راما نجمة، المركز السوري لبحوث السياسات. دار ممدوح عدوان للنشر والتوزيع ـ دمشق، ومؤسسة اتجاهات ـ ثقافة مستقلة، بيروت، 2016.

ــ ثروت عكاشة، مذكراتي في السياسة والثقافة، الجزءان الأول والثاني، مكتبة مدبولي، القاهرة (بلا تاريخ).

ــ عمر الشيخ، (أسعد فرزات، أنس زرزر، حمزة رستناوي، علي سفر)، كيف صارت الثقافة أداة أسدية؟ مثقفون سوريون يفككون اللعبة، المدن، |السبت 24/8/2019.

ــ رضوان زيادة، ربيع دمشق، قضايا ـ اتجاهات ـ نهايات، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، سلسلة قضايا الإصلاح (17).

ــ زياد عدوان، حين يصبح المسلسل السوري هو العمل، ما العمل؟، موقع الجمهورية، 5 تشرين الثاني/نوفمبر 2020.

ــ طلال المصطفى، السوسيولوجيا الأكاديمية السورية، موقع الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية:

https://syrian-sfss.org/studies/%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b3%d9%8a%d9%88%d9%84%d9%88%d8%ac%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%83%d8%a7%d8%af%d9%8a%d9%85%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%88%d8%b1%d9%8a%d8%a9/

ــ ليزا وادين، السيطرة الغامضة، ترجمة نجيب الغضبان، رياض نجيب الريس، بيروت 2010،

ــ ليف ستينبرغ، مشروع أسلمة حي، ميراث الشيخ أحمد كفتارو، ترجمة بدرالدين عرودكي، معهد العالم للدراسات، إسطنبول، 24/12/2016.

ــ ميريام كوك، صناعة الفن المعارض، ترجمة حازم نهار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2018.

ــ عن تصريحات زهران علوش حول الإسلام والديمقراطية:

 https://arabi21.com/story/878283/%D8%AF%D9%8A%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%8A%D8%AD%D8%A7%D9%88%D8%B1-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D8%AF-%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%B2%D9%87%D8%B1%D8%A7%D9%86-%D8%B9%D9%84%D9%88%D8%B4

https://www.youtube.com/watch?v=LoEUREY14iY&ab_channel=bilalsakbani

https://www.youtube.com/watch?v=m8ATj9J-OYo&ab_channel=%D8%B2%D8%A6%D8%A8%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%A8%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%A7%D9%85%D8%AE

ــ هيئة تحرير الشام:

https://www.jesrpress.com/2021/03/05/%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D8%BA%D9%84%D9%8A-%D8%B1%D9%81%D8%B6-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%85%D9%82%D8%B1%D8%A7%D8%B7%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9/

 

المراجع الأجنبية

-                    La Syrie au présent, Reflet d’une société, sous la direction de:Boudouin Duperet, Zouhair Ghazzal, Youssef Courbage, Mohammed Al-Dbiyat, Sindbad/Actes Sud, 2007.

-                    Badr Eddine Arodaky, Intellectuel et pouvoir avant les mouvements de révolte dans le monde arabe, dans: Les Mouvements arabes de révoltes, Analyses et acteurs, Sous la direction de Jean-Philippe Cassar, Université de Lille et l’Institut du monde arabe, Lille 2017.

-                    Miriam Cooke, Dancing in Damascus, and the Syrian Revolution, 1st Edition, New York, 2016.

-                    Thomas Pierret, Baas et Islam en Syrie, La dynastie Assad face aux Oulémas, Presses Universitaires de France, Paris 2011.

-                    Ziad Adwan, The place of intellectuals'-The Higher Institute of Dramatic Arts in Damascus between dictatorship and the market, Journal of Global Theatre History, Vol. 4, N° 1, 2020.

-                    Ziad Adwan, The Opera House in Damascus and the “State of Exception in Syria”, New Theatre Quarterly, 147, Cambridge University Press, 30 june 2016.

 

ملحق

شهادات

حول الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا

 

المحتويات

 تقديم: هذه الشهادات، بدرالدين عرودكي...........................................................

أحمد برقاوي، السلطة وقسم الفلسفة في جامعة دمشق وأمور أخرى..........................           

أحمد اليوسف، شهادة على جامعات التأديب.......................................................

حسام الدين درويش، شذرات عن الجامعة السورية..............................................

حميد مرعي، مؤسسة السينما ذات يوم.............................................................

خلدون الشمعة، في ملكوت الطاغوت.............................................................

جمال سليمان، الثقافة في عهد الأسد................................................................

راشد عيسى، تدمير المسرح كظاهرة اجتماعية..................................................

زياد عدوان، سورية منطقة عسكرية: يمنع الاقتراب أو التصوير.............................

عاصم الباشا، الرحلة إلى الجرح....................................................................

علي فرزات............................................................................................

علي سفر، شهادة.......................................................................................

سلام كواكبي، حول ضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا...............................

طلال المصطفى، البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية في سورية.............

مأمون البني، تجربتي بين عامي 1963 و2011...............................................

محمد كامل الخطيب، هياكل الدولة المتخلفة وديكوراتها........................................

موفق قات، الثقافة عندما تتحول إلى منبر للدعاية................................................

مي سعيفان، في مدرسة الباليه، أربع تجارب.....................................................

وائل سواح..............................................................................................

واحة الراهب، حول الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا: 1963- 2010


هذه الشهادات

  بدرالدين عرودكي

لم يكن الوضع الثقافي والثقافة في سورية، منذ استحواذ حزب البعث على السلطة بانقلاب عسكري، في آذار/ مارس 1963، حتى انفجار الانتفاضة الشعبية في آذار/ مارس 2011، محلَّ اهتمام الباحثين السوريين أو الغربيين الذين اقتصروا في دراساتهم العديدة للعهدين البعثي والأسدي على ميداني السياسة والاقتصاد دون مقاربة ميدان الثقافة الذي لا يقل أهمية وخطورة عنهما، ولا سيّما أنه الميدان الأمثل الذي يشرعن التوصيف الأساس لقوام النظام السياسي الذي يقوم بتسييره والإشراف عليه، ديمقراطيًا إذ يحترم مبدأي الحرية والمواطنة المتساوية، أو سلطويًّا استبداديًّا إذ يكبِّلهما بالحدود وبالقيود.

ولذلك، حين جاءت مبادرة مركز حرمون في إطار مشروع أبحاث يقوم بها فريق قسم الدراسات فيه، وتتناول إعادة الإعمار في سورية القادمة، لا في المجالات المادية والسياسية والمجتمعية فحسب، بل الثقافية أيضًا كي تسدّ هذه الثغرة بدءًا من تشخيص الدمار في مختلف الميادين المشار إليها، لم يكن من الممكن، في غياب هذا الاهتمام، العمل على دراسة تتناول الثقافة والوضع الثقافي في سورية خلال العهدين البعثي والأسدي خلال ما يقارب خمسين عامًا، اعتمادًا على تجربة شخصية في عدد من الميادين الثقافية في سورية أيًّا كان مدى غناها أو تنوعها أو امتدادها في الزمان. ومن هنا كان الحلّ الممكن هو دعم هذه الدراسة بمجموعة من الشهادات الشخصية يكتبها عدد من المثقفات والمثقفين من جيلين مختلفين عاشوا جميعًا هذه الحقبة كلها أو نصفها الأخير كلٌّ في ميدان اختصاصه.

من بين الأصدقاء أو الزملاء الثلاثين الذين طلبت إليهم أن يكتبوا تجربة كلٍّ منهم الشخصية في ميدان عمله، كاتبًا أو جامعيًا أو فنانًا أو مدير مؤسسة ثقافية، قدّمَ تسعة عشر منهم شهاداتهم التي تنشر هنا بوصفها مرجعًا شديد الأهمية للتحليل الذي تضمّنته دراسة عملت على تشخيص الدمار الثقافي في سورية. جرى تحرير بعض هذه الشهادات بناء على حوار بيني وبين أصحابها جرى تسجيله ثم تلخيصه في نصٍّ أجازه المُحاوَر، أو بناء على إجابات مكتوبة عن أسئلة كُتبت خصيصًا للمُحاوَر، في حين كُتبت باقي الشهادات بعد عرض موضوع وعناصر الدراسة التي أقوم بها والأسباب الموجبة التي دفعت لطلب تقديم تجارب أخرى يمكن أن تدعم أو تصحح، وفي كل حال تغني التجربة الشخصية التي حملتني على القيام بهذه الدراسة، مثلما تغني في ذاتها موضوع هذه الدراسة: تشخيص الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا كما عاشته نخبة مهمة من المثقفين السوريين في مختلف ميادينه.

سيلاحظ القارئ أن هذه الشهادات ترسم بانوراما أو لوحة متكاملة لا بدّ منها لمعرفة تفاصيل العلاقة المعقدة في المشهد الثقافي السوري بين المثقف ومؤسسات السلطة الثقافية والأمنية التي لم يكن هدفها دعم الإبداع في القول وفي الفعل، بقدر ما كان احتواء كلِّ قولٍ وفعلٍ، فضلًا عن تسخيره لخدمة هدف آخر لها، كان يتجلى أساسًا إما في ترسيخ أركانها، أو في تسويق صورة عنها، يكذبها الواقع، لكنها تبرر بها كل قرار تتخذه في هذا الميدان، وتتسق مع منهجها في ميادين ممارساتها السياسية والاقتصادية والأمنية الأخرى.

ذلك كله يجعل القسم الأول من دراسة "الثقافة في سورية، من الدمار إلى البناء" والذي يحمل عنوان: "محاولة في تشخيص الدمار الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا" مدينًا لهذه الشهادات، لا في ما قدّمته من دعم كبير للتحليل فيه فحسب، بل حتى في اختلاف التأويلات التي اعتمدها هذا التحليل مع ذلك الذي اعتمده عدد من الأصدقاء في شهاداتهم المنشورة هنا.

                                                                                                   

أحمد برقاوي

السلطة وقسم الفلسفة في جامعة دمشق وأمور أخرى

مقدمة:

تغيرت علاقة السلطة بجامعة دمشق منذ انقلاب القوميين من ناصريين وبعثيين في 8 آذار/ مارس 1963. وبعد استفراد البعثيين وحدهم بالسلطة صار حزب البعث مسيطرًا على مؤسسات الدولة كلها، كما هو معلوم.

لم تكن بدايات السيطرة قبل انقلاب حافظ الأسد الكارثي عام 1970 ذات أثر كبير على سير عمل الجامعة. فقد افتتح الحزب في الجامعة ما يسمى بشعبة الحزب. وغالبًا ما كان نشاطها حزبيًا عربيًا، حيث ضمت جامعة دمشق حينها مئات الطلاب العرب، ومنهم عدد كبير من البعثيين. ولم تكن هذه الشعبة تتدخل في شؤون الجامعة التعليمية والتدريسية، ولا سيّما أن الكادر التعليمي في الجامعة آنذاك كان قد تكون كله قبل الانقلاب.

وكان الأساتذة البعثيون، وهم قلة قليلة، شأنهم شأن أقرانهم، من حيث الكفاءة أو عدم الكفاءة.

شخصيتان بعثيتان قامتا بدور في حياة الجامعة الإدارية: الإدلبي مصطفى حداد، الذي كان أستاذًا في كلية العلوم وأصبح رئيسًا لجامعة دمشق، والحمصي شاكر الفحام الذي كان أستاذًا في كلية الآداب وتولى وزارة التعليم، ووزارة التعليم العالي، ورئيسًا لجامعة دمشق.

بعد انقلاب حافظ أسد، تحولت شعبة الحزب إلى فرع، وبقرب من كلية الحقوق التاريخية بُني مقر الحزب. ومع وجود مكتب يُدعى مكتب التعليم العالي في القيادة القطرية، فقدت الجامعة شخصيتها واستقلالها، وأصبحت الجامعة محكومة بثلاثة سُلط: سلطة المخابرات، سلطة الحزب- مكتب التعليم العالي، فرع الحزب لجامعة دمشق، اتحاد الطلبة.

قسم الفلسفة:

لست في وارد العودة إلى تاريخ هذا القسم الذي تأسس عام 1947، بل حديثي منصب على موضوع علاقة قسم الفلسفة بالسلطة. وسأذكر شيئًا من التاريخ كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

وحين أقول قسم الفلسفة والسلطة، فإنما أقصد نخبة القسم التي كان لها حضور في جامعة دمشق والمجتمع السوري، وأفراد هذه النخبة التي أتحدث عنهم، وهم:

عادل العوا 1021-2002، بديع الكسم 1924-2000، عبد الكريم اليافي 1919-2008، أسعد درقاوي، نايف بلوز1931-1998، طيب تيزيني 1934-2019، صادق العظم 1934-2016، غسان فينيانوس، أحمد درغام، غانم هنا، خضر زكريا 1939، حامد خليل، يوسف سلامة 1946، أحمد برقاوي 1950.

والحق أن الذين قضوا لم يكتبوا شيئًا عن تجربتهم بعامة، ولا عن تجربتهم مع السلطة.

والكتابة عن تجربة القسم مع وجود شهود العيان المتبقين تعطي الحقيقة مصداقيتها.

 فالسيرة الجزئية لنخبة القسم في علاقتها بالسلطة، فضلًا على ذلك تقدم صورة لنمط الحياة الجامعية آنذاك، فإنها إلى جانب ذلك تدحض القيل، الكلام غير المؤسس على معرفة وتجربة، الذي يتفوه به بعض ممن تقتلهم شهوة الحضور العاجزة.

وإذا كنت سأسرد موقف النخبة الفلسفية وسلوكها، فإن هذا لن يحول دون ذكر أسماء أخرى لضرورة العرض، رغم هامشيتها.

وقبل أن أسرد صور علاقة السلطة بهؤلاء وعلاقتهم بالسلطة، تجب الإشارة إلى أنهم أجمعين كانوا متفاوتين في درجة التناقض بين أنواتهم الخفية وأنواتهم الظاهرة.

ففي الوقت الذي كان فيه عادل العوا عضوًا في حلقة باسل الأسد، التي يديرها الضابط في سرايا الدفاع سابقًا ورجل المخابرات لاحقًا بهجت سليمان، كان بديع الكسم يخفي حقده الدمشقي على الفلاحين وبخاصة العلويين، وبديع الكسم كان متعصبًا جدًا لدمشقيته، أجاب مرة عن سؤال طرحه عليه حامد خليل عميد الكلية اهتمامًا به حين رآه متأففًا: ما الذي يرضيك يا دكتور بديع لنفعله؟ أجابه بديع: ما يرضيني ليس باستطاعتك فعله. ما هو هذا الذي ليس باستطاعتي فعله، رد حامد. فأجابه بديع: هل تستطيع أن تعيد الفلاحين الذين عبّوا دمشق إلى قراهم. ضحك حامد قائلًا: هذا ما لا أستطيعه فعلًا. لكن هذا لم يمنع بديع من أن يشرف على شخص لا علاقة له بالفلسفة لا من بعيد ولا من قريب، كان مديرًا لمكتب رفعت الأسد.

أما أسعد درقاوي الذي تسلم وزير التعليم العالي، فكان خاضعًا لإرادة السلطة الحاكمة، ولم يكن ذا حضور في حياة القسم.

وكان حامد خليل منتميًا إلى جهاز السلطة نفسيًا وعقليًا من جهة، ويبني علاقة صداقة مع يوسف سلامة وأحمد برقاوي وصادق العظم ونايف بلوز من جهة ثانية، ويحمل ودًا لصلاح جديد ونايف بلوز وأحمد برقاوي ويوسف سلامة وصادق العظم الذين كانوا يخفون حقدهم على النظام، ولهم صداقات مع بعض رموزه، فيما كان طيب تيزيني حزبيًا ملتزمًا ظاهريًا، وذا علاقة خاصة مع اتحاد شبيبة الثورة أيام حسن حوري، حيث تفرغ في المكتب الثقافي، قبل تعيينه في الجامعة، وظلّ على هذه العلاقة حتى وفاته.

لم يكن من بين هؤلاء جميعًا إلا أربعة فقط يطمحون ليكونوا في مراكز السلطة العليا وهم:

أسعد درقاوي تسلم منصب وزير التعليم العالي.

أحمد درغام عيُن عضوًا في القيادة القطرية. 

صفوح الأخرس صار مستشارًا في القصر.

حامد خليل طمح ليكون رئيس جامعة، وحين لم يتحقق له ذلك غادر إلى عدن زعلانًا.

أنا من الطالب إلى الأستاذ:

انتسبت، حبًا بالفلسفة، إلى القسم طالبًا عام 1969-1970. وكان اسم القسم: قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. ولم أكن أعلم شيئًا عن أساتذة القسم، فثقافتي بأعلام الفلسفة العربية كانت ثمرة مجلة الفكر المعاصر المصرية، زكي نجيب محمود، فؤاد زكريا، حسن حنفي، عزمي إسلام وآخرين.

تكونت الهيئة التعليمية آنذاك من نوعين من الأساتذة: النوع الأول الأساتذة الأعضاء في الهيئة التدريسية في القسم، ومحاضرين من خارج الجامعة، وهو النوع الثاني.

أما أعضاء الهيئة التدريسية فهم أربعة فقط: 1-عادل العوا رئيس القسم، 2-عبد الكريم اليافي، 3- بديع الكسم، 4- صفوح الأخرس.

أما المحاضرون فهم: 1ـ نايف بلوز، عُين بعد عدة سنوات، 2-طيب تيزيني، عين بعد عدة سنوات، 3-أنطون مقدسي، 4- أديب اللجمي، 5-عبد الكريم زهور، 6- بشير زهدي.

أما القائمون بالأعمال فهما: 1ـ يوسف حبيب، 2ـ عبد الحميد حسن، وهما المعيدان اللذان ألغي إيفادهما لأسباب سياسية، حيث كان الأول بعثي عفلقي، والثاني ناصري.

وقد تم تعيين نايف بلوز وطيب تيزيني في وقت لاحق، كما أشرنا، في الهيئة التدريسية.

هذا وقام أربعة من كلية التربية آنذاك بتدريسنا مقررات علم النفس وهم:

1ـ فاخر عاقل، - 2ـ نعيم الرفاعي (وهو غير نعيم الرفاعي الأستاذ في قسم اللغة العربية)، 3- فيصل صباغ،

4- فاطمة الجيوشي.

ولم يكن أحد من الأساتذة آنذاك عضوًا في حزب البعث، باستثناء طيب تيزيني الذي انتسب إلى الحزب بدواعي التعيين في الجامعة.

وفي تقويمنا، نحن الطلاب المداومين، وعددنا قليل، على حضور المحاضرات آنذاك، للأساتذة، كنا نقدر معرفيًا كل من: بديع الكسم وعبد الكريم اليافي ونايف بلوز وأنطون مقدسي وعبد الكريم زهور، وأساتذة علم النفس. فضلًا عن القائم بالأعمال عبد الحميد حسن. هذا وقد تحلقنا حول الدكتور نايف بلوز.

وفي عام 1974، حصلت على منحة دراسية من المنح المقدمة لمنظمة التحرير الفلسطينية من الإتحاد السوفيتي للحصول على الدكتوراه. وكان لمكانة أخي الأكبر في جيش التحرير الفلسطيني دور في الحصول على هذه المنحة، حيث كان لجيش التحرير عدد خاص من المنح.

وبعد سنوات ست، عدت إلى دمشق في شهر آب/ أغسطس 1980 حاصلًا على درجة الدكتوراه في الفلسفة PH.D.

 

3- قصتي مع التعيين في الجامعة:

وسرعان ما تقدمت للتعيين في جامعة دمشق- قسم الفلسفة، وكانت رحلتي في معركة التعيين شبيهة برحلة نايف بلوز وطيب تيزيني. يضاف بأني لست حزبيًا.

وبالرغم من حاجة القسم لي، جاء رفض تعييني دائمًا بسبب عدم الحاجة لاختصاصي. مع الموافقة على الاستفادة من اختصاصي في التدريس بوصفي محاضرًا من خارج الكلية براتب قدره 1000 ليرة. وبقيت في هذه الحال، فكلما تقدمت بطلب جديد للتعيين، جاء الرفض من مجلس الكلية بدواعي عدم الحاجة، مع أن مجلس قسم الفلسفة آنذاك كان يقرّ الحاجة ويصدر قرارًا بالموافقة. وذلك لمدة سنوات ثلاث.

كان رئيس القسم آنذاك هو عادل العوا، وكونه عضوًا دائمًا في مجلس الكلية، كان يرفض الموافقة، ويعتبر موافقة القسم من معسكر اليسار آنذاك المتكون آنذاك من صادق العظم ونايف بلوز وخضر زكريا وطيب تيزيني وغانم هنا. فيما كان التيار المناقض له يتكون من عادل العوا وبديع الكسم وصفوح الأخرس بشكل أساسي.

أما غسان فينيانوس، فقد كان على صداقة مع صادق العظم، وأحمد درغام كان عضوًا في فرع الحزب لجامعة دمشق.

وقد أعلمني لاحقًا الدكتور عدنان مسلم، الذي كان له شأن في الحزب، بأن العوا قال له: لا توافقوا على تعيينه: هذا شيوعي. وأنا لم أكن شيوعيًا، بل ماركسيًا.

 

وفي عام 1983، وبعد أن أصبحت محاضرًا مشهورًا لدى الطلاب، وافق مجلس الكلية على التعيين وكذلك مجلس الجامعة، وتلقيت التهاني من الزملاء والأصدقاء.

لكن موافقة الوزير، وكان آنذاك الدكتور أسعد درقاوي، تأخرت طويلًا.

وحين ذهبت لمراجعة السيدة سعاد في الوزارة، أجابتني بأن وزير التعليم العالي قد أحال كتاب الجامعة القاضي بالموافقة على التعيين إلى الحفظ، وأرجو أن لا تنقل هذا عن لساني.

أخذت موعدًا لمقابلة الوزير أسعد درقاوي لمعرفة ما الأمر، إذ لم يحصل أبدًا أن أصدر مجلس الجامعة، وهو السلطة العليا في الجامعة، قرارًا يُرفض من وزير التعليم العالي. والوزير أصلًا لا سلطة له على الجامعة.

دخلت أكظم غيظي، وسألت الوزير، هناك قرار من مجلس الجامعة بتعييني، ولقد تأخرت طويلًا موافقتكم لإتمام إجراءات التعيين. فأجابني كاذبًا دون أن يرف له جفن، لم ترسل الجامعة أي قرار يفيد ذلك.

فأجبته: ولكن القرار عند السيدة سعاد. فطلب من سعاد وسألها ممثلًا دور عدم العارف، ظنًا منه بأن السيدة سعاد ستفهم مقصوده، لكن السيدة السعاد أجابته بكل صراحة: معالي الوزير الكتاب أحلته للحفظ. فوجئ الوزير بالجواب. وقال لي بلهجة غير ودية: نعم إنه للحفظ، وحين سألته لماذا للحفظ: لم يجب وراح ينشغل بما أمامه من أوراق.

خرجت من عند الوزير دون أن أصدق بأن هذا الأستاذ الذي درس سنوات عشر في السوربون، وحصل على دكتوراه دولة برسالة عن الفيلسوف هنري برغسون، ويبدو كالحمل الوديع في قسم الفلسفة، يتصرف تصرفًا كهذا.

مررت على السيد موفق جلمبو الذي نسيت مرتبته الوظيفية، وسألته عن السبب الذي يدعو الوزير لحفظ الكتاب؟ أجابني بلطف شديد: الوزير لا يريد تعيينك. وليس من صلاحياته رفض الموافقة على التعيين. أما حفظ الكتاب بتوقيعه فإنه يحرمك من القيام بإجراءات التعيين.

 

ضاقت بي السبل، ولا سيّما أنني أصبحت رب أسرة، وفي البيت طفلتان، وأنا أسكن في المخيم، وأدفع مكافأة المحاضر أجرة للبيت. ونكتفي براتب زوجتي نبيلة المدرسة في ثانوية مخيم اليرموك للبنات، وقدره آنذاك 700 ليرة.

صرفت النظر عن التعيين في الجامعة، وذهبنا أنا وأخي لزيارة الأخ أبو مازن-محمود عباس، فوعدنا مشكورًا بتوفير عمل في الجزائر، أو في أحد مكاتب منظمة التحرير.

وفي هذه الأثناء خطر على بالي زيارة رئيس الجامعة، وكان آنذاك الدكتور زياد الشويكي، لأشكو له سلوك وزير التعليم العالي. وكان ذلك عام 1983.

دخلت مكتبه فاستقبلني بكل احترام ووجه بشوش. شرحت له الوضع وسألته:

أنا دكتور، أنا الآن محاضر في الجامعة، وأدرس ثمان ساعات في الأسبوع، وهذا أكثر من أي أستاذ أصيل، ما الذي يحول دون تعييني؟

هو: دكتور أحمد هل أوفدناك نحن للدراسة لتعود إلى الجامعة.

أنا: لا، طبعًا.

هو: إذًا أنت لا تملك حق التعيين. وقالها بلهجة شامية (ما إلك عنا ضربة لازمة).

أنا - جئت لأشكو إليك ليس إلا. شكرًا لك دكتور وهممت بالخروج.

هو: أجلس دكتور، سأعينك في قسم الفلسفة، قدّم لي طلب التعيين.

قدمت له طلب التعيين حسب الأصول، وجاءت موافقة المجالس كلها.

لكني هذه المرة، أخذت قرار مجلس الجامعة باليد، والذهاب به إلى الوزير.

في ممر وزير التعليم العالي، التقيت بسائقه الفلسطيني الصفدي الذي يكن لي الحب والاحترام مع عصبية فلسطينية. وسألني عن حاجتي،

أنا- أريد توقيع قرار الجامعة من الوزير

هو- ناولني الكتاب وانتظرني.

أعطيته الكتاب، وبأقل من دقيقتين، خرج بالكتاب موقعًا من الوزير.

ثم بدأت إجراءات التعيين، وفي عام 1983، أصبحت مدرسًا في قسم الفلسفة - عضوًا في الهيئة التدريسية.

ثانيًا:

4-قسم الفلسفة والسلطة:

في المرحلة التي أصبحت فيها أستاذًا في قسم الفلسفة كانت الهيئة التدريسية في علاقتها بالسلطة على ثلاث جماعات: 

أولًا: جماعة ذات علاقة متينة بجهاز السلطة الإداري، وهم غير حزبيين، ولكنهم لا يعبرون عن آرائهم النقدية إلا إلى الأقربين، ولديهم مكانة عند السلطة، وهم: عادل العوا رئيس القسم، الذي كان من حلقة باسل الأسد الضيقة كما أشرت، وأهدى أحد كتبه إلى بهجت سليمان. بديع الكسم وهو أستاذ قدير، لكنه كان يعاني من رهاب السلطة، وقد أشرف على رسالة شخص علوي لا علاقة له إطلاقًا بالفلسفة لا من بعيد ولا من قريب، كان يعمل في مكتب رفعت الأسد، فضلًا عن أن خوفه دفعه هو وعادل العوا لمناقشة كتاب لشخص أحمق كان ضابطًا في سرايا الدفاع من على مدرج جامعة دمشق. وإذا كنت تعلم بأن بديع الكسم لا يعترف بابن سينا فيلسوفًا، ولا بماركس ولا بألتوسر، فإنك تعلم العذاب الذي كان يشعر به وهو يناقش كلامًا لا لون له ولا طعم لضابط في سرايا الدفاع، حاصل على شهادة التعليم الثانوي. وكان ذلك بدافع الخوف.

أما عبد الكريم اليافي، فلم يكن له علاقة بالحياة العامة، وكان مكتفيًا باهتمام مصطفى طلاس به، وإشغاله بموسوعة العماد، والتي صادرها حافظ الأسد شخصيًا.

فيما كان صفوح الأخرس شخصًا يلحق مصالحه الخاصة، فعيّن مديرًا لمعهد الخدمة الاجتماعية، ومستشارًا في القصر الجمهوري عند حافظ الأسد.

جماعة غير منتمية إلى حزب البعث، وذات موقف عدائي مضمر للسلطة، وموقف نقدي ظاهر، وذات علاقة مع بعض رموز السلطة بحكم حضور السلطة الدائم في حياة الجامعة وحياة المجتمع، وهؤلاء هم نايف بلوز، صادق العظم، أحمد برقاوي، خضر زكريا، يوسف سلامة. وقد قضى نايف بلوز مبكرًا، أما الأربعة الآخرون فقد وقفوا إلى جانب ربيع دمشق عام 2002، وانتموا فيما بعد إلى الثورة السورية التي انفجرت عام 2011.

 

أما البعثيون فهم حامد خليل، الذي صار عميدًا للكلية بعد عودته من الكويت، وأحمد درغام الذي احتل منصب عميد كلية الآداب فترة من الزمن، وأصبح عضوًا في القيادة القطرية، ومحمود خضرة الذي جاء إلى القسم بعدي بسنتين أو ثلاث، وعبد الحميد الصالح، وسليم بركات وطيب تيزيني وغانم هنا.

وقد تعينت علاقة أعضاء قسم الفلسفة الثقافية بالسلطة في الصور الآتية:

 

1-الندوات الفكرية التي أقامها مكتب الإعداد الفكري في القيادة القطرية الذي يرأسه أحمد درغام، عام 1986، فعلى مدى سنوات ثلاث أقام المكتب ثلاث ندوات تناولت قضية القومية والوحدة العربية والحرية والاشتراكية. وقد قدم المحاضرون يومها رؤى جديدة حول هذه القضايا.

كان أغلب المحاضرين من قسم الفلسفة، إلى جانب محاضرين من خارج القسم.

كان بين الأساتذة المنتمون إلى الماركسية، ومن هم على حدودها ومكتب الإعداد الحزب الذي يرأسه أحمد درغام عقد شفاهي، نحن نتحمل ثمن الحضور على أن نتحدث بوصفنا أحرارًا. وهو يوافق على ذلك.

وقد جرت الندوات في المكتبة الوطنية المسماة بمكتبة الأسد. كانت الحوارات صريحة حول كل القضايا التي طُرحت من الأساتذة، والتي كانت على خلاف شديد من الخطاب الأيديولوجي البعثي.

أتذكر محاضرة نايف بلوز الشهيرة: تأملات في الأمة والقومية والهوية. أما أنا فلقد ألقيت ثلاث محاضرات: الوحدة العربية والعقلية البورجوازية الصغيرة، الاشتراكية والفئات الوسطى، الدولة والحرية.

2-الأسبوع الثقافي الفلسفي 1994-1997.

تحدث بعضهم عن هذا الأسبوع بمعلومات كاذبة حول الفاعلين، ونسبوا إلى صادق العظم دور القيام به. أما القصة الحقيقية لهذا الأسبوع فهي الآتية:

كان الدكتور حامد خليل حينها عميدًا لكلية الآداب، وكان صادق العظم رئيسًا لقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية، وكان القسم شعبتين، شعبة الفلسفة رئيسها أحمد برقاوي، وشعبة علم الاجتماع رئيسها خضر زكريا.

كان حامد يؤدي وظيفة إدارية وحزبية وسياسية، فاقترح، بناء على خطة مسبقة لدى السلطة، على مجلس الجامعة إقامة أسابيع ثقافية في كلية الآداب. وافقت الجامعة على الاقتراح دون أي اكتراث برأي فرع الجامعة للحزب، لأن مصدر الاقتراح أعلى من صلاحياته.

وكانت العلاقة مباشرة بين حامد خليل ومكتب الإعداد الحزبي، وبين حامد وأجهزة المخابرات المسؤولة عن أي نشاط.

اجتمع حامد خليل بصادق العظم وأحمد برقاوي وخضر زكريا ويوسف سلامة، واقترح إقامة أسبوع ثقافي للقسم، ودعوة من نشاء من مفكري الوطن العربي، وأعلم الجميع أن الموافقة تمت من جهات عليا، وأنه سيتكفل بالموافقات الأمنية لمن هم على قائمة المنع.

وهكذا، كان هناك حماس لهذه الفكرة، واقترح صادق اللقاء في بيته الواسع لترتيب موضوع الأسبوع، وتحديد فقراته، واقتراح المشاركين به.

وهكذا كان، وجرت عدة جلسات في بيت العظم كانت تحضرها الأسماء السابقة، بالإضافة إلى فيصل دراج، الذي كان صديق الجميع.

فالفكرة من أساسها هي فكرة حامد خليل، وكنا نحن، إلى جانبه اللجنة المنفذة لهذه الفكرة.

نحن الذين اقترحنا الموضوعات وفقرات الموضوعات وأسماء المشاركين بمشاركة حامد خليل، وكان حامد هو الضامن والحامي وصلة الوصل مع أصحاب القرار.

اشترك في أسبوعنا الثقافي نخبة من ذلك الزمان من السوريين والعرب، والعالقون في ذاكرتي هم من سورية:

نايف بلوز، أحمد برقاوي، يوسف سلامة، صادق العظم، طيب تيزيني، عادل العوا، غانم هنا، خضر زكريا من قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. عبد الرزاق عيد، جمال باروت، محمد الأطرش، مرزوق، جودت سعيد، جورج طرابيشي.

من العرب: رفعت السعيد، محمود أمين العالم، العشماوي، علي الدين هلال، الشيخ عبد الكريم، محمد عابد الجابري، ناصيف نصار، موسى وهبة، أحمد الأمين وزوجته، أحمد الربعي.

كان المدرج الخامس، وهو المدرج الأكبر، ممتلئًا بالحضور من كل الاتجاهات ومنها رجالات السلطة.

وعلى هامش المؤتمر، كانت تجري الدعوات من بعض المسؤولين، كوزير النقل مفيد عبد الكريم، ووزير الإعلام محمد سلمان، وأطرف دعوة جاءتنا من علي دوبا في نادي الشرق. ولطرافتها سأذكرها لاحقًا باختصار.

هناك دعوتان لهما خصوصية، دعوة عزمي بشارة من فلسطين، ودعوة المستشار سعيد العشماوي من مصر.

فعزمي بشارة يحمل جواز سفر إسرائيلي، وهو عضو في الكنيست، وبالتالي فإن الموافقة على دعوته تحتاج إلى موافقة سياسية للحصول على موافقة أمنية.

أخذ حامد خليل وصادق العظم على عاتقهما الحديث مع عبد الحليم خدام نائب رئيس الجمهورية آنذاك. وزاراه في مكتبه ووعدهم خيرًا، وطلب إعطاءه مهلة لتدبر الأمر.

بعد يومين جاءتهم الموافقة، واحتفل به بشكل خاص، ولم يحضر من المؤتمر الفلسفي إلا يوم محاضرته، أما ما تبقى من أيام فقضاها في اجتماعات مع مسؤولين، وتوجها بالاجتماع مع حافظ الأسد. وقد فتحت له هذه الزيارة الباب لزيارات متكررة.

أما دعوة المستشار العشماوي لأسبوعنا الثقافي فقد تمت باقتراح من حامد خليل. ورد العشماوي بالموافقة بشرط تأمين الحماية له لأنه مستهدف من الحركات الأصولية.

تحدث حامد خليل مع علي دوبا، رئيس المخابرات العسكرية، بهذا الشأن. فما كان من علي دوبا إلا أن بلّغ حامد بأن تكون دعوة العشماوي بترتيب من المخابرات العسكرية. فحجز له مكانًا في فندق الشام، فيما كان زوارنا ينزلون في فندق الجلاء، وهو الفندق الذي تستضيف فيه الجامعة ضيوفها. وفرز له سيارة مرسيدس ومرافقين.

اتصل حامد برئيس القسم صادق العظم، وطلب منه أن يبلغ الجميع بدعوة من علي دوبا لجميع المحاضرين إلى طعام الغداء في نادي الشرق. وهكذا كان.

دخلنا نادي الشرق، وجلسنا في صالة الانتظار ريثما يأتي المضيف. فمن عادة الدعوات أن يأتي المضيف ويسلم على المدعوين، ويطلب منهم التفضل إلى المطعم.

فجأة انشقت بوابة المطعم عن شخص كأنه يريد أن يدفع العالم بصدره، ووراءه ثلة من الحراس. لم يلتفت إلينا وتوجه مباشرة إلى المكان المخصص للندوة، مشينا وراءه ودخلنا قاعة صغيرة جدًا، مخصصة له. جلس حامد على يمينه وصادق على يساره.

وراح حامد يعرف علي دوبا على الحاضرين فردًا فردًا، وكان من الطبيعي أن يبدأ بصادق العظم، وهنا انتفض علي دوبا وخاطب صادق بلغة احتجاج عامية قائلًا:

ليش رديت على مصطفى طلاس على ما كتبه عن سلمان رشدي، هادا شو بعرفه بسلمان رشدي، ثم أغلظ بالقول عنه. مع أن طلاس، بوصفه نائب القائد العام للجيش، هو مسؤول مباشرة عن علي دوبا. ابتسم صادق وأجاب بكلمة واحدة: OK

وبدأنا نتناول الطعام على مائدة علي دوبا صامتين، وماهي إلا دقائق حتى قام علي دوبا ملوحًا بيده إلينا، ونحن بدورنا نهضنا آفلين قبل أن ننهي طعامنا.

ومن الطرائف أيضًا: ما أورده حامد خليل لنا بأن مدرسًا علويًا كان اسمه محمد محفوض، وهو من طلابنا، قد كتب تقريرًا إلى المخابرات والقيادة القطرية يتحدث فيه عن النزعة الخبيثة لدى الماركسيين الذين راحوا ينالون من شعارات البعث والحكم بشكل مبطن.

أرسل بهجت سليمان التقرير إلى حامد للرد عليه جريًا على العادة، ذامًا التقرير وكاتبه. وقد أعلمنا حامد خليل بهذه الواقعة دون اكتراث بها.

بعد مرض حامد خليل، وتقاعد صادق العظم، ورحيل غانم هنا، حاول رئيس القسم الجديد، وهو محمود خضرا، أن يستمر بالأسبوع دون أحمد برقاوي ويوسف سلامة وخضر زكريا. عقد الأسبوع، ولكنه كان محليًا، وفشل فشلًا ذريعًا. ومات بعد ذلك.

 

لقاءات حافظ أسد بطيب تيزيني ونايف بلوز.

أما لقاء طيب تيزيني فأنقله كما رواه هو في غرفته في القسم: كنت في زيارة للقصر الجمهوري للقاء حافظ أسد، فقلت له:

1-الوضع يا سيادة الرئيس يحتاج إلى حركة تصحيحية جديدة تقودها أنت.

2-الوضع العربي يعيش تناقض الأقصيين: قائد عظيم، ومرحلة انحدار عربي.

3-يجب مواجهة السلفوية والعصروية بجدلية تاريخية.

4-عرض عليّ حافظ الأسد سيارة فاعتذرت.

وكان طيب يخبرنا بعد ذلك بدوام اللقاءات مع حافظ.

أما لقاء نايف بلوز مع حافظ، فأنا أعرفه بتفاصيله بسبب علاقة الصداقة الخاصة معه.

كنتُ في بيته ظهرًا، فرن جرس الهاتف، ردّ نايف على إسكندر لوقا، الذي يعرفه بالأصل، قائلًا: ولكن أمهلني ريثما أحلق ذقني وألبس. التفت إلى نايف قائلًا: يريد حافظ اللقاء بي الآن.

 

نحن والمراكز الثقافية:

تنتشر المراكز الثقافية في كل مدن سورية وفي أغلب قراها. وكان لديها مواسم نشاطات متعلقة باستضافة محاضرين في موضوعات مختلفة.

ثلاثة أساتذة من قسم الفلسفة لم يبق مركزًا ثقافيًا لم يساهموا في نشاط المحاضرات، وهم: طيب تيزيني، أحمد برقاوي، يوسف سلامة، إلى جانب حضور أقل لصادق جلال العظم.

وعلى امتداد سنوات طويلة، ولأكثر من عقدين من الزمن، ألقيت أنا ويوسف سلامة، حيث كنا نذهب معًا دائمًا، عشرات المحاضرات. ولم نشارك طيب تيزيني أية رحلة.

وتناولت كل محاضراتنا موضوعات نظرية ذات إهاب فلسفي حول العقل والعقلانية والتقدم والعلمانية والديمقراطية والحرية والإصلاح الديني والهوية والحداثة والتحديث والعلم والمعرفة والأيديولوجيا والنقد وهكذا.

ولم نجامل إطلاقًا النظام في أية قضية من القضايا، وللحق لم يُطلب منا، أنا ويوسف، أي حديث لا نريده.

وقد كان هناك محاضرون منتمون إلى النظام يذهبون إلى المراكز الثقافية، ولم نشاركهم قط رحلاتهم. وكان الحضور من كل الاتجاهات. ونمت بيننا وبين بعض مديري المراكز الثقافية صداقات قوية. وقد قمنا أنا ويوسف بدور شديد التأثير في تشكيل الوعي.

 

طيب تيزيني ونايف بلوز وزيارة حافظ الأسد.

حدثنا طيب تيزيني فقال:

طلب حافظ الأسد اللقاء بي، وجلست معه لعدة ساعات. وأثناء الحوار قلت له:

(هذا ما تحفظه ذاكرتي)

1-نحن نعيش يا سيادة الرئيس تناقضًا بين الأقصيين. قائد كبير وعظيم من جهة، مرحلة انحدار وانحطاط عربي من جهة أخرى..

2- ليس سواك من يقوم بحركة تصحيحية جديدة في سورية، تقودها أنت للقضاء على الفساد المستشري في البلد.

3-يجب تطوير فكر حزب البعث وفق المنهج الجدلي التاريخي. وقد طُلب مني أن أقوم بهذه المهمة.

4-عرض علي الرئيس بيتًا وسيارة، ولكني رفضت.

أما اللقاء مع نايف بلوز فهو كالتالي:

كنت في بيت نايف مدعوًا على طعام الغداء عنده، وكان يُنظر إليَّ من قبل زوجته ووليده بوصفي أحد أفراد أسرته. ورن جرس الهاتف.

وأثناء الحديث مع المتصل قال نايف: يجب أن أحلق ذقني وأرتدي بزتي، أحتاج إلى وقت.

نظر نايف إلي وإلى زوجته وقال: هذا إسكندر لوقا، يطلب مني الآن الذهاب للقاء حافظ الأسد.

لم ينقض وقت طويل حتى جاءت سيارة وأقلت نايف إلى القصر الجمهوري.

في اليوم الثاني حدثني نايف فقال:

كان اللقاء طويلًا. ولم يتسن لي أن أعبّر له عما أريد، وتحدث حافظ الأسد بشكل مطول عن عدائه لأميركا، وعن أن جميع العرب تابعون لها، وأنه يواجه أميركا وعملاءها. وتحدّث عن معركته مع الإخوان المسلمين. وسرد على نحو ممل علاقته بأبي عمار الذي عبّر عن كرهه له، ووصفه بالكذاب.

وفي نهاية الجلسة، طلب من نايف إن أراد شيئًا ما أن يتصل بأبي سليم.

 

5-من ربيع دمشق إلى الثورة.

أثناء ربيع دمشق الذي تلا خطاب القسم لبشار الأسد، كنت أنا ويوسف سلامة، من قسم الفلسفة، فاعلين في المنتديات آنذاك: منتدى رياض سيف، ومنتدى جمال الأتاسي.

ألقيت يومها محاضرة بعنوان الدولة والمجتمع، وطرحت فكرة الفرق بين دولة السلطة وسلطة الدولة، وألقى يوسف سلامة محاضرة طرح فيها إلغاء المادة الثامنة من الدستور.

 بعد قيام الثورة السورية. حيث دعا محمد سلمان إلى لقاء كبير بفعل إحساسه بالخطر، وتشكيل ما يُسمى بالكتلة الوطنية.

ضمّ الاجتماع عددًا كبيرًا من بعثيين سابقين، وشيوعين سابقين، وناصريين سابقين، وحياديين، وبعض من عملوا في السلطة من قبل. أذكر منهم يوسف سلامة، ميشيل كيلو، جمال سليمان، مروان حبش، وفيق عرنوس، أمين أبو الشام، جديع، الباشا.

وبعد نقاشات كلف كل من ميشيل كيلو وأحمد برقاوي لكتابة ورقة المبادرة.

وقد اتفقت أنا وميشيل على أن أكتبها بمفردي. وهذا كان.

علم بشار الأسد بالمبادرة، وحدد موعدًا للقاء أعضائها. واتصل بي جمال سليمان وطلب مني أن أرافقهم، لكني اعتذرت بحجة أني فلسطيني.

استقبل الأسد أعضاء المبادرة، وأثنى عليها وعليهم، ولم تمض أيام حتى روى لي محمد سلمان كيف استُدعيَ من قبل علي مملوك، واستقبله بدون احترام، وخيّره بين حل المبادرة أو فتح ملفاته كلها. فهم محمد سلمان بأنه في خطر. حلّ المبادرة، وعندها آثر الخروج من سورية إلى القاهرة، لكن أمن المطار أبلغه بأنه ممنوع من السفر.

ويسرني في ختام هذه اللمحات أن أتحدث عن ثلاثة أساتذة كان لهم حضور قوي في قسم الفلسفة وهم بديع الكسم وأنطون مقدسي ونايف بلوز.

 

قول في أنطون مقدسي:

عرفته، بداية، محاضرًا لمقرر الفلسفة اليونانية في قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية في سبعينيات القرن الماضي، ثم عرفته إنسانًا. لم ألتق فيما بعد بأي مشتغل بالفلسفة تجري فيه روح أفلاطون وينتمي إلى أثينا ذلك الزمان كأنطون مقدسي. أجل درسنا الفلسفة اليونانية وعلمنا التفلسف. وحين سألناه: ما هو الكتاب المقرر يا أستاذ؟ أجاب: محاورات أفلاطون. أصابتنا الدهشة والتأفف وسألناه: أي المحاورات: أجاب الجمهورية والثيئتتوس والسفسطائي والمأدبة. وسأشرحها لكم هي وأرسطو. المطلوب منكم أن تعرفوا أفلاطون وأرسطو. 

 يغيب الأستاذ مع محاورات أفلاطون وكأنه يتحدث وحده، ولا ينسى أن يقول محدثًا نفسه: كل الفلسفة بعد أفلاطون ليست سوى شرح ما جاء به أفلاطون. لم يتأفف يومًا من أسئلتنا، نحن ثلة ممن تحلقوا حول نايف بلّوز.

لا أنسى ما حييت أغرب سؤال في امتحان الفلسفة اليونانية الذي وضعه أنطون مقدسي للإجابة عليه (تحدث عن الفرق بين مُثل أفلاطون وأجناس أرسطو).

وتمضي السنون ويقوم سعدالله ونوس بإجراء حوار مع الأستاذ في الكتاب الدوري (قضايا وشهادات) صيف 1990 وفيه يقول:

"أنا أعلم أن الصورة قاتمة ومحبطة، لكني، ما دامت لدي القدرة، سأظل أعمل وأبدي رأيي. تمر لحظات قصيرة أشعر فيها باليأس، لكني سرعان ما أنحيها قائلًا لنفسي: سأواصل المحاولة حتى مماتي".

عاش بين جدران أربعة يفكر بحرية وظلّ مشدودًا للمستقبل، يتأمل تجربة الماضي بجمالها وقبحها، بيقظتها وسباتها، بانتصارها وهزيمتها. يتجاوز وعيه بالعالم دائمًا، لكنه ظلّ مشدودًا إلى الحداثة والعقلانية والديمقراطية.

مثقف الممكن، لم يأسر نفسه في النزعة الأكاديمية الخادعة، ولم ينكص إلى ذاتية يائسة تنال من أحلام الناس، بل ظلّ مشروعًا يرسم الوجود الآتي.

أحب أفلاطون دون عبيد، ومال إلى ماركس دون ماركسية، واحتفظ بالمسيح وروح المسيحية، وظلّ عروبيًا دون تعصب، أحب الأرسوزي ولم يكن أرسوزيًا.

هاجسه الإنسان الحر في الشرق والغرب فلم يتغرب ولم يتشرق.

في مكتبه الصغير في وزارة الثقافة، كان يرسم مشروعًا للوعي عبر الترجمة، وتأتي كتب آلان تورين، والتوسير وهنري لوفيفر، وشاتليه، ورأس مال ماركس. كأنما أراد تجاوز فقرنا الروحي بإثرائنا بالوعي الغربي بالعالم. لكن أنطون ناقد شرس لحداثة الغرب التي أفقرت الإنسان عبر الرأسمالية. أرادها حداثة دون اغتراب، لأنه مع الإنسان الذي حلم به ماركس والمسيح.

حسبك أن تستمع إليه حين قال: لقد فجّر الإنسان كل غرائزه: الآلة، المجتمع الاستهلاكي، الصور، السينما، التلفزيون.. كل هذا فجّر غرائز الإنسان جميعًا، فصار فقيرًا. لم يعد لديه ذلك الفائض. وهنا نقطة ضعف الحداثة. الإنسان في حقيقته فائض عن ذاته. في هذه المجانية التي تطفر منه. الآن ضاعت المجانية. كل قيمة المسيحية أنها استغلت هذه المجانية إلى أبعد حد، أو أرادت أن تهبها. فالفكرة المسيحية، وهي تختلف عن النظام الكنسي والتديّن، مبنية على أن كل ما في الدنيا مجاني، لا ثمن له. لأن الرب مجاني. كل ما في الطبيعة مجاني. الله يحب، يعني أنه يعطي كل شيء. هذه المجانية تلاشت واندثرت… ما من شيء مجاني في واقعنا الراهن. كلها أسعار وحسابات. حتى الكتابة صارت جزءًا من العملية التجارية الواسعة.. هنا مأزق الرأسمالية، ومكمن الفساد. هذا الوضع أفقر الإنسان.

هو ماركس يتحدث بلسان المسيح، أو المسيح يتحدث بلسان ماركس. إنها طوباوية ولا شك، لكنها طوباوية التمرد، طوباوية أفضل من واقعية آسنة تدافع عن الواقع. كان ديالكتيكيًا، ولكن على الطريقة الأفلاطونية، معتقدًا بأن أفلاطون هو أبو الديالكتيك في الأصل.

في بداية ربيع دمشق، وعلى أثر خطاب قسم الوريث، كتب مقدسي رسالة شجاعة إليه أدان فيها الواقع، ومدافعًا عن الشعب، وطالبه فيها بالعمل من أجل نقل السوريين من حال الرعية إلى حال المواطنة.

في بداية ربيع دمشق، اتصل بي رياض سيف يدعوني فيها لإلقاء المحاضرة الثانية في منتداه، وحين سألته من هو المحاضر الأول، أجاب أنطون مقدسي. وهكذا كان. كانت محاضرته حول المجتمع المدني، وكانت محاضرتي بعنوان: الدولة والمجتمع. وقام رضوان زيادة بنشر جميع المحاضرات لاحقًا في كتاب.

عاد أنطون مقدسي في سنواته الأخيرة إلى إيمان لاهوتي بعيدًا عن الفلسفة، بما كتبه عن دلالة ما قيل بأنه انسكاب الزيت من أيقونة للعذراء.

أهم ما كان يميز مقدسي تقديره للاختلاف، وحبه للمحاورة، فهذه الروح الأفلاطونية رافقته حتى النهاية. 

 

 قول في بديع الكسم:

ينتمي بديع الكسم إلى مفهوم الأستاذ، بكل ما ينطوي عليه هذا المفهوم من معنى. فالأستاذ الكسم محيط بالفلسفة، بتاريخها، بمشكلاتها، قادر على إيصالها للآخر بلغة فلسفية راقية ومبدعة.

يحاول الأستاذ أن يشق طريقًا أخرى، طريقًا نحو التفلسف، لكن الكتابة عمل مسؤول يهرب منها الكسم ويقترب منها، لكنه للهروب أقرب، وهكذا كان.

لا أحد يعرف جوابًا شافيًا عن السؤال: لماذا كان الكسم مقلًا. إنه نفسه كان يجيب بأجوبة مختلفة. فهل استبد به اليأس من فعل الكلام؟ هل كان يخشى الكتابة؟ هل جف نبعه بعد رسالته في الدكتوراة وبضع مقالات؟ هل تخلى عن هاجسه الفلسفي؟ هل كانت لديه لحظات الإبداع نادرة؟ أم أنه رضي بدور الأستاذ الأكاديمي، وتخلى بالمرة عن القيام بدور المفكر؟ لا ندري.

وإذا قلنا إن بديعًا مقلٌّ، فهو إذًا قد كتب وفي فترات متباعدة. رسالته هي الجهد الوحيد الذي كان الكسم يعود إليها دائمًا، وهي بشهادة العارفين نص جيد امتدحه المشرف وصدر بالفرنسية.

لكن للكسم مقالات كتبها في الخمسينيات. وحين عاد من مهمة البحث العلمي عام 1982، كتب مقالًا بعنوان «بين أحكام الوجود وأحكام القيم» وفي عام 1993، ألقى محاضرة في مكتبة الأسد بعنوان «لغة الفلسفة» في هذه الكتابات المتأخرة لا نجد ما يشف عن ألق فلسفي.

والحق أننا لا نستطيع أن نلوم شخصًا لأنه لم يكتب، أو لأنه لم يسرف في الكتابة، وإذا كان الإقلال من الكتابة لا ينم عن غياب أفكار مبدعه، فإن الإسراف فيها لا ينم بالضرورة عن إبداع.

الكتابة نداء داخلي يواجه بها المفكر أو الفيلسوف العالم المعيش، ربما كان الأقرب إلى الصواب القول إن حدوسًا فلسفية مبعثرة قد نجدها لدى بديع الكسم، وما علينا إلا أن نعيد تأليفها وتطويرها.

وفي ظني أن المفهوم الأرأس الذي كان هاجسًا أصيلًا لدى بديع الكسم هو الإنسان بوصفه أنا مستقلًا.

في رسالته ومقالات أخرى، نعثر عل جملة مفاهيم حاضرة دائمًا لديه: الإنسان، الذات، الأنا، وجملة من الصفات الدالة على الإنسان الذات الأنا، كالحقيقة والحرية والقناعة والإرادة والوجدان والمسؤولية والحرية والتمرد والتضحية والقلق والتجرد والنـزاهة.

لا شك أن هذه المفاهيم وردت في سياقات.

يكتب بديع الكسم في «البرهان والفلسفة» يقول: «إن الإنسان في جانب أصيل وعميق من جوانب كيانه الروحي، صبوة إلى الحقيقة، والحق أن ذاتًا دفينة في أعماق الإنسان تتصور المثل الأعلى في المعرفة، معرفة تحيط بكل ما هو موجود، بل إن الرؤية التي يتجلى فيها الموجود والمطلق، بكل ما تبعثه في النفس من غبطة وفرح، تظلّ قاصرة عن ملئ فراغها، عاجزة عن تلبية حاجاتها إلى العيني المحسوس.

ها نحن أمام مفاهيم ثلاثة في نص قصير. الإنسان، الذات، النفس، وهي غير مترادفة، بل متشابكة. فالإنسان مفهوم كلي يبدأ به الإنسان صبوة إلى الحقيقة، فالحقيقة هاجس إنساني. كأنما أراد الكسم أن يعرف الإنسان بأنه ذلك الكائن الباحث عن الحقيقة.

وفي كل إنسان ذات داخلية هي التي تعينه، الذات تحوله إلى معنى مشخص، وبالتالي الذات تشخص الحقيقة. فيما النفس هي المنفعلة: هي التي تفرح وتحزن وتتلذذ وتتجه إلى المحسوس، ينتقل بديع من الإنسان كائنًا مجردًا إلى الإنسان المتعين حين يتحدث عن المفكر.

يكتب بديع عن المفكر قائلًا: «من هنا كان المفكر – في التعريف – سادنًا للحقيقة، وكل راع مسؤول عن رعيته، فالمفكر إذًا مسؤول، ولكن المسؤولية عبء لا يحمله إلا الأحرار. إنها تفترض الحرية وتزول بزوالها. الفكر إذًا حرية، والمفكر الحر هو وحده المفكر، وهنا لا بدّ أن نسقط من عالم الفكر، كل فكر زائف تخلى عن هويته، ذلك أن من باع حريته فقد إيمانه بالحقيقة، وكل من لا يصدر في أحكامه عن حرية داخلية، عن قناعة وجدانية، لا يمكن أن يكون وفيًا للحقيقة.

لنختلف مع الكسم في قوله إن المفكر سادن للحقيقة، إذ من الأصوب القول: المفكر هو الساعي الدائم ودون كلل أو ملل للوصول إلى الحقيقة، فليست الحقيقة كعبة تحتاج إلى سدنة، وإلا صار السدنة طغاة. إذ لما كانت الحقيقة هي جهد الأنا الحر، ومسؤولية هذا الأنا وطريقه للوصول إليها -إذ لا انفصال بين الحقيقة والطريق إليها- فهي تجوال حر في العالم، ارتياد جسور للوجود، كشف للزيف الذي ظن البعض أنه حقيقة. إنه وصول إلى الحقيقة ضد سدنتها. في المقابل، فإن تأكيد الكسم الترابط الضروري بين المفكر والحرية هو انتصار للحقيقة والحرية والأنا – المفكر، ينتصر الكسم للضمير الأخلاقي للوجدان السامي.

عبثًا يحاول من تخلى عن حريته أن يصل إلى الحقيقة، لأن الأنا الحر وحده الذي يجعل من حريته طريقًا للوصول إليها. الأنا الحر لم يكلفه أحد بمسؤولية البحث عن الحقيقة، الأنا الحر يستجيب لندائه الداخلي، وهو يحول هموم البشر إلى همومه، ويتحمل مسؤولية الكشف لهم عن الحق.

الحرية هنا ليست شرطًا خارجيًا، إنها وعي ذاتي بالحرية، وإذا كان هناك من ينفي الحرية عن المفكر، أو يحاول أن يكبله بالأغلال، فإن المفكر عصي على الأسر. كأني به يستعيد كلمات بروميثيوس: «لخير لي ألف مرة أن أكون مكبلًا بصخرة من أن أكون خادمًا لزيوس».

أجل الحرية ليست فكرة، إنها واقع متعين، إنها ظهور الأنا الدائم، وأي ظهور أرفع من ظهور الأنا الباحث عن الحقيقة.

لا يقتصر قول الكسم في الحرية على حرية المفكر. وإنما يدفع قدمًا بفكرة الإنسان الحر. في مقال له بعنوان: «الإنسان حيوان ناطق»، يكتب بديع الكسم قائلًا: «إن الإنسان هو ما ليس هو، فالإنسان يتجاوز ذاته باستمرار، فهو إذًا تعلق بالمستقبل ونفي للماضي. فالإنسان إذًا لا يرضى عن واقعه، فإنه يرفضه ليتمرد بقول لا، فالإنسان إذًا يتعين دائمًا. إنه متمرد، صانع، سياسي، فيلسوف، عالم، عابد، ثائر، عاشق، فنان، وجوده سابق على ماهيته، إنه يصنع ذاته على نحو مستمر.

لا شك أن الكسم يستعير الفكرة من سارتر، لكن للاستعارة هذه معنى عميقًا. إنه وقد أخذ فكرة أسبقية الوجود على الماهية بالمعنى السارتري ليدافع عنها، فإنه اتخذ موقفًا من الإنسان، من الماضي، من الحاضر، من المستقبل، وفوق هذا وذاك من الحرية. إنه في هذه اللحظة من الوعي وجودي بامتياز.

فالأنا، وقد وقفت موقفًا غير راض عن العالم، فإنها تشفع هذا الموقف باللا. وما اللا إلا دلالة التمرد. بل الإنسان وجود متمرد، حتى ليمكن القول إن كوجيتو جديد يعلنه الوجودي «أنا أتمرد إذًا أنا موجود». إن التمرد هنا هو تعبير عن التجاوز الدائم للوجود، للحاضر فالأنا الحر يعيش في المستقبل، لماذا؟ لأنه يعين ذاته باستمرار، لأنه ليس هوية ناجزة، ليس جوهرًا ثابتًا، إنه يصنع ذاته باستمرار كما يقول الكسم.

ربما كان الكسم يختزن هذه اللا في صدره، ربما كان صمته ناتج من أنه لا يملك إلا اللا، لكنه لم يستطع أن يعين هذه اللا. حسبه أن يدعو إليها. وهو، إذ اختار نماذج من تعيين الإنسان، من الإنسان الذي لا يكف عن التعين: التمرد، الصانع، السياسي، الفيلسوف، العالم، العابد، الثائر، العاشق، الفنان، فإنه أراد أن يقول هو ذا الإنسان متمرد على العالم لأن كل شخوصه التي ذكر هي شخوص متمردة.

إن دفاع الكسم عن التمرد أمر مفهوم، إذ لا انفصال بين التمرد والحرية، بل قل الحر وحده قادر على التمرد. هل كان الكسم يحلم بمجتمع أحرار. أجل هو ذا أس فكر الكسم الذي ضمته صفحاته القليلة، وما أحوجنا إليه اليوم.

 

نايف بلوز

 

كان ذلك في عام 1970، دخل إلى قاعة الدرس، في قسم الفلسفة، رجل أشيب يبدو في عمر الأربعين أو يزيد، ذو ملامح قاسية، جبهة عريضة، نصف صلعة، شارباه صغيران شبه معقوفين، وعرَّف بنفسه قائلًا: أنا نايف بلّوز، سأدرسكم مقرر المدخل إلى الفلسفة. 

وراح الأستاذ يلقي علينا من القول دون أن يكون أمامه أي نص ينظر إليه، كنّا أول عهدنا في تلقي العلوم الفلسفية، حيث يقوم عادل العوا مدرس الأخلاق بقراءة صفحات من كتاب ترجمه، وعبد الكريم اليافي يحكي لنا قصة علم الاجتماع، وصفوح الأخرس يتلعثم بعرض ما يحلو له من كلام يبدو في علم الاجتماع أيضًا. 

وتمضي الأيام، وندرك أننا أمام أستاذ متميز ومختلف معرفة وسلوكًا، ونعرف بأنه مرفوض من التعيين في الجامعة، ولم يكن إلا محاضرًا بعقد خارجي. وظل كذلك لمدة ثلاث سنوات أو أكثر بقليل.

 لم يحل مزاجه العصبي دون أن نتحلق حوله، نحن مجموعة من الطلاب الأكثر انتماءً للفلسفة، وتقوم علاقة صداقة بين الأستاذ وبيننا. 

وسنة وراء سنة يتحول نايف بّلوز إلى أب روحي، وفاعل في صناعة وعينا الفلسفي، ومواقفنا الأيديولوجية. 

أجل أصبح نايف أباي الفكري والفلسفي، فضلًا عن إنه أصبح الصديق الحميم الذي جعل العلاقة تتجاوز علاقة الأستاذ بالطالب. 

لم يكن لنايف كتب حول المقررات التي درسنا إياها، بل كان يستند على ما يسمى آنذاك "بالأملية" المطبوعة على آلة النسخ، وعلى كتب مطبوعة في سوق الكتاب، ففي المدخل إلى الفلسفة كانت أمليته مرجعًا وحيدًا، ومحاضراته كانت من الثراء بحيث صار سؤال ما الفلسفة وما هي مشكلاتها حاضرًا في وعينا على امتداد السنوات الأربع. 

وفي علم الجمال، جاءت محاضراته تقديمًا لكتاب جورج لوكاتش الذي ترجمه عن الألمانية: "دراسات في الواقعية " (عام1972)، وفي الفلسفة الحديثة قرر الرجل علينا كتاب يوسف كرم "الفلسفة الحديثة". ثم راح يملي علينا زاوية رؤيته الديالكتيكية في كل مسألة من مسائل الفلسفة التي يدرسنا إياها. 

كان نايف أول أستاذ يدخل المنهج الديالكتيكي الماركسي إلى قسم الفلسفة، دون أية دوغمائية شيوعية، بل كان يسخر مما كان يسميها "النزعة التخطيطية" للمنهج الماركسي المتداول. 

مع نايف، عرفنا فلسفة ديكارت واسبينوزا وكانت وماركس، ومعه ومع لوكاتش عرفنا العلاقة بين الجمال الأدبي والواقع، بعيدًا عن الواقعية المبتذلة الموروثة عن الستالينية. 

وتمضي السنون ويسافر الفتى أحمد برقاوي إلى الإتحاد السوفيتي، وتجري المراسلات حول ما أنا بصدد كتابته في الأطروحتين "الماجستير والدكتوراه"، ويكون نايف بمثابة المشرف الصديق إلى جانب المشرف السوفيتي. 

وأعود زميلًا للأستاذ، وندرس معًا "مادتي مناهج البحث في العلوم الطبيعية، ومناهج البحث في العلوم الإنسانية"، وهما المقرران اللذان حضّر لهما نايف، وجمع كتابين ليسا بالمؤلفين. 

كان نايف نهمًا في القرّاءة ومقلًا جدًا بالكتابة، بل لم تكن الكتابة طقسًا من بين طقوس حياته. في السبعينيات، حين استعرت موجة التراثيين العرب، خاض معركة في المنهج في حوار غني مع حسين مروة وسواه، رافضًا رفضًا قاطعًا نظرية الانعكاس الماركسية، والترابط الميكانيكي بين الوعي والواقع، والفكر والطبقة، ونافيًا أن تكون المادية والمثالية معيارًا للحكم على هذه الفلسفة أو تلك. لم ير نايف ابن رشد إلا من زاوية روح العقلانية والتنوير، الروح الضرورية للدخول إلى العصر. 

سيكتب نايف بلٰوز كتابًا جامعيًا لمقرر علم الجمال: "علم الجمال" (المطبعة التعاونية بدمشق 1980)، وهو الكتاب الأول المكتوب بروح ديالكتيكية - ماركسية في العربية، إلى جانب كتب مترجمة. صحيح بأن الكتاب لم يضف جديدًا على ما قدمه عالم الجمال السوفيتي المشهور موسي جاجان، الذي ترجم كتابه الأشهر إلى لغات أجنبية عدة، لكنه وضع بأيدي الطلاب والقرّاء مرجعًا لا غنى عنه للتزود بالمعرفة الفلسفية الجمالية. 

وفي دراسة كتبها الدكتور بلوز حول الأمة، وألقاها محاضرة، أشار للمرة الأولى إلى الفرق بين القوم والأمة، والترابط بين الدولة والأمة. 

كان نايف أنموذجًا للأستاذ الموسوعي المعرفة، والمهموم بنقلها إلى طلابه بكل إخلاص مهني، ومحاورًا عميقًا مستخدمًا مخزونه المعرفي بكل منهجية. 

أما على المستوى السياسي، فلم يكن لديه أية أوهام حول طبيعة النظام الدكتاتورية، وحتمية وصوله إلى المأزق. وفي حواراتي الدائمة معه كان يؤكد على مسألة مهمة ألا وهي ضرورة أن ينجز حافظ الأسد في حياته إعادة سورية إلى وضعها الطبيعي، وقال لي مرة، نقلًا عن السفير الأميركي إدوارد جريجيان، إن السفير قال لحافظ الأسد عند وداعه بعد انتهاء مهمته في سورية: "أنا ذاهب إلى بلادي، ولكن أحب أن أقول لكم بأن الحكم بهذه الطريقة لا يمكن أن يستمر، يجب العودة إلى الوضع الطبيعي". 

وكان هذا هو رأي الدكتور نايف، الرأي الذي نقله بطريقة ذكية إلى حافظ الأسد شخصيًا في اللقاء الطويل الذي تم بينهما بناء عل طلب الأخير. ومازلت أتذكر قوله لي بعد اللقاء: "لا أمل يا أحمد في التغيير، لا تغيير في سياسته تجاه الداخل، ولا تجاه لبنان، ولا تجاه الفلسطينيين، حافظ الأسد يكنّ الكره الشديد لأبي عمار". 

كان نايف شخصًا واسع الرؤية، ذا صداقات مختلفة، مستقيمًا، أخلاقيًا، قليل المساومة، مدافعًا عما يؤمن به حدّ العدوانية أحيانًا، ورغم ما كان يبدو عليه من سلوك غضبي وعنيف، لكنه كان طيب القلب لا يحمل حقدًا على أحد، عنيدًا، وقد فشلت كل محاولاتي لإعادة علاقة الصداقة بينه وبين صادق العظم. 

مرض نايف، وفقد جزءًا من ألمعيته وذاكرته بفعل الجلطة الدماغية التي تعرض لها، وراح يحدثني عن ضرورة تعويض ما فاته من كتابة، وأنه سيعمل على ذلك، لكن الجسد خانه وهو يستجم في بحر اللاذقية، وقضى غرقًا بسبب فقدانه الوعي داخل البحر، عن عمر 67 عامًا. كان آخر ما خطه نايف دراسة حول العلمانية، وكانت أفضل ما كُتب حولها آنذاك. 

رحل نايف وترك خلفه صورة الأستاذ صاحب الهم الفلسفي والوطني.

 

 

أحمد اليوسف

شهادة على جامعات التأديب

دخلت الجامعة في سنة 1994، حيث تم في تلك السنة تأسيس قسمٍ للفلسفة في جامعة تشرين في اللاذقية. لم أحضر دروس الفلسفة في تلك السنة، حيث كنت مدرسًا وكيلًا في البادية السورية، وكان حضوري يقتصر على الامتحانات فقط. في السنة التي تلتها، واظبت على حضور المحاضرات. وكنت مفعمًا بالطموح، وتتملكني رغبةٌ شديدةٌ بممارسة حراكٍ مدنيٍّ طلابيّ، وحماسةٌ تتمنى التغيير. تجربتي كمدرسٍ في ريف الرقة أكسبتني درجةً ما من الخبرة المعيشة التي كان يفتقدها كثير من زملاء الدراسة. وفي بداية السنة الثانية، رفضت رئاسة الجامعة دفع الأجور المستحقة للأساتذة "الدكاترة" القادمين من جامعة دمشق، وتم تعويضهم بخريجين جدد حصلوا لتوهم على الإجازة الجامعية، دونما أن يكون لديهم أي خبرةٍ بالتعليم. كان في القسم أستاذان فقط: برهان مهلوبي (رئيس القسم)، وكامل عباس.

في رد فعلٍ على تعيين موفدين بدون خبرة، بدل الأساتذة المختصين، قمنا كطلابٍ باحتجاجٍ صغيرٍ كان نتيجته فصل كلٍّ من حسام الدين درويش وماهر اختيار لمدة شهرٍ، على الرغم من أنهما من الأوائل في القسم. أعقب ذلك الاحتجاج عمليات تحقيقٍ أمنيةٍ، ومحاولات لاختراق الطلّاب، والفصل بينهم، على أساس الانتماء الطائفي. قيل لنا في ذلك الوقت إنه، بدل اللجوء للاحتجاجات، علينا اللجوء إلى المؤسسات الرسمية وإلى اتحاد الطلبة.

ترشحت بعدها، كممثلٍ طلابيٍّ، إلى الهيئة الإدارية التي تم فصلي منها بعد شهرين، على إثر إلقاء كلمةٍ في المؤتمر الطلابي الذي أشرف عليه عضو قيادة قطرية اسمه وهيب طنوس. لم يتحمل أعضاء المؤتمر كلمة النقد تلك. في فترة وجودي في اتحاد الطلبة، كان يُطلب منا إلقاء القبض على طلابٍ آخرين، حين دخولهم قاعاتٍ ليست قاعاتهم. كنا طلابًا نلقي القبض على طلابٍ آخرين، في مشهدٍ أمني مثيرٍ للغثيان والقرف.

كانت المحاضرات عبارة عن عملية إلقاءٍ وتلاوة، كالحوزات الدينية، حيث يقرأ المحاضر من ملخصٍ بديلٍ عن الكتاب المقرر، ويكتب الطلبة ما يمليه عليهم شيخ المقرر. لم يكن هناك مجال للتساؤل وللنقاش، بل مجرد تلقين وحفظ. كان الدكتور إبراهيم مرزوق يطلب من أحد الطلاب القراءة من الكتاب، وكنا "نتبّع خلفه". لم يكن يتكلف حتى عناء التلخيص. وكان كثير الحديث عن جيرانه، وعن مختار قريته، وعن خلافه مع الجيران، حول قطعة أرضٍ، وعن كيفية حصوله على الدكتوراة من روسيا بمساعدة زوجته، وعن علاقته الجيدة، كشخصٍ مدعومٍ، بالمسؤولين. كنا نعرف تفاصيل حياته أكثر مما نعرف في الفلسفة. الرجل نفسه لا يعرف شيئًا في الفلسفة التي كان يدرِّسها. وكانت أسئلتنا له من باب السخرية. فبسبب الوضع المزري للقسم، وتحريم كل وسائل النقد والاحتجاج، كنا نلجأ للسخرية.

كان أستاذ اللغة العربية يأتي ومسدسه تحت إبطه، وكان حديثه عن البعث أكثر من حديثه في اللغة. كان الرجل، في ذات الوقت، أستاذًا جامعيًّا، ورئيس فرقةٍ حزبيةٍ. وكان الدكتور حليم أسمر يحمل ملخصه، ويتلو منه، وكأنه يتعلم القراءة. في قراءته، كان يرفع المنصوب، وينصب المرفوع، وكأنه في حالة ثأرٍ من اللغة ذاتها. حتى أسئلة الامتحانات كانت تأتينا مرةً بصيغة "أجب على الأسئلة التالية"، ومرةً بصيغة "أجب عن الأسئلة التالية". كان حليم أسمر يقول: "يعني شو الفرق بين عن وعلى؟ كله في النهاية أحرف جر". لم يكن في كلية الآداب من يصلح لها أسئلتها الامتحانية.

في إحدى المواد، مادة مشكلات فلسفية، كان الأستاذ يجهل بأنه لكل مادةٍ جانب عملي وآخر نظري وأن للعملي عشرين درجة من مئة. وهكذا، تجاوزت علامات الامتحان لديه، دونما أن يدري، درجة المئة. أحد الطلاب، حسام الدين درويش، حصل على أكثر من مئة علامة من مئة، قاموا بسحب العلامات بعد نشرها، وأعادوا حسابها ونشرها فوقعوا بأخطاءٍ أسوأ، حيث حصل بعض من كانوا من الراسبين على علاماتٍ أعلى من كانوا من الناجحين. كانت الكلية كلها فوضى بفوضى، تجهل مبادئ الحساب واللغة.

في احتجاجي على ما حصل، قمت، في استراحة إحدى المحاضرات، بخلط أوراق الملخص للأستاذ، فأعاد هو تلاوة الملخص ذاته، دونما أن يشعر بالخلط، فمرة يقرأ من الصفحة الخامسة، وبعدها من الرابعة، فالثالثة، ثم الثانية. لم يشعر، لا هو، ولا الطلاب، بالخلط. في اليوم التالي، اكتشف المصيبة فأعاد ترتيب الأوراق، وطلب من الطلاب ترتيب ملخصاتهم. كان الأمر فضيحة.

أحد الأساتذة رأى في منامه أنه لن ينجح في الامتحان سوى ستة طلابٍ، فقرر أنه لن ينجح سوى ستة. ولأن نسبة الرسوب كانت عالية، فرضوا عليه إعادة التصحيح، فأعاده، عبر زيادة العلامات كيفما اتفق، ليحصل بعض من كانوا من الراسبين على علامات أعلى ممن كانوا من الناجحين. كنا أحيانًا ضحايا المنامات.

بعض الدكاترة كان يبتز الطالبات للحصول على علامة النجاح: النجاح مقابل ليلة سمر. وفق عملية الابتزاز هذه، أعطى رئيس القسم أعلى علامة في تاريخ القسم لطالبةٍ رسبت في كل المواد الأخرى. الدكتور نفسه أعطى علامة الصفر لطالبٍ كردي مع رفضٍ لأي عملية مراجعة. ذات الطالبة نجحت بالأسلوب ذاته في مادة لدكتور آخر، كان أستاذًا زائرًا من جامعة حلب، ورئيس قسم الفلسفة فيها. وحصلت الطالبة ذاتها على أعلى علامة في مادة فلسفة الحضارة من أستاذٍ كان يأتي من دمشق. عندما أرادوا القبض عليها في الأوتيل، في ساعة خلوة، خرجت هي والأستاذ الجامعي عراة. كان أستاذ فلسفة الحضارة يتعامل مع قسم الفلسفة في جامعة تشرين معاملة السائح على حساب الطلبة. كل هذه الفضائح كانت معتادة، ليس في قسم الفلسفة وحده، بل في جميع الأقسام، حيث كانت الجامعة كلها مجمعًا للفساد والفاسدين.

وكان الطلاب يتبادلون حلقات البحث، ضمن وعيٍ جماعيٍ محقٍ قائمٍ على أن الأساتذة لا يقرأون. لا أحد يقرأ في جامعة تشرين.

بعد الإجازة الجامعية، سجلت في دبلوم التأهيل التربوي في كلية التربية في الجامعة ذاتها. في إحدى المحاضرات، كان عميد الكلية يقرأ من ملخصه كلامًا يقول: لقد انتهت أساليب التلقين التربوية الفاشلة، وحلت محلها أساليب حديثة تستخدم التقنية، كاستخدام الحاسوب، على سبيل المثال. سألته: أين هذه التقنيات يا دكتور؟ كان الأستاذ يتلو علينا، بأسلوب التلقين، نقدًا للتلقين، دونما وعيٍ للمفارقة. وكاد أن يفصلني من الجامعة، لولا وساطة السكرتيرة. كنا نلجأ لأساليب الفساد نفسها، لنحمي أنفسنا، فلجأت إلى سكرتيرة العميد ذاته. عميد التلقين هذا أصبح وزيرًا لاحقًا، فقد كان من أصدقاء بشار الأسد، وجزءًا من فريق نشر المعلوماتية. حدث مرةً، أن دعا أستاذًا مصريًّا ليلقي محاضرةً عن تقنيات التعليم. سأله الدكتور المصري ساخرًا: "هو فين التقنيات يا بركات؟ هو في سورية بعدكم بتستخدموا الجرن في الطبخ ولا إيه؟ فين التحديث يا بركات؟". كانت محاضرة الدكتور الزائر، وسخريته من مناهج التعليم في سورية، أشبه ما تكون بمسرحيات عادل إمام، إلا أنها لم تكن على المسرح، بل على مدرجات الجامعة.

 وفي كلية التربية، قال لنا الأستاذ المشرف على "ستاج" التدريس، إن مديرية الكهرباء قطعت الكهرباء عن بيت أمه، وأعطته رقم أحد الضباط ليتصل به. طلب ذلك الضابط من الأستاذ الجامعي أن يعطي علامات النجاح لابنته كشرطٍ لإعادة الكهرباء. قال الأستاذ: "الشريف بهي الجامعة بتتبهدل أمه". طبعًا، نجحت بنت الضابط، وعادت الكهرباء.

لم تكن حالة المسخ في جامعة تشرين سوى انعكاس لفساد السلطة السياسية.

عندما سافرت إلى دمشق، لإكمال الدراسات العليا، كان القسم يشهد عمليات تغيير واكبت تحضير بشار الأسد للسلطة. عُزِل الدكتور حامد خليل عن عمادة الكلية، وعُزِل الدكتور صادق جلال العظم من رئاسة قسم الفلسفة، وعُين الدكتور محمود خضرة مكانه. وعلى الرغم من أن للدكتور خضرة صيتًا جيدًا في التدريس، فقد كان أول أستاذٍ جامعي يتحدث بوصفه بعثيًّا. لم نكن نسمع سابقًا من رئيس قسمٍ في جامعة يتحدث بوصفه بعثيًّا. كان الرجل يقول حرفيًّا: "أنا كبعثي...".

وفي جامعة دمشق سمعنا لأول مرة دكتورًا جامعيًّا يقول: "هادا من جماعتنا". أعطى الدكتور عبد الحميد صالح شهادات عدة للماجستير لمن كان يسميهم "من جماعتنا"، من دون أن يقرأ أبحاثهم.

كان الدكتور محمود خضرة يطلب، في محاضرات دبلوم الدراسات العليا، من الطلاب، القراءة من كتاب "فصوص الحكم" لابن عربي، ويقوم هو فقط بالتعليق. قيل إنه كان، من قبل، أستاذًا جيدًا، لكن لم نفهم تحوله هذا. لعدة أشهر، كلما سأل: "أين وصلنا؟"، "من يقرأ؟"، كنت أرفع يدي لأعاود قراءة الفصوص ذاتها التي سبق أن قرأناها. لم يكن يعلم إلى أين وصلنا في قراءة الكتاب، وعندما اكتشف بأننا نسخر منه، ومن الطلاب، عبر قراءة الفصوص ذاتها، زعل وأعلن انسحابه، وتوعدنا بسؤالٍ صعبٍ في الامتحان. في الامتحان، تأخرت أسئلته، فبدأ بعضنا كتابة الإجابة عن السؤال الامتحاني، قبل أن يصلنا. كانت مسخرةً أخرى أسوأ من مسخرة جامعة تشرين.

وفي السنة ذاتها، قرر البعثيون تكريم الدكتور بديع الكسم، في أسبوعٍ فلسفي كان يجري مرةً في كل سنة. حضر الدكاترة وبعض المفكرين العرب والسوريين، بداية التكريم، ثم انسحبوا، وتركوا أساتذة البعث يتصدرون المنابر. كان الدكتور بديع يدرِّسنا إحدى المواد، وكان الرجل قد كبر في السن، ولم يعد يميز ما بين الطلاب والأساتذة. كان كثير النسيان، لا يدري ما الذي يحدث حوله، وكان مشهد تكريمه مذلًّا، خصوصًا عندما سحبوه من يده إلى أسفل صورة حافظ الأسد، لأخذ الصور له، وكأنهم يكرمون حافظ الأسد بدل تكريمه هو.

وتصدّر التكريم سليم بركات وعماد فوزي الشعيبي. كان حديث سليم بركات أشبه ما يكون بـ "حدوتة" سرد فيها كيف كان بديع الكسم يطرده من بيته، عندما كان يشرف على أطروحته للدكتوراة. أما الشعيبي فحاضر في وهم الديمقراطية، دفاعًا عن أصالة استبداد الأب المفدى.

من الأشياء الطريفة التي حدثت في قسم الفلسفة في دمشق، أن أحد الطلبة قدَّم بمخطط بحثٍ لرسالةٍ في فلسفة السيد الرئيس حافظ الأسد. لا أدري كيف استطاع أساتذة الجامعة رفض البحث، ولكن كان الأمر سابقة، تنذر بنهاية مشؤومة للفلسفة التي كانت تعيش محنة مسيرة الإصلاح والعهد الجديد: عهد الابن الوريث.

ببساطة، كان قسم الفلسفة في جامعة دمشق يحتضر، وكنا آخر دفعةٍ محظوظة فقد درّسنا خيرة الأساتذة: صادق جلال العظم وأحمد برقاوي وعادل العوا وبديع الكسم.

وكثيرة هي قصص الفساد الجامعي التي تشهد على تطويع سلطة الإفساد للجامعة، وتحويلها إلى أداةٍ لنشر الجهل، وتعميمه على الشعب مؤسساتيًّا، وفرض ثقافة الامتثال والخنوع، وتحويل التربية إلى عمليةٍ تأديبيّةٍ في خدمة تأبيد السلطة الحاكمة.

 

حسام الدين درويش

 شذرات عن الجامعات السورية

في الجامعات السورية تنقسم علامات معظم المواد الدراسية إلى قسمين: نظري (70-80 علامة) وعملي (20-30 علامة). وفي الفروع الأدبية فإن القسم العملي يعني أن يكتب الطالب حلقة بحث، أي نصًّا يتراوح عدد صفحاته بين 10-20 صفحة تقريبًا.

في الفصل الدراسي الأول في قسم الفلسفة، بذلت الكثير من الوقت والجهد والمال من أجل كتابة "حلقات بحث جيدة". وأذكر، على سبيل المثال، أنني سافرت إلى مدينة أخرى غير مدينة جامعتي لشراء كتاب، وللحصول على كتاب من مكتبة تلك المدينة، لم يكن متوفرًا في جامعتي. لكنني تعرضت إلى صدمة هائلة وعنيفة في مناقشات حلقات البحث. فالدكاترة ناقشوا الطلاب ووضعوا العلامات بدون أن يقرؤوا حلقات البحث. ولم يكن الأمر سرًّا، حيث كان الدكاترة يخبرون الكثير من الطالبات/ الطلاب بعلاماتهم ويضعونها على دفتر حلقة البحث على الرغم من أنهم قد استلموه لتوهم ولم يقرؤوه. وأذكر أنني كنت في سذاجتي الأولى قد هيأت نفسي لمناقشة المعلومات/ الأفكار الواردة في حلقة بحثي (كانت عن الشك عند ديكارت) لكن الدكتور صدمني حين بدأ يمتحن حفظي للمعلومات وقدرتي على استظهارها غيبًا، ثم قام بوضع علامة على الحلقة من دون أن يكلِّف نفسه بقراءتها. (لم أكتب بعد ذلك أي حلقة بحث، بجدية -مع استثناءين بارزين في الماجستير- بل اكتفيت غالبًا بنقل حرفي لنصوص جاهزة، وكان ذلك كافيًا غالبًا لحصولي على علامة عالية).

عندما أصبحت مدرسًا في قسم الفلسفة في جامعة تشرين السورية، أصبحت مسؤولًا عن حلقات البحث. وكنت مصمِّما على التعامل الجدي معها. لكن تلك الجدية جعلتني أشبه بدونكيشوت أو كائنٍ فضائيٍّ لا يفهمه أحد، ولا يستسيغ التعامل معه معظم المعنيين بالأمر من طلاب وأساتذة وإداريين. كان الأساتذة والدكاترة يسألونني وهم في حالة ذهولٍ وصدمةٍ واستغراب، بل واستهجانٍ: "معقول عبتقرأ حلقات البحث؟" كان العرف يقول بعدم معقولية ما أفعله، لكن كان العرف من وجهة نظري غير معقول وغير مقبول مطلقًا. ولم يصدق كثيرون حصول حلقات البحث لدي على علامة 20 من عشرين، أو على علامة 2 أو 4 أو 5 من 20. فقد كان العرف أن يحصل الطالب على علامة تتراوح بين 12-18 غالبًا. وحصلت لي كثير من المشاكل الإدارية والقانونية لهذا السبب.

عندما أصبحت مدرسًا في الجامعة تبين لي أن معظم الطلاب يحصلون على حلقات بحث جاهزة من المكتبات الخاصة، فحاولت قدر المستطاع منعهم من القيام بذلك معي. لكن بعض الطلاب اشتكوا لي عدم قدرتهم على الحصول على أي مرجع من مكتبة الكلية. وعندما سألت المسؤولين عن المكتبة عن سبب امتناعهم عن إعارة الكتب للطلاب، قالوا لي إن الكتب غير مفهرسة وغير مصنفة بعد. فذهبت إلى عميد الكلية لأشتكي له هذا الأمر، فأخبرني أن الكلية تعاني نقصًا في الموظفين. فأخبرته أنني مستعد أن أقوم بفهرسة وتصنيف الكتب تطوعًا ومن دون أي مقابل. فلم يستسغ الفكرة لأسباب لا أعرفها حتى الآن، واكتفى بالقول: "لا تهتم لهيك موضوع كتير، نحن نفكر في إلغاء حلقات البحث أصلًا، وسنفعل ذلك خلال عامٍ على الأكثر".

عدم قراءة الأساتذة والدكاترة لحلقات البحث امتد أحيانًا ليشمل عدم قراءة بعضهم لأبحاث الماجستير والدكتوراه التي يقومون بمناقشتها وتقييمها وإعطاء الباحث علامة عليها. وكان واضحًا في بعض جلسات مناقشة رسائل الماجستير خصوصًا، والدكتوراه أيضًا أحيانًا، أن الأستاذ المناقش لم يطلع على (كل) محتويات الرسالة.

....................

(ذكرى) إضراب في جامعة تشرين (السورية).

في عام 1995، حصل خلافٌ بين عميد الكلية مع الدكاترة الزائرين -القادمين من جامعة دمشق- في الجامعة على المقابل المالي الذي ينبغي للكلية أن تدفعه لهم. ونتيجة لهذا الاختلاف، قرّر عميد الكلية التوقف عن تكليف المعيدين بإعطائنا المحاضرات. وقد وجدنا، نحن الطلاب، أن هذا القرار غير مقبول، ويمس بالمستوى المعرفي لعملية التدريس. ونظرًا إلى أن العلاقات بين معظم الطالبات والطلاب كانت ممتازة، وكنا غالبًا "على قلب واحد"، فقد اتفقنا على الامتناع عن حضور المحاضرات وقمنا بتظاهرة صغيرة في الكلية، وتجمَّعنا أمام مكتب العميد و"خبَّطنا" على بابي مكتبه للتعبير عن الاحتجاج.

التزم الطلاب بقرار الإضراب لبضعة محاضرات، ثم جاءت إحدى الطالبات لتخبرني بأن الطلاب قد دخلوا إلى القاعة لحضور إحدى المحاضرات بعد "تحايل" أحد المعيدين عليهم وإقناعهم بالدخول لمناقشة المسألة. انزعجت من ذلك الخبر كثيرًا، وقلت لها: "العما في ربكون مو اتفقنا ما نحضر أي محاضرة".

اجتمع العميد بنا لاحقًا، وبعد محاضرة حزبية (غير) تربوية، ومجادلتي له، وتدخل شجاع من ماهر اختيار، قررت عمادة الكلية فصلي وفصل ماهر من الجامعة لمدة شهر، ومنعنا من حضور المحاضرات. حاولت التصعيد وإيصال المسألة إلى "الجهات الأعلى"، واتصلت بالصحافة (جريدة الوحدة) لنشر شكوانا عبر الإعلام. لكن عميد الكلية اتفق مع رئيس القسم على فتح تحقيق معي/ ضدي بتهمة "إثارة النعرات الطائفية"، واتخذوا من قولي "العمى في ربكن" لطالبة "مرشدية" أساسًا من أسس هذه التهمة "الخطيرة". تحول موقفي من الهجوم إلى الدفاع، وأقريت بهزيمتي/ هزيمتنا، وصار كل همي ألا يصدر قرار بفصلي فصلًا نهائيًّا من الجامعة، وفقًا لتهديدات عميد الكلية ورئيس قسم الفلسفة آنذاك. وبعد تدخل الواسطات، لم يصدر ذلك القرار الفظيع بحقي.

وفي النهاية فشل الإضراب في تحقيق أهدافه، وأمضينا شهر الحرمان، وصرنا من المشبوهين وأصحاب السوابق في الجامعة والكلية، وكان عدد من الطلاب/ الطالبات يتجنب أن يمشي معي ومع بعض أمثالي من المشبوهين، عندما يكون رئيس القسم موجودًا، لأن رئيس القسم كان يحذر الطلاب من المشبوهين أمثالي. ربما كان هذا الإضراب "(غير) المتواضع" أحد الإضرابات النادرة، وربما الإضراب الطلابي الوحيد الذي حصل في هذه الجامعة أو غيرها من الجامعات السورية لمدة طويلة جدًّا.

.....................................

كان أمل طلاب قسم الفلسفة في جامعة تشرين الذين انتقلوا إلى جامعة دمشق أن يكون الوضع فيها أفضل أو أقل سوءًا، لكن صدمتهم بها وفيها كانت كبيرة. فعلى سبيل المثال كان رئيس قسم الفلسفة آنذاك هو أحد الدكاترة الذين درسوهم في دبلوم الدراسات العليا. وكانت محاضرته تتضمن قراءة طالب ما لكتاب ابن عربي "فصوص الحكم" بصوت عالٍ، مع مداخلات متقطعة من الدكتور المذكور. ونتيجة الملل والصدمة بهذا الأسلوب في التدريس غير المناسب كان يحصل بعض الشغب كاعتراض غير مباشر على ذلك الأسلوب. ونتيجة لذلك "حرد" الدكتور، وتوقف عن إكمال إعطاء محاضرات تلك المادة، وأعلن أنه لا يهم حجم المادة أو عدد الفصوص التي سندرسها، فهو لديه سؤال امتحاني جاهز، وهو سؤال سبق أن جاء في امتحان خضع له من قبل، وكان هو وقس مسيحي الناجحين الوحيدين فيه. نتيجة لهذه المعلومات قمت بتحضير إجابة عامة عن السؤال المذكور بدون معرفة مضمونه وصيغته. وفي الامتحان صدف أن تسلمنا ورقة الإجابة وحصل تأخير لمدة عشر دقائق تقريبًا في توزيع ورقة الأسئلة، لكنني بدأت بكتابة الإجابة قبل معرفة السؤال، ولم تتغير الإجابة بعد اطلاعي على السؤال، وكان أن حصلت على أعلى علامة في المادة.

...........

درست دبلوم التأهيل التربوي في جامعة حلب، والمفارقة الصادمة والمحزنة والمضحكة في الوقت نفسه أن المحاضرات كانت عن تقنيات التعليم بدون استخدام أي تقنية منها، وعن أصول التدريس مع ابتعاد كاملٍ عنها، وعن طرائق التدريس بدون اتباع أيٍّ منها... إلخ. وكان الوضع سيئًا إلى درجة أن القاعة الكبيرة التي تجري فيها محاضرات لمئات الطلبة كانت غير مجهزة بميكرفون أو أي وسائل مساعدة على أن يسمع الطلاب كلام المحاضر. وبذلك كان معظم الطلاب لا يسمعون ما يقوله المحاضر. وقد استمر ذلك طوال العام الدراسي على الرغم من احتجاجات الطلاب وشكاويهم المستمرة في هذا الخصوص. والطريف المفجع في هذا الخصوص هو أن عميد الكلية اتخذ حينها قرارًا بتجديد بلاط أرض الكلية، على الرغم من أنه كان جديدًا ولا يشكو من أي عيب، وعلى الرغم من أنه كان يؤجل تركيب ميكرفون ومكبرات صوت في القاعة بحجة عدم توفر أموال في الميزانية لذلك.

.................

تقدمت مع آخرين إلى مسابقة لتعيين قائم بالأعمال في جامعة حلب، وأجرى رئيس القسم حينها المقابلة معنا. وفي المقابلة سأل رئيس القسم بعض المتقدمين عما يعرفونه عن علم اقتصاد المعرفة، وعندما عبروا عن جهلهم بهذا العلم، وجه لهم انتقادات شديدة اللهجة وقاسية المضمون. طلبت من رئيس القسم أن يذكر لنا اسم كتاب أو بحث في هذا الموضوع حتى نطلع عليه ونتخلص من جهلنا بالموضوع. فأجاب متلعثمًا أنه لا يعرف بوجود مثل ذلك الكتاب أو النص. فطلبت منه أن يذكر لنا اسم باحثٍ أو عالمٍ في العلم المذكور. فعجز عن ذكر اسم واحد في هذا الخصوص، ثم فهمنا من كلامه أنه سمع بوجود ذلك العلم في محاضرة جرت في المركز الثقافي، وأنه لا يعرف عن ذلك العلم المذكور غير ذلك.

...........

عادة ونسبيًّا، هناك نزاهة وعدل في مسألة تعيين المعيدين في الجامعات السورية، أما الواسطات فتحصل على مبتغاها بطرق مختلفة كـ "إيفاد من القيادة القطرية" أو في مناصب ومسابقات تعيين مختلفة ومنها تعيينات "القائمين بالأعمال" وتعيين حملة الدكتوراه أيضًا.

على الرغم مما سبق، تقدمت إلى مسابقة تعيين قائم بالأعمال في جامعة تشرين. وكان مقررًا تعيين قائم واحد في قسم الفلسفة. وعلى الرغم من أن معدلي كان الأعلى، وأنني كنت الخريج الأول على دفعتي في مرحلتي الإجازة والدبلوم، فإن ترتيبي كان الثاني في ترتيب الناجحين. أما الأول فكان مسؤولًا مدعومًا في شعبة الحزب في الجامعة. ثم حصلت مفاجأة وتوفرت للشخص ذي الترتيب الثالث واسطة ثقيلة دعمت تعيينه قائمًا بالأعمال في الجامعة، فصدر قرار بتعيين الناجحين الأوائل الثلاث في قسم الفلسفة. وبذلك تم تعييني قائمًا في الأعمال في قسم الفلسفة في جامعة تشرين. وهذا يعني أن وجودي بين شخصين مدعومين جعلني مدعومًا مثلهم وبدون قصدٍ منهم، وأن هذا الدعم، وليس تفوقي، هو ما جعلني أحصل على تلك الوظيفة الجامعية.

 

 

حميد مرعي

عند تعييني مديرًا للمؤسسة العامة للسينما، كانت علاقتي مع المخرجين والممثلين والعاملين الفنيين في المؤسسة علاقة شخصية وليست مهنية، ولهذا السبب لم ألق قبولًا باعتباري شخصًا غريبًا عن المجال، وكان الاستقبال باردًا.

المؤسسة العامة للسينما هي مؤسسة ثقافية بالدرجة الأولى واقتصادية بالدرجة الثانية، والسينما بالنسبة إلى الناس عامل أساسي وحاسم في تكوين وجهات نظرهم وذائقتهم الفنية والجمالية وثقافتهم، لكني لاحظت، منذ استلامي، غياب جميع هذه العوامل، وعدم وجود أشخاص أصحاب كفاءات عالية، بالإضافة إلى غياب الموارد، فالدولة لم تكن تعطي سوى رواتب العاملين، أما مخصصات الإنتاج السينمائي شبه المعدومة، فكانت مقتصرة على الجرائد الرسمية، وكان وضع العروض والصالات السينمائية مزريًا تمامًا؛ كانت مثقلة بالأفلام الهندية والمصرية الرديئة من الدرجة العاشرة، فوجدت نفسي أمام وضع صعب جدًا.

قررت أن الحل الوحيد هو عدم الاعتماد على مخصصات الدولة، ليس فقط لإنقاذ المؤسسة ماديًا، بل لإنقاذ الوضع السينمائي السيء عمومًا، وتأمين الموارد الكافية للمؤسسة لتكون قادرة على الاستيراد، وفعلًا تم تأمين حصر الاستيراد في المؤسسة العامة للسينما، وهذا ما حلّ كثيرًا من الإشكاليات مثل نوعية الأفلام وهي الأساس، كما أمّن إيرادات كافية للمؤسسة حتى تستطيع إحضار ما ترغب من الأفلام، وأن تبدأ الإنتاج أيضًا، وكانت هذه الخطوة الأولى الحقيقية التي حسّنت من الوضع في ذلك الوقت.

الخطوة الثانية كانت إحاطة الإدارة بأشخاص عندهم همٌّ ثقافي ومقدرة ثقافية ورغبة في العمل، وكان مكسبًا لي شخصيًا وللمؤسسة وجود أشخاص مثل بدر الدين عرودكي قبلوا أن يعملوا فيها، بالإضافة إلى مجموعة كبيرة من الكتّاب والمخرجين المبدعين: حنا مينة، سعد الله ونوس، عمر أميرلاي، نبيل المالح، قيس الزبيدي، توفيق صالح.

بما أن الدولة لم تكن لديها القدرة المالية لتخصيص مبالغ طائلة وكبيرة للسينما، باعتبارها آخر اهتماماتها، وتنظر لها كمصدر تسلية فقط، ولم تعطها أية قيمة مثلها مثل جميع أوجه الثقافة عمومًا، وبما أني شغلت منصب أمين عام مجلس الوزراء، استثمرت علاقاتي الشخصية مع بعض الأشخاص المهمين في الدولة الذين ساعدوني في عملية حصر الاستيراد، وبدأتُ التحكم بالأفلام المعروضة من ناحية، وتوفير مبالغ مالية كبيرة من ناحية أخرى، بالإضافة إلى الإنتاج وفتح صالات سينما في محافظات عدة، مثل: الكندي في دمشق وحلب واللاذقية ودير الزور، وكانت الصالات ممتلئة في كل الأوقات وكل العروض.

اكتشفت بعد تجربتي الشخصية أنك أنت من تضع الرقابة على نفسك، ستحاول الدولة دائمًا منعك ووضع القيود والعقبات أمامك، لكن أنت من يقرر، وأنت تستطيع إلغاء دور الدولة إن أردت، فأنا، ومن موقعي كمدير مؤسسة، وبعد قانون حصر الاستيراد الذي أمّن التمويل الكافي، لم أعد بحاجة إلى الدولة، وكان لدي طريقان لا ثالث لهما، إما أن أخضع لفوزي كيالي وأعتبره وزيري وأنتظر موافقته على كل خطوة، أو أن أرفض ذلك وأقول أنا مدير مؤسسة مستقلة اقتصاديًا ولديها مجلس إدارة يرسم خطوطها العامة لكن في النهاية مديرها هو صاحب القرار ولديه الصلاحيات الكاملة، طبعًا لم أكن سأحقق ذلك لولا الأشخاص العاملون معي، فقد كانوا متحمسين جدًا وطموحين وأصحاب دافع ورغبة قويّة في رفع مستوى هذه المؤسسة في بلاد 90 % من شعبها لا يقرأ الكتب بل يشاهدون الأفلام. برأيي، أي مدير عام أو مسؤول لديه مجال للحركة والقدرة على التغيير بدرجة ما.

مفهوم السينما كان بدائيًا في ذلك الوقت، ولم يقدّر المسؤولون دورها وأهميتها وأثرها في البداية، لكن لاحقًا اكتشفوا دورها الثقافي الخطير، خاصة أمام شعب يستمد ثقافته من الأفلام، وهنا بدأت الإشكاليات.

واجهت بعض المصاعب والعراقيل من داخل المؤسسة نفسها، من الشباب المخرجين الذين لعبوا دورًا مرعبًا في إثارة المشاكل، على الرغم من إتاحة جميع الفرص أمامهم حتى يبدعوا ويصنعوا أفلامًا، لكن لم تكن لديهم الإمكانيات ولا الموهبة اللازمة، وأعتقد أن الإشكالية الحقيقية كانت في نوعية الناس الموجودين في المؤسسة ذوي المواهب والإمكانيات الفكرية والثقافية المحدودة، وبالتالي سعوا لحجب الفرص عن الكل، وتهديم كل شيء ليتساوى الجميع، وكان هذا واضحًا بعد أن انضم توفيق صالح واستطاع أن يخرج فيلمًا مهمًا في المؤسسة.

يصنف فيلم (حياة يومية في قرية سورية) على أنه فيلم قاسٍ ناقد للدولة، أنتجته المؤسسة العامة للسينما ومُنع من العرض، لكنه لم يُصوّر عن بلاد أخرى، إنما عكَس الواقع تمامًا، ولعب وزير الثقافة، الذي كان شرطيًا سابقًا، دورًا سيئًا جدًا بسبب بعده الكبير عن مجالي الثقافة والفن.

مع بداية السبعينيات، أُغلق المنتدى الاجتماعي، ومُنع من متابعة نشاطاته، وأعتقد أن السبب هو اليسار المتطرف الرافض لطريقة إدارة المؤسسة العامة للسينما وإنتاجها، ولديه الرغبة في المعارضة فقط أكثر من الرغبة في البناء، وكان الهدف تحطيم الإدارة من دون سبب واضح، ليس بسبب قلة الفرص، ولكن لأنهم اعتبروا المعارضة مهنة وليست وظيفة للإصلاح.

رأيي في أديب اللجمي أنه تراوح ما بين خطين، الأول هو إرضاء الثقافة، والثاني هو الخضوع للسلطة، ولكنه مال إلى السلطة أكثر، على العكس من أنطون مقدسي الذي لم يكن مهتمًا بالمناصب، ولم يسمح بالتجاوزات، وكان خاضعًا للثقافة فقط.

في النهاية، يمكنني القول إن الثقافة قد شُوهت، وأُفرغ كل شيء من معناه، منذ بداية السبعينيات، الثقافة والاقتصاد والعمل والسياسي والحياة اليومية أصبحت جافة وبائسة وأُبيدت، فقد حُرمت من أساسيات الحياة والحرية ولم يعد بإمكانها النمو، لا الثقافة ولا السينما ولا المسرح ولا الكتابة، ربما نجت الكتابة قليلًا كونها جهدًا وتعبيرًا شخصيًا.

 

 

خلدون الشمعة

في ملكوت الطاغوت

"انجُ سعدٌ فقد هلكَ سعيد". عبارة طاردة المنزع تختزل موقف أستاذي وصديقي أنطون مقدسي خلال سبعينيات القرن الماضي.

كان مقدسي، لأسباب لا مجال للتعرض لها الآن، مقربًا من حافظ الأسد. ولهذا التمست رأيه في رسالة اعتزمت توجيهها للأسد. موضوع الرسالة شكوى من قيام شبيحة شقيقه رفعت الأسد بشهر بنادقهم في حلقة مهددة أحاطت بي وبأسرتي في ليلة من ليالي دمشق المقمرة على أوتوستراد المزة في شهر حزيران (يونيو). آنذاك تمكنت وأسرتي من الإفلات من سكارى رفعت، بمعجزة لا يسمح الحيز المفرد لهذه الاستعادة الموجزة بسردها بشيء من التفصيل. قبل هذا الحادث بشهور كنت والأستاذ مقدسي عضوين منتخبين في المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب. وقد أتاح ذلك فرصة اللقاء عن كثب بحافظ الأسد الذي أذكر من حديثه الذي جرى في غرفة مغطاة بالستائر السميكة من كل طرف قوله: "لا رقابة على الفكر إلا الضمير". وأذكر جانبًا كوميديًا من المقابلة أعقب سؤالًا وجّهه أنطون المقدسي حول المقاومة الفلسطينية أجاب عنه الأسد قائلًا: "تقصد الأبوات"؟ المقصود من السؤال المعاكس من جانب الرئيس السوري الإحالة إلى كلمة "قبوات" التي تعني بالعامية السورية طبقًا من الطعام. ومن الواضح أن الكلمة كوميدية سوداء تسخر من الفلسطينيين وقادتهم. وقد قهقه وفد اتحاد الكتاب -طائعًا أو غير طائع- لدى سماع الأسد، واعتبروا سؤاله جوابًا قطعت فيه جهينة قول كل خطيب.

أقلب الصفحة، وأستعيد بوضوح، على الرغم من مرور عقود على الحادث، سجالات ربما كانت مفيدة. بعض هذه السجالات دار حول ما دعوته بـ "موضعة" المصطلحات العربية في سياق الحوار الفلسفي الدائر بلغة المركزية الأوربية. ما المقصود بالموضعة؟ أحد الأمثلة على المقصود التأكيد على الوصل بدلًا من الفصل بين ماضي العلوم الإنسانية العربي وحاضرها الغربي. آنذاك، أشرت على ما أذكر إلى أبي يوسف يعقوب الكندي (توفي عام 866)، المشرف على ترجمات دار الحكمة، والذي يحتل مكانًا بارزًا من ذاكرة المقدسي المعرفية. الكندي كما هو معروف، كان يحاول تقديم ما قاله الأسلاف، واستكمال ما لم يقله هؤلاء. وهذا يستدعي استنباط وابتكار مصطلحات على نحو يتلاءم مع اللغة العربية. وهذا في ضوء الدرس الخاص بالنقد الثقافي (بلغة هذه الأيام)، ويحقق استمرارية لغة العلوم الإنسانية فضلًا عن تأكيده على انفصال الفلسفة عن الفقه الذي استفحل ليصير لاهوتًا. وفي كتاب الكندي، فيلسوف العرب كما كان يُدعى، الرسالة التي وجهها إلى المعتصم في "الفلسفة الأولى". في تلك الرسالة يصف الكندي رجال الدين من معاصريه من الفقهاء بقوله إنهم "غرباء عن الحق، يسيئون تأويل الفلسفة.. ويضعون الفضائل الإنسانية التي قصروا عن نيلها بموضع الأعداء...".

حاولت في هذه القراءة أمام مستمع جيد أن أتساءل عن معنى الفصل، ليس بمعنى النقد الأدبي فقط، بل بمعنى النقض المعرفي، الفصل بين اللاهوت والفلسفة، لأصل إلى القول إن الكلمة المفتاحية تبعًا لما تقدم تكمن في التعامل مع اللغة. هايدغر يحل في تأملاته بشعر هولدرلين اللغة محل الفلسفة. وابن خلدون يقول "إن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وإن منزلتها من اللغات صورة لمنزلة دولتها بين الأمم".

أعتذر عن هذا الاستطراد لأشير تحديدًا إلى مصطلحين لفتا نظري منذ اطلاعي على دور الكندي. كان فيلسوف العرب يردد كلمتي "الأيس" و"الليس" بمعنى الوجود والعدم. المصطلحان ربما كانا يعبران عن عبقرية اللغة المبتغاة.

أعود إلى الرسالة الشكوى التي أردت من الأستاذ مقدسي الاطلاع عليها قبل إرسالها إلى حافظ الأسد. ما إن قرأ الرسالة حتى سارع إلى الإمساك بيدي قائلًا: "إياك يا خلدون أن تدعهم يستنتجون أن الحال لا يعجبك".

وفي لقاء لاحق تساءلت ما العمل؟ أجاب مقدسي بعبارة لا يمكن اختزالها على نحو مغاير لما اختزلته العبارة التي استُهلت بها هذه السطور: "انج سعد فقد هلك سعيد". صرت سعدًا وصار مقدسي سعيدًا. حدث ذلك بعد مغادرتي دمشق بلا عودة، قبل عقود.

وفي رسالة موجهة إلى بشار الأسد، دعا فيها مقدسي إلى حلٍّ سلمي لأحداث سورية، استعادة مماثلة على نحو ما لاستعادتي لما حدث معي قبل زمن طويل. بعد أيام من نشر الرسالة في جريدة "الحياة" طرد أنطون مقدسي من عمله في وزارة الثقافة.

لا أتحدث هنا عن سلطة شمولية معادية للديمقراطية فحسب، بل عن سلطة عسكر وعسس مهيمنة منذ ستينيات القرن الماضي، تختلف عن أنظمة الطغيان عبر التاريخ بأنها لا تملك البشر والحجر باسم حق القوة بدلًا من قوة الحق، بل تملك فضلًا عن ذلك السلطة والمعارضة معًا.

وفي المجال الثقافي، كان اتحاد الكتّاب الذي انتمينا إليه منظمة حكومية، عضويتها لا تتصل مباشرة بالمعارضة الأخرى، المعارضة الثقافية الخفية التي يسمح لأعضائها المنتمين إلى النظام جهويًا أو طائفيًا بتمثيل دور مناهضة النظام (من خارج اتحاد الكتاب) بين الآونة والأخرى.

اتحاد الكتاب الحكومي، تبعًا لذلك، يلعب دور المدافع عن النظام، بينما يلعب المعارضون المقربون دور من لا يحتاج إلى حماية النظام. وخلافًا للفئات السياسية، لا يحتاج هؤلاء إلى جبهة قومية "تقدمية" سياسية المنزع. فهي تنتسب إلى موقع مختلف ظاهريًا، موقع مناهض للمدينة ولمن شاء حظهم العاثر أن يولدوا فيها. المهم هو ترييف المدينة وقصفها معنويًا باستمرار، وليس مدننة الريف.

في عام 1945، نشر جورج أورويل روايته "مزرعة الحيوان"، ليعزز تأسيسًا مفهوم الاستبداد الشرقي. وتدور الرواية التي تنتقد الستالينية في مزرعة خنازير السيد جونز. وبذلك تبدو ذات سيرورة قابلة للحدوث في مجتمعات الحزب الواحد والحكم الأوحد الذي يحكم من المهد إلى اللحد رافعًا عقيرته بامتداح الديمقراطية. تثور حيوانات المزرعة وتتمكن من السيطرة على سادتها فتصير الخنازير تبعًا لذلك تحت سيطرة قائد يدعى نابليون سرعان ما تفسده السلطة، ولكنه يرفع شعارًا توثينيًا لاستبداد غير مسكوت عنه، يقول الشعار: "جميع الحيوانات سواسية، ولكن بعض الحيوانات أشد مساواة من الآخرين".

آية ذلك أننا، معشر السوريين المنتشرين في كل فضاء، ينطبق علينا القول إن بعضنا أشد مساواة من الآخرين. مفهوم المساواة هنا ليس اقتصاديًا على وجه التحديد، بل وجودي يتصل بالكائن من المهد إلى اللحد.

أعود مرة أخرى إلى الشخصنة، إلى الحضور مرغمًا بملكوت طاغوت. قوام العودة التأكيد مجّدَّدًا (لا مُكرهٌ أخاك ولا بطل) على عدم الانتماء لحزب سياسي مهما كان نوعه، يساريًا أو يمينيًا، دينيًا أو علمانيًا. ولكني على أية حال، دمشقي ليس من حيث الولادة فقط، بل من حيث تصنيف سلطة العسكر والعسس. وباختصار، كنتُ دمشقيًا بلا أجنحة، مثقفًا بلا أجنحة، يقاوم في فضاء التحوّل إلى بوق. وهذا يعني أنني لم أكن منتميًا للمعارضة المنتمية إلى النظام. كان فوزي الكيالي، وزير الثقافة الأسبق قبل أن يُنَحّى عن قيادة حزبه الناصري لتحذيره المعلن لحافظ الأسد بعدم الدخول إلى لبنان، يحاول اجتذابي إلى حزبه دون نجاح. وقد أُعجب بإصداري عددًا خاصًا من مجلة "المعرفة" يستقصي أثر الأدب العربي على الآداب الأجنبية. كان هذا العدد المخصص لدراسات الأدب المقارن الأول من نوعه بالعربية، ولهذا كان يقول باستمرار: "أنتَ في النار ولا تحترق". لم يكن الكيالي يعلم بعدد المرات التي احترقت فيها وأحترق بها، وأعني بذلك فصلي المتكرر من العمل من دون سبب. كنتُ أتحايل على الفصل التعسفي بالصمت، أي بعدم البوح به قبل التقدم إلى مسابقات للعمل تتطلب سيطرة على اللغتين الإنكليزية والعربية والفوز بها بامتياز. ومن المسابقات التي فزت بها على مائتي متسابق، تلك التي شغلت على أثرها منصب رئيس قسم الدراسات في وزارة الخارجية. هذه التفاصيل تحيلني إلى فترة كنت فيها على رأس القسم الثقافي في جريدة "الثورة". ولدى تعيين القرمزي محمد الجندي مسؤولًا عن الجريدة، استهل فترته بالقول إنني ممنوع من الكتابة وإنني مكلف بترجمة الصحف البريطانية اليومية. وأذكر أنه في ضوء إعطاء حافظ الأسد الأوامر بالانسحاب قبل سقوط الجولان، كتب مراسلًا جريدة "الديلي تلغراف" عن معركة منسية قاوم فيها الجيش في قرية "تل الفخار"، على الرغم من أوامر الانسحاب الكيفي. وقد اتصل محمد الجندي بالأركان مرارًا للتحقق من اسم القرية، وانتظر أسبوعًا من دون أن ينجح عسكر الأركان باكتشاف الاسم. وكان مراسلا الجريدة البريطانية قد كتبا اسم القرية بالأحرف اللاتينية، بحيث تُقرأ "تل الفقر". وعلى الرغم من المحاولات المتكررة للتأكد من صحة الاسم قبل النشر، فقد اضطرت جريدة "الثورة" للانتظار. وبعد أسابيع، كتب العقيد الركن غازي أبو عقل، المسؤول عن التوجيه المعنوي في الجيش، مقالًا في مجلة "جيش الشعب" يسخر فيه من المثقفين السوريين الذين يجهلون جغرافية بلادهم.

وفي واقعة أخرى، كلفني الدكتور حسام الخطيب بإلقاء محاضرات حول مفهوم "الحساسية" في الأدب العربي الحديث، على طلبة الماجستير في جامعة دمشق. وما أذكره من تلك التجربة التي تزامنت مع إلقاء نور الدين الأتاسي المُعين في منصب رئاسة الجمهورية من العسكر خطابًا جاء فيه مهدِّدًا بالحرف: "سنجعل من الأسطول السادس الأميركي طعمة لأسماك المتوسط".

ما أذكره بوضوح أن أسئلة الطلبة كانت تدور حول مصطلح "الحساسية" الذي دخل صيرورة الاستعمال حديثًا، عاجزة عن التمييز بين كلمة (SENSIBILITY) التي تنتمي إلى العلوم الإنسانية، وبين كلمة (ALLERGY) الفيزيولوجية المنزع. صحيح أن كلمة "حساسية" حمّالة أوجه، ولكنها من المفردات التي استقرت في النقد العربي. لا أريد أن أجعل من الحبّة قبّة، بل أتساءل هل يمكن هنا استدعاء الكلام عن نظرية الأواني المستطرقة التي تساوي بين انهياريْن: المعرفي على لسان رئيس الجمهورية، ونظيره التربوي في الجامعة. إذا كان رفعت الأسد حامل الدكتوراه من موسكو دون أن يعرف اللغة الروسية مسؤولًا عن مؤسسة خريجي المعاهد العليا، المؤسسة التي أوكلت لنفسها حصرًا صلاحية اختيار المبعوثين إلى الخارج، فلا مجال للكلام.

قبل طرد فوزي الكيالي من وزارة الثقافة، كُلّفتُ برئاسة بعثة لشراء أفلام أميركية من لندن. ولدى عودتي، كانت نجاح العطار قد حلّت محله. وكان من بين الأفلام التي اخترتها فيلم عن الثورة المكسيكية. آنذاك، استغربت الوزيرة القرمزية الجديدة اختياري للفيلم الذي كان دقيقًا من حيث رصده التاريخي لإخفاق زاباتا والثورة المكسيكية. وعندما بيَّنتُ لها التزام النص بالتاريخ، قالت بسذاجة أو ربما بمكر: "كيف تختار فيلمًا لا تنتصر فيه الثورة؟".

هناك تجربة أخرى، أذكرها بإيجاز لأنها تتعلق بخدمتي الإلزامية في "الوفد السوري للرقابة على الهدنة"، وهي تحتاج إلى تفصيل لست مستعدًّا الآن لخوض معمعاته، إنما أذكر قبل أن تغيب عن ذاكرتي رسالة وجهتها آنذاك إلى النقيب نزار شقرا الذي كان مسؤولًا عن الوفد. وبدلًا من ردِّ الفعل الذي كنتُ أتوقعه، أي مباحثتي بشأنها، فوجئت برسالتي منشورة حرفيًا باسمه في مجلة "جيش الشعب"، وكان سبب انتحالها من قبله الحصول على المكافأة المخصصة. لا أجد في سرديتي هذه المناسبة التي تفجر ما لدي من ذكريات الحضور في ملكوت الطاغوت. هل تحدثتُ عن منع الكتاب الذي ترجمته وأنا في العشرينيات من عمري، كتاب لكولن ويلسن بعنوان "رجل بلا ظل"، مزود بحقوق النشر من قبل المؤلف نفسه، وهو الكتاب الوحيد الذي منع من كتب كولن ويلسون، لأن مترجمه مولود في دمشق؟ لا، لم أتحدث. هناك مستشرقة اسمها مريم كوك كتبت عن الحياة الثقافية في سورية معجبة بمرونة الرقيب الذي لا يمنع بلا سبب، ومناسبة الإعجاب عرض مسرحية "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران" لسعد الله ونوس. هذه المسرحية يا عزيزتي مريم كوك حضرها حافظ الأسد نفسه، وحُوِّرَت وأُوِّلَت على النحو الذي يريد. بشار الابن ربما فاق الأب حافظ. بشار مشغول بفيلم لنجدة إسماعيل أنزور عنوانه: "لأنها بلادي"، ولكن مآل الفيلم هو "أقصفها لأنها بلادي".

والمآل بوصفه دعوة لتفعيل العمل الفني، ومن ثمَّ تحويل شعرية الخيال إلى حقيقة تدميرية، إلى نكوص بدائي لا علاقة له بالشعر أو بالسينما. هذا المآل يجعل من الضروري التشكيك في لزوم حضور العقلانية. العقلانية مهمة، لأن نقض الروسمة (الكليشيه) المشددة على أن الإنسان حيوان لاعقلاني، صار في حالتنا نقلة إجرائية سلبية على صعيديْن: الفكري والوجداني. لا تُرادُ العقلانية هنا لنفسها، بل لحضور دور العقل وإلى بروزه، إلى لزوم ما يلزم، إلى الوجود الحسّي في عينه.

مرة أخرى أعود إلى العقلانية الغائبة لأتذكر دور غسان الرفاعي (ساكن فقاعة تلحق الثقافة بالسلطة) الذي صار نائبًا لرئيس اتحاد الكتاب. الرفاعي احتل الموقع مدعمًا بسلطة تمارس الحكم والمعارضة معًا، حاملًا (ثورة الجماهير) كتاب الوجودي الإسباني أورتيغا إيغاسيت الذي تباهى بترجمته عن الفرنسية. لا يهم أنه شغل المنصب لابسًا قناع الماركسية ـ الستالينية المباطن لموقع يفحُّ ويخشخش بأن (منا الحكم والمعارضة متضافرين). إيغاسيت الوجودي المصنف يمينيًا في قاموس الماركسية كان أحد أسباب احتلال الرفاعي لموقعه في اتحاد الكتاب. لا يهم أنه استخدم لمجابهة محمد حسنين هيكل سياسيًا على التلفزيون فصار مادة للتندر والسخرية، إما لنقص في الكفاءة أو لعدم التحضير أو للعامليْن معًا. كان باختصار عنصرًا مدعومًا. وفي زيارة قام بها الأسد الأب لفرنسا، برهن على كفاءة نادرة في صلاته واتصالاته بالصحافة الفرنسية، وذلك بصفته مراسلًا متفرغًا. وقبل تفرغه لهذا المنصب، أي خلال شغله نائب رئيس الاتحاد، اقترح عليَّ دعوة كولن ويلسن إلى دمشق. وتكمن المفارقة هنا بأن دائرة الرقابة في وزارة الإعلام بدأت نشاطها بتعيين أديب غنم الذي اشتُهر في المنتدى الاجتماعي بطاقته على الإضحاك. هذا الرقيب افتتح نشاطه في دائرة الرقابة بمنع كتاب (رجل بلا ظلّ) الذي نقلته إلى العربية بتفويض من كولن ويلسون نفسه، وكنت طالبًا في آخر سلم الثانوية آنذاك. المفارقة تتغلب هنا على العقلانية. ولأنني مسؤول العلاقات الخارجية في اتحاد الكتّاب، فقد وُجهت الدعوة لكولن ويلسن الذي لباها (وكان في مرحلة صعود). ولدى وصوله إلى دمشق شارك الرفاعي في وضع برنامج الزيارة باقتراح دعوته إلى ملهى ليلي تبين لي في وقت لاحق أنه ملك رفعت الأسد. وأمام إصراره على الدعوة، على الرغم من تأكيد أن كولن ويلسن الذي نشرت حوارًا معه في تلك الفترة لن يقبل الدعوة لأنه يعتبر الموسيقى الكلاسيكية جزءًا من دعوته لوجودية جديدة. وهكذا رفض كولن ويلسن الدعوة قائلًا: إنه لا يتذوق شيئًا خارج اهتماماته تلك. المهم أن المفارقة هنا تغلبت وتتغلب على العقلانية. غسان الرفاعي صار مراسلًا لوكالة الأنباء السورية بباريس، يكتب في جريدة تشرين اليومية زاوية، يشارك فيها محمد الماغوط الذي كان يتحدث عن القمع في الوقت الذي شغل فيه منصب رئيس تحرير مجلة الشرطة التي تصدر بهذا العنوان.

أختتم هذا الخواطر بالإشارة إلى أن من نشاطاتي قبيْل مغادرتي إلى العاصمة البريطانية أنني شغلت منصب مدير الدراسات في وزارة الخارجية. وكان الدكتور عبد العزيز علوني، أستاذ المنطق بجامعة دمشق، قد اختارني لهذا المنصب من بين عشرات المتسابقين. وقد التقيت بالدكتور علوني في لندن بعد مرور عقود على الحادث، واستوقفني في فندق بناتيس يريدج قائلًا: "هل تعلم بماذا أخبرت الأمين العام لوزارة الخارجية عندما اخترتك في المسابقة؟ قلتُ له على وجه التحديد: (يا ضيعان خلدون في هذه الوزارة)". والحال أنني ذكرته آنذاك بأنه لم يمر عليَّ أسبوع في منصبي الجديد حتى اضطررت بسبب ضغط العمل الشديد إلى الاتصال بوزير الخارجية، طالبًا منه تحديد قناة واحدة أتعامل معها أمام الطوفان الهائل من الدراسات الركيكة التي كانت تُحَوَّل إليّ من عسكريين صاروا سفراء يُرادُ منهم كتابة تقرير نهاية الخدمة بهذه الصفة. لم يكن هؤلاء السفراء لا يحسنون العربية أو الإنكليزية أو الفرنسية فحسب، بل ربما لم يقرؤوا في حياتهم كتابًا أو حتى مجلة ذات وزن.

السطور أعلاه ليست أكثر من شهيق وزفير على هامش سيرة ذاتية. ربما يفسر ذلك أسلوب الأمشاج المهيمن عليها.

وليد إخلاصي أديب حلبي كان صديقي. وقد أسفر تدمير حلب عن لجوئه إلى الصومال. ولكن الاحتفاء الرسمي به مؤخرًا، بعد وفاته، أغفل ذكر كتاب مهم أصدره الفقيد بعنوان: "الدهشة في العيون القاسية". هذا الكتاب الصادر عن وزارة الثقافة كلفت بكتابة مقدمة له. وقد نشرت المقدمة المطولة في الكتاب تحت عنوان "كلوستروفوبيا الأدب"، وذلك لأن بؤرة قصصه تدور حول الأدب والقمع. ومع وفاة إخلاصي اختطف النظام الحاكم اسمه كما فعل مع الشاعر نزار قباني والأديب عبد السلام العجيلي، فإذا بتأبينه الذي تبنّاه النظام يتجاهل قصص "الدهشة في العيون القاسية"، رغم صدورها عن وزارة الثقافة. وقد أخبرني الأستاذ أنطون مقدسي الذي كان مسؤولًا عن دائرة النشر في الوزارة أنه ووجه مرارًا باللوم الشديد من قبل العسس لأنه وافق على نشر الكتاب. كما تجاهل النظام مختطف الاسم وهذا متوقع طبعًا أنه سبق أن لجأ إلى الصومال نتيجة لتدمير حلب وأن اسمه سبق أن حشر بديلًا لعضو مجلس شعب توفي قبل أن يرغم إخلاصي على تقديم اقتراح للمجلس بتغيير عمر مرشح الرئاسة لتمكينه من استلام موقع الرئاسة الجملوكية.

هذا الاختطاف أسهم بنجاحه كون إخلاصي، مثله في ذلك مثل كثر، لم يكن يرغب في مواجهة النظام، لم يكن يرغب في أن يصير شهيدًا أو مفقودًا. ومن هنا، في حالة هذه الرغبة الإنسانوية، تبطل فاعلية الكلام. وفي هذا يفسح انعدام الفاعلية المجال واسعًا لما يقوله القيصر بوتين، كما ينقل عنه الفيلسوف سلافوي جايجك. في 7 شباط/فبراير 2020 أشار بوتين إلى مقطع من أغنية لفرقة بانكرول (العفن الأحمر). يقول المقطع الذي يدعو الروثنة القسرية والذي يبطل فاعلية الكلام:

"الجميلة النائمة في التابوت، تسللت إليها وضاجعتها.. سواء أعجبك أم لم يعجبك، نامي يا جميلتي".

سورية في تقديري المرجح لإرادة التفاؤل على تجهم الواقع ليست جميلة الروسي بوتين ولا وصيفة الولي الإيراني. سورية الجميلة خلافًا لشهوة طاغوتها ليست نائمة في تابوت ولا يمكن أن تصبح موضوعًا لرغبة الاغتصاب.


جمال سليمان

الثقافة في عهد الأسد

ثقافيًا وفكريًا، أنا ابن السبعينيات، حيث كان الفكر اليساري مهيمنًا على الساحة الثقافية، ومعظم الشعراء والروائيين والكتاب المسرحيين الذين تصدروا المشهد كانوا ذوي اتجاهات ماركسية، وإذا لم تلتق أحدهم في المقاهي الخاصة بهم، ستلتقيه في مكتبة ميسلون، حيث ستجد أن معظم الكتابات والترجمات -ليس في السياسة فقط، بل في علم الاجتماع والفلسفة والنقد الأدبي وتاريخ الفن- هي لأعلام الفكر اليساري. باختصار، الثقافة كانت اليسار، وكل فكر غير يساري كان يُنظر له بازدراء.

حافظ الأسد، كأي زعيم صاعد إلى السلطة، كان يسعى لتوسيع قاعدته الشعبية عند مختلف الفئات والاتجاهات، وهو بالذات كان بارعًا في ذلك. كان رجلًا متابعًا وشديد الاهتمام بالتفاصيل، إستراتيجيًا وصبورًا ومحنكًا، لديه دراية بأوزان خصومه كما حلفائه. أدرك أن في سورية مجتمعًا ثقافيًا شابًا ذا نزعة ثورية لا بدّ من مسايرته وإعطائه مساحة للتعبير، ولك أن تراجع ملحق الثورة الثقافي، وترجمات وزارة الثقافة، أو تحضر إحدى مسرحيات المسرح القومي، أو إحدى إنتاجات فرق مسرح الهواة، أو المسرح الجامعي، أو تجلس نصف نهار في مقصف جامعة دمشق، أو تحضر ندوة في النادي السينمائي ليتملكك الإحساس بأنك تعيش في بلد يتمتع بجانب كبير من حرية الفكر. لقد أراد أن يبني دولة تقوم على توازن مدروس بعناية، ويمكن إدارته بما يعزز سلطته، ويكسبها صفة الطليعية محليًا وعربيًا، وخاصة أن موجة اليسار كانت في أوجها، ليس في سورية فقط، بل في العالم العربي.

صحيح أنه كان يمتلك السلطة والحزب القائد والاتحاد النسائي والعمالي واتحاد الشبيبة والطلبة، وأحكم سيطرته تدريجيًا على النقابات، وبنى أجهزة استخبارات تحصي على السوريين أنفاسهم، وصحيح أنه أطلق يد رفعت الأسد ليؤسس سرايا الدفاع التي كانت تنشر الرعب في شوارع دمشق. بالمقابل، صحيح أيضًا أنه أتى بالدكتورة نجاح العطار، عام 1976، وزيرة للثقافة. ونجاح العطار لم تكن بعثية ولا شخصية جبانة ككثيرين غيرها من الوزراء الذين يستشيرون رؤساء الأجهزة الأمنية قبل توقيع أي ورقة، ويعملون بالحكمة القائلة "الباب اللي يأتيك منه الريح سدة واستريح". أراد حافظ الأسد وزيرة ثقافة قادرة على احتواء المثقفين ومحاورتهم، يكون هو مرجعيتها وليس أجهزة الأمن. كانت العطار تمتلك تفويضًا واضحًا وقويًا منه مكنها على سبيل المثال من أن تطرد علي عقله عرسان، الكاتب المسرحي والبعثي القيادي، من وزارة الثقافة بعد أن تم تعيينه معاونًا لها. واقعة أحدثت ضجة كبيرة في وقتها، وأغضبت الجهات الأمنية والحزبية، وأظهرت سلطة نجاح العطار وقوة التفويض الممنوح لها.

لم يكن يضير حافظ الأسد أن يقوم المخرج البعثي ومدير المسارح والموسيقا، أسعد فضه، بإخراج مسرحية سعد الله ونوس " الملك هو الملك"، ولا أن يصدر قرار وزاري بتأسيس المسرح التجريبي، حيث قدّم العلمان اليساريان سعد الله ونوس وفواز الساجر أفكارهما الطليعية المناهضة للاستغلال والقمع السياسي والاجتماعي كما في مسرحية "ثلاث حكايات" (و خاصة حكاية "الرجل الذي أصبح كلبا" عندما تحول الرجل إلى مخبر انتهازي). ومسرحية "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" حيث كانت يقظة هذا الرجل المسكين في إدراكه بعبثية بحثه عن خلاصه الفردي، وأن الخلاص لا يمكن إلا أن يكون جماعيًا من خلال القضاء على سلطة القهر، سواء كانت سياسية أم فكرية. إنها مفاهيم ثورية لا تتسق مع رؤية سلطة شمولية، ولكنها مساحة أدرك حافظ الأسد أنه لا بدّ من وجودها مادام تأثيرها محدودًا بسبب محدودية الجمهور الذي ستصل إليه هذه الأعمال ويصل إليها. مساحة تسمح للحركة الثقافية بالحياة والتنفس من دون أن تشكل خطرًا على هيكلية النظام ورسوخه.

في السينما، كان الأمر مختلفا نوعًا ما، بسبب قدرة السينما على الوصول إلى أعداد غفيرة من الناس. وفي كل مرة كان الفيلم يتحدث عن القمع بصورته الاجتماعية العامة كما في فيلم الراحل نبيل المالح "الكومبارس"، فلم يكن هناك مشكلة كبيرة مع الرقابة، ولكن إذا كان الفيلم يسمي الأشياء بأسمائها كما في فيلم أسامه محمد "نجوم النهار"، فإن الرقابة ستدخل بثقلها، وتعيد التذكير بالحدود التي لا يُسمح بتجاوزها. ومن المفارقات الملفتة فيما يتعلق بالممنوع والمسموح أن فيلم "نجوم النهار" تم منعه من العرض في سورية، ولكنه كان يمثل سورية رسميًا في كل المهرجانات الدولية، وكان ذلك بمثابة أحجية بالنسبة إليّ، إلى أن علمت أن حافظ الأسد طلب الفيلم وشاهده لوحده في القصر الجمهوري، وبقي في كرسيه عدة دقائق بعد انتهائه، ثم غادر من دون أن يقول امنعوا الفيلم أو أجيزوه.

هل كان حافظ الأسد حريصًا على وجود نشاط ثقافي معارض؟ برأيي الشخصي نعم، ولكن بحدود دقيقة، بالحدود التي لا يواجه فيها المنجز الإبداعي النظام بشكل مباشر، كما في بعض قصائد نزار قباني كقصيدتي السياف والديك. عندها يأتي القرار الصارم بالمنع كما حدث مع كثير من الأعمال قبل عرضها بوقت وجيز، ومنها "ليل العبيد" لممدوح عدوان ونائلة الطرش، و"توراندوت مؤتمر غاسلي الأدمغة" للألماني بريخت وإخراج فواز الساجر. وكذلك أفلام عمر أميرالاي التسجيلية "الحياة اليومية في قرية سورية" و"الطوفان" حيث تتم تسمية الأشياء بأسمائها.

أما في التلفزيون، فقد كان الأمر مختلفًا حيث كانت الرقابة أكثر تشددًا ويقظة، وكانت الهوامش أكثر ضيقًا، وذلك بسبب إدراك النظام وحافظ الأسد شخصيًا لقوة تأثير التلفزيون بسبب جماهريته الواسعة، فهو يذهب للناس بدل أن يأتوا إليه، ويُروى أنه كان شخصيًا متابعًا حثيثًا للتلفزيون. لم تكن هناك مشاكل رقابية عندما يتحدث العمل التلفزيوني عن الإقطاع أو الاستعمار أو الحقب التاريخية المختلفة، إلا إذا كان للحكاية تقاطعًا مع الحاضر السياسي كما حدث مع مسلسل "بصمات على جدار الزمن" لأن حكايته تدور حول صراع أخوين على السلطة، وتزامن ذلك مع نهاية صراع حافظ الأسد ورفعت الأسد. لقد احتاج الأمر كثيرًا من المداولات قبل أن يتخذ القرار بعرضه.

مع أن مساحة الحرية في التلفزيون كانت ضيقة ومراقبة، لكن حدود الممنوع والمسموح في هذه المساحة الضيقة كان مختلفًا عليها، وكانت متغيرة تبعًا لمرونة الرقيب أو تشدده، وتبعًا لتغيير الإدارات، فكثيرًا ما كانت الرقابة تمنع أعمالًا، ثم عند الشكوى للجهات العليا يتم السماح بها بعد إجراء بعض التعديلات والحذف. ومع الزمن نشأت علاقة تفاعلية استثنائية بين الكاتب والرقيب تقوم على نوع من التفاوض. وأصبح المبدعون يبحثون عن أشكال للتعبير تجنبهم مقصلة الرقيب، ولعل أعمال ياسر العظمة مثال ساطع على ذلك، حيث قدمت كثير من الأفكار الجريئة، ولكن في إطار تاريخي مفترض.

أيضًا كانت هذه المساحة تتغير تبعًا للظرف العام، فكما في بدايات حافظ الأسد، حيث اتسعت مساحة حرية التعبير كسبًا للشعبية والمشروعية، ضاقت هذه المساحة مع تفجر الصراع بين النظام والإخوان المسلمين، وإحساس النظام بالخطر على وجوده، ما أدى إلى تنامى طغيان الأجهزة المنية والرقابية، وضاقت مساحة حرية التعبير، واختفت كثير من المنابر الثقافية كملحق الثورة الثقافي والنادي السينمائي وغيرهما. ثم عادت لتتسع مع نهاية عهده، وكان لذلك من وجهة نظري سببان مترابطان:

الأول: هو إدراك حافظ الأسد للأثر السلبي على سمعة سلطته جراء ممارسات الأجهزة الأمنية، وكذلك تفشي الفساد بطريقة شديدة العلنية والفجاجة.

الثاني: تمهيد الطريق لنقل السلطة لابنه، وبالتالي حاجته إلى أن يبرّئ نفسه وأسرته من هذا المشهد وتلك الممارسات.

بناء عليه، ظهرت أعمال تلفزيونية أكثر جرأة ومباشرة، تسمي الأشياء بأسمائها، وأصبحنا نرى على الشاشة ضباط الأمن المتعسفين، ورجال الدولة الفاسدين، ولعل المسلسل الكوميدي "بقعة ضوء" كان مثالًا قويًا على ذلك، آخذين بعين الاعتبار أنه من إنتاج شركة سوريا الدولية التي يملكها محمد حمشو المحسوب على النظام مباشرة، وهذا أمر له دلالته. وكذلك ظهرت شخصية ضابط الأمن السيء والمعقد نفسيًا والذي مارس قهره وقمعه حتى على أقرب الناس إليه (زوجته) في مسلسل "الولادة من الخاصرة". أما في مسلسل "عزلان في غابة الذئاب"، فقد شاهدنا المدى الذي وصله ابن المسؤول في الفساد والجريمة وانتهاك القانون.

إن اتساع هامش حرية التعبير كان أمرًا مقصودًا وموظفًا على حساب المسؤولين الحكوميين -ومنهم ضباط الأمن وهم الأكثر حصانة في دولة الأسد- من أجل تحضير المناخ العام لصعود بشار الأسد بصفته زعيمًا إصلاحيًا. كل ذلك أتى أكله، وأسهم في صناعة المزاج العام، وعزز فكرة الفصل بين حافظ الأسد وعائلته من جهة، وما يجري من فساد واستغلال للسلطة في طول البلاد وعرضها من الجهة الأخرى.

لكن ذلك لم يمرّ دون صراع نشأ من طموح الفنانين والكتاب لتوسيع مساحة حرية التعبير والخوض في موضوعات جوهرية تمس طبيعة النظام القائم، ومحاولات الجهات الرقابية ضبط هذا التوسع من جهة ثانية. في تلك الفترة، أنجزنا الجزء الثاني من مسلسل "خان الحرير" تأليف نهاد سيريس وإخراج هيثم حقي. وهو مسلسل غير مسبوق من ناحية طرحه لتجربة الوحدة وأسباب انهيارها، بعيدًا عن السرديات التقليدية التي تكتفي بالحديث عن تآمر القوى الاستعمارية والأنظمة الرجعية ضد مشروع الوحدة العربية. لقد كان المسلسل جريئًا في تسليطه الضوء على قضاء حكومة الوحدة على التجربة الديموقراطية البرلمانية في سورية، وعلى سياسات التأميم والإصلاح الزراعي، وتسلط الجهاز الأمني على الحياة العامة، ودور كل ذلك في فشل الوحدة. وذهب المسلسل أبعد من ذلك بأن أبرز دور البعثيين في عملية الانفصال، وهو من المسكوت عنه. في حلقته الخامسة، عندما بدأت ملامح العمل تتضح، تحركت قيادات حزبية وأمنية من أجل إيقاف العمل ومنع عرضه، ولولا تدخل بشار الأسد شخصيًا، الذي جاء في سياق ما سبق وأشرت إليه (ولم يكن قد أصبح رئيسًا بعد) لما استمرّ عرض المسلسل، ولكن مفاوضات مضنية مع الرقيب وبعد اقتطاع أجزاء منه وخاصة تلك التي تتعلق بدور البعثيين في الانفصال.

الملفت أيضًا أنه في الفترة نفسها فتحت أبواب الوطن لقامة أدبية كزكريا تامر كي يعود إلى سورية بعد عقود من الغياب القسري، وجرت محاولات للتواصل مع غادة السمان لمنحها وسام الاستحقاق، وأظنها اعتذرت عن ذلك. وتولت بعض الشخصيات الرسمية، ومنهم ضباط أمن كبار، مباشرة الحوار الودي مع عدد كبير من الفنانين والمثقفين، وبعضهم معتقل سابق، وبعضهم الآخر صدرت بحقه مذكرات اعتقال أو كانت جاهزة لتصدر في أول مناسبة. وكل ذلك في إطار حملة العلاقات العامة الممهدة لصعود بشار.

استنتاجي الشخصي من كل ذلك أن حافظ الأسد كان يدرك أهمية الحركة الثقافية السورية، ويقيم وزنًا لأصوات المثقفين، إلا أنه بشكل تدريجي حدد قواعد اللعب معهم، وحدد لهم مساحة الحركة. كان يقبل بصوتهم مع ضمانة أنه لن يذهب بعيدًا، ويقبل بوجودهم مع ضمانة أنه لن يحدث تأثيرًا يقود إلى التغيير. ولكن حسابات الحكام الشموليين لا تصيب دائمًا، وخاصة عندما يكون الحديث عن الثقافة، لأنه لا أحد يستطيع منع تلك البذرة من أن تنتظر الوقت الذي تتفتح به وتصبح شجرة. إن التحكم بمفاصل الدولة والسيطرة على كل النقابات والاتحادات ووسائل الإعلام، وكذلك إنشاء عشرات الفروع الأمنية، لن يمنع الكلمة والصورة من أن تجد طريقها إلى خزائن الذاكرة والضمير الجمعي، وما قد يبدو اليوم عرضيًا وعابرًا من دون تأثير كبير، قد يكون غدًا محركًا للأمة ومرجعًا لصوتها. لننظر اليوم إلى المقاطع المأخوذة من الدراما السورية والمتداولة على السوشيال ميديا، ومنها مشهد انتخابات أبو عنتر المزيفة في مسلسل "عودة غوار"، والتي انتشرت بكثافة تعليقًا على الانتخابات الرئاسية الأخيرة في سورية، لندرك أن هامش النقد الاجتماعي والسياسي المتاح والضيق ترك بذوره في وجدان السوريين وعقولهم، وهم اليوم يعيدون استحضار كثير من المواقف الدرامية ويشاركونها بشكل واسع على صفحات السوشيال ميديا، للتعبير عن رفضهم لواقع الاستبداد، على الرغم من مرور السنوات وأحيانًا العقود على تلك الإنتاجات، وعلى الرغم من أن بعض صناعها هم من أشد الموالين للنظام، ولكن المواطن السوري فصل بين المنتج الفني وصاحبه كلما لزم ذلك.

عبر تاريخ الشعوب، كانت الثقافة تخوض معركتها مع النظم القائمة، وتتغير وسائل الصراع وأدواته مع تغير الظروف، لكن الثقافة كالماء، تبحث عن طريقها في جوف الأرض بعيدًا عن الأنظار، إلى أن تجتمع وتحدث اختراقًا في الصخر، متفجرة على شكل ينبوع متدفق، يتحول إلى نهر يخترق طريقة وليسقي الشجر والبشر.

في نهاية المطاف، كان لدى حافظ الأسد إمكانية التعايش مع التعبيرات الثقافية المختلفة، ما دامت في حدودها، وما دام نظامه يكتب الكتاب المدرسي ويطبعه، حيث لا وجود لأفكار إلياس مرقص، ولا لأنطون مقدسي، ولا لمسرحيات سعد الله ونوس أو ممدوح عدوان، ولا لأشعار نديم محمد أو نزار قباني، ولا لقصص سعيد حورانية أو زكريا تامر.

كان حافظ الأسد مدركًا لأهمية الإعلام، وخاصة التلفزيون، وما دام تحت قبضته بشكل مطلق، فهو لا يقلق كثيرًا من الأفكار المناهضة لجوهر حكمه، وقد رأينا في مسلسل "لعنة الطين" كيف يقوم ضابط استخبارات بصناعة نجومية مطرب تافه. ولعل جزءًا من نجومية شادي جميل (على الرغم من أنه لا شك في موهبته وقدراته) تعود إلى جفاء حصل مع صباح فخري، وبالتالي بدأ الإعلام الموجه وبشكل مكثف يصنع بديلًا له.

 

راشد عيسى

تدمير المسرح كظاهرة اجتماعية

بحكم دراستي للمسرح، ثم العمل في مجال الصحافة الثقافية، منذ بداية التسعينيات، تابعت بشكل مستمر جانبًا من المشهد الثقافي السوري، ما يتعلق منه باختصاصي كخريج للنقد المسرحي أولًا، وبطبيعة الحال جوانب من الفن التشكيلي والأمسيات الأدبية والإنتاجات السينمائية ومعارض الكتاب وفعالياتها المختلفة.

قد يكون المسرح، العرض المسرحي تحديدًا، أكثر ما يصلح لمعاينة أحوال الثقافة في هذا البلد، باعتباره فن «الآن وهنا»، أو هكذا ينبغي له أن يكون، وهو الفن الذي يجهد بطبيعته أن يكون ظاهرة اجتماعية، تقوم على التفاعل مع الناس. وما التقدير العالي والخاص لهذا الفن من قبل المؤمنين به إلا لقدرته على إثارة حوار حول أكثر القضايا الملحّة والمصيرية.

لكن عندما تضع عناصر هذه «الظاهرة الاجتماعية» تحت المجهر، سرعان ما ستجد أنها كانت معزولة عن المجتمع، لا تعبر عن همومه، عاجزة تمامًا عن طرح القضايا الملحة، وبالعكس مع إصرار على الذهاب بعيدًا عنها تمامًا، عكس الاتجاه.

الإنتاج المسرحي مسيطر عليه حكوميًا، فهو يحتاج إلى مكان ومؤسسة وفرق وتمويل.. يستحيل عليه أن ينهض بعيدًا عن المؤسسة، هذه التي ستتولى فرض رقابات على النص والعرض والمكان، فالمسارح محدودة، والأمكنة البديلة شبه محرمة إلا ما ندر، حيث في مرات قليلة قُدمت عروض مسرحية في ملجأ تحت الأرض (مسرحية «المهاجران» لسلافومير مروجيك من إخراج سامر عمران)، أو في نفق للمشاة (مسرحية «جثة على الرصيف» لأسامة حلال)، أو في بيت عربي تراثي في دمشق القديمة، أو في قلعة دمشق، حيث قدم نص سعد الله ونوس «منمنمات تاريخية» بإخراج نائلة الأطرش، لكن محاولات مثل هذه كانت نادرة وغير ممكنة إلا بملف هائل من الموافقات الرسمية والأمنية لتكون تحت السيطرة. مسرح العلبة الإيطالية متحكم إذًا، وبالتالي فإن السيطرة هي لشكل تقليدي سلطوي تعليمي مفروض على الناس بالإكراه. فالذهاب بعيدًا عن خشبات مسرح القباني ومسرح الحمراء وسواها من مسارح تقليدية، إلى مقهى أو تحت جسر أو على ضفة نهر أقرب إلى المستحيل، وبالتالي لا أشكال جديدة تسمح بتفاعل مع الناس وفلتان للكلام والانفعالات. ومن البديهي، والحال هذه، أن يكون مصير «المسرح التجريبي» الذي أطلقه الراحلان سعد الله ونوس وفواز الساجر، وجرى تبنّيه رسميًا، أن يكون مصيره التحول إلى مجرد اسم فارغ من معنى التجريب والمغامرة وارتياد أشكال فرجة وأمكنة جديدة خارج مسارح العلبة الإيطالية. فالتجريب، كما يفترض، هو اسم آخر للديمقراطية، وكل شكل يفضي إليها سيصبح محرّمًا.

حين نتتبع ما قُدم من نصوص على خشبات المسارح الدمشقية، من السهل أن نلاحظ أن الغلبة الساحقة هي لنصوص مكتوبة سلفًا، من المسرح العالمي أو العربي، ما يعني غياب الهموم الأكثر راهنية، اللصيقة بـ «الآن وهنا»، بعكس ما يمكن أن نلاحظه بسهولة في عروض ما بعد الثورة خارج سورية، إذ إن معظم ما قُدّم وكُتب للخشبة كان من واقع اللحظة الراهنة، حتى لو جرى الاتكاء على نصوص عالمية، فإنها تأتي بتصرف كبير عن الأصل.

أما بعض التجارب التي تجرأ أصحابها على الاقتراب من راهن محرّم، فسيحاصرها النظام بطريقة أو بأخرى لإبطال أي مفعول لها. لنا في تجربة المعتقل السابق غسان جباعي مثالان ساطعان؛ لقد قدّم الجباعي من وحي تجربة السجن مسرحية «سلالم»، التي سرعان ما أوقفتها الرقابة، على الرغم من كل حذرها في القول، والتجربة الثانية مسرحية «الشقيقة» التي كتبها الجباعي في قلب السجن، وعن السجن، ولكنها لم تكن لتعرض (بعد خروجه من المعتقل) إلا حين جعل الكاتبُ المخرجُ السجانَ إسرائيليًا.

الرقابة إذًا هي كل شيء، هي المحدد الأهم لخيار الموضوع والنص والتوجه، لكن لنفرض أن المخرج ذهب إلى التاريخ، أو إلى حكايات «ألف ليلة وليلة»، أو إلى مسرحيات عالمية، للتلميح بقولٍ راهن، فما سيحدث أن فتيل الاشتعال سينتزع منها، على الأقل لن تقدر الصحافة والإعلام الذهاب بعيدًا في المناقشة، فالمحظور في المسرح محظور كذلك في كل مكان آخر. من الممكن مثلًا أن تستحضر شخصية كاليغولا في عروض المسرح القومي الرسمي، أما نقاش الدكتاتورية، فلن يتحول إلى حديث ونقاش جدي مع المتفرجين أو بينهم. لن يكون هناك أي مفاعيل لمجريات العرض المسرحي. سيبقى العرض أسير صالة المسرح، ولن تتمكن أفكاره من النزول إلى الشارع.

كل هذا من دون أن نتطرق إلى مشاكل أخرى جعلت المسرحيين أنفسهم ينفضّون عن المسرح، من طغيان المسلسل التلفزيوني الذي بات حلم الأحلام لمعظم خريجي المسرح بمختلف اختصاصاته، حتى إن معظمهم بات يفضل العمل في دبلجة أفلام الكرتون والمسلسلات التركية على العمل في المسرح، لقد بات هذا الخيار الأخير للممثل والمخرج، حتى صار يقال إنه عمل من لا عمل لهم.

 إذا كان هذا هو حال فن جماعي، لا يستوي من دون العمل كمجموعة، أو فرقة، وكذلك من دون التواصل الحي والمباشر مع الجمهور، فلن يكون حال الفنون الفردية أفضل، أو أقل عزلة. فالأمسيات الشعرية والأدبية هي للمراكز الثقافية البائسة، وجمهورها غالبًا من أقارب وأصدقاء الشاعر أو الأديب. عندما يحاول الناس أخذ المبادرة بعيدًا عن المكان الرسمي، ستقرع نواقيس الخطر على الفور، وقد حدث بالفعل أن مجموعة من أدباء ونقاد راحوا يعقدون نقاشات منزلية دورية أدبية في بلدة جرمانا بدمشق استُدعوا أمنيًا بسبب ذلك، واضطروا لإيقاف لقاءاتهم بعد المساءلة.

هذ الحال البائس كان هو الطاغي، أما الفعاليات السنوية الدورية، مثل مهرجانات المسرح والسينما ومعارض الكتاب بفعالياتها المتعددة والأسماء اللامعة، فكانت مجرد أعراس نافرة عن المشهد، مع أنها لم تكن بعيدة عن قبضة الرقابة والسيطرة الأمنية، خصوصًا معارض الكتب التي بات من تقاليدها الراسخة حكايات المنع والمصادرة. ولا ننسى بالطبع أن المنع هنا يأتي لاستدراك ما لم تقدر عليه لجان رقابية أخرى في «وزارة الإعلام» و«اتحاد الكتاب العرب» و«وزارة الأوقاف» و«اتحاد الناشرين» وسواها من مؤسسات.

إنه البلد الذي يُمنع فيه الاجتماع لأكثر من ثلاثة أشخاص، وفي نكتة رائجة لأكثر من شخص واحد، من دون حتى أن يعني ذلك «ارتكاب» أي اعتراض ضد النظام، فمجرد الاجتماع هو مشروع معارضة، فكيف إذا كان الاجتماع من أجل التعبير والحوار والتأمل بشروط عيشنا وحريتنا، لذلك ربما كان هذا هو مشروع ووجهة النظام الأساسية، تفريغ أي فعل اجتماعي (إذا كان لا مناص أساسًا من الاجتماع) من مضمونه، وإذا أمكن تحويله قدر الإمكان إلى دبكة تهلّل للنظام وانتصاراته.


زياد عدوان

سورية منطقة عسكرية: يمنع الاقتراب أو التصوير

من سيصدق أننا لا ندّعي الشعر عندما نروي ما حصل معنا في سورية، وخارجها؟

عبارات من نوع (الأسد أو نحرق البلد، بالذبح جيناكم، الموت ولا المذلة، زحف اللاجئين نحو أوروبا) هي ما يحدث بالفعل. ليس الأمر استعارات، بل توصيف حرفي لما يحدث. تجاوز الواقع السوري الشعر والاستعارة، وكل ما يقال هو ما يحدث حقيقة. كيف لنا كمسرحيين أن نعبر عما يحدث؟ مجالنا هو الخيال، ولكن الواقع استحوذ على الخيال، وبات كل ما يمكن أن يقال هذرًا أمام ما يحدث.

يشكو البعض من أن الشعر هو الكلام الغامض وغير المفهوم، وسورية كانت، وما زالت، غامضة وغير مفهومة. سورية كانت، وما زالت، منطقة عسكرية: يمنع الاقتراب أو التصوير.

عشت فترة طويلة بين لندن وباريس ومونتريال. لم تكن لي تجربة عملية في سورية. كانت علاقتي مع سورية مقتصرة على إجازات قصيرة. انصب اهتمامي في ذلك الوقت على العمل في لندن، وكانت سنوات مليئة بالتجارب الغنية، والتحديات، والأفق. عدت إلى سورية، عام 2009، لأجرب الوطن وما يقال عن التجربة المحلية، ولكن لم تكن تلك الفترة جنتي.

شلل!

بالطبع، لم أقم بمقارنة لندن بدمشق، فمدينة مثل لندن أبعد من أن تقارن مع أي مدينة في هذا العالم. ولكنني لم أفهم التحايل في سورية والتباهي به. لم أفهم الفساد وعلاقات العمل، ولم أفهم أحزاب المنفعة والإقصاء، ولم أفهم شراسة المسرحيين فيما بينهم، ولم أفهم سعي العديدين لصنع آلهة جديدة، ولم أفهم الاستهزاء بمن خرجوا من بيوتهم رافضين الظلم، ولم أفهم صبري على الوقت الميت في سورية. ولكن، وعندما بدأت الاحتجاجات عام 2011، أجبرني فضولي على المكوث إلى اللحظة التي بدأت أوشك فيها على التعود على الدمار والجثث والحقد.

كان صعبًا عليّ، بعد العودة إلى أوروبا، أن أستوعب أنني عدت إلى حياة سابقة. كان صعبًا أن أروي لأصدقائي وزملاء العمل ما شاهدته وسمعته في سورية. ولكن لا بدّ من العمل. المسرح هو عملي. وإن كان الخيال عاجزًا أمام الواقع الذي يفوق الخيال، ولكن لا بدّ من العمل.

فُرض عليّ أن أروي ما حدث في سورية، وبالتالي فُرض عليّ أن أكون جسرًا ليعرف الأوروبيون ما يحصل في سورية. نعم، مررنا بتجربة هائلة على المستوى الإنساني، وعرفنا التفاؤل، والرعب، والتكافل، ولكنني لست هذا الجسر. يكفي أن أقول لهم إن المستشفيات باتت أماكن لتعذيب المتظاهرين، ليعرف من لا يعرف أن الحقد أوسع من الوصف. أحاول أن أجعل من هذا الجسر، الذي فُرض عليّ، طريقًا وعرًا يصل إلى صورة مشوشة. لا أدعي المعرفة، وأقاوم من يدعي المعرفة كلها، حتى الضحية باتت غير متيقنة من قاتلها.

عدت إلى أوروبا بعد ستة أعوام في سورية (أعيش الآن بين برلين وميونخ وزيارات عمل متكررة إلى اليونان). عدت إلى العمل. أقوم بكل ما أستطيع لتعويض ما فاتني خلال الشلل السوري، أقوم بتقديم مسرحيات، وكتابة أبحاث أكاديمية، وإقامة ورشات عمل مع اللاجئين، اللاجئين من كل بلاد الموت.

لا أسعى لطرح مزيد من الأسئلة من خلال الأعمال التي أقوم بها. أحاول أن ألتمس إجابات صغيرة لأسئلة كبيرة، أحاول التماس حلاوة الروح. كسوري، أحاول أن أجد معنى ما لهذا العبث. ما الذي يمكننا أن نستخلصه من واقع يفوق الخيال، وتجارب ذاتية أو جمعية بلا معنى؟ يبحث السوريون عن معان من لا شيء. يحاول واحدنا نسيان مأساته بمقارنتها بمآسي الآخرين، ولكن لكلٍّ منا مأساته، وأمواته وغريزة السعادة بنجاته. ونجوت الآن لأحافظ على سعادة ما، رغم كل المآسي والمتشائمين.

هناك حيرة دائمة تطفو على السطح كلما عملت مع اللاجئين. ماذا نقول لهم؟ هل نعمل في بلاد النجاة لفترة مؤقتة؟ أم أنها حياة جديدة وعليهم أن ينسوا بلادهم إلى الأبد؟ ما هي الإستراتيجيات المطلوبة تبعًا لهذه الأسئلة؟ ولكن، وإن لم تكن الحياة في سورية، فهناك على هذه الأرض ما يستحق الحياة. قال محمود درويش هذا الكلام مرة. ومع التجربة السورية، أصبحت هذه العبارة واقعًا يفوق الشعر.

https://mail-attachment.googleusercontent.com/attachment/u/0/?ui=2&ik=c0c60022bf&view=att&th=179c1d8c9597f38f&attid=0.1&disp=vah&safe=1&zw&saddbat=ANGjdJ9lXZpREwGiMucwwVz-3OzbY7O2dd51Sjxha2DuiWLVxlG5njpn9eWqEQivuM-2rTOT0C5srcEfoj4_HqCx57rINEKzmWKSgDbkahpMXL8fKvjnXVW5wjh_36hNwaQqB6I_seJluuJrf1arXLYIH1ZWY4bgPFUh7ozn7L8tCG8rqUvEiIZ5kcW6oCtbr9v4XQXy83MYHraw06si-d53hzLiJH8wgg4PW6YnZ3aaqfQsa10zDOC3ZyzRzJeacOBj8j-QeilO0TkW0d4F9JhhvSlVR2OHA-shHyTCxZbrUPOrcExXQmoAj4hz8vypwJ2qyeqrLaxShmPVxRE_mxH8359UP-nunjlZEm3rC86llU7QrwXKLTrZvSVJTGbgPyDzhYh85Rs-ITdHZNlchtlmFNbt1YPQya8dLueqCXBie-PkSnrjK-hPv0u8hKBAn30oZISTzZhOiNc2jErI1jGYrdphv7wMxftzYeehisoiL8SbkK4d8ySpwV7-imGqOl7eFWm89i52rssZedem-N_-LFCfnIGAaY74mGHGe_x35sl6SStTQPFb91dHubd3uXTlj8xnQ1SR2NI3vPg6uIikJt5TanjwEMVZIvawBKljJpZJMrmD7wVDCdUF9X4Y9ap8lA2HybLsaPZCYIRad1bh9iB8dkoyhWIs8cf60yteHTcUs5g40QJJ9Va6SRw

 

 


 

 

عاصم الباشا

الرحلة إلى الجرح

طلب صديق عزيز رأيي حول حال الثقافة في سورية، والحقيقة أنني بتّ أتهيّب الخوض في هذا المجال، ربما خشية أن يعدّوني من العاملين به.

على أية حال، تجربتي مختلفة عن الغالبية بسبب "لعبة" الجغرافيا، فبدايات علاقتي مع العالم الذي حولي انقضت أسفل خرائط العالم قاطبة، وبدأت أتلقّى ثقافة إسبانية في الطفولة ولغاية بداية المراهقة مع الدهشة من انتماء الوالد لثقافة أخرى أجهلها.

أرى أن الثقافة ثقافات شتى، فللمجتمع وللعائلة ثقافة ما تُملى على الأبناء، وهي تكون عادة محدودة بالتقاليد والمفاهيم المتأتّية عن معتقدات وعادات متوارثة، وحيّز التفكّر بها قليل، لذا فمن يبتغي المعرفة (الثقافة) لا بدّ له من الانعتاق عن الموروث السطحيّ والخوض في عمق التأريخ والفلسفة والأدب التي غدت خلفية لكل رؤية مستحدثة.

ولا أخفي أنني أعتبر ثقافة سورية وليدة أُجهضت ما أن حاولت الاستيقاظ بعد قرون من إغفاءة مطبقة، ولم تفطن بخجل سوى مع نهايات القرن التاسع عشر.

وما أن خرجت البلاد من ربقة الإظلام العثماني حتى سقطت بين براثن استعمار مزّق الجسد.

بدأت علاقتي بالثقافة المحلّية بتلقّي صفعات شتّى من أداة التثقيف، أقصد التعليم. كنت قد انتقلت في الأرجنتين إلى الصفّ السادس (متقدّمًا سنة على أترابي)، ولم ألق بين مسؤولي التعليم في سورية من يدرك أن الفتى (في الحادية عشر من عمري) قادر على تعلّم لغة يجهلها بثلاثة أشهر، فأجلسوني في الصفّ الثالث، هنا بدأ احتقاري لمؤسسات التعليم في سورية. وكان طبيعيًا أن أكون أولًا على محافظة دمشق في فحص السيرتيفيكا (الابتدائي)، وكذلك في فحص الكفاءة (التاسع) الذي تقدّمت إليه حرًّا لأنني رفضت الدوام في المدارس، إلى درجة أن وزارة التربية أصدرت قرارًا بطردي من جميع المدارس الرسمية السورية.

وأعلمني بالقرار مدير ثانوية جودت الهاشمي الذي صار من الأصدقاء بعد معرضي الأول في دمشق، سنة 1979: عدنان بغجاتي.

وكانت مجلّة "الثقافة الجديدة" لصاحبها مدحت عكاشة قد نشرت لي قصيدة قبل ذلك.. كنت في الرابعة عشر من عمري، أي بعد تعلّمي العربية بثلاثة سنين.

ما من منطقة على الكوكب بغنى ما يُعرف ببلاد الشام، فتاريخنا يبرودي (ثمة مرحلة سمّيت بالحضارة اليبرودية.. ليس تعصّبًا) وبرونزي وبابلي وآشوري وفينيقي وكنعاني (سأنسى الكثير) وسومري وحثي ومصري وبارثي وهلنستي وروماني وبيزنطي وعربي ومملوكي وعثماني.. ونتف صليبية وفرنسية (لم لا؟)، والتقاطعات تركت في أرضنا إثنيات وثقافات مذهلة شتى، لنزداد بعجينتها غنى، وأهدينا الكوكب عقائد (الهدية تكون مشكلة أحيانًا)، ونحن جملة كلّ ذلك، مضافًا إليه تفاعلنا الحاضر مع كلّ الجهات.

كان للحرية التي استمتعت بها في يبرود وجبالها بعد المرحلة الابتدائية الفضل في تفرّغي لهوايتين: التشكيل والقراءة، وسرعان ما صرت أستخدم الألوان الزيتية في تصويري وبدأت الغوص بقراءة شيء من التراث والفلسفة متقدّمًا لمسافة بعيدة عن مستويات التعليم السائدة، وبفضل تواجد الوالدة حافظنا في بيتنا على اللغة الإسبانية التي تابعت الاطلاع عليها.

هذا هو ما جعلني أتعلّق بثراء تراث المنطقة وأتمسّك به إلى اليوم.

بعد حصولي على البكالوريا (التي تقدّمت منها حرًّا) اضطررت إلى العمل لمساعدة اقتصاد بيتنا الذي تدهور سريعًا، وعملت مترجمًا لدى السفارة الكوبية في دمشق، الأمر الذي منعني من ممارستي المهنة التي كنت أبتغيها: الفنون التشكيلية، فقضيت سنة في كلية الفلسفة قبل الانتساب إلى كلية الفنون. ولحسن الحظّ (مرة أخرى)، فزت في مسابقة نظّمتها وزارة التعليم العالي، وحزت على إيفاد قبل انقلاب آل الوحش على حكومة الأتاسي.

وبهذا كسبت شيئين: لغتين، الروسية والفرنسية (بفضل رحلات الصيف والشتاء بين موسكو وباريس) ومعاودة مساعدة الأهل، لأن أهل الموفد يتقاضون راتبًا تعويضيًا لغياب ابنهم.

وهكذا اكتشف الأساتذة الروس أنني نحّات، فانغمست فيه حتى اليوم. ويبدو أن فضولي وجرأتي في العمل لفت انتباههم، فرشّحوني للعمل مدرسًا مساعدًا في أعلى معهد للفنون في الاتحاد السوفييتي متجاوزًا الطلبة السوفييت، علمًا أنني كنت الأجنبي الوحيد في الكلّية. لكن ارتباطي مع جهة الإيفاد وضرورة العودة للخدمة في كلية الفنون ضعف مدة الإيفاد (أي أربعة عشر عامًا) منعني من القبول.

وبدأت محنة العودة.. فبسبب التقارير السياسية لأزلام نظام آل الوحش، أُبعدت إلى مدينة الحسكة معلّمًا (بالوكالة ريثما يصدر قرار التعيين) في ابتدائيات الحسكة. ولم يصدر التعيين أبدًا لرفض الجهات الأمنية ومكتب التربية في القيادة القطرية لحزب البعث. لكن هذا أفادني شخصيًا (وربما، أنا واثق، أضرّ بطلاّب الفنون) إذ استعدت حريتي.

لكن النظام أغلق في وجهي أبواب التوظّف أو "الارتزاق" لسنوات طويلة، حتى فتحوا كوّة: إقامة تماثيل للطاغية. ولأنني رفضت، كان لا بدّ من قرار النفي الذاتي سنة 1987.

أعتذر لهذا الاستغراق في تجربتي الخاصة.

وعودًا إلى موضوع الثقافة، أقول إنني حللت شرق المتوسط أواخر الخمسينيات مع بروز بوادر الإبداع الثقافي في بلاد ما بعد "الاستقلال".

لكنه كان طلق عصيب، جاء على الرغم من إحباطات "الحمل". لأنني موقن بأن بداية نهاية الثقافة في أية جغرافيا تكون مع حلول الحكم العسكريّ، فما بالكم وقد غلب على تاريخ سورية "المستقلّة"؟

ما حكم العسكر بلدًا إلاّ وأدخلوه نفق التجهيل والتخلّف عمومًا.

شهدت في بداية مراهقتي تجربة "الوحدة" مع مصر، ثم تسلسل انقلابات الستينيات العسكرية ودخول "البعث" ساحة السلطة. حزب جاء كالآفة وتكفّل بالاستغراق في التدمير والجهالة تحت مسميات كالقومية والوطنية ثم "الممانعة".

دخولي في غياهب التزوّد بالثقافة جاء في مرحلة عصيبة كادت تفتقد من يضيء الطريق، عدا حفنة قليلة سعت والتقيت بها في نهاية السبعينيات في دمشق.

لم يكن من السهل العيش في أجواء اغتصاب الحرّية.

والآن، بعد أربع وثلاثين سنة من البعد، أصبح المنظر خرابًا مطلقًا، فالقلّة المبدعة التي لم تمت ضيقًا اضطرّت إلى النجاة خارج البلد، لتسود في الداخل حثالة تقول إنها تمارس الثقافة.

أعود إلى تجربتي الخاصة بعد بداية حراك 2011:

"الرحلة إلى الجرح"

شيء كالتقديم:

كانت البداية في زمن سحيق، ربما في الستينيات، عندما تكوّن الوعي بثراء تراث بلاد الشام، أنا القادم طفلًا (في الحادية عشر) من أسفل خرائط العالم.

في الثمانينيات، عندما اخترت المنفى الاختياري بفعل ملاحقة القصر الجمهوري لي لإنجاز تماثيل لـ "السيد الرئيس... القائد إلى الأبد...الخ."، ووجدتني أبدأ من الصفر في الأربعين من عمري، نكرة في إسبانيا، أدركت أنني لن أعمل يومًا سوى لبلاد الشام.

بعد أكثر من عقدين، أقمت معرضًا شبه استعاديّ في صالة "تجلّيات" بدمشق، كان ذلك في أواخر 2010 ولغاية نهاية الشهر الأول من سنة 2011، لأنه تمدّد مرّتين. لاحظت خلاله اهتمام الشباب بمحاولاتي، فطلبت تنظيم لقاء مفتوح في الصالة ذاتها. أدهشني إقبال الشباب فطلبت لقاءً ثانيًا، وكانت النتيجة المرضية ذاتها. بعدها نُظّم لقاء في مكتبة "إيتانا" الدمشقية، ثم ارتجلت اثنين آخرين في مشغل أحد النحاتين الشباب. لم أكتف، طلبت تنظيم لقاء في مدينة حمص، وتمّ في مقرّ اتحاد الفنانين هناك.

لمست في لقاءاتي هذه، من طبيعة الأسئلة ومنحى الهموم، أن شيئًا ما يتحرّك بعد أربعة عقود من فقدان الأمل والحلم.

أذكر أنني عدت إلى غرناطة، مكمن منفاي الاختياري، في السابع من شباط 2011، وقضيت بقّية الشهر في صنع صناديق وملئها بأعمالي، أعمال 24 سنة كانت فيها بلاد الشام في مشغلي.

حاوية النقل البحري جاءتني في 7 آذار، ورحلت بأعمالي متوجهة إلى سورية... قبل إعلان الحراك، الذي غدا ثورة، بثمانية أيام..

تدبّرت أموري لأقضي ما يزيد عن السنة في سورية، بشكل متقطّع، لأواكب الثورة وأساندها قدر استطاعتي.

مشروعي في سورية: ثمة واد صغير في يبرود اسمه "عين العصافير"، يملكه أخ لي ولا يستخدمه لشيء. أعارني إياه لأجمع أعمالي في منزل واسع فيه أسّست في جزء منه مشغلًا، ورمّمت بيتًا صغيرًا من اللبن لسكناي. غايتي العمل فيه ودعوة النحاتين الشباب لورشات عمل نفيد بعضنا فيها.

غالبية الأعمال بقيت في صناديقها، لأنها تحتاج لسبع من تلك البيوت الواسعة. لكنني عرضت بعضًا منها في حجرات عديدة.

وراح الوضع الأمني يتدهور. كانت زوجي نيكول بزيارتي عندما حدث ما رويته تحت عنوان "يوم ونيّف في يبرود". (أعدت نشره منذ يومين)

عودتي الأخيرة إلى الجرح كانت في أوائل أيلول الماضي. حذّرني الأصدقاء والأهل من كل مكان: إسبانيا، بريطانيا، فرنسا، لبنان... وسورية (لأن موقفي من النظام معروف ومعلن). لكنني كنت مصرًّا.. ثم إن أخي نمير معتقل منذ آذار. وصلت إلى دمشق بعد أيام قضيتها في بيروت. حواجز خمس، مررنا بها بسلام. الإشكال كان الوصول إلى يبرود المحاصرة لأن الجيش الحرّ فيها.

وصلني وأنا في دمشق أن القصف على منطقة المشغل يوميّ، وقبل انتقالي إليها بيوم واحد علمت أن طائرة ميغ ألقت قنبلتها على مسافة 30 مترًا من المشغل، وأن النوافذ والأبواب محطّمة تمامًا بفعل ضغط الانفجار.

كان لا بدّ لي من المغامرة لمحاولة إنقاذ 24 سنة من العمل.

أنجدتني المصادفة، فثمة صديق مقيم في دمشق اعتاد الانتقال مرتين بالأسبوع إلى النبك، الواقعة على مسافة سبع كيلومترات عن يبرود. قال لي إن الحواجز اعتادت عليه فلا تستوقفه، فانتقلت معه إلى النبك ووجدت هناك ميكرو للعموم متوجّهًا إلى يبرود. سألت السائق: وكيف تصل عبر الحواجز؟ قال لي: اركب، لن ترى حاجزًا.

تلك حكمة وحنكة شعبنا، راح الميكرو يتلوّى بين المزارع وطرقاتها، الترابية حينًا والإسفلتية حينًا آخر إلى أن وصلنا بسلام.

في اليوم التالي ذهبت لتفقّد حال المشغل والأعمال. كانوا قد أخبروني أن لا أحد يجرؤ على الاقتراب من المكان، وأن الحيّ المجاور مهجور تمامًا. إلاّ أن أحد أخوتي كان قد تمكّن من إصلاح حال الأبواب.

وضعي الصحّي يستجيب لعمري: انسداد في أحد شريانيّ ساقي اليسرى يسبّب لي آلامًا عند بذل الجهد، وليزيد الطين بلّة اكتشف الأطباء الإسبان في الصيف المنصرم انقطاع وتر من كتفي اليسرى وآخر نصف مقطوع وهو ما يمنعني من تحريك الذراع كما يجب.

وما من أحد يجرؤ على مساعدتي لنقل الأعمال وتوزيعها في أماكن شتّى، عسى بعضها يتجنّب القصف أو الدهم والنهب (قد يعتبرونها آثارًا).. فاضطررت إلى تدبير أموري وحدي.

كان القصف يوميًّا، بلا توقيت محدّد، ومركّزًا على المزارع والمباني المحيطة بالمدينة، باعتبارها الأماكن التي يتحرّك فيها الجيش الحرّ. والمشغل في موقع مثالي للاختباء، لذا كان هدفًا محتملًا.

أقمت في المشغل في الأيام الأولى، وسرعان ما أدركت أنها مخاطرة مجانية، فانتقلت للسكنى في بيت الوالدة الواقع في الحيّ الأكثر قصفًا.

قرّرت أن أنقل ما أمكنني في رحلات يومية ثلاث: الأولى في حوالي السادسة صباحًا، لأن القصف لا يبدأ قبل الثامنة. وفي فترة غداء الظهر... ورحلة ليلية قد يكتنفها شيء من المغامرة.

أمضيت قرابة العشرين يومًا على هذه الشاكلة. في مرّة وحيدة بدأ القصف وأنا هناك، وصادف أنني كنت أشرب البيرة في حالة راحة، فأخذت كأسي وابتعدت عن المباني في عمق الوادي الصغير منتظرًا أن يكفّ الجنون.

إلاّ أن كمية الأعمال كبيرة.. وأنا متعب. فتذكّرت نصيحة صديق لي في بيروت: ادفنها.

وهكذا كان. استطعت إقناع سائق آلية حفر ليعمل أقلّ من نصف ساعة، ليلًا وبلا أضواء (لأن طائرات التجسّس الإيرانية لا تغادر سماء يبرود والمنطقة)، وحفر لي ما طلبت. ثم كان عليّ نقل الأعمال، متحاملًا على آلام الساق والكتف، لترتيبها في "قبورها" ليلًا، لأن طائرة التجسس قد تحسب أنني أدفن أسلحة.

لم أستطع دفن كلّ شيء، تركت لمصيرها عشرات الدراسات وأعمال الحديد وبعض الأدوات.. لكن الجسد قال لي: كفى. فاكتفيت. ثم مضيت عائدًا إلى دمشق فبيروت فالقاهرة فغرناطة، حيث أكتب ذكريات زيارتي للجرح هذه.

عاصم الباشا، غرناطة، في 3-11-2012، بعد يومين من دفن شقيقي نمير قتيلًا تحت التعذيب.


 

علي فرزات

عندما قام البعث في عام 1963 باحتلال سورية، كانت أولى خطواته هي إغلاق الصحف المستقلة، واستبدلها بماكينات إعلامية تنتج شعارات ومسميات وخطابات تروج لأنها تلبي الانفعالية والعصبية القومية لدى الجماهير، مستخدمًا الحزب إياها كحمار طروادة، وبالتالي كانت تلك المرحلة من بيع الأحلام والأوهام حاضنة لما يسمى بالحكم الأسدي الذي نقل السلطة إلى عائلته، وأسبغ على نفسه صفة الألوهية التي كان قد بدأها سليمان المرشد في الماضي، وقامت أجهزة المخابرات والإعلام والنقابية بترويج (يالله حلك حلك يقعد حافظ محلك) (القائد الخالد) (الأسد إلى الأبد) (الأسد أو نحرق البلد)، فضلًا عن التماثيل التي زُرعت على مساحات سورية بعد سياسة تدجين فنانين وكتاب وشعراء وأدباء وروائيين وسينمائيين.. أما من كان يناهض نظام الأسد وجوقته، فكان نصيبه الاعتقال أو النفي أو التصفية.. وبدأ هنا الفنانون والأدباء والشعراء يقاومون ذلك النظام بسيف الترميز والتضمين والغمز، لإيصال الأفكار المقاومة بالرمز، بعيدًا عن المباشرة التي تقود إلى جحيمهم...تحدثت ليزا وادين، رئيسة قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو بأميركا، في كتابها (السيطرة الغامضة)، عن هذه المرحلة وقد خصصت صفحات عدة لرسوماتي الكاريكاتورية التي وصفتها بالمقاومة الرمزية في مناهضة الديكتاتور. وأذكر وقتها أنني كنت أرسم لبعض الصحف والمجلات السورية، وقمت فعلًا باستخدام الرموز، وعدم المباشرة، وكل رسوماتي كانت من دون كلام، وخرجت من المحلية للعالمية، وابتعدت عن الشرح والتعليق تهربًا من المساءلة أو مقص الرقيب، لكنها كانت تصيب الهدف بسهولة، وشكلت حالة جديدة من استقطاب إعجاب الجماهير، والتفاعل معها، وفهم رموزها، واحتلت أحاديث الناس في مجالسهم وأعمالهم ووظائفهم، وأذكر أن عامة الناس كانوا ينزعونها من الجريدة، ويعلقونها أو يضعونها تحت بللور طاولاتهم، أو يحتفظون بها ضمن كتبهم، وتفاعل معها الطلاب في مدارسهم وجامعاتهم، ودعوني إلى إقامة معارض لرسوماتي، وكان سبب كل ذلك الحماس هو التوق إلى منافذ الحرية من خلال التعبير بكل أشكاله، سواء كان شعرًا أو رسمًا أو كتابة، وأشرقت في تلك الفترة قامات إبداعية شعرية وقصصية وروائية وفنية (نزار قباني، مظفر النواب، لؤي كيالي، عمر أميرلاي، ممدوح عدوان) وفي تلك الفترة كان بعض المثقفين قد قام بإنشاء نواد اجتماعية وفنية وسينمائية كالمنتدى الاجتماعي الثقافي الفني في منطقة الطلياني بدمشق، وقام نظام الأسد بإغلاقها، هذه بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر، وكانت تناهض الطاغوت بالمقاومة الرمزية.. لكن هذا لم يفت على نظام العهر القومي والسياسي والاجتماعي من استخدام الاستدعاءات الأمنية لأصحاب الفكر لتفسير بعض منشوراتهم بسبب رمزيتها التي لا يستطيعون فهمها، لكنهم يسمعون خطورتها من الشارع الذي يفسرها بسهولة.. أذكر مرة أنني قمت برسم عائلة حاكمة (أشكال من ملابس فاخرة ضمن صالون فخم ملقاة على كنبات وثيرة، وكنت إذا نظرت إليها تشكل صورة مجسدة لحافظ الأسد وأخوه رفعت وزوجاتهم.. كان ذلك الكاريكاتير الذي نشرته جريدة الثورة قد أحدث ضجة كبيرة بين الناس، ما دفع بعض عناصر الأمن لزيارتي في المكتب، على اعتبار أنهم من المعجبين، وسألني كبيرهم.. أستاذ نحن اختلفنا على تفسير الشخصيات في الكاريكاتير، وسألني من أعني بالشخصيات المرسومة أشكالًا بدون مضمون.. فأجبته (كل ما يخطر ببالك فهو كذلك)، نظروا إلى بعضهم وخرجوا، ومن ملامحهم تبين لي أنهم عرفوهم، ولكنهم لم يأخذوا مني اعترافًا يتسبب في سجني. وهناك كثير من المشاكل التي واجهتها في مقاومتي الرمزية، ليس فقط ضمن الدائرة السورية، ولكن أيضًا لدى بعض الأنظمة الديكتاتورية، فمثلًا عندما رسمت لوحة الجنرال الذي يسكب الأوسمة والنياشين لرجل فقير معدم، وعرضتها في معهد العالم العربي في باريس 1989، فقد أثارت حفيظة النظام العراقي وأيضًا أثارت فيما بعد حفيظة القذافي، وأيضًا اللوحة نفسها أثارت حفيظة وزير الدفاع السوري مصطفى طلاس، ورفع دعوى عليّ لدى المحكمة العسكرية.. عندما مات حافظ الأسد صنعت مافيا النظام نسخة عنه، لكنها لم تف بالغرض كما يجب، فحاولوا دفع بشار إلى التعرف إلى بعض الشخصيات الفنية والأدبية، والتقرب من بعض الفعاليات المستقلة، وكنت من ضمنهم، وطرحوا شعارات حرية التعبير والإصلاح. نحن ربما صدقنا الأمر في البداية، وكنا ننوي عزل بشار عن محيطه الأمني، وإنزاله إلى الشارع، وتقريبه من الناس، وإقناعه بالديمقراطية، بعيدًا عن أسلوب حكم أبيه وحرسه القديم، وكنا نفكر أنا ومي سكاف في هذا الأمر ولو من قبيل المحاولة، وبعد فترة من الوقت اكتشفنا أن بشار ينوي تسويق نفسه لدى الجماهير قبل توليه الرئاسة، وهنا فقط وعلى غير عادتي بالرمز والترميز، فقد تناولته بالنقد بشكل مباشر، وشخصته كشكل هو وجميع المسؤولين في أجهزة المخابرات والحكومة وكل وزرائها، وكان ذلك وأنا داخل دمشق، والذي حدث لي من خطف بسيارتهم، ومحاولة قتلي بعد تكسير أصابعي وأضلعي، وقذفي من السيارة وهي تسير على طريق المطار فجرًا بعد ذلك، وأصبح الأمر معروفًا لكل العالم.... صحيح أنهم حطموا أصابعي التي أرسم بها، لكنني حطمت جدار الخوف منهم، وتزامن ذلك مع بداية التظاهرات السلمية، ورفع السوريون رسوماتي في مسيراتهم في كل مكان، أحب أن أقول بأن أول ما قامت به الثورة السورية 2011 هو تحطيم تماثيل الأب لأن الثورة قامت على الأب الأصل، وليس على المستنسخ عنه بشار.



 


 

علي سفر

 شهادة

لم أنتسب يومًا إلى اتحاد الكتاب العرب في دمشق، إذ لم يشكل وجود هذه المؤسسة لي شيئًا، قبل أن أبدأ بالكتابة الأدبية، وبعد ذلك، فقد أصدرت كتابي الأول (بلاغة المكان) الذي تكفّلت دار الينابيع، التي أسسها الشاعر صقر عليشي، بطباعته والحصول على الموافقات اللازمة لطباعته أولًا، ولتداوله ثانيًا، من دون أن أحتك بالاتحاد، أو بوزارة الإعلام، وكذلك حدث مع كتابي الثاني الذي أصدرته دار الشموس التي كانت تملكها وتديرها السيدة ندى علي.

لكنني، بعد ست سنوات، وحين تقدمت بطلب الحصول على موافقة الطباعة في وزارة الإعلام لكتابي الثالث (محض الكلام/ يستودع الإياب)، سأكتشف أن لاتحاد الكتاب دورًا غير معلوم بالنسبة إليّ، ألا وهو ممارسة الرقابة على النص، وتقييمه، ومنعه إن استدعى الأمر، وهذا الدور يتم بالاتفاق مع وزارة الإعلام التي أوكلت المهمة له.

"مع عدم الموافقة" هذا كان مضمون الختم الأسود الذي توسط الصفحة الأولى من مخطوطة كتابي، لكنني بطريقة ما سأتمكن من معرفة رأي الرقباء/ القراء، فالرقيب الأول وهي قارئة من قراء الاتحاد كتبت: "نصوص المجموعة فلسفية أكثر مما هي شعرية، حتى إنها تصل إلى درجة الغموض. والنصوص غير واضحة فكريًا"، أما الرقيب الثاني، فكتب عن "طغيان الإبهام والغموض" على اللغة التي أستخدمها، وأردف ناصحًا: "يمكن البدء من جديد مع الاهتمام بقراءة الشعر العربي قديمه وحديثه".

لكنني سأطبع الكتاب بالتعاون مع ندى، وسأوزعه بمعرفتي، وسيتكرر الأمر مرة ثانية في كتابي الرابع (اصطياد الجملة الضالة)، حيث قدّم لي موظف وزارة الإعلام مخطوط الكتاب ممهورًا بختم (عدم الموافقة) من دون أن يشرح الأسباب، أو أن يقدم لي نسخة من تقرير الرقابة، ولن ألحّ عليه، بل سأحتفظ حتى اليوم بصور قرارات "عدم الموافقة" كأوسمة، تلقيتها من ذلك الزمن، وكأدلة على لعبة النظام القذرة في تخريب الحياة الإبداعية، وجعل المثقفين أنفسهم واجهات لخرابه العارم الذي اجتاح الثقافة السورية.

طبعًا، نشرت الكتاب تحت إطار افتراضي صنعه الصديق إبراهيم الجبين تحت مسمى بيت الشعر السوري، لكنني لن أكرر نشر الكتب في سورية بعد ذلك أبدًا، إذ لا شيء يضمن لي أن أحصل على الموافقات، لكنني سأكون بدلًا من ذلك شاهدًا على سياسة مبرمجة هدفت دائمًا إلى جعل العمل الثقافي في سورية بشكل عام أشبه بجلسة تعذيب طويلة، جلب النظام إلى قبوها حيوات المثقفين، ورغباتهم في الفعل وممارسة الإبداع، وأتى بمثقفين آخرين إليها بعد أن منحهم صفات الجلادين، وأدواتهم.

تجربة الإمساك بالسلطة، والقدرة على السيطرة، تغري البشر العاديين، لينقادوا إليها، فيتطوعون في الأجهزة الأمنية ليصبحوا ضباطًا وعناصر، يخدمون سياستها، بما في ذلك تعذيب المعتقلين. وحينما يتم وضع المثقفين في ذات الاختبار، سنرى كيف أن بعضًا منهم ممن لا يتمتعون بالمناعة الأخلاقية، وتغويهم نوابض التحكم والهيمنة، سيحبذون المضيّ في الأمر إلى نهايته، فيقبلُ اتحاد الكتاب أن يتولى عملية الرقابة على إبداع الكتاب والمثقفين، ويتوزعُ أعضاء جمعياته (الشعر والقصة والرواية والدراسات. إلخ)، المخطوطات المقدمة للحصول على الموافقات، بسعادة غامرة، ليس من أجل الجعالة المالية فقط، بل من أجل التمتع للحظات بإحساس السيطرة، وقوة السلطة.

أحد شعراء النظام، كتب ذات يوم في أحد أعوام بداية الألفية الجديدة مقالًا في جريدة الثورة يطالب فيه النظام بإنشاء فرع أمن أدبي، وبحسب البعثي عبد الكريم الناعم، الذي كرمه اتحاد الكتاب السنة الماضية، فإن البلاد التي تحافظ على أمنها السياسي بفرع أمني مختص، وبأمنها العسكري بفرع مشابه، وبفروع أخرى متوزعة بين الأمن الاقتصادي، وصولًا إلى أمن المعلومات، فإن واجب الحفاظ على النقاء الأدبي، الملتزم، الذي يخدم أهداف الدولة والثورة البعثية، يوجب عليها أن تقوم بإنشاء فرع أمني خاص بالأدب.

أحد الأصدقاء ممن علقوا على المقال، أفاد بأن تراجع أو تقاعس اتحاد الكتاب عن ممارسة دوره المنوط به، بعد انتهاء عهد علي عقلة عرسان، فتح الباب واسعًا على مطالبات كهذه، فهو في العرف البعثي فرع أمن لجزء من المثقفين الذين يقومون بتسيير أمورهم فيه طوعيًا، لكن ما الذي يمنع أن يتقاسم معه كعكة الثقافة فرع أمن أدبي، يمارس سيطرته على أعضاء الاتحاد وغيرهم؟

الأمر ذاته، سيتكرر في مديرية المسارح والموسيقا، التابعة لوزارة الثقافة*، وأيضًا في المؤسسة العامة للسينما، وأخيرًا في الهيئة العامة للكتاب، حيث سيوكل النظام المهمة ذاتها، للمثقفين أنفسهم، وسينبري رهط من هؤلاء إلى تولي المسؤولية، والدفاع عن هذه المؤسسات، من منطلق الحرص على بقاء المصالح الشخصية، بينما سيتم اصطياد المثقفين المعارضين الذين يعارضون هيمنة النظام على الحياة الثقافية، بحجة أنهم يريدون تدمير الحواضن الثقافية العامة، مقابل فتح الأبواب أمام أنشطة المراكز الثقافية الأجنبية، والأنشطة الممولة من قبل المؤسسات الأجنبية الداعمة.

فعليًا، لم يكن بالإمكان القيام بأي نشاط في سورية، من دون الحصول على الموافقات الأمنية اللازمة، وبالتأكيد لن يستطيع أحد من المثقفين المتعاونين مع المؤسسات غير المحلية أن يقوم بأي نشاط من دون أن يحصل على الموافقات أصولًا، أي أن يذهب إلى وزارة الثقافة التي تتكفل بالتفاصيل تبعًا لهذا، ستتحول هذه المؤسسة إلى غريمة للمثقفين، تمارس الرقابة على أنشطتهم، فتسمح وتمنع، وقد تفعل أكثر من ذلك، حين تضع أسماء على قوائمها السوداء، ويمكن هنا أن نتذكر كيف جرى استبعاد أسماء أدونيس وسعد الله ونوس، وغيرهم، في وقت ما، من التداول لفترة غير بسيطة، بحجة التطبيع، بعد أن تم فصلهم من اتحاد الكتاب العرب، بينما سيرحل هاني الراهب عن عالمنا، ممنوعًا، ومستبعدًا، بعد الفصل، والازدراء.

في بيئة كهذه، وضمن خيارات البقاء في سورية، وقبل أن يتوسع القطاع الخاص الإعلامي، لن يستطع أحد من المشتغلين بالمهن الإبداعية والإعلامية، أن يعمل إلا مع مؤسسات الدولة التي يهيمن عليها رجالات النظام، من المثقفين، وهكذا سأجد نفسي أعمل كمخرج للبرامج ومعد لها في الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، إضافة إلى نشاطي المسرحي بوصفي خريج المعهد العالي للفنون المسرحية، والنشاط الإعلامي الآخر في الكتابة الصحفية في الشأن الثقافي.

في مساحة تعادي خريجي المعاهد الفنية الأكاديمية، بسبب سواد أصحاب الشهادات المتدنية فيها، سيصبح العمل على تجريد الصحفي المبتدئ من ثقافته، وتحطيم آليات تفكيره، تمهيدًا لضمه إلى القطيع، أول اهتمامات البيئة الإدارية والمهنية المحيطة، بالإضافة إلى التلفيق عليه، وعلى حياته الشخصية، وجعل طريقة اللبس والمظهر الخارجي أدلة على كون خريجي المعهد المسرحي شيوعيين، ويكادون أن يكونوا "شاذين جنسيًا"، ففي مؤسسة التلفزيون السوري ثمة احتقار مستقر وعميق للمثقفين، لا يمكن فصله عن تكوين النظام البعثي والصراعات في داخله. بعد أن وجد البعثيون أنفسهم منذ البداية في مواجهة مثقفين أيديولوجيين، ينتمون إلى جماعات خصمة بالغالب، أو غير مرحبين به على الأقل.

فحين نتذكر أن غالبية المثقفين السوريين المعروفين كانوا إما يساريين أو قوميين سوريين، أو "شباطيين"، أو ليبراليين، أو إسلاميين، نرى كيف أنه حاول تأكيد قطيعته مع تيار الأساتذة في الحزب (عفلق والبيطار) عبر السخرية منهم وجعل كلمة أستاذ مرادفة للغباء في الخطاب الشعبوي الذي رعاه فنيًا في مسرح الشوك بداية، وفي مسرحيات دريد لحام تاليًا، فالمثقف مهزوز، غير مفهوم، غريب الأطوار، بعيد عن الواقع، إلخ.

 ووفقًا لهذا، كان في مضامين سياسته، على المثقفين وعلى الثقافة بشكل عام، أن تتقولب لتكون على مقاسه، فبعد سيطرته على كل أوجه الحياة السورية، كان على العاملين في حقل الثقافة أن يقوموا بإخصاء ذاتي لعقولهم كي يستمروا من دون أن يواجهوا التسلط الذي يحكم بنيته، وهنا يصبح الإخصاء إما استغراقًا في الابتعاد عن الواقع صوب الماضي أو القفز إلى ميتافيزيقا المستقبل، وإما اعتبار التطور الثقافي على مستوى العالم حدثًا يجري في كوكب آخر، علينا أن نكون مستقبلين له منفعلين فيه.

التفاصيل التي حضرتها شخصيًا، تظهر كيف تحكم النظام، وكيف سيطر، وكيف عزز تسلط المثقفين على المثقفين، ضمن إدارته للمشهد، وكيف جعل من موقع المثقف ذاته موقعًا مهزوزًا قابلًا للطي والتجاوز، وقابلًا للامتثال، مع تهديد دائم، عبر القمع الذي يبدأ بالاستبعاد عن الأنشطة، والمنع، وقد ينتهي بالسجن.

إذ سأرى كيف ظلت أبواب الصحف والمجلات الرسمية والوحيدة في البلاد، مقفلة على نصوص جيلنا الشعري التسعيني، وأن أولى المنشورات التي تحدثت عن تجاربنا قد نشرت في صحف عربية كالحياة والشرق الأوسط، وفي صحف لبنانية، وأن أولى الأنطولوجيات الشعرية عنه والتي قمت شخصيًا بإعدادها نُشرت في مجلة الشعراء التي يصدرها بيت الشعر الفلسطيني عام 2004، وبعد أن قرأ بعض مثقفي السلطة قائمة الأسماء، استغربوا أن يحتوي مشهد التسعينيات على 84 شاعرًا وشاعرة، مع العلم أنني اخترت الأسماء من ضمن قائمة أكبر تشتمل على قرابة 400 اسم، هل يمكن تصور أن الجيل الشعري غائب عن منابره المحلية؟ بالتأكيد يبدو الأمر غريبًا، لكن هذا لم يكن حال التسعينيين فقط، بل الثمانينيين أيضًا، وطبعًا يكاد الجميع يعرفون أن جيل السبعينيات الشعري في سورية، قد تناهبته المنافي والسجون والإقصاء الدائم على حد سواء.

لقد صنع النظام تكنيكه الخاص في صناعة الرقابة، فسوى الحديث عن رأس النظام، لا يوجد محظورات أبدًا، لكن في الوقت نفسه، وبسبب عدم وجود قواعد وأصول ولوائح، يصبح من الممكن منع كل شيء. وعليه، صار منع النص المختلف ممكنًا، ومنع مجلة تنشر النص المختلف عاديًا، فنتذكر أن مجلة (ألف) التي استضافت نصوصنا الأولى، لم تصمد أكثر من 23 عددًا، قبل أن ينتهي المشروع، بسبب المنع محليًا، على الرغم من أنها كانت تصدر بترخيص قبرصي.

 ضمن هذه التركيبة، تصبح ممارسة الرقابة عملًا ذاتيًا لدى كثيرين، تجنبًا لحدوث أي مشكلة مع الجهات الوصائية، لكن في الواقع، وعدم وجود قوائم محددة للمسموح والممنوع، سيصبح من المحتمل جدًا أن يطوّر بعض الرقباء حساسيات خاصة بهم، مبنية على المزاودة والنفاق، والمبالغة في غير المسموح، والإفراط في التأويل.

هنا أتأمل وضمن عملي التلفزيوني، بأوراق مستنسخة، تتضمن قرارات المنع البسيطة، ومنها، المبنية على قرارات مكتب مقاطعة إسرائيل، مثل التعميم بعدم بثّ أغنية الليالي اللبنانية المشتركة بين المغنية أليسا والمغني البريطاني كريس دي برغ، بسبب وجود اسمه على قوائم المنع.

وأتأمل أيضًا بمنع أغنية (يا سلام) للمغنية نانسي عجرم بسبب تفسير أحد الرقباء، لمشهد في الفيديو المصور للأغنية، على أنه يحتوي شكلًا يشبه العضو التناسلي الذكري.

وأتأمل بتقرير رقابة لإحدى الأغاني الدينية المسيحية، تحصي فيه الرقيبة عدد المرات التي تذكر فيها كلمة "الرب"، وتوصي في النهاية بعدم البث.

وأعود لأتذكر الاشتباك مع الرقابة وقرارات المنع التي تعرضت لها وما زالت تتعرض أعمال درامية منتجة محليًا كمسلسلات (السنوات العجاف - 1984) (الحيار - 1988)، وأفلام سينمائية (نجوم النهار - 1988) ووثائقية (الحياة اليومية في قرية سورية - 1974)، (الدجاج-1977)، (الطوفان في بلاد البعث 2003) وأخرى عربية وعالمية، لأرى كيف أمكن لعقل جيلين أو ثلاثة من المبدعين أن يتأقلم مع وجود مثل هذه الكيفية في إصدار القرارات الرقابية، وأن يأقلم عمله على أساسها، فأضع فرضية غريبة قليلًا، عن الأمداء التي كان يمكن للثقافة السورية ومنتجاتها أن تصل إليها في حال لم يطور النظام تلك الآليات القمعية الرهيبة الذاتية والعامة، ويجعلها سياقًا متعارفًا عليه، راسخًا ومستمرًا، ومن دون أن أحتاج جهدًا شاقًا للعمل على مشروعية الطرح هنا، يمكن ملاحظة كيف انتجت الثورة ضد النظام نسقًا ثقافيًا مختلفًا، ولد منذ البداية مؤسسًا على حرية المبدعين الذاتية، ومن دون رقابة مكرسة في العقول تمارس دورها بشكل تطوعي وذاتي.

الجزء الشاق في الفرضية التي تثبت نفسها بنفسها، يقوم على العمل من أجل عدم نشوء رقابة بديلة، أو منطق رقابي بديل، وتحديدًا في عقول ومسارات عمل الأجيال الجديدة، والتي يجب ألا تكون منقطعة عن الإرث السابق، لا من أجل تمثله، بل من أجل الاستفادة من أخطائه، ومحاولة ألا يتكرر ما حدث طيلة أكثر من نصف قرن في فضاءات الثقافة السورية.

هامش

 *وفي تاريخ المسرح السوري أمثلة كثيرة عن مسرحيين قتلهم القهر، حين لبس شكل أمراض سبقتها كآبات مقيمة، فمن فواز الساجر الذي حوصر وضُيّق عليه ومات فجأة، إلى سعدالله ونوس الذي رأى كيف مارست دولة الأسد اعتقال المجتمع كله وإلغاء السياسة من تفكيره، إلى شريف شاكر الذي مات في منفى اختياري، إلى فؤاد الراشد الذي مات منتحرًا، وصولًا إلى طلال نصرالدين الذي عاد من أوروبا بعد رحلة قصيرة للعلاج من السرطان بعد إهمال نقابة الفنانين وتجاهلها لضرورة علاجه من مرضه ليموت في مدينة السويداء، كما أن الكاتب ممدوح عدوان عانى ما عاناه من رقابة المؤسسة، ويذكر المسرحيون كيف أن عرض مسرحيته «ليل العبيد» الذي أخرجته نائلة الأطرش، تم منعه قبل بدء تقديمه على خشبة مسرح الحمراء بيوم واحد في العام 1977، بذريعة مخالفة خطابه لتوجهات المؤسسة الدينية، كما مُنع عرض مسرحيته «حكايا الملوك» الذي عمل عليه المخرج وليد القوتلي في العام 1986 بحجة سخيفة تقول بأن برنامج المسرح المزدحم لا يسمح بتقديم هذا العرض.

لقد كرست المؤسسة المسرحية الرسمية مواصفاتها طيلة عشرات السنين في عقول العاملين في المسرح، وهكذا يمكن لموظف في الإضاءة المسرحية، في أحد مسارح دمشق أن يتطوّع من أجل كتابة تقرير بعرض مسرحي يقول فيه إن ما يطرحه يمكن أن يشكل إساءة بالغة لصفو الأمان الأخلاقي للمجتمع السوري، كما يمكن في مرحلة أرقى أن يكتب صحفي في جريدة الثورة تقريرًا صحفيًا/ أمنيًا في آن معًا بنص وعرض مسرحية «الاغتصاب» لسعد الله ونوس، لاعتقاده بأن ونوس يدعو إلى التطبيع مع الإسرائيليين.

** راجع مقالة "تهويمات الهاجس المسرحي"، علي سفر، مجلة الجديد، العدد 17، لندن.

 

 

 

سلام كواكبي

حول الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا

لقد نجح النظام السوري تحت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه الساذج (1963 ـ 1970) والماكر (1970 ـ ,,,) في السيطرة على المجال العام بطرق متنوعة ذات فاعلية لا تُنافس. وقد استعمل من أجل تحقيق هذا الهدف أساليب عدة، أهمها إلغاء المجتمع المدني تحت كل تعريفاته وتنويعاته، وتحويله إلى بيروقراطية أمنية مجتمعية من خلال ما سُمّي بمنظمات الديمقراطية الشعبية التي استطاعت تأطير ومراقبة نواحي الحياة كافة، وكل الفئات العمرية كما الجنسوية. أضيف إلى هذا الفعل التدميري تأميم الرأي العام من خلال تحويل ما لم يتم منعه من صحف ومجلات إلى وسائل دعائية وترويجية لسياساته. إضافة إلى هذا كله، تمت السيطرة على الإبداع وكل صنوف التعبير الفنية والفكرية عبر إنشاء المؤسسات الحكومية المكلفة بإدارة القطاع الثقافي أو الاشراف عليه بتنسيق دائم، خصوصًا بعد 1970، مع أجهزة الأمن المتعددة.

من خلال أساليب عدة، تم تدجين الجسم الثقافي عمومًا مع بعض الاستثناءات المتفرقة وغير القادرة على تكوين تيار إبداعي وفكري يمكن التعويل عليهما. فمن خلال الاستقطاب عبر المنح والتوظيف والجوائز، اختارت فئة من المثقفين التخلي عن استقلاليتها، والتحول إلى عناصر ترويج ودفاع عن المؤسسة الحاكمة. كما استعمل الترهيب كسلاح تدمير إبداعي شامل عبر زج البعض في السجون، ودفع البعض الآخر إلى السفر هروبًا.

ما ميّز السياسات الثقافية المتبعة خلال تلكم المرحلة الظلامية من تاريخ سورية عمومًا، وتاريخها الثقافي خصوصًا، هو تمييز الحاكم بين أنواع الإنتاج الإبداعي، بحيث يعطي أهمية لنوع ويهمل النوع الآخر لقناعته بانعدام تأثيره، أو ضعفه، في الرأي العام. ولقد اعتبر الحاكم بأن كل ما هو نخبوي لا يمكن له أن يكون ذا أهمية تستدعي التعامل معه بقسوة وبسرعة. هذا "التسامح" الظرفي أتاح لبعض الأعمال الإبداعية من أن تعرف طريقًا لها للخروج من ظلام الأقبية.

بدأ عملي في المجال الثقافي مهنيًا بالمشاركة في تأسيس "المكتب الثقافي الفرنسي" في حلب. حيث القانون السوري يمنع إنشاء مراكز ثقافية أجنبية خارج العاصمة، وبالتالي فيتم تسميته بالمكتب التابع للمركز في العاصمة. وقد خبرت شابًا (سنة 1989) شروط العمل في هذا القطاع حتى للمراكز الأجنبية. حيث الرقابة الأمنية لصيقة لدرجة حضور ممثلي الفروع الأمنية يوميًا إلى المركز لطرح أسئلة حول جميع النشاطات. كما كان، ولم يزل، من المفروض الحصول على موافقات الموسكوف لإقامة عرض سينمائي أو معرض تشكيلي أو محاضرة، وإن كانت عن آثار القرن الخامس قبل الميلاد.

بعد سنتين من النشاط الثقافي الثري رغم كل المعوقات، حيث كان المكتب قبلة مثقفي المدينة المحرومين من التواصل مع الثقافات الأخرى، غادرت للدراسة في فرنسا، وفور عودتي في بداية الألفية الثالثة، أسست فرعًا حلبيًا للمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وانطلقت فيه أنشطة عدة جمعت العلمي بالثقافي. وعلى الرغم أن البداية سعت لأن تستفيد من العلاقات الجيدة التي كان البلدان يطورانها، فإن هذا لم يمنع الأمنوقراطية الراسخة في أن تتابع عن قرب، وإزعاج كل الأنشطة كما في السابق، من دون أن يؤثر ادعاء "التحديث والتطوير" فيها إيجابًا، بل على العكس، فقد تطورت وسائل المراقبة وتصارعت الأجهزة على تقديم الخدمات الأمنية لسلطة العاصمة بحيث تنافست على المتابعة والتحقيق في كل شاردة وواردة.

لقد استفاد السوريون، خصوصًا أهل دمشق، بوجود المراكز الثقافية الأجنبية التي، مع الرقابة والمتابعة، استطاعت تقديم نشاطات نوعية، وسمحت للعديد من المبدعين السوريين بعرض أعمالهم فيها، خصوصًا من منهم لا يستطيع، لأسباب سياسية وأمنية، أن يحظى بقاعات وصالات وزارة الثقافة. أما المراكز الثقافية الرسمية، فلقد بدأت بترويج لأمسيات أقل ما يقال عنها أنها معادية للثقافة وللفكر. فصرنا نرى مثلًا عنوانًا لمحاضرة من صنف "الإيدز في القرآن الكريم"، أو أمسية شعرية لبوق أميّ لمجرد أنه أنتج ديوانًا مدحيًا لقادة البلاد. كذلك، تتالت المحاضرات التي تتحدث عن معجزات القيادة الحكيمة في الفكر وفي الذرة وفي الإبداع.. إلخ. وبالطبع، لا يخلو الأمر من أن تمرّ بعض الأنشطة ذات القيمة المعقولة عبر فتحات شبكات الأمن الثقافي، ولكنها كانت مبادرات فردية لا يمكن أن تؤسس لمسار متكامل ومستدام.

في الآن نفسه، استطاع بعض المثقفين من اجتياز العوائق الأمنية عبر اللجوء إلى "التقية"، وبرعوا بها انعكاسًا في أعمالهم المكتوبة خصوصًا، كما في بعض المسرحيات. وفي الآن نفسه، طوّر النظام ثقافة نقدية تنفيسية عبر بعض النصوص والمسلسلات والإلقاءات النقدية التي لها طابع إعطاء الناس وهم حصول انفتاح، في حين أنها مجرد عملية امتصاص لوضع سياسي واقتصادي يتجه نحو طرق مسدودة متشابكة.

خلال العشريات الخمس الماضية، نجحت السلطة السياسية في فرض "ثقافة" الخوف على كل المستويات، وقد أدى ذلك إلى تشويه شامل للمشهد الثقافي، على الرغم من سعيٍ حثيثٍ لبعض الذين استطاعوا أن ينفذوا من الفتحات الضيقة في جدار القمع لإنتاج ثقافة تليق بتاريخ سورية البعيد والقريب. كما أن سورية في هذه الحقبة تميّزت بأنها من أكثر دول العالم منعًا لعرض محلي لأفلام أنتجها المال العام. فشاركت بها في مهرجانات، ومنع عرض جُلّها للسوريين. احتقارٌ للفن لا نظير له كما للمتلقي غير المؤهل، بنظر القائمين على حياته وتنفسه حتى، بأن يتابع أعمالًا ذات قيمة فنية وفكرية عالية غالبًا.

ولكي تكون خاتمة شهادتي المؤلمة تعكس الواقع، فقد قرأت في الآونة الأخيرة إعلانًا عن محاضرة أقيمت منذ أيام في المركز الثقافي العربي في العاصمة دمشق، يقدمها "منجم" إعلامي تم تعريفه بأنه "دكتور في علم الطاقة" اسمه مايك فغالي تحت عنوان فكري عميق وهو "الصمود السوري نموذجًا".


 

طلال المصطفى

البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية في سورية

بناء على طلب الدكتور الصديق بدر الدين عرودكي أقدم شهادة فيما يخص واقع البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية في سورية بخصوص دراسة يقوم بها بعنوان: الثقافة في سورية من الدمار إلى البناء.

أقدم هذه الشهادة عبر ثلاث مراحل من تفاعلي البحثي والثقافي بالبحوث والدراسات في العلوم الاجتماعية: الأولى في مرحلة الثمانينيات، حيث كنت طالبًا في قسم علم الاجتماع، ومهتمًّا بالشأن السياسي العام في سورية، والثانية في مرحلة التسعينيات، حيث كنت طالبًا وباحثًا في مرحلة الدراسات العليا، والثالثة ما بين 2000-2021 حيث كنت أستاذ علم الاجتماع في جامعة دمشق وباحثًا في مركز حرمون للدراسات المعاصرة.

عرفت البحوث والدراسات في مجال العلوم الاجتماعية في الثمانينيات من خلال الكتب الأجنبية ذات الطابع النظري المجرد، خاصة المترجمة والصادرة عن وزارة الثقافة السورية، وكذلك الدوريات والمجلات العربية خاصة الخليجية واللبنانية (عالم المعرفة، عالم الفكر، الفكر العربي، شؤون اجتماعية، شؤون عربية، دراسات عربية، الطريق، الوحدة...إلخ ) والمجلة الثقافية السورية الوحيدة كانت مجلة المعرفة التي تصدر شهريًا عن وزارة الثقافة، وهي متنوعه في الآداب والعلوم الإنسانية ( دراسات أدبية، شعر، قصة، ودراسات فلسقية اجتماعية، تاريخية، سياسية...إلخ).

في تللك المرحلة معظم الدراسات السورية في مجال العلوم الاجتماعية كانت ذات توجه نظري مجرد، لا علاقة لها بالواقع السوري على الإطلاق، أو مرتبطة بالأيديولوجيا القومية وخاصة البعثية، بمعنى تتماهى مع التوجه الأيديولوجي للنظام السياسي الحاكم في سورية، ( الفكر القومي الاشتراكي) والأفكار الاشتراكية السائدة في الفكر الاجتماعي في سورية بشكل عام، وتدافع عن شرعية وقانونية ومصداقية الوضع السياسي القائم، وبالتالي انزاحت عن هدفها الأساسي المفترض، وهو فهم وتحليل طبيعة بنية المجتمع السوري، وعجزت عن تحديد ماهية المشكلات الاجتماعية والإنسانية التي كان يعاني منها الأفراد والجماعات وأهملت العوامل التي يمكن الركون إليها في تنمية المجتمع وتثوير قطاعاته البنيوية.

ولا بدّ من التنويه إلى نشر بعض الدراسات العلمية النظرية المجردة، مثل الدراسات التي توجهت إلى تحليل النظريات الاجتماعية التي اهتم بها علماء الاجتماع الغربيون من دون أي محاولة للاستفادة منها في تحليل بنية المجتمع السوري، وأعتقد أن هذا التقصير لا يعود إلى عدم وجود الإمكانيات والمهارات العلمية في القيام بهذه الدراسات، وإنما يعود إلى المراقبة الأمنية التي تمنع التطرق إلى الموضوعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الخاصة بسورية، فقط يمكن للكتاب السورين أن يكتبوا عن بعض مشكلات الدول العربية تبعًا لعلاقات النظام السوري معها، وعن الإمبريالية والرأسمالية المتوحشة، وهكذا موضوعات....إلخ. المهم عدم التطرق للموضوعات السورية بالملموس.

بإيجاز يممكن وصف الدراسات والمقالات السورية في مجال العلوم الاجتماعية في هذه المرحلة بالنظرية المجردة، التي غالبًا مترجمة عن الدراســـات الأجنبية الغربية والاشـــتراكية، وذات التوجه الأيديولوجي/

الاشتراكي بشكل عام. والمتماهية مع الخطاب السياسي الرسمي (القومي الاشتراكي والمقاومة والصمود

والتصدي ضد الرجعية والإمبريالية).

في المرحلة الثانية، في بداية التسعينيات، وعلى أثر انهيار المعسكر الاشتراكي والتحولات الاقتصادية السياسية على الصعيد العالمي التي انعكست إلى حد ما في التوجهات الاقتصادية الاجتماعية في المجتمع السوري، بداية بالانفتاح الاقتصادي بتشجيع الاستثمار الخاص السوري والعربي والأجنبي، ومرورًا بمجموعة من القوانين الاقتصادية، وانتهاء بتبني اقتصاد السوق الاجتماعي من قبل الحكومة عام 2005 م، والانفتاح الإعلامي من خلال توفر (الدشات، الإنترنيت... إلخ)، برزت بعض الدراسات الميدانية التي تهتم بميادين الإنتاج الصناعي ودور العمال فيها، ونتائج الحراك الاجتماعي وخاصة من الريف إلى المدينة، ودراسات حول المؤسسات الاقتصادية كالمصانع، وخاصة فيما يتعلق بالعوامل الاجتماعية المؤثرة في العملية الإنتاجية كمًا ونوعًا، ودراسات تصدت لنظم العائلة والزواج والعلاقات القرابية بين العائلة الزوجية وأقاربها، وحول عوامل الخصوبة السكانية ومشكلات الزواج والطلاق وتركيب ووظائف الأسرة، والسكان والتحضر والهجرة والبطالة ومشكلات السكن العشوائي وعواقبها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية، وتنمية المجتمعات المحلية، ومشكلات الأسرة والتفكك الأسري، في ضوء التحولات الاقتصادية الاجتماعية التي شهدها المجتمع السوري في السنوات العشر الأخيرة، بالإضافة إلى مشكلات الشباب وصراع الأجيال ومشكلات الأحداث والانحراف الاجتماعي، ولكن من دون ربطها بالاقتصاد السياسي وطبيعة النظام السياسي السائد، التي هي أقرب إلى الدراسات النمطية الخالية من الروح العلمية كونها لا تناقش هذه الموضوعات في السياق السياسي للنظام السوري.

حتى بعض الدراسات التي لامست فساد المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية التي أنجزت من قبل بعض الباحثين في الهيئة السورية لشؤون الأسرة، ومركز جامعة دمشق للدراسات الإستراتيجية، بقيت في الأدراج ولم يُسمح بنشرها.

 

 

في المرحلة الثالثة، وبالتحديد مع انطلاق الثورة السورية 2011، التي كانت في شعاراتها في أشهرها الأولى عامة جامعة للسوريين كافة، جوهرها إسقاط الاستبداد والطغيان، واستعادة الكرامة والحرية المهدورتين، دون توجّه أيديولوجي محدد.

في هذه الفترة من الحرب السورية 2011 – 2021، يمكن القول إن الدراسات والبحوث السورية في مجال العلوم أخذت اتجاهين رئيسين، الأول: بعض الدراسات والبحوث في مجال العلوم الاجتماعية التي نشرت داخل المؤسسات الرسمية للنظام السوري، التي اتسمت بملامسة بعض المشكلات الاجتماعية بشكل عام من دون ربطها بالاستبداد السائد والاقتصاد السوري الفاسد المنهار، وكذلك معظم هذه البحوث والدراسات تبنت رواية النظام السياسي السوري بخصوص الثورة السورية بأن ما تتعرض له سورية هو أزمة ناتجة عن حرب كونية ضد سورية، والمعارضة السورية عبارة عن مجموعات إرهابية تنفذ أجندة خارجية.

وفي الوقت نفسه، برزت دراسات وبحوث في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بشكل عام في الخارج تبنت أفكار الثورة والتغيير الديمقراطي، وتصدت للمشكلات الناتجة عن حرب النظام السوري التي شنّها خلال سنوات الحرب بطريقة ممنهجة ضد الشعب السوري، وقد اعتمدت هذه النماذج البحثية والدراسات المنهجية العلمية الفعلية بربط تحليل المشكلات الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية،...إلخ بالنسق السياسي السائد، وبطبيعة الفساد السائد في الأنساق المجتمعية كافة، ومن هذه البحوث المنشورة وجدناها في مركز حرمون للدراسات المعاصرة، مركز عمران للدراسات، مركز الحوار، جسور....إلخ، تناولت هذه الدراسات أثار الحرب السورية (التهجير، مشكلات اللاجئين، نظام الحكم في سورية، الدمار المادي، المجتمعي، الاقتصادي، الثقافي...إلخ، حيث يمكن القول إن مقومات البحث العلمي في مجال العلوم الاجتماعية اكتملت إلى حد ما من خلال الجوانب العلمية الثلاث في معظم نماذج هذه البحوث والدراسات، الأول هو الجانب الميداني للبحث العلمي، والثاني هو ربط المشكلة المدروسة بالسياق التاريخي والاقتصاد السياسي وطبيعة النظام السياسي، أما الثالث، فهو الجانب المقارن مع نتائج وبحوث سابقة، بحيث يمكن القول إن هذه الدراسات أسهمت إلى حدّ ما في فهم الإشكاليات التي تواجه المجتمع السوري، وكذلك أسهمت في تطوير النظرية العلمية. وهذا مؤشر إلى أهمية وجود هامش من الحرية في اختيار الموضوعات البحثية، وعدم العيش في الهواجس الأمنية في كل كلمة كنا نكتبها في ظل وجود هذا النظام الاستبدادي.

 

 


مأمون البني

تجربتي بين عامي 1963 و2011

 

عملت كمساعد مصور، ومن ثم مصورًا في التلفزيون السوري من آذار 1967 إلى تشرين الأول 1969، قبل سفري لفرنسا للدراسة، وكانت هذه الفترة على قصر زمنها شعلة أضاءت لي تشكل بعض الارتياب في تفكيري تجاه السياسيين والمثقفين العقائديين، نتيجة أحداث حرب حزيران1967، وكيف لفلف المنظرون الهزيمة بكلمة نكسة، وعمدوا إلى تحليلات ما أنزل الله بها من سلطان، وأنا من حُسن حظي أني كنت شاهدًا على تسلسل الكذب منذ اليوم الأول لهذه المهزلة، حيث أُمِرنا بتنفيذ مهمة لتغطية التحقيق مع الطيار الإسرائيلي الأسير أبرهام الذي أُسقطت طيارته في اليوم الأول للمعركة.

كنا أربعة، مدير التلفزيون آنذاك بعثي، ومصور سينمائي، وفني الصوت، وأنا كنت مساعدًا. كان الأسير قد وصل التو إلى الأركان، ويقوم أحد الضباط بالتحقيق معه بلغة إنكليزية ركيكة وغير مفهومة، ما أثار حفيظة مدير التلفزيون، واستلم التحقيق بدلًا عنه، بعد أن نال التبريكات من شق الباب لغرفة ثانية مظلمة، فيها عدد من ضباط يراقبون بسرية لم أتعرف على سحنتهم.

قال الطيار الإسرائيلي إنه شارك بقصف المطارات العلنية والسرية في مصر وسورية، ولدى سؤاله عن رأيه في نتيجة الحرب، أجاب بسخرية: أي حرب.. أخبرتكم أن سلاحكم الجوي قد دُمر كاملًا والحرب انتهت.. فقام مدير التلفزيون، وكان يلبس الكاكي، بصفعه وطلب منه أن يقول أمام الكاميرا إن العرب سوف يربحون الحرب.. ابتسم الأسير وردد الجملة ببغائية.. نعم هذه كانت أول تحوير إعلامي لحقيقة خطيرة عكسها مسؤول أمام عيني، وتتالت بعدها سيل من الكذوبات إلى يومنا هذا.

بعد التخرج من فرنسا 1975، وبعد حصولي على دبلومين في التصوير والإخراج السينمائي، عدت إلى سورية متسلحًا بالشهادات، إضافة إلى فيلم التخرج: "موتى في سبيل فلسطين" الذي أحدث ضجة بين الطلبة في فرنسا، قدمته بعد وصولي لسورية إلى إدارة التلفزيون، وانتظرتً عرضه بفارغ الصبر على شاشة بلدي الوطنية. الفيلم يحكي عن الاغتيال الصهيوني لمندوبي منظمة التحرير في العالم، وعن اغتيال المفكرين والكتاب الفلسطينيين بهدف إسكات الكلمة الفلسطينية، وكذلك يشرح الفيلم كيفية تحريف الصحافة الغربية لحقيقة من هم وراء الاغتيالات.

لقد طال الانتظار ولم أفهم سبب عدم عرضه، إلى أن تم التواصل معي في تموز 1978 من قبل إدارة التلفزيون بهدف عرض الفيلم، بعيد اغتيال صديقي عز الدين قلق، مندوب منظمة التحرير الفلسطينية في باريس، والذي عملنا معًا لتأمين جانب من تمويله. أعادت اللجنة مراقبة الفيلم في دائرة مغلقة، وطلب رئيس لجنة الرقابة مني أن أحذف المقابلة الوحيدة للشهيد عز الدين قلق. انتابتني قشعريرة، وارتفع الضغط في عروقي، وسألته: كيف؟ أنتم تريدون عرض الفيلم على إثر اغتيال عز الدين، وبالوقت نفسه تريدون حذف مقابلته، أجاب: عز الدين يقول: هدفنا الأساسي إقامة دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية على كامل التراب الفلسطيني، حيث يعيش المسلمون والمسيحيون واليهود في المساواة نفسها. قلت عظيم، والرئيس حافظ الأسد يقول كذلك في خطاباته. قال: ما يقوله الرئيس حافظ يجب أن يتفرد به لوحده.

أنقذت الفيلم من براثنهم، وغادرت لبضعة أيام مبتعدًا عن بؤرة تحريف الإعلام، ولحسن حظي كنت في ذاك الوقت مجندًا في الخدمة الإلزامية، ومنتدبًا لقسم السينما التابع إلى الإدارة السياسية في الجيش. طبعًا لم يكن الفارق كبيرًا في تحريف الحقائق بين الجيش والإعلام المدني، فشعار لا رقابة على حرية الفكر إلاّ رقابة الضمير فقد استبدلوا الضمير بالأمن، خاصة أن النظام بدأ بمواجهة المشاكل السياسية مع الحراك الثقافي، أكان ذلك على إثر تدخلهم في لبنان أم في مواجهة الاغتيالات التي حدثت في زمن أحداث الإخوان المسلمين. ففي عام 1980، طالبت نقابة المحامين بإطلاق الحريات، وإلغاء حالة الطوارئ، وحدث الاضراب العام للنقابات المهنية، ممّا حمل الأسد الأب على أن يطلب من وزارة عبد الرؤوف الكسم حلَّ النقابات وتوقيف ثمانين محاميًا، وكان لا بدّ من تلميع صورته عالميًا. كما استعرض النظام قوته العسكرية والأمني إثر إقدامه على مذبحة حماة عام 1982.

الاستبداد الأمني

أُنشئت في التلفزيون السوري دائرة الإنتاج السينمائي التي ضمّت أكاديميين خريجين من مختلف الدول في العالم و"زركونا" كلنا في غرفة 4×4 أمتار، بهدف إنتاج أفلام سينمائية للعرض التلفزيوني؛ وبما أني كنت قد كدست أفكارًا لتحقيق مجموعة من الأفلام التي تسلط الضوء على الحياة اليومية للقاعدة الشعبية، والمسؤولون العرب كانوا يتاجرون بشعار تحرير فلسطين لتثبيت وضعهم، من دون الاكتراث بحقيقة معاناة شعوبهم، فما كان عليّ إلاّ أن أضيء الواقع المعاش من خلال تسليط الكاميرا على الفئة السائدة، على العامل والمرأة والطفل كونهم عمدة المجتمع، وقاعدة الهرم الواجب الانطلاق منها، ومطلوب مني كمخرج مستقل، لا أنتمي لأي حزب أو مجموعة، أن أسهم بقدر إمكانياتي في تحريرهم من براثن سيطرة النظام المتملق.

لذلك اخترت فكرة فيلمي الأول عن عمال أبطال الإنتاج في حقول النفط، وهناك بحثت عن الأبطال الحقيقيين غير أبطالهم المزيفين أو المزعومين، ورصدت بالكاميرا حياتهم اليومية ومعاناتهم، فكانت النتيجة أن مدير التلفزيون منع إرسال المادة المصورة للتحميض، وكان ذلك أقسى أنواع المنع، لأني لم أستطع مشاهدة لقطاته، كون المادة سينمائية 35/ مم. طبعًا كان أول درس لي كتعامل مع الإدارة، وتبع ذلك أشكال متعددة من التعامل تجددت وتطورت مع تطور آليات السلطة. ولمتابعة تحقيق معادلة البدء من القاعدة وصولًا لرأس الهرم، تقدمت بفكرة تحقيق موضوع شامل عن الإرث الحضاري لكل الإثنيات والقوميات والديانات الموجودة في المجتمع السوري، ما أربكت الفكرة إدارة التلفزيون، وهربت من مسؤولية استصدار الموافقة لجهات خارج إدارة التلفزيون.

استُدعيت بهدف مناقشة الفكرة إلى وزارة الثقافة لمقابلة أحد مستشاري الوزير للتباحث حول المحتوى، وكان ينتمي لأحد أحزاب الجبهة، وشرح لي أن موضوعي خطير جدًا، كون سورية في طور التطور والتقدم، ونحن جميعًا ننتمي لسورية الحديثة، وعلينا أن لا ننكش في الوحل حتى لا نحصد الحصى. في المحصل كان الرفض القاطع.

بعد هذه المقابلة، طلبني أحد الموظفين في التلفزيون، لا أحد يعرف طبيعة عمله بدقة، وقال لي بالحرف الواحد: أبشر أنت محظوظ جدًا، الرفيق أبو فلان يريد مقابلتك، أجبته أني لا أتعامل مع أسماء وهمية، قل لي ما اسمه؟ قال ستعرف هويته بعد أن تقبل منه الهدية وهي سيارة، بالإضافة إلى أنك مُخَوّل لتضع إصبعك على أي مركز في التلفزيون سيكون لك. قلت وما الثمن الذي سأدفعه في المقابل؟ قال تقرير يومي عن أصدقائك السينمائيين في الدائرة، قلت إنك ترتكب خطأً جسيمًا، أنا درست وعندي شهادات تغمرك، عليّ الذهاب، استوقفني عند الباب، وقال: اسمع، الأفضل لك أنك لم تسمع شيئًا عما دار بيننا، وكان تهديدًا واضحًا، أصبحت بعد ذلك أتحاشى التكلم مع أي مسؤول أو رفيق أو عنصر حزبي، ودام ذلك سنوات عدة، قام خلالها أحد المدراء بإقناعي في أن أتخلى عن فكرة تحقيق أفلام سينمائية للتلفزيون، والتوجه لإخراج دراما تلفزيونية، لأن وزارة الإعلام لا ترغب في إنتاج أفلام بعد اليوم. طبعًا لم أقبل حينها، وبقيت أكمل حلمي السينمائي، ونجحت برهة وفشلت برهتين، لكن في المحصلة استطعت أنا وزملائي السينمائيون إنجاز أفلام مهمة، مُنع بعضها، لكن بقيت كتاريخ لمرحلة مهمة من حياتنا المهنية.

وللتعامل مع دائرة الرقابة فهمت أن أي فكرة يجب أن تُقدم إليها منقوصة، وأن يُترك بين الأسطر رموز يفهمها الرقيب كما تريد السلطة منها. تقدمت بسيناريو لفيلم روائي قصير عن الطفل، وعلى الرغم من كل المحاربات، ومنعه من المشاركة في مهرجان دمشق السينمائي عام 1979، حاز على جائزة التانيت الذهبي في مهرجان قرطاج 1980، كما نال أيضًا الجائزة الفضية في مهرجان بيروت للأفلام التربوية. رفض التلفزيون في ذاك الوقت إيفادي لتونس لحضور المهرجان وأرسل شخصًا إداريًا بدلًا عني. إدارة المهرجان رفضت تسليمه الجائزة، وأرسلتها مع الصديق المخرج صلاح دهني مشكورًا، فقررت مديرة العلاقات العامة السيدة عواطف الحفار أن تقيم حفلة صغيرة بشكل شخصي ليتم تسلمي أول جائزة ذهبية بتاريخ التلفزيون. الوزير أرسل المدير العام نيابة عنه ليتلو عليّ رسالته التي كانت عبارة عن شتائم وتهديدات بنقلنا أنا ومن يسبح في تيارنا لخارج دمشق إذا بقينا نفكر خارج السرب. لكن للأمانة، بعد أن انتهى المدير من تلاوة الرسالة، قال الآن جاء دوري وإليك رسالتي، قام وقبلني وسلمني الجائزة تحت أضواء كاميرا الأخبار، هكذا كان الفصام متفشيًا بين رجال الدولة أنفسهم.

أنجزت بعد الفيلم الروائي فيلمًا تسجيليًا عن المرأة الريفية، وقمت بتنظيم عرض خاص لمخرجي ومدراء التلفزيون، فقام المدير العام بعد عرض الفيلم وهنأني بشكل استعراضي وبصوت جهوري، وقال إن الفيلم هو ملحمة شعرية عن المرأة الريفية، لكنه همس في أذني أن الفيلم سيمكث في العلب، ولن أستطيع عرضه. من حُسن حظي فقد أُقيم في العام نفسه 1981 مهرجان دمشق السنيمائي، وبحيلة جهنمية من قبل نقاد السينما العرب، أثناء مقابلتهم لوزير الإعلام، طلبوا منه مشاهدة الفيلم بشكل خاص، وخطَّ المخرج يسري نصر الله، وكان حينها يعمل ناقدًا في جريدة السفير، كتابًا وقعه الوزير بالسماح لهم بمشاهدته بشكل خاص، قدمنا الكتاب إلى مدير المهرجان، وأوهمناه أن الوزير وافق على عرضه في المسابقة الرسمية، ونشأ بعدها صدام بين الوزير ولجنة تحكيم المهرجان (من بين أعضائها، المخرج الكوبي سانتياغو الفارس، والمخرج المغربي سهيل بن بركة) وأخبرهم أن الفيلم ممنوع، لكن اللجنة أصرت على رأيها بمنح الفيلم ذهبية المهرجان، وبعد القيل والقال توصلت اللجنة مع الوزير لتسوية، وهي منح الفيلم سيف دمشق الفضي شريطة تمرير فيلم لمنظمة التحرير الفلسطينية ومنحه الذهبية. فأضافت لجنة النقاد العرب للفضية، ومُنحت جائزتهم الأولى لفيلمي لتعبيره الواقعي عن المرأة في منطقة الغاب بلغة سينمائية راقية وغير مفتعلة.

بعد حصولي على الجائزتين المهمتين عن فيلم يوم في حياة طفل، وجائزتين لفيلم المرأة الريفية، بدأ اسمي يظهر في الصحف السورية واللبنانية، ما استرعى ذلك حفيظة الوزير أحمد إسكندر أحمد، خاصة أنه أراد تلميع وجه النظام ورأس هرمه في تلك الفترة. فأرسل مندوبه المدير العام لمحاولة ضمّي لصفوف المستفيدين والمطبّلين للنظام، كونه فطن لأهمية الأفلام القصيرة التي تُعرض في المهرجانات العالمية. جاء المدير العام (الأستاذ فؤاد بلاط) وزوجته لزيارتي في بيتي حاملًا زجاجة ويسكي فاخرة، وكان يعلم الوزير أننا كمخرجين على صلة جيدة مع أبو عمر. استهل حديثه أني في بيت صغير ولا يلائم مخرجًا ناجحًا مثلي، لذلك خصص لي سيادة الوزير بيتًا وسيارة شريطة أن أنجز فيلمًا عن حياة السيد الرئيس. سألته لماذا أنا، ولديكم من الأفاقين من يقوم بذلك وسيقبل من هؤلاء بدون هذه العطايا. قال لأني مخرج الجوائز، فقلت له وماذا سأحصل برأيك فيما إذا أنجزت الفيلم؟ ضحك وقال رح تاكل هوا، لكن هذا لا يمنع من أن تصلح وضعك، فقلت له: أخبر السيد الوزير أنه أخطأ بالعنوان، وأنا سعيد في بيتي وفي حياتي الاجتماعية.

في اليوم التالي، أخبرنا المدير العام أن الوزير يدرس كيفية نقلنا من التلفزيون إلى مدن أخرى، وما علينا للتخلص من عدائيته لنا إلا أن نجد (كنا ثلاثة مخرجين) عملًا خارج نطاق الهيئة. وبشكل سريع وجدنا البديل، وغادرت أنا إلى أبو ظبي، وتعاقدت مع إحدى الشركات الفرنسية الجزائرية لتحقيق أفلام وثائقية عن صناعة النفط في الإمارات، واستمر عملي من عام 1981 إلى عام 1985، وعدت بطلب من المدير العام نفسه، لأن وزير الإعلام كان قد وافته المنية. وبدأت بإخراج دراما تلفزيونية كان أولها مسلسل نساء بلا أجنحة.

 توالت أعمالي التلفزيونية التي كان أغلبها لصالح القطاع الخاص، لكن بما أني ابن التلفزيون كما يُقال، أصبح لدي الخبرة في تطويع السيناريو الذي أُقدمه للرقابة حتى يمر بأمان، وبعدها أترك المنتج أن يتدخل في تعامله المعتاد لتمرير العرض التلفزيوني، ولا أخُفي أن المنتجين كان لديهم لغتهم الخاصة في التعامل مع الوسطاء.

كنت واحدًا من المخرجين غير المرغوبين في الإدارة، أو بالأحرى كنت في لائحة المنبوذين الذين لهم اسم لامع في المهرجانات العربية والدولية ما عدا تلفزيون بلدي. وطال الزمن إلى أن أجبرت هيئة الرقابة والتفتيش وزير الإعلام على أن يسمي مديري ورؤساء الأقسام من حملة الشهادات العليا، إذ اكتشفت هيئة الرقابة أن أكثر رؤساء الدوائر ترقوا بالوساطات العقائدية، وأكثرهم من حملة الشهادات المتوسطة، وهذا مخالف لقوانين الدولة، فطلب مني وزير الإعلام أن أترأس دائرة المخرجين عام 1996، فاستثمرت منصبي لتمرير سيناريو كان مرفوضًا من الرقابة منذ ثمانية سنوات، والمسلسل اسمه القلاع من تأليف المرحوم حاتم علي. موضوعه كان خطيرًا ومستبصرًا للمستقبل، النص مقتبس عن المسرحية التراجيدية الليدي ماكبث لشكسبير، كان من نوع الفانتازيا التاريخية، ويحكي قصة دكتاتور لقائد عسكري مدفوعًا من قبل زوجته لقتل الملك، وبعدها اضطر لقتل أصدقائه ليحتفظ بالكرسي، ما حمل على بدء حراك شعبي ضدّه، أخرسهم بتحرير المجرمين من السجون، ليشكل منهم ميلشيات تقتل وتنهب الناس، وليتّهم المعارضة بفعل ذلك، وبما أنه أصبح ملكًا اعتبر نفسه خالدًا. قرأت لجنة الرقابة السيناريو، وجاءني رئيس الدائرة يرتجف خوفًا، وكنت أعلى منه إداريًا، لكن تقاريره الرقابية كانت بالطبع أقوى مني. قال إن العمل خطير جدًا، أجبته ببرود لماذا؟ قال المسلسل يتكلم عن دكتاتور عسكري وصل الحكم بانقلاب، قلت: تمامًا لكن من تعتقد أنه الدكتاتور؟ قال أسألك أنا أستاذ مأمون؟ قلت أنا أرصد في هذا العمل الدكتاتور صدام حسين، وإذا كان عندك رأي مخالف، فأرجو أن توضحه بتقريرك. قال لا.. ليكن صدام، وأعتقد أنه كان مسرورًا من إجابتي. وهكذا مرّ السيناريو بسلام، ونال المسلسل جائزتين ذهبيتين، الإخراج والإنتاج، في مهرجان القاهرة التلفزيوني 1998.

كتب حكم البابا سيناريو لمسلسل كوميدي اسمه: أيام الولدنة، وقمت بإخراجه، وقبل تقديمه للرقابة، قامت الشركة في عام 2007 بكل الإجراءات المتبعة لتمريره في أمان، المسلسل يفضح انتهاكات الأمن وغباء عناصر الاستخبارات واستبدادهم في الوقت نفسه. وبعد عرضه للرقابة، تم منعه وكتبوا في تقرير المنع: على كافة الجهات الرسمية وغير الرسمية عدم التعامل مع هذا المسلسل. جرى تهريب المسلسل خارجًا، ونجح نجاحًا باهرًا، ونال لأول مرة في تاريخ الكوميديا السورية خمس جوائز ذهبية في مهرجان القاهرة عام 2008، ومُنعتُ نتيجة ذلك من العمل داخل سورية بتوجيه شفهي من جهات عليا.

جانب من الانتكاس الثقافي الذي ألمَّ في الحراك الفني، سينما ومسرح، بدأ منذ عام 1963 حين استولى الأمن على إدارة المسرح العسكري، وحوّل خشبته التي كانت تعجّ بالعروض الفنية الشعبية الناجحة إلى منصات لمحاكمة المعارضين، وجرى إعدام بعضهم فور النطق بالحكم وراء كواليس المسرح.

أما بالنسبة إلى السينما في ستينيات القرن الماضي، حيث كان الجمهور السوري يشاهد الأفلام الأجنبية بعد أسبوع من عرضها عالميًا، فقد أتت الحركة التصحيحية لتجهض هذا الحراك الحضاري، فأصدرت قرارًا بحصر الاستيراد. ومن ذلك الحين، أسوأ الأفلام التجارية الرخيصة تصل إلى المشاهد، وحصر القانون أيضًا نوعية المتلقي، فانحدر الذوق العام وتحددت نوعية المشاهد لهذه الأفلام، فانحصرت بالجنود وبعض الزعران الذين وجدوا ضالتهم في ظلام الصالات، فلم نتفاجأ اليوم بالعدد الكبير من الشبيحة، فهم أجيال من وترعرعوا في ثقافة الانحلال لسينما العنف والكراتيه المستوردة من قبل الدولة.

على التوازي كان هناك بالطبع حراك ثقافي في كل المجالات. على سبيل المثال، حاولنا في السبعينيات أن نكمل نشاط المنتدى الاجتماعي الذي ضعف نشاطه بعد الحركة التصحيحية، بتفعيل عروض سينمائية جيدة استقطبت عددًا كبيرًا من الشبان، على الرغم من التضييق الأمني، إلى أن تم إجهاضه في الثمانينيات، واستُبدل بالنادي السينمائي لاتحاد شبيبة الثورة.

لقد ساهمت، بصفتي مخرجًا، مع الفنان ياسر العظمة في تحقيق سلسلة مسلسل مرايا لخمسة أجزاء، رصدنا من خلال مائتي لوحة الفساد الإداري والاجتماعي والسياسي في البلد، وكنت أدفع كل لوحة من مرايا إلى أقصى دلالاتها، على الرغم من اتهام البعض أن الدولة من مصلحتها تمرير هكذا أعمال بهدف التنفيس، كون العمل الجاد الناقد بطبيعة الحال يثير الاستغراب عند السماح بعرضه في بلد مُسيطَر عليه أمنيًا. للعلم، كنا نعاني كثيرًا من تمرير أكثر المواضيع، أو كنا نهرب إلى التاريخ العثماني عندما تخرق اللوحة الخطوط الحمراء. أعتقد أن النظام اضطر في أوقات مختلفة أن يسمح بتمرير هكذا أعمال، ليس بهدف التنفيس، بل بهدف الظهور على الساحة الدولية كنظام ديمقراطي حضاري، لمعرفته ويقينه أن الفنّ لا يصنع ثورة، وأن البلد مُسيطَر عليها كما يجب، خاصة أن أدواتهم الثقافية المختلفة تسير في خطاهم على أكمل وجه.

 

 

 

 

محمد كامل الخطيب

هياكل الدولة المتخلفة وديكوراتها

شهادة عن الثقافة في سورية


- 1 –


31 أيار/ مايو 2021

1 - كثيرًا ما يرد في مقدمات الكتب العربية القديمة قول الكاتب في مستهل كتابه، وبشبه اعتذار، إن الكاتب إنما يلبي في كتابته ما يكتب طلب شخص عزيز عليه، إلى درجة أنه لا يسعه الاعتذار عن الكتابة، أو تلبية طلب هذا الصديق.

هذا ما يحصل معي، هذه الأيام، إذ طلب مني صديق عزيز، صديق وأستاذ، كان من أوائل الذين ساعدوني على المسير في الدرب الذي سرت فيه دون ندم، درب الكتابة والتأليف، إذ طلب مني الأستاذ بدر الدين عرودكي مساهمة على شكل شهادة عن الثقافة في سورية، ضمن كتاب يعدّه عن الثقافة وتحولاتها في المنطقة العربية خلال الأعوام الخمسين الماضية.

 2 - تلبية لرغبة هذا الصديق، وهذا بعض متأخر من واجب شكري له على ما قدمه لي في سالف الأيام، سأقدم شهادتي في تدوينات متتابعة خلال هذا الأسبوع.

3 - عادة ما يؤدي الشاهد شهادته تحت القسم، وهأنذا أقدّم شهادتي تحت قسم الضمير.

وعليه سأحاول أن أقدم شهادة تاريخية ثقافية شخصية عما شاهدت، وعما شاركت فيه، وخصوصًا من خلال عملي في وزارة الثقافة السورية، ثلاثين عامًا بالتمام والكمال.

4 - آمل أن تكون شهادتي موضوعية بقدر ما يمكن للشخص العقلاني صاحب الضمير، وهذا ما أدعيه، أو أحاوله، أن يكون عقلانيًا وموضوعيًا، من زاوية النظر التي صادف أني كنت موجودًا، وربما مساهمًا فيها، ومن خلالها.

5 - تحت هذا القسم أو التعهد، سأدون ما تسعفني به الذاكرة وإمكانية الموضوعية، وزاوية النظر التي أوقفني زماني وقدري فيها.

6 - سأبدأ اعتبارًا من الغد بتقديم فرشة أو تمهيد للموضوع الشهادة.

7 - لا أعتبر نفسي، في أي حال من الأحوال، في موقع الشخص المهم الذي يكتب مذكراته. لكن ما أكتبه مجرد تسجيل لواقع وتجربة مساهمة شخصية، صدف أن لها بعدًا اجتماعيًا ثقافيًا عامًا، لأن التجربة كانت في موقع ومجال اجتماعي عام هو العمل الثقافي في سورية.

 

 

ــ 2 ــ

1/6/2021
- 1 - " الدولة والثقافة "

عندما افتتحت المكتبة الوطنية في دمشق -وهي مشروع ثقافي جيد، بلا شك-، في ثمانينيات القرن العشرين، استدعت وزارة الثقافة السورية خبيرًا ثقافيًا بلغاريًا لرسم خطط لكيفية تشغيل المكتبة وعملها، وقد وضع الخبير البلغاري خطة عمل ثقافي، وأنهى تقريره بالعبارة التالية: "إذا لم تشغل هذه المكتبة على مثل هذه الآلية في العمل، فإنها ستتحول إلى مستودع مكلف للكتب".

أظن أن المكتبة الوطنية -مكتبة الأسد- في دمشق، هي الآن مجرد مستودع مكلف للكتب.

أورد هذا المثال لأقول إن الدولة السورية، خلال فترة الخمسين عامًا الماضية، والحق يقال، أنفقت مبالغ كبيرة، ضمن إمكانات بلد مثل سورية، فأنشأت مشاريع وبنى تحتية للثقافة ضرورية ومهمة -وهذا من مهمات الدولة في البلدان النامية، حيث إمكانات الأفراد محدودة في مثل هذه المشاريع- إذ أنشأت في سورية مؤسسة للسينما، ومسرحًا قوميًا، ودار الأوبرا، وأبنية فخمة لبعض المراكز الثقافية، وهيئة للكتاب، ومعهدًا للمسرح، ومجلات وجرائد جديدة، لكنها كلها، أو أغلبها، الآن، وبعد أن قدمت نتاجات مهمة في البداية، آل مصيرها إلى مصير المكتبة الوطنية تقريبًا، حيث أصبحت مستودعات مكلفة للبشر والمواد، والكلام التفصيلي يقتضي أن نشير إلى أن هذه المؤسسات كانت ضرورية، ولعبت دورًا مهمًا في البداية، عندما أوكل أمرها إلى أشخاص مختصين في مجالاتها، ولهم مقدرات وأخلاقيات العمل المناط بهم، وبهذه المؤسسات، فقد أتت بعض الثمار، إذ أنتجت بعض الأفلام الجيدة، وقامت بعض المراكز الثقافية بدورها الثقافي، وقدّم المسرح عروضًا متميزة، ونشرت الوزارة كتبًا، وسلاسل جيدة للكتب.

أما عندما بدأت مرحلة -تبعيث، حتى لا نقول فعلًا آخر- الوظائف والإدارات، فقد آل مصير هذه المؤسسات إلى ما تقدم.

لا أريد أن أورد أسماء الأشخاص، أو أن أشير إلى بعض الوقائع والحوادث المحددة، أو الناس الذين أُتي بهم على هذا الأساس الجديد، فالتشهير ليس مفيدًا، وليس من شيمي، لكن الحالة والأسماء يعرفهما كل متابع للحياة الثقافية والسياسية في سورية.

مجمل القول عوملت المؤسسات الثقافية كما عوملت المؤسسات السياسية والشعبية الأخرى في البلد، فكما هناك مجلس شعب شكلي، ووزارة شكلية، ونقابات واتحادات شعبية شكلية، وانتخابات شكلية موجودة تعمل وتقدم كديكورات خارجية كرتونية -مفرغة من المضمون- وشكلية للدولة الحديثة، ثمة مؤسسات ثقافية تؤدي الدور نفسه للمؤسسات والهياكل والواجهات الشكلية، بضاعة معدة للعرض وللتصدير الخارجي.

- 2 - " الشعب والثقافة "

لكن كان هناك ديناميكية القطاع الشعبي في العمل الثقافي، وهي ديناميكية عريقة في سورية، فقبل تدخل الدولة في مشاريعها الثقافية، كان هناك نشاط ثقافي للأفراد متميز، فقد أُنشئت في سورية منذ مرحلة الاستقلال، بل قبلها، صحف ومجلات وفرق تمثيلية، ودور للنشر وجرائد ومنظمات للكتاب والمثقفين ونشاطات ثقافية متميزة أخرى، لكن أغلبها أغلق لتحل الدولة محله، باستثناء دور النشر، وعمليات التأليف والترجمة والنشر الفردية فقد نمت، بل استمر في الظهور جيل جديد من المثقفين غير المنضوين تحت عباءة الحزب الحاكم، وما تزال تنمو، وأظنها ستستمر، أو تبقى موجودة، هذا إذا بقيت هناك سورية، أو إذا استمر الكيان السوري في الوجود.

ملاحظة: كنتُ أود تدوين حلقات تفصيلية عدة مدعمة بالشواهد والوقائع والأسماء لتظهر فيما بعد على شكل كتاب عن مآلات مشروع النهضة العربية العام، ومدى نجاحاته وإخفاقاته في المجال الثقافي، وفي حالة النموذج السوري تحديدًا، لكنني وجدت أن ذلك يقتضي وقتًا وترتيبات وإعدادًا آخرًا، وربما مكانًا آخرًا غير الإنترنت، وقد يحدث ذلك ذات يوم.

- 3 –

2/6/2021

- أورهان باموق وزيارة سورية –


-1-
ذات يوم استدعاني وزير الثقافة إلى مكتبه للاجتماع مع السفير التركي لمناقشة قضايا التبادل والتعاون الثقافي بين سورية وتركيا، وخلال الحديث اقترح السفير التركي تبادل زيارات الكتّاب، وطلب مني أن أرشح اسم كاتب تركي، فأدركت أن السفير يمتحن ثقافتي، أو معرفتي بالأدب التركي، على الأقل، فرشحت له اسم الكاتب التركي الصاعد آنذاك، أورهان باموق.

بدا الاندهاش على السفير، وهو يقول: هذا هو الاسم الذي كنت أريد أن أرشحه، لكن من أين تعرفه أنت؟

أجبت السفير قائلًا: حتى أواخر القرن التاسع عشر، كان على المثقف في بيئة الثقافة الإسلامية، ومنها بلادنا، أن يعرف ثلاث لغات، أي ثقافات، لأنها تفرعات من نبع واحد، وهي العربية والفارسية والتركية، وأنا وفيّ لهذا التقليد ومحبذ له، وأعمل على العودة لتقارب هذه الثقافات مجددًا، وإن كنت لا أعر ف إلا اللغة العربية من هذه اللغات، لكني أتابع ثقافات اللغات الثلاث عن طريق الترجمة، وقد سبق لوزارة الثقافة أن ترجمت الرواية الأولى لأورهان باموق، جودت بك وأولاده. وتحت الطبع، الآن، في هذه الوزارة، كتاب باموق الجديد، إسطنبول.

-2-
وهكذا تم الاتفاق، وقد وجهت الدعوة فيما بعد لباموق عن طريق القيادة القومية، وعندما حدد وقت الزيارة، قمت بالتعاون مع صحفي صديق من جريدة البعث، بترتيب نشر صفحة عن الضيف بالتزامن مع وصوله بعد أسبوع. ثم جرى الاتفاق على أن أرافق الضيف في جولة على المحافظات السورية للتعرف عليها، وعلى مثقفيها، على أن يرافقه مترجم أو شخص آخر عند زياراته للدوائر الرسمية الأخرى غير الوزارة.

- 3 –

قبل موعد الزيارة المحدد بأسبوع، حدث ارتباك في القنصلية السورية في إسطنبول، عندما تقدم الضيف باموق بجواز سفره للحصول على تأشيرة الدخول إلى سورية، إذ كان على جوازه تأشيرة زيارة إلى إسرائيل، فارتبك القنصل وسأل الخارجية السورية، والخارجية سألت الوزارة، والوزارة قالت إن الداعي هو القيادة القومية، فاسألوها، وما بين أخذ ورد ذهب الموعد وغضب باموق، وسحب جواز سفره من القنصلية، ثم اعتذر عن المضي في تلبية الزيارة.

- 4 –

وهنا بدأت قصة أخرى في دمشق، إذ زارني أحد رجال الأمن، وساءلني من هو هذا الكاتب؟ ولماذا دعوناه بالذات؟ فقلت له إن الذي دعاه هو القيادة القومية، وتكررت زياراته أكثر من مرة، ثم كان أن أتى كتاب إليّ بتوقيع الوزير بالامتناع عن نشر كتب، أو الترويج أو الإعلان عن أورهان باموق، لأنه
كاتب تركي يتعامل مع الصهيونية والاستخبارات المركزية الأميركية (على ما كتب الوزير).

- 5 –

قلت إنني كنت أرسلت إلى المطبعة كتاب باموق، إسطنبول، فتناسيت الموضوع بعد كتاب الوزير، وهكذا نُشر الكتاب، ولم ينتبه أحد للموضوع.

-6-
حدثت هذه الأحداث في نيسان وأيار، وفي تشرين الثاني أُعلن فوز أورهان باموق بجائزة نوبل عن ذاك العام.

ثاني يوم إعلان الجائزة، اتصل بي مستشار الوزير، الأستاذ فؤاد بلاط، وهو مثقف جيد وصديق لي، هاتفيًا، وقال لي ممازحًا:

- مبروك.. صاحبك أخذ جائزة نوبل.

أجبته: هو صديقكم.. وأنتم الذين دعوتموه في القيادة القومية.

-7-
كانت وزارة الثقافة السورية قد نشرت أول رواية نشرها الكاتب التركي الشاب آنذاك، أورهان باموق، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وكانت ترجمة الرواية فألًا سعيدًا بالنسبة إلى الكاتب، على ما قال باموق للشاعر ممدوح عدوان عندما زاره في بيته في إسطنبول، ورأى النص العربي المترجم معروضًا في خزانة تحف غرفة استقبال باموق، وقد رأى الرواية في المكان نفسه، في بيت الكاتب، أيضًا، مترجم الرواية إلى العربية الأستاذ - فاضل جتكر، على ما روى لي الشاعر والمترجم، فيما بعد، وربما لهذا السبب فرح باموق وتحمس لزيارة البلد - اللغة الذي كان أول من ترجم له كتابًا، وهو غير معروف وقتها.

-8-
أروي هذه الحكاية الطرفة، وربما أروي غيرها فيما بعد، كطرفة من الطرف التي عشتها أثناء العمل في وزارة الثقافة.

-9-
أما الحدث الأطرف فهو أنني عندما زرت إسطنبول عام 2010، أوصاني صديقي المترجم عن التركية، فاضل جتكر، أن أحضر له معي كتاب متحف البراءة، الصادر آنذاك بالتركية، وعندما طلبت الكتاب في أحدى المكتبات في إسطنبول انتهرني صاحب المكتبة قائلًا:

- نحن لا نبيع كتب هذا الكاتب الخائن الكافر... تفضل اخرج.

بالطبع، خرجت إلى مكتبة مرحبة أخرى.

 

- 4 –


3/6/2021
- مرحبا أورهان باموق –

الكلمة الترحيبية التي كتبتها تحية للضيف، ولم تنشر في الجريدة، لأن الضيف لم يأت، فنشرتها فيما بعد كمقدمة لكتاب إسطنبول عندما صدر، في أيار/ مايو 2006.

تحت ظل شجرة مقهى، وقرب أحد مساجد إسطنبول، وعندما دخلنا، صديقي فاضل جتكر وأنا، قال لنا العامل
- "مرهبا"

عرفت مباشرة أن اللفظة هي الكلمة العربية "مرحبا".
وبعد أن جلسنا قلت للعامل:

مرحبا هي كلمة عربية، فهل عرفت أننا عرب فرحبت بنا بالعربية؟!

أجاب العامل

- لا... مرهبا... مرهبا... هي كلمة تركية.

أطرقت وفكرت... فعلًا اختلطت اللغة... حتى ما عاد المرء يميز مرحبا العربية عن مرهبا التركية، وما الفرق؟ ألم نتشارك، عربًا وأتراكًا، ثقافة وتاريخًا واحدًا طوال فترات طويلة؟ ألم تختلط اللغتان مثلما اختلطت الثقافتان، ومثلما اختلط الشعبان؟ ألم أحسب وجوه أهل إسطنبول هي وجوه أهل دمشق وطرطوس وحلب؟

فلم لا نتشارك في كلمة التحية، هذه المرحبا العزيزة علينا، وعلى كل القلوب والعقول المنفتحة؟ ألا تحفل اللغة التركية بكثير من الكلمات العربية، مثلما يوجد في لغتنا المحكية كثير من الألفاظ التركية؟

مرحبا بالعربية والتركية.. باللغة واللفظة والثقافة والآلام والآمال... بحب الكتابة والرواية والبشر... نرحب بالكاتب التركي أورهان باموق... لا لأنه مجرد كاتب وروائي تركي كبير، ولا لأنه على قائمة مرشحي نوبل مع يشار كمال... نرحب بأورهان باموق لأنه يحمل معنا هموم الثقافة المشتركة، يحمل معنا هموم هذا الشرق القديم، هذا الشرق القديم المثخن بالجراح والأسى، لكن المتوثب والناهض والباحث عن الحياة الجديدة. هذا الشرق الذي ما يزال يرسم المنمنمات الشرقية، لكنه تعلم فن رسم البورتريه الغربي، على أمل أن يكون هناك رسم مشترك للبشرية جمعاء.

هذا الشرق الذي يريد أن يمزق الكتاب الأسود، ويكتب كتابًا ناصعًا كـالثلج.

مرحبا أورهان باموق

مرحبًا بك في الثقافة واللغة العربية، ومرحبًا بك في البلد الذي كان أول من ترجم روايتك (جودت بك وأولاده) إلى لغة غير اللغة التركية.

مرحبا...

مرحبا...


محمد كامل الخطيب. دمشق - 2006 –

تقديم كتاب إسطنبول، الذكريات والمدينة، تأليف أورهان باموق، ترجمة عبد القادر عبداللي، منشورات وزارة الثقافة السورية، السلسلة الشهرية - أفاق ثقافية. العدد رقم - 37 -. أيار/ مايو 2006.Bas du formulaire

- 5 -

7/6/2021
عن المصادفة،.. والمصير –

- إننا نصير الى ما نصبو إليه –

- 1 –

بينما كنت، ذات يوم من صيف عام 1976، أتسكع على غير غاية، في منطقة الروضة في دمشق، صادفت الشاعر حامد بدرخان، وكنت قد تعرفت إليه، وقامت بيننا صداقة قوية عندما أديت خدمتي العسكرية في حلب، فقال لي إنه ذاهب في زيارة إلى صديقه الأستاذ حنا مينه في وزارة الثقافة القريبة، ولم أكن أعرف الأستاذ شخصيًا، وعرض علي الأستاذ حامد أن أرافقه في الزيارة، على أن نذهب بعدها إلى مقهى الروضة، وبعدها نذهب إلى الغداء الذي دعوته إليه في مطعم أبي العز في دمشق القديمة في الحميدية، وقد سبق أن تسكعنا كثيرًا معًا بهذه الطريقة في حلب القديمة.

في مكتب الأستاذ حنا، في مديرية التأليف والترجمة، قابلت الدكتورة نجاح العطار، مديرة الدائرة، ولم أكن أعرفها شخصيًا، وأثناء الحديث سألتني الدكتورة عن الأحوال في جريدة الثورة.

- 2 –

كنت أكتب في هذه الجريدة منذ زمن من طرطوس وحلب، وداومت فيها، فيما بعد، مدة شهرين عام 1976، بناء على أني سأعمل فيها بناء على دعوة الأستاذ أحمد إسكندر أحمد، المدير العام ورئيس تحرير الجريدة، لي للعمل عندما كنت أؤدي الخدمة، فقد صادف أن رأيت الأستاذ أحمد، وهو يمر على مكتب الأستاذ محمد عمران، وكنت أزور الأستاذ محمد عمران ذات إجازة من الجيش في حلب، فدعانا إلى مكتبه، وكان الأستاذ محمد قد قال لي قبلها إن المدير العام يريد أن يراك عندما تأتي إلى الجريدة، وفي مكتبه، اقترح عليّ الأستاذ أحمد ندبي من الجيش إلى الجريدة فورًا، وها كم التفاصيل الطريفة التالية..

- 3 –

عندما اعتذرت عن تلبية دعوة الأستاذ أحمد لندبي من الجيش إلى الجريدة، قائلًا إني أحب مدينة حلب، وأحب أن أبقى فيها طوال مدة الخدمة العسكرية، أجاب:

- في كل الأحوال اعتبر نفسك من العاملين في الجريدة، وبابها مفتوح لك عندما تتسرح.

- 4 –

عندما تسرحت أوائل عام 1976، بعد خدمة ثلاث سنوات، وكنت قد قطعت علاقتي المادية مع أهلي، فكرت في أن أعمل فترة من الزمن لجمع تكاليف السفر إلى باريس للدراسة، وقد اشتغلت في المرفأ مراقبًا لتفريغ البواخر مدة شهر. لكني لم أستطع الاستمرار، المهم أنني كنت قد عزمت على أن لا أعود صبيًا في الدكان عند أبي، وبعدها تفرغت للتسكع والقراءة، وكنت خلال هذه المدة أكتب في جريدة الثورة وغيرها أسبوعيًا تقريبًا، وأزورها -جريدة الثورة- عندما أذهب الى دمشق بين وقت وآخر.
إذن ذهبت إلى الجريدة، عندما تسرحت من الجيش، وكان الأستاذ أحمد اسكندر قد صار وزيرًا للإعلام، وقابلت المدير العام، رئيس التحرير الذي حل محل الأستاذ أحمد مديرًا عامًا للجريدة، ولم أكن أعرفه شخصيًا، وكان هو يكتب أيضًا في الجريدة أحيانًا، وحدثته عن العمل في الجريدة، فرحب بي وقال إنني أعرف كتاباتك جيدًا، وأثنى عليها، وقال إنهم يعتبرونني من كتاب الجريدة منذ زمن طويل. وتفضل داوم غدًا بانتظار إجراء معاملة عقد العمل.

وفعلًا التحقت في اليوم التالي في القسم الثقافي الذي كان يرأسه أستاذي في المرحلة الثانوية، الأستاذ الشاعر محمد عمران، الذي كان من أوائل من رعى هوايتي الأدبية، ومهّد لي الدرب الثقافي الذي سرت فيه، ومن هنا فله عليّ أفضال لا تكفي كلمات الشكر على وفائها.

-5-
بقيت شهرين أعمل في القسم الثقافي للجريدة على القطعة، وخلالها لاحظت أن هناك مماطلة وتسويفًا في إبرام العقد، في حين أُبرم العقد مع زميل آخر أتى بعدي بشهر، وعندها طلبت مقابلة رئيس التحرير المدير العام، وعندما سألته عن موضوع العقد أجابني:

يجب أن تقابل السيد الوزير.

فأجبته بالحرف الواحد:

لن أقابل أحدًا غيرك. أنت رب عمل، وأنا طالب عمل، هل هناك عمل أم لا؟

أعاد جوابه بأنني يجب أن أقابل الوزير.

عندها خرجت من مكتبه، وكنت على علم ببعض الشائعات عني في الجريدة بأنهم يقولون عني أنني شيوعي، وعدت إلى طرطوس، وبدأت في التحضير لتحقيق حلمي في الحياة آنذاك وهو الذهاب إلى باريس للدراسة والعيش.

-6-
عشت، بعد هذا الحادث، أحلى عامين من شبابي في التسكع في كل أنحاء سورية، والعيش عن طريق الكتابة اليومية في الجرائد والمجلات السورية اليومية والأسبوعية.

-7-
نعود إلى الدكتورة نجاح العطار وسؤالها لي عن الجريدة، فقد أجبتها عن سؤالها وقتها:

لا أعرف عن الجريدة شيئًا، فأنا لا أعمل هناك.

ثم أضفت ضاحكًا:

- قالوا عني إنني شيوعي، ولم يقبلوا أن يبرموا لي عقدًا.

أهدتني الدكتورة كتاب أدب الحرب، وكانت مشاركة في كتابته مع الأستاذ حنا مينه، بتوقيعهما، وبعدها خرجت مع الأستاذ حامد إلى مقهى الروضة، ثم مطعم أبي العز في دمشق القديمة، وتابعنا تسكعنا، وكأننا ما نزال نتسكع في حلب، غير عارف ما تخبئه الأقدار والمصادفات لي من مسيرة، والعيش في بلد كنت مصممًا على مغادرته.

- أما عن ماذا كان قد حدث، قبل ما سبق تدوينه، فإلى الغد. 


- 6 –



8/6/2021
أرض السحر، أو نهاية الحلم الأميركي

-1-
في المرحلة الإعدادية، في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، تعاهدنا وتعاقدنا، وكنا أربعة من طلاب الصف الثامن، على أن نذهب للدراسة معًا في أميركا بعد انتهاء الدراسة الثانوية، وقد كنت وقتها مشتركًا وقارئًا معجبًا بمجلة الحياة في أميركا، وبصورها الملونة عن الحياة في مدنها وجامعاتها، وزاد هذا الإعجاب حماسة أني في أحد الأصياف في القرية رأيت عمي الأستاذ الشاعر أحمد علي حسن -2010 / 1914- يقرأ في كتاب للشاعر السوري شفيق جبري (1898 / 1980) اسمه أرض السحر، وزارة الثقافة. دمشق - 1962، وهو كتاب عن رحلة الشاعر إلى أميركا، فاستعرت الكتاب وقرأته، وعندما أبديت إعجابي بالكتاب لعمّي أهداني الكتاب، فتداولته مع أصدقاء الحلم الأميركي.

وكان أن حدثت حرب حزيران عام 1967، وكنا وقتها نحن الأربعة نؤدي امتحان الشهادة الثانوية استعدادًا للسفر إلى أميركا، فتوقفت الامتحانات، ثم قالت الإذاعات إن الذي هزمنا هو أميركا، وليس إسرائيل، وبعدها بأشهر عدنا إلى متابعة الامتحانات، وأذكر وقتها أن قرار متابعة الامتحانات هو الذي أشعرني أننا هزمنا حقًا، وأن أميركا هي التي هزمتنا وليس إسرائيل، ولهذا زعلت من أميركا، وعتبت على أصدقائي تصميمهم على متابعة مشروع السفر إلى أميركا، في حين قررت عدم التفضل بالذهاب إلى أميركا، وتناسيت الحلم الأميركي، بينما تابع رفاقي الثلاثة هذا الحلم الأميركي، وهم الآن في أميركا.


-2-
لا بدّ للإنسان، في ذاك العمر على الأقل، من حلم، وقد استبدلت بالحلم الأميركي الحلم الفرنسي، لكنني قلت لنفسي يجب أن أدرس المرحلة الجامعية الأولى في سورية، وأن أدرس الأدب العربي، لأن النجاح فيه مضمون بالنسبة إلي، حتى لو لم أبذل جهدًا كبيرًا، فقد كانت اطلاعاتي ومطالعاتي متقدمة في الأدب والفلسفة آنذاك، ثم أذهب إلى فرنسا، على الرغم من أن والدي كان يفضّل إرسالي إلى إيطاليا لدراسة الصيدلة، وهذا ما حدث، إذ ذهبت إلى جامعة دمشق، وأذكر أنني قلت لنفسي ولأصدقائي بعد أول شهر في دمشق: إن جامعتي هي سينما الكندي ومكتبات دمشق وأجوائها.

وأثناء الدراسة في الجامعة، بدأ تفكيري السياسي يتوضح، وبدأت أتجه يسارًا، مثل كثير من الشباب العربي آنذاك، أي بعد هزيمة حزيران وبتأثيرها، وغالبًا بعد أن كنت ليبرالي الهوى، بسبب تربيتي في بيئة من التجار، فأنا ابن تاجر مؤيد لخالد العظم، وعنه ورثت هذا الحب لهذا السياسي السوري، وأعتبره، مع الدكتور عبد الرحمن شهبندر، من أقرب الشخصيات السياسية السورية إلى عقلي وقلبي، ثم مارست طويلًا مهنة صبي الدكان.

- 3 –

في فترة الجامعة، تعرفت جيدًا إلى فن السينما والكتب والناس والمدينة، ذلك أن طرطوس، حيث نشأت، كانت وقتها شبه قرية، وخلال هذه الفترة بدأت بالنشر، وكتبت كتابي الأول، الأزمنة الحديثة، المنشور عام  1974، وكانت كل قصصه مكتوبة ومنشورة خلال الدراسة الجامعية في صحف ومجلات العاصمة، إلى أن أنهيت الدراسة، وأتى وقت الذهاب إلى أميركا، لكن في هذا الوقت بالذات صدر قرار رسمي بعدم السماح بالذهاب لحاملي الإجازة الجامعية بالذهاب إلى خارج البلد من دون تأدية الخدمة العسكرية، فطلبت تسريع التحاقي بالجيش، وفي أوائل عام 1973، كنت في الجيش.

قضيت الخدمة العسكرية، بعد الدورة الإعدادية في اللاذقية، في مدينة حلب، وقد أحببت هذا المدينة، وأسواقها القديمة، إلى حد العشق، وفيها تعرفت وتصادقت مع أناس ودودين، وتعرفت إلى المكتبات، وخاصة مكتبة حامد عجان الحديد الزاخرة بالكتب المصرية القديمة.

حدثت الحرب 1973، وكنت في حلب في الدفاع الجوي، نناوب في السلم يومًا بيوم، أما في الحرب فناوبنا ثلاثة، وفي أحد الليالي عندما نزلت من المعسكر إلى المدينة اتصلت بصديقي المثقف جدًا الصحفي صفوان عكي، ومدير النادي السينمائي الذي كان يؤدي خدمته الإلزامية مثلي، لكن في مطار حلب، وصادف أن إجازته ثاقبت إجازتي، فذهبنا معًا إلى أحد مشارب السليمانية، وفي الطريق تحدثنا عن إمكانية النصر البادية، كما في الإذاعات، فقال لي صفوان ضاحكًا:

العمى في وشن -الوجه بالحلبية -، إذا كان العسكر قد لعنوا أبانا، وهم مهزومون، فماذا سيفعلون بنا إن انتصروا؟

أما أنا فقد قلت له جادًا:

أتمنى أن ينتصروا، ولكن إذا انتصروا فهذا يعني أن كل تحليلاتنا لهم وكلامنا عنهم، وموقفنا منهم، كان خطأ في خطأ.

على كل حال، لم أصدق، فيما بعد، الكلام القائل إننا انتصرنا، وكان رأيي وقتها أن هذه الحرب لم تفعل شيئًا إلا تدعيم وإعادة شرعنة حكم العسكر والحزب الواحد وتثبيتهما، وبعدها تسرحت من الجيش، وعاد التفكير في مشروع الذهاب إلى فرنسا، وبدأت الإعداد للمشروع، إلى أن حدثت مصادفة اللقاء بالشاعر حامد بدرخان، وزيارة وزارة الثقافة معه، وقصة التعارف الأول مع الدكتورة نجاح العطار وحنا مينة الذي تكلمت عنه سابقًا.

-4-
ما سبق الكلام عنه وفيه هو كلام وحوادث شخصية، لكنها حوادث جرت في إطار تاريخي ثقافي عالمي وعربي عام، فيها وعنها أحاول أن أقدم هذه الشهادة عن التجربة الثقافية السورية، من وجهة نظري بالطبع، وسنرى، غدًا، كيف اكتسبت هذا الحوادث الشخصية معناها، مغيرة أحلامي، ومشكلة مساري ومصيري وحياتي، مثلما كانت تغير البلد والعالم، ومثلما كان يحدث لباقي البشر، ولو كانت هذه الأحداث والأحلام مجرد حلم وحياة شخصية لما فكرت في تدوينها، لكنها بدت، وتبدو لي الآن، عيشًا يوميًا في تاريخ يكوننا، وهو يتكون، نصنعه، وهو يصنعها ويصنعنا، أو: نكونه ويكوننا ونحن نسير في نهره المتدفق بنا.

إنني ببساطة أحاول أن أقدم شهادة ثقافية عن زمن وجيل وبلد صدف أنني وجدت فيه، ولا أريد أن أقدم سيرة شخصية، أو مذكرات فردية.

-7-

9/6/2021
- الإطار التاريخي والفكري العام للحياة الشخصية

أ - [الصراع الثقافي انعكاس لواقع متصارع عليه]

المفكر الفرنسي - هنري لوفيفر -.

ب - [وحين تكون الصراعات الطبقية معوقة بالقوة، خاصة بفعل سيطرة الدولة المركزية، فإن الصراعات الثقافية والأيديولوجية تكتسب عندئذ أهمية زائدة. ولا تأتي هذه الأهمية الإضافية من أن تلك الصراعات الثقافية تنوب عن الصراعات الطبقية، فهذا ما لا تستطيعه. أن هذه الأهمية تأتي من أن الصراعات الثقافية والأيديولوجية تقوم بمهمة تعويضية...]

من مقدمة كتاب (معارك ثقافية في سورية - 1975 – 1977). إعداد وتقديم: محمد كامل الخطيب ونبيل سليمان وبوعلي ياسين. دار ابن رشد. بيروت 1979.

-1-
عقب انقلاب 8 آذار/ مارس 1963، أصدر المجلس الوطني لقيادة الثورة قرارًا يقضي بالعزل المدني، أي منع العمل السياسي لمئات من الشخصيات السياسية والاجتماعية السورية ممن كانوا قادة وكوادر الحركة السياسية والصحفية السورية من غير البعثيين والناصريين، وأعلن قانون الطوارئ، وحُلت الأحزاب، وأُلغيت الصحف المستقلة والمنابر الإعلامية الخاصة، وهكذا خلا الميدان الاجتماعي، والمسرح السياسي للجيش وحزب البعث والناصريين وصراعاتهم الداخلية المريرة، إلى أن استقرت الأمور بعد 16 تشرين الثاني/ نوفمبر 1970 بيد رجل واحد هو الفريق حافظ الأسد، وحزب واحد، هو حزب البعث، وواجهة شكلية تشاركية سياسية عامة باسم الجبهة الوطنية التقدمية، وتلك طريقة في الحكم مأخوذة من الكتلة الاشتراكية، وتجربة ألمانيا الشرقية تحديدًا، مع فارق أن السيطرة الفعلية في الحالة السورية، كانت لقائد الجيش الذي هو في الوقت نفسه الأمين العام للحزب.

-2-
هكذا قيدت الحياة السياسية الحرة في المجتمع، لكن الإنسان حيوان سياسي، كما قال أرسطو، وليس بالإمكان منع الناس من التفكير السياسي، ولو كانت هناك قيود ثخينة كالنهر إن سددت عليه مجراه، فإنه سيشق مجاري أخرى، أو إن منعت أحدًا من الكلام، فإنه سيتكلم بالرمز، وهل من حقل واسع للرموز والدلالات المعبرة أكثر تعبيرًا ودلالة ونفاذًا، وأكثر قدرة على الظهور والتخفي، على الرمز الدال على العلانية، أكثر وأوسع من الحقل الثقافي، بمجالاته وحقوله المختلفة والمتعددة، والعلاقة بين السياسة والثقافة موضوع معروف ومعقدة وغير واضحة تمامًا، على الرغم من أن لا أحد، تقريبًا، ينكر وجودها؟

- 3 –

بدءًا من عام 1963، ظهرت حاجة لملء الفراغ الذي أوجدته الإجراءات والقرارات التي تكلمنا عنها، وبدءًا من هذا الوقت اتجهت الفعالية الاجتماعية السياسية السورية اتجاهًا ثقافيًا، أي أن العمل الثقافي بدأ يصبح بديلًا وقناعًا للعمل السياسي عن غير وعي، أو عن وعي، وهذا سر الفورة الثقافية السورية، في العقود السورية - 6 -7 - 8 - من القرن العشرين، وظهور جيل ثقافي جديد في هذه الفترة من سيطرة النظام الجديد، عرف فيما بعد - منذ الستينيات - وحتى اليوم، عرف فيما بعد - جيل السبعينيات.

-4-
هذا عن السياسة، أما في المجال العام فقد كانت قد حدثت هزيمة حزيران 1967، وأدى التفكير فيها إلى دفع الناس إلى التفكير من جديد في السياسة والثقافة التي أدت إلى الكارثة، والعلاقة بينهما، وتعالت دعوات لتحليل ومعرفة أسباب الهزيمة، كما ظهرت حساسية وجيل أدبي وثقافة جديدة في مصر - جيل الستينيات - ولبنان، واتسعت حركة الترجمة، وخصوصًا للكتب والفكر الماركسي، وحركة التأليف والتواصل الإنساني، وتوسع التعليم والجامعات، وظهرت أجيال جديدة متأثرة بما تقدم.

وفي المجال العالمي كانت هناك ثورات الشباب عام 1968 في أوروبا والعالم، والحرب الباردة التي قسمت إلى قسمين، كانت سورية في القسم اليساري منه تاريخيًا، منذ عقد الرئيس شكري القوتلي صفقة الأسلحة التشيكية عام 1956 وزار موسكو.

-5-
استجابة لهذه الظروف، ولتملأ القيادة السورية الفراغ الحاصل عن سياستها في العزل المدني وإغلاق منابر التعبير والرأي، والسيطرة على المجتمع، والتحكم في حركاته، بدأت الدولة في تكوين ما يسميه المفكر الماركسي نيكولاس بولنتزاس: جهاز الدولة الأيديولوجي، فأنشأت ثلاث جرائد، البعث والثورة، وتشرين. ومجلة الطليعة، واتحادات الكتّاب والفنانين، ومؤسسة السينما، والمسرحين القومي والقباني، ودعمت وزارة الثقافة، وتوسعت في الأجهزة الإعلامية الأخرى.

وهكذا بنت السلطة الجديدة وسائل تعابير وإعلام تحت سيطرتها بالكامل تقريبًا.

ومن الناحية البشرية والإدارية، عينت في مراكز الإدارة والعمل في هذه المؤسسات المنابر مثقفين بعثيين في غالبيتهم، أو متعاطفين معهم، ومن الجيل البعثي المثقف القديم مثل: جلال فاروق الشريف، وصدقي إسماعيل وجورج صدقني.

ومن الجيل الجديد مثل: ممدوح عدوان وعلي كنعان وعلي عقلة عرسان ومحمد عمران وعلي الجندي وعبد الله حوراني وفؤاد بلاط وحسين العودات وصابر فلحوط...إلخ، بانتظار جيل جديد بدء يتكون آنذاك.

-6-
في عام 1974، صدر في بيروت كتاب بعنوان الأدب والأيديولوجيا في سورية 1967 - 1972 تأليف بوعلي ياسين ونبيل سليمان، وقد جرت حول هذا الكتاب معركة صحفية أدبية صاخبة، وكثيرة المشاركين، وكانت أهميتها التاريخية - الثقافية هي الإشارة إلى ولادة وإعلان ظهور جيل أدبي يساري جديد، بدأ يشق طريقه الثقافية في سورية، وهذا الجيل هو المعادل الثقافي السوري لجيل الستينيات في مصر، سُمّي في سورية جيل السبعينيات، إضافة إلى حركات الشباب الأوروبي والعالمي عام 1968.

أما المعركة الثقافية حول كتاب الأدب والأيديولوجيا، وما تبعها من معارك ثقافية أخرى، فقد كانت في جوهرها معركة سياسية مغلفة بمعركة أدبية، فالصراع الثقافي انعكاس لواقع متصارع عليه كما قال المفكر الفرنسي هنري لوفيفر، أو هو بعد من أبعاده، على ما أرى، فأنا أفضل مصطلح تمثل، أو بعد، على المصطلح المتداول -الانعكاس- ونظريته التي أراها ميكانيكية.

في ظل الأحكام العرفية ومصادرة العمل والتفكير السياسي العلني، فإن المجتمع وقواه، أو طاقاته، أو فاعلياته الثقافية سيراوغ حكامه وقوانينهم، واعيًا أو غير واعٍ، ويرتدي الثياب الثقافية الحقيقية، أو التنكرية بدل الثياب السياسية، ليعبر عما في نفسه، إلى أن يُتاح له أن يلبس الثياب السياسية علنًا، بدل التنكر والتقنّع في الثياب السياسية.

إلى هذه المرحلة السورية والعربية والعالمية، وإلى هذا الجيل الذي سُمّي في سورية جيل السبعينيات أنتمي، وعنه أقدم شهادتي الشخصية، والأحداث الوارد ذكرها، إضافة إلى أحداث الحياة الشخصية الفردية، وهي المكون والخلفية التي شكلت وعي وأعمال وخيارات جيلي جماعة وأفرادًا، وضمنها أعمالي وخياراتي ومصيري الفردي، حياتيًا وثقافيًا.

وربما كانت الأسباب والظروف المتقدمة هي السبب الكامن وراء راديكالية جيلي عمومًا، وأفكاره الأساسية الثقافية والسياسية اليسارية، وبمباشرة وصراحة: كان جيلنا في سورية هو جيل هزيمة عام 1967، وقد كانت راديكاليته، سطحية كانت أم عميقة، هي رده الاجتماعي، في الوعي واللاوعي، وطريقته السلوكية والسياسية والثقافية في الرد على هذه الهزيمة، ويبدو أننا ندبنا أنفسنا، أو ندبنا المجتمع في لاوعيه الجمعي، بعد أن ظهر عجز الطبقة الحاكمة في تلك الهزيمة الفضيحة (1967)، تلك الهزيمة التي ما زلنا، إلى اليوم، وربما إلى الغد، ندفع فاتورتها، مع الفوائد المضاعفة...

وكما كتبت منذ ثلاثين عامًا، إنني واحد من جيل ألـ "67".

 


-8-

11/6/2021
المصادفة... والمصير.

- إننا نصير الى ما نصبو أليه –

-1-
ألغيت قرار الذهاب إلى باريس، وعدت من مصر، التي ذهبت إليها بحرًا عبر الإسكندرية، بالطائرة إلى دمشق، بعد حادثة وقعت لي في القاهرة، وتفصيلها: حضرت مسرحية في القاهرة، وآخر الليل، وأنا عائد إلى الفندق، رأيت رجالًا ونساء ينبشون في صناديق القمامة في أحد الشوارع، فصدمني المشهد - مصادفة مصيرية أخرى -، وكانت أول مرة أراه فيها، والآن اعتدته حتى في سورية، إلى درجة أنني لم أنم الليل وأنا أفكر فيما رأيت، وفي الصباح قررت العودة فورًا إلى سورية، وأنا أفكر بالشكل - المثالي الأخرق - التالي:

- كيف لي أن أذهب للعيش المنعم في أوروبا، وثمة أناس من الشعب العربي يبحثون في القمامة عن الطعام؟!

وهكذا، إذا كنت قد زعلت من أميركا عام 1967، فإنني في هذه في المرة، 1977، قد زعلت على الشعب العربي، وهذا يعني أنني لم أكن قد نضجت عاطفيًا وعقليًا حتى وقتها، ولست متأكدًا أنني قد نضجت حتى الآن.

-2-
وصلت إلى دمشق في الرابعة صباحًا، وفي التاسعة كنت على باب وزارة الثقافة. قابلت الدكتورة نجاح العطار، فقالت لي ما يلي: مع الأسف الشديد، بالأمس جاءنا تعميم من مجلس الوزراء أنه لا يجوز للوزير التعاقد مع حملة الشهادات العليا إلا بناءً على موافقة رئيس مجلس الوزراء، ولكن انتظر مني خبرًا خلال هذا الأسبوع لنرى ما يمكن عمله.

في هذا الوقت كان يقام مهرجان للمسرح العربي في دمشق، فقررت البقاء في دمشق لمشاهدة عروض المسرح، وفعلًا بعد ثلاثة أيام جاءتني دعوة على الغداء في مطعم الوادي الأخضر، وكانت على شرف المشاركين العرب في مهرجان المسرح، وقد حملها إلي بندر عبد الحميد.

قبل الغداء، في صالة المطعم، أتى إلي المخرج المسرحي الأستاذ محمود خضور، وقال لي:

الوزيرة تريدك

ذهبت إلى الوزيرة، وإذا بها تقف مع اللواء عبد الرحمن خليفاوي، رئيس مجلس الوزراء، قدمتني إليه، ثم قالت:

أريد هذا الشاب للعمل في الوزارة، ونحن نحتاجه.

حييتهما وانصرفت، وبعد دقائق عاد إلي الأستاذ محمود خضور، وقال لي إن الوزيرة تريدك.
ذهبت إلى الوزيرة، فقالت لي:

ابدأ منذ الغد في استخراج الأوراق اللازمة للتعاقد معك.

- 3 –

كان من الأوراق المطلوبة للتعاقد مع الوزارة وثيقة تثبت أن الشخص المعني غير موظف في الدولة، وإذا بوثيقة الدولة تقول إنني موظف في الدولة، وإنني مدرس لغة عربية في طرطوس، وقد ترفعت درجتين.

-4-
في البداية تفاجأت، فأنا مثل أولاد بيئتي التجارية، لا نميل إلى التوظف في الدولة، ثم تذكرت ما حدث معي، وعلى الأصح تذكرت ما فعلت، وهذا هو:

-5-
كنت في اللاذقية في دورة الإعداد العسكرية، حيث الإجازات ممنوعة، وفي هذا الوقت أُعلنت مسابقة لاختيار مدرسين للغة العربية، وعرفت أن صديقتي من الجامعة، وكانت قد ذهبت للتدريس في الكويت، ستأتي إلى دمشق للتقدم للمسابقة، واتفقنا أن نلتقي في دمشق، ولا سبيل لإجازة وللقاء معها أثناء الدورة إلا بإجازة طويلة لأسباب قوية، وهكذا ولدت في رأسي فكرة التقدم للمسابقة، وبحجة التقدم للمسابقة، أخذت إجازة لاستكمال الأوراق المطلوبة، وهكذا قابلت صديقتي، وعلى هامش اللقاء مع الصديقة تقدمت للمسابقة، وبعد أربع سنوات من هذا اللقاء والمسابقة، كنت قد أصبحت مدرس لغة عربية في طرطوس، وأنا أؤدي الخدمة العسكرية، أو أتسكع في سورية ولبنان، وأهيئ نفسي للذهاب إلى باريس.
اقترحت الوزيرة علي الندب من وزارة التربية إلى وزارة الثقافة، لكنني كنت أريد التعاقد المؤقت حتى أترك الباب مفتوحًا لترك العمل متى رغبت، والعودة إلى فكرة الذهاب إلى فرنسا. وفضلت خيار الاستقالة، ومن ثم التعاقد، لكن المشكلة التي برزت أن وزارة التربية كانت في ذروة مشاريعها للتوسع في التعليم الثانوي، ولا تقبل استقالة أي مدرس، ولا سيّما إذا كان من مدرسي اللغة العربية، وقد تأخر العقد من حزيران/ يونيو 1977 إلى أوائل 1978، حتى قُبلت استقالتي، بعد أن أثبت بالوثائق أنني كنت في الجيش، وأنني بعد أن تسرحت لم ألتحق بوزارة التربية، ولم أتلق أي راتب.

-6-
التحقت بالعمل قارئ مخطوطات مقدمة للنشر في مطبوعات مديرية التأليف والترجمة والنشر، وكان مديرها آنذاك الأستاذ أنطون مقدسي، وقد رحّب بي هو وأعضاء المديرية الآخرون، وكانوا في أغلبهم ممن تجاوز الستين بينما كنت في الثلاثين، وتسلّموا مراكز مهمة إدارية وسياسية في الدولة، ومن المثقفين المسيّسين المعروفين من جيل الخمسينيات، أمثال النائب السابق في البرلمان 1954، ومترجم بليخانوف وبولنتزاس إلى اللغة العربية، الأستاذ إحسان الحصني، والأستاذ علي الخش السفير السابق في وزارة الخارجية، والأمين العام للمجلس الأعلى لرعاية الآداب والعلوم الاجتماعية، وبطبيعة الحال الأستاذ حنا مينة المتعاقد مع الوزارة، ومن العاملين في المديرية....إلخ.

رحب بي الزملاء في العمل، على الرغم من الفارق العمري الكبير بيننا، وعلى أيديهم تدربت على العمل، حتى إن الأستاذ حنا مينة قال لي بعد شهر:

تعلمت المهنة سريعًا.

عملت بنشاط، وإيقاع عمل أسرع من غيري، إلى أن استدعتني الوزيرة ذات يوم، وأطلعتني على الكتاب التالي الذي أخرجته من جزدانها الشخصي:

[نطلب إليكم، إنهاء عمل العامل لديكم محمد كامل الخطيب لأنه يشكل خطرًا على أمن الدولة.
التوقيع - اللواء أركان حرب - عدنان دباغ وزير الداخلية]

ابتسمت وقلت للوزيرة:

لا داعي للإحراج، أو الخوف على العمل، أنا من أسرة ميسورة، وحتى لا أحرجك فإنني أتقدم لك بطلب إنهاء العقد.

ابتسمت وهي تقول:

طالما أنا في هذا الوزارة، أنت في الوزارة.. عد إلى عملك... لا تهتم.

ثم تناولت الرسالة الرسمية، وأعادتها إلى حقيبتها الشخصية.

-7-
بقيت ذكرى طريفة جديرة بالذكر، وهي أنني كنت، أثناء الدراسة الجامعية في دمشق، أسكن في حي الشعلان، وقد اعتدت التجول في غالب الليالي في الشوارع القريبة، ومنها حيي الروضة وأبي رمانة، وأن أتنسم عبير الياسمين الدمشقي في هذه الشوارع، وذات ليلة لفت نظري يافطة مكتوب عليها:

- وزارة الثقافة –

وأذكر أنه خطر لي الخاطر التالي:

هل سيتيح لي أن أعمل في هذا المكان، إذا لم أستطع الذهاب إلى فرنسا؟
الآن أفكر: هل كانت هذه مجرد مصادفة مصيرية أخرى في حياتي، صدف أن تحققت، أم أننا حقًا نصير إلى ما نصبو إليه في دواخلنا، وبغض النظر عن أفكارنا الواعية وقراراتها.

 

- 9 –

2/6/2021
معركة الكتب أو قصة سلسلة قضايا وحوارات النهضة العربية.

ملاحظة:

معركة الكتب هو اسم مقالة لكاتب إنكليزي من القرن السابع عشر، لا يحضرني اسمه الآن،
[لسنا نحن الذين نصنع سينمانا - أقرأ مشاريعنا. م. خ - لكن الزمن الثوري هو الذي يصنعها ويصنعنا]، المخرج السينمائي الروسي سيرجي أينشتاين

- 1ــ

في بيت أحد الأصدقاء الدمشقيين، رأيت مكتبة العائلة التي أسسها المثقف والسياسي البارز نهاد القاسم، جد صديقي آنذاك سعد القاسم. كانت المكتبة تراثية في مجملها، وتمثل المثقف العربي والسوري الجديد الذي بدأ يتكون في ثلاثينيات القرن العشرين اعتمادًا على مطبوعات ذاك العقد.

لفت نظري في المكتبة مجموعة من مجلدات السنوات الأولى من مجلة الرسالة - المصرية -1933 - 1952، لمنشئها -على لغة ذاك الزمان- أحمد حسن الزيات، ولما كان الصديق الحفيد، مهتمًا بكتاب تاريخ دمشق لابن عساكر، وعندي أجزاء نادرة من الكتاب، وعنده أجزاء أخرى مكملة، ولا يهمني الاحتفاظ بما عندي كثيرًا، فقد عرضت على الصديق صفقة مبادلة تقوم على أن أعطيه أجزاء ابن عساكر، زائدًا ما يصدر من روايات في مطبوعات الوزارة، ويعطيني مجلدات مجلة الثقافة، وبعض الكتب التراثية الأخرى من مطبوعات مجمع اللغة العربية في دمشق.

وحادث، أو مصادفة مصيرية، في النسق نفسه، لكنها مثل غيرها من المصادفات الأخرى، كانت تقودني إلى ما أصبو إليه في أعماقي، وإن خالف قراراتي وخططي الواعية والمعلنة الأخرى في السياق نفسه، فقد حدث أن ذهبت إلى اللاذقية، وزرت الأستاذ نبيل سليمان، وكان لي عنده مبلغ من المال لقاء مساهماتي في كتابنا المشترك الذي صدر في بيروت: معارك ثقافية في سورية، ولأستلم النقود من نبيل، وعندما زرته، كان قد افتتح مكتبة لبيع الكتب في اللاذقية، فاقترح عليّ أن أخذ كتبًا من مكتبته عوضًا عن المال، فوافقت، وكانت المصادفة المصيرية الأخرى التي غيرت اتجاهي واهتمامي في القراءة أني وجدت عنده في المكتبة الأعمال الكاملة لكل من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو وعلي مبارك، التي نشرها الدكتور محمد عمارة، فأخذتها وانكببت عليها، لتدخلني باستغراق وحب شديدين في مؤلفات وكتب ومجلات عصر النهضة العربية، وربما لأن أتحول من كاتب قصة قصيرة وناقد إلى باحث.

- 2 –

قرأت المجلدات بكاملها، ولفت نظري كثرة الحوارات والجدالات والمعارك الثقافية الأدبية والفكرية حول قضايا أدبية وفكرية وثقافية عامة، وكنت مطلعًا على الحوارات والمعارك والردود التي أثارتها قبلًا الكتب العربية الأولى التي أثارت هذا الحوارات، في مطلع القرن العشرين، وهي:

- 1 - تحرير المرأة لقاسم أمين 1899 -.

- 2 - الإسلام وأصول الحكم لعلي عبدالرازق - 1924 -.

- 3 - في الشعر الجاهلي لطه حسين -1925 -.

أدركت أن معارك مجلة الرسالة الثقافية هي استمرار لقضية الكتب الثلاثة المتقدمة، وأن هذه الحوارات والمعارك الثقافية حول القضايا الثقافية، من فكرية وفنية أدبية واجتماعية، إنما هي قضية القرن الاجتماعية الثقافية، قضية تكوين، إعادة إنشاء، وتجديد المجتمع والثقافة العربيين في العصر الحديث، وأن مجمل هذه القضايا هو ما يشكل قضية وحركة النهضة العربية، وأنها تشكل الأبعاد والتمثلات الفكرية والثقافية للمجتمع العربي في حركة تحديثه، ثم رجعت بفكري إلى الموسوعيين الفرنسيين في عصر التنوير في القرن الثامن عشر الأوروبي، ومعاركهم وجدالاتهم الفكرية والثقافية آنذاك، كما تذكرت المعارك الثقافية في مصر في الستينيات، وكتاب محمود أمين، العالم معارك فكرية، 1965.

كنت في هذا الوقت قد لاحظت بداية اشتداد الهجومات السلفية على أفكار النهضة العربية وممثليها، وطالعت كتاب الدكتور محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر، 1955، وكان هذا الكتاب يمثل أول وأقوى هجوم على فكر النهضة العربية ومحاكمة لفكر النهضة ورجالها، إضافة إلى كتاب الدكتور محمد البهي، الفكر الإسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي 1957، وهو يسير على خطى الكتاب المتقدم، وأقسى.

أضف إلى ذلك أن عودة أدونيس وحسين مروة وحسن حنفي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون، وغيرهم، إلى التراث العربي، والانشغال بقضاياه لم ترحني، ولم تبهجني، ولم أتحمس لها، من حيث المبدأ، واعتبرتها مجرد لعب على ملعب الخصم، وأن الانشغال بأفكار الراهن وقضاياه أهم وأجدى.
في وجه هذا الهجوم السلفي من الضفتين، يمينًا ويسارًا، فكرت بطريقة فكرية للرد، فكانت فكرة قضايا وحوارات النهضة العربية، بأهمية وراهنية أفكارها وقضاياها ومشكلاتها الثقافية والاجتماعية، قد وضعت أولى بذورها، ومنها تولدت لدي الفكرة الموجهة واللاحمة لكل ما فكرت، وهي أن الفكر العربي الحديث قد تولد ويتولد عبر الحوار والتاريخ لا يخالف هذه القاعدة، وأن الأفكار التي تدور في ذهني تصلح لمشروع تنويري خصب. ولكن نظرتي للعمل الفكري والثقافي ليست نظرة تعاركية، إذ كنت أرى أن النمو والتطور الثقافي والفكري هو عملية حوارية دائمة.

ببساطة وصراحة، كانت غايتي من مشروعي هي مقاومة المد الثقافي السلفي الصاعد، آنذاك.

كنت في تلك في تلك الفترة من أواسط ثمانينيات القرن العشرين على صداقة شخصية وفكرية بصديقين، هما الأستاذ سعدالله ونوس، والدكتور فيصل دراج، وكنا نجتمع في بيتي غالبًا، ونناقش فكرة طرحها الدكتور فيصل لما صدر، فيما بعد، تحت اسم قضايا وشهادات، بدعم من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، لكني عندما نضجت فكرتي الخاصة عن حوارات عصر النهضة عرضتها على الصديقين، واتفقنا على أن نطرح الموضوع على الأستاذ أنطون مقدسي، والسؤال عن إمكانية تبني وزارة الثقافة لمشروع قضايا وحوارات النهضة العربية التوثيقي.

تحمس الأستاذ أنطون للمشروع، عندما اجتمعنا في بيته، ثم كتب مذكرة حول ما دار من الموضوع، تضمنت عرض مشروعنا، وما دار بيننا نحن الثلاثة، للوزيرة الدكتورة نجاح العطار، فوافقت الوزيرة، وأصدرت كتب تكليف لنا، لكل منا في اختصاصه، كما اقترحنا.

ـ 3 ـ

يقوم مشروع، أو سلسلة قضايا وحوارات النهضة العربية على الأسس التالية: تغطية توثيقية شاملة، ومتتابعة زمنيًا لمناحي ومحاور الثقافة العربية الحديثة وقضاياها في الفترة ما بين 1800 - 2000، وهي الفترة المعروفة بعصر النهضة.

منهج العمل يقوم على تقديم هذه المناحي والمحاور والقضايا بطريقة سجالية، الرأي والرأي الأخر، متسلسلة زمنيًا وحواريًا، ومرتبة حسب موضوعاتها، وعبر مختلف وجهات النظر، منذ نشأت هذه القضايا والموضوعات، إلى أن دخلت واستقرت في السلسلة الثقافية العربية ونسيجها التاريخي، مكونة سلسلة جديدة ثقافية جديدة، مجلات وكتب، منذ بدأت الطباعة في البلد العربية إلى الوقت الراهن.

ثم رتبت هذه القضايا والمحاور على الموضوعات والتواريخ التي ظهرت بها، مما لا مجال لتفصيله هنا.

- 4 –

انشغل الصديقان سعد الله ونوس وفيصل دراج بمشروع قضايا وشهادات، وكرّسا له وقتهما وجهدهما، لأسباب لا داعي لذكرها، وأضافا إلى هيئة تحرير مشروعهما عندما صدر كلًّا من الدكتور جابر عصفور، والروائي عبدالرحمن منيف، ولم يكن قد ورد اسمها أثناء نقاشاتنا حول الفكرة، كذلك لم يقدم الصديقان للوزارة الكتابين اللذين كلفا بهما، ومن هنا أخذت المشروع على عاتقي، وندبت نفسي له، فقضيت عشرين عامًا من أفضل وأحلى وأمتع سنوات عمري، مثقفًا نفسي، منقبًا في كتب ومجلات هذه الفترة، في مختلف المكتبات الكبرى مثل المكتبة الظاهرية، ومكتبة المعهد الفرنسي في دمشق والمكتبات الشخصية الأخرى، وأعفتني الوزيرة من الدوام الرسمي يوم الخميس من الأسبوع لأداوم في المكتبة الظاهرية للبحث، وقد دعمتني وزيرة الثقافة والأستاذ أنطون مقدسي والأستاذ حنا مينة، وكثير من الأصدقاء والزملاء في العمل وخارجه، وأوفدتني الوزارة إلى القاهرة وبيروت لشراء الكتب والمجلات النادرة، أو تصويرها في القاهرة في المكتبة الوطنية المصرية.

وهنا لا أستطيع إلا أن أشكرهم جميعًا.

- 5 –

حدثت في بداية المشروع الحادثة الطريفة التالية:

كان أول مجلد أنجزته من المشروع هو المجلد المسمى القديم والجديد 1989، وقد تقدمت بالمخطوط أصولًا إلى مديرية التأليف والترجمة في الوزارة، فكتب الأستاذ أنطون مذكرة عارضًا المخطوط إلى الوزيرة أصولًا، وقد ورد في المذكرة أن في المخطوط مقالتين لميشيل عفلق وخالد بكداش، وأن ذلك ربما يسبب إحراجًا سياسيًا، فاستدعتني الوزيرة، وسألتني عن سبب اختياري وإدراجي مقالتين لهاتين الشخصيتين، فأجبتها:

ذلك لأسباب منهجية وتاريخية، وليس للسياسة علاقة بالموضوع.

ثم حبكت معي النكتة، فتابعت:

بالمناسبة يا دكتورة، أنت وضعتني في موقف مضحك، فأنت وزيرة، وأنا أشتغل عندك، وليس بالإمكان أن أمزح معك.

قالت مبتسمة:

خذ راحتك في الكلام.

قلت: يا دكتورة أجد نفسي الآن أمامك مضطرًا للدفاع عن شخصين، عفلق وبكداش، لم أحبهما في يوم من الأيام، ضد سلطتهما التي يمثلها حضرتك.

ضحكت الدكتورة، ووقعت مذكرة على الأستاذ أنطون مع الموافقة

صدرت أكثر أجزاء المشروع عن وزارة الثقافة، وأجزاء أخرى صدرت في بيروت ودمشق، ثم عند اقتراب المشروع من نهايته راجعته، وكتبت له مقدمة عامة صدرت في كتاب باسم: تكوين النهضة العربية 1800 - 2000.

 

 


 

موفق قات

الثقافة عندما تتحول إلى منبر للدعاية

العمل الثقافي في سورية كان يتميز بالخطورة، وكان يشبه السير في حقل مليء بألغام متنوعة، منها السياسي، ومنها الاجتماعي والديني، وكل ذلك نتيجة غياب الحرية، وتسلط نظام الاستبداد، وغياب مفهوم الدولة. لقد كانت لدينا طموحات ومشاريع فنية كبيرة، لذلك كنا نتنازل قليلًا كي نحقق بعض أحلامنا الفنية. كان الخيار إما أن تجلس في المقهى وتشتم النظام ليلًا ونهارًا، ولا تعمل أي شيء، أو تحاول أن تمرر عملك الفني بأقل الخسائر، والمهم أن لا تشارك في الفساد، لأن أول مشاركة تعني أنك دخلت إلى سوق البورصة، وصار لك سعر يتم تداوله من قبل أصحاب القرار. كي تعمل في الشأن الثقافي في سورية، عليك أن تجتاز مستنقع الفساد الكبير الذي كان يغرق فيه بعض المثقفين، ويخرج منه البعض الآخر، ويصل إلى الضفة الأخرى بصعوبة. لقد تلوثنا جميعًا خلال العمل الثقافي، ولكن بنسب مختلفة. عندما تريد تحقيق مشروعك الفني، فإن جلّ وقتك والكثير من الجهد يتم هدره في البحث عن وسائل تتحاشى بها الخطوط الحمراء التي وضعتها السلطة، تحاول ممارسة دهاء قول الحقيقة، لأن الأنظمة الاستبدادية لديها جهات رقابية متنوعة، مع أنها في النهاية تتبع لرقابة أمنية مركزية. الأدب، السينما، المسرح، الفن التشكيلي والموسيقا، مهمتها الأساسية هي الدعاية للنظام، ويتم العمل مع المؤسسات الثقافية على هذا الأساس. لذلك قام النظام ببناء مراكز ثقافية، وكان الطابع العام لنشاط تلك المراكز هو الدعاية للنظام وتجميله، ولم يكن الهدف منها خلق حالة ثقافية تساعد على إغناء الوعي لدى المواطن. كان النظام يصرف ميزانية كبيرة تعادل ميزانية ثلاثة أفلام روائية من أجل إقامة مهرجان للسينما، يحضره ضيوف من كل أنحاء العالم لتقديم صورة حضارية عن النظام، مع تأمين كل الإغراءات للضيوف الذين يتم ابتزازهم ويضطرون كيل المديح للنظام وراعي المهرجان. وبالمقابل، كانت مؤسسة السينما تنتج فيلمًا روائيًا واحدًا كل سنة. أما عن علاقة النظام بالتلفزيون، وهي الأهم بالنسبة إليه كأداة دعائية جماهيرية، فقد أولى لها عناية خاصة عبر إنشاء شركات إنتاج تلفزيوني كبيرة تابعة إلى حيتان المال المقربين منه. بالنسبة إلي، ولأني تخرجت من أهم دولة ذات نظام الحزب الواحد، فقد كان من السهل عليّ معرفة آليات عمل نظام الاستبداد، لأني استفدت من تجارب أساتذتي وزملائي خلال دراستي في موسكو، حيث تعلمت أصول الفن الأكاديمي، بالإضافة إلى اكتشاف الخطوط الحمراء والزرقاء والصفراء، بل كل ألوان قوس قزح. ومع ذلك، صادفتني مشاكل عديدة خلال العمل في الشأن الثقافي. بالنسبة إلي، كانت فترة التعليم في الجامعات السورية أخطر المراحل، لأن الكلام السياسي في المقهى أو في سهرة يختلف عن الكلام أمام طلاب الجامعة، وفي أكثر الأحيان كان حماس الشباب الذي يتمتع به الطلاب يدفعني للغوص في مواضيع خطيرة أخرج منها بسرعة بعد أن أشعر أن الحالة ليست على ما يُرام. في سورية لم تتشكل دولة ذات مؤسسات، بل مافيا تضع على وجهها بعض مساحيق الدولة التجميلية. لقد تم تشكيل اتحادات ونقابات للأدباء والفنانين ولم يكن الهدف من إنشائها الدفاع عن مصالح أعضائها، بل كانت فرعًا لجمع المعلومات عن الأعضاء، يقوم به أمين سر النقابة، أو أحد أعضاء مجلس الإدارة الذي يقدّم تقاريره بشكل دوري. خلال خمسين عامًا، كان النظام يقمع كل الأنشطة السياسية للفنانين، ويعزز العشائرية والطائفية في كل مرافق الحياة، ولم يكن يسمح بمناقشة المكونات السورية، لذلك عندما قامت ثورة الكرامة، لم يكن لدى أغلبية المجتمع الوعي الكافي كي يستند إليه، لذلك تفرق الناس، وتبين أن جدار العشيرة أو الطائفة هو الأهم.

 

مي سعيفان

في مدرسة الباليه: أربع تجارب

انتسبت إلى أول مجموعة في مدرسة الباليه عام 1988 في دمشق، بعمر 7 سنوات، وبقيت فيها حتى نهاية المرحلة الثانوية عام 1998، ثم انتقلت إلى المعهد العالي للباليه. خلال تلك الفترة كلها، درست تحت إشراف خبراء روس. طبّق الخبراء علينا طريقة تدريس تقليدية أقرب إلى النظام العسكري الشديد، حرمتنا من الإبداع والفردانية، لكني استطعت قبل نهاية السنة الأولى في المعهد العالي الحصول على منحة دراسية من ألمانيا مدتها 4 سنوات ضمن المعهد العالي للموسيقا والفنون المسرحية في فرانكفورت قسم الرقص الكلاسيكي والمعاصر، وهناك تعرفت على راقصين من خلفيات ومجالات بعيدة عن الباليه، وتعلمت أهمية التنوع والانفتاح تجاه أنواع أخرى من الرقص والحركة، على عكس ما علّمنا الخبراء الروس الذين اعتبروا الرقص المعاصر سخيفًا، بينما في ألمانيا اعتُبرت جميع أنواع الرقص والحركة بمثابة غنى وإثراء، وكان من الفروق الأساسية بين المدرستين الروسية والألمانية هي طريقة تعامل الأساتذة معنا، وهم الذين كانوا السند والدعم، وساعدونا على فهم أجسادنا واكتشاف لغتنا وحركاتنا الخاصة، والابتعاد عن التقنيات القديمة والتقليد الأعمى لمثل عليا.

2004-2003

التجربة الأولى:

التدريس

تخرّجت من معهد فرانكفورت، ثم عدت إلى سورية، عام 2003، حاملةً معي الأفكار الثورية والتقنيات الجديدة، ودرّست لمدة سنة في المعهد العالي للباليه، حصلت خلالها خلافات بيني وبين إدارة المعهد نتيجة الاختلاف الجذري في الطريقة التي استخدمتها في التدريس، والتي تختلف عن الطريقة القمعية شبه العسكرية التي ما زالت مُعتمَدة في المعهد إلى حدٍّ بعيد، إذ بنيت علاقتي مع الطلاب على أسس الصداقة والانسجام، وكنت أرى دوري كداعم لهم للبحث عن البصمة الشخصية لكل فرد منهم، وليس كملقن أو كشخص بمرتبة أعلى. حيث أخذت دروسي شكلًا أقرب لورشات عمل وبحث قائمة على التعاون وتبادل الأفكار، كما ألغيت ضدّ نظام التقييم المُتّبع الذي يفرض وضع علامة لكل طالب، وإجراء الامتحانات باستمرار، وسعيت نحو وضع علامات موحدة لجميع الطلاب، لكن هذا الأسلوب قوبل بالتململ الشديد من قبل إدارة ونظام المعهد، حيث وُجّهت لي انتقادات، بعضها مباشر، والآخر غير مباشر، بالإضافة إلى مقارنة طريقة عملي مع آلية عمل اﻷساتذة الذين تلقّوا دراستهم في سورية، ومن ثم درّسوا في المعهد واستمروا على النهج نفسه.

 بعد مرور سنة من ممارسة هذه الضغوطات المستمرة، ومحاولة لوي طريقتي نحو اتباع الطرق المتعارف عليها والمتناسبة اجتماعيًا وهرميًا، قررت الانسحاب من موقعي الجديد، حيث إنني لاحظت أنني لم أكن مسلحة بشيء عدا حبي لما أقوم به من عمل، وحماسي الشديد، واندفاعي لتوصيل ما تعلمته لطلاب المعهد المتعطشين دومًا للمعرفة. لم أكن واعية أبدًا لحقيقة المكان الذي نشأت فيه منذ الطفولة حيث إن ذاكرتي معه طفولية ووردية، فالمعهد كان بالنسبة إلي هو المكان الذي أطلق العنان فيه لحبي للرقص، وألتقي مع طلاب من الأقسام الأخرى، وأحضر فيه بروفات الموسيقى والمسرح، واتسكع في البوفيه والحدائق المحيطة. لم ألاحظ كم أن هذا المكان هو فقط نسخة محسنة إلى نوع ما عن دوائر الدولة الحكومية الأخرى، وبالتالي يسود فيه الكثير من "السوس". وبعد رحيل الأستاذ صلحي الوادي، ازداد "السوس" بشكل واضح وملحوظ جدًا.

كان عمري حينها حوالي 22 عامًا، ولم أكن مرحبة على الإطلاق بمن يريد إعادة تأطيري بعد كل ما بذلته خلال السنوات الماضية للخروج من دوائر التأطير تلك. وبالوقت نفسه، كنت مدركة لعدم امتلاكي الأدوات الكافية للقيام بثورتي الخاصة ودعمها. فقررت العودة لألمانيا واكتساب المزيد من الخبرة ولنر ما الذي سيحدث بعد ذلك.

2006

التجربة الثانية:

عرض بعنوان «عواقب، con-sequences»

خلال صيف عام 2006، قمت بزيارة طويلة لدمشق، قمت خلالها بالتدريب مع بعض من طلاب المعهد في عطلتهم الصيفية، ومن ثمة تقديم أول عمل متكامل لي ككوريوغراف وراقصة. كانت أول تجربة عمل مستقل لي في سورية بعيدًا عن مؤسسات الدولة. كنت قبلها قد شكّلت فرقتي الخاصة «فرقة ميوسوتس للمسرح الراقص»، الألمانية - السوريّة بالمشاركة مع إنغو شفايكر، وقدّمنا أول عرض لنا «عواقب» على خشبة مسرح الدراما في دار الأوبرا في دمشق عام 2006، استمرّ العرض لمدة 3 أيام.

 موضوع العمل: كانت البداية وصفًا للبنود الشرعية الدولية لحقوق الإنسان، وكانت سورية ضمن الدول الموقعة عليها، لكن من دون أي التزام أو تطبيق فعليّ لها، ومن دون ذكرها ضمن أي منهج دراسيّ في المدارس، وتناول النص نظام الحكم والمجموعات والعلاقات الإنسانية والعداوات داخلها وآليات القولبة والاستنساخ المستخدمة، وكيف تُقابل أية محاولة للتغيير بالقمع والمحاربة، فتبدأ التساؤلات عن حقيقة ذاتك، وإن كنت تريد الدخول أم الخروج من هذه الدائرة، تضمّن العرض نقدًا شديدًا غير مباشر للمنظومة الفاسدة والمسؤولين، وتمسّكهم المرَضيّ بالسلطة، مع لوحات لمعرض التحرر للفنان السوري سعد يكن، والموسيقى كانت لكنان العظمة.

واجه العمل البعض من المشاكل والعقبات من قبل الإدارة، لكنه في النهاية لاقى إقبالًا شديدًا، وحضره حوالي 3000 شخص، وكُتب عنه العديد من المقالات والنصوص النقدية.

2008

التجربة الثالثة:

عرض بعنوان «العقد، The Contract»

بقيت في ألمانيا حتى عام 2008، ثم عدت إلى سورية، وشاركت في فعاليات دمشق عاصمة الثقافة العربية، من خلال عرض بعنوان «العقد»، موضوع العمل: وصف العقود الضمنية الموجودة بين الإنسان ونفسه، وبينه وبين المجتمع، وبينه وبين النظام، وعالج بشكل خاص وضع المرأة في العالَمين العربي والغربي المتشابهين داخليًا والمختلفين ظاهريًا، واحتوى العرض على مختارات من قصائد الشاعر السوري أدونيس «تاريخ يتمزق في جسد امرأة»، وقُدّم أكثر من مرة في دمشق وفي عدة بلدان حول العالم.

فعالية دمشق عاصمة الثقافة كانت قد تمت تحت إدارة الكاتبة والمخرجة المسرحية حنان قصّاب حسن برعاية وتكليف مباشر من أسماء الأسد، وكان قد أُبعد رياض نعسان آغا (وزير الثقافة في سورية من عام 2006 حتى 2010) تمامًا عن إدارة هذه الفعالية. وأُزيلت جميع القيود التي كانت تُمارس من قبل من الهيئات الرسمية، مثل: وزارة الثقافة، مديرية المسارح والموسيقا، هيئة الرقابة والتفتيش، وهذا ما سمح لفعالية دمشق عاصمة الثقافة بترك بصمة عميقة في المشهد الثقافي في سورية، وقدم مثالًا لما يمكن أن يكون عليه الوضع في سورية في حال أعطيت الخبرات المحلية الضوء الأخضر والميزانيات المناسبة للعمل.

2011-2009

التجربة الرابعة:

ملتقى الرقص المعاصر في دمشق «International Dance Platform of Damascus»

بعد مدة من عودتي للاستقرار في سورية (التي كانت في صيف عام 2008 ) وتحديدًا في نيسان/ أبريل عام 2009، نظمت أول ملتقى للرقص المعاصر في دمشق.

 « Damascus Contemporary Dance Platform DCDP »

في دار الأوبرا واستمر على مدى عامين 2009-2010، وقررت إيقافه عام 2011 قبيل الافتتاح المخطط بأسابيع قليلة.

في السنة الأولى 2009، كان السيد ياسر الأيوبي هو مدير الدار، وقد كان متعاونًا لحد بعيد، لكن السيدة حنان قصاب حسن هي التي صارت المديرة في السنة التالية 2010، وكانت متعاونة جدًا، ودعمت المهرجان بشكل كبير. ولكن في الوقت الذي لم يتجاوز دعم مدير الأوبرا في العام الماضي، السيد ياسر الأيوبي، التنفيذ اللوجستي والتقني، شمل دعم الدكتورة حنان الملتقى الصعد الإعلامية واللوجستية والمعنوية حتى المادية. وكان من المقرر أن يزداد الدعم في السنة القادمة.

حاولت حينها الدكتورة حنان إقناعي بإلحاق الملتقى بالدار، بحيث يصبح مهرجانًا لدار الأوبرا، وأقوم أنا بتنظيمه، إلا أنني رفضت ذلك لعدم ثقتي بالمنظومة، ولأن الدكتورة حنان التي قامت بكل هذا العمل الرائع خلال دمشق عاصمة الثقافة يمكن أن يتم عزلها عن دار الأوبرا لأتفه الأسباب، ويمكن أيضًا عزلي أنا كمديرة مهرجان، أو أنه سيتم فرض الكثير من الأشياء التي قد لا تناسب رؤيتي للمهرجان، والتي أعرف مسبقًا أنها لا تتوافق أبدًا مع الذوق العام للمسؤولين الثقافيين في سورية بالعموم.

وقد كان ذلك الرفض إنقاذًا للمهرجان، فبالفعل، وبعد فترة قصيرة جدًا من اختتام فعاليات المهرجان التي ضمت العديد من العروض وورشات العمل والجلسات الحوارية، والتي لاقت ترحيبًا كبيرًا من الجمهور، تم عزل الدكتورة حنان قصاب حسن من منصبها كمديرة لدار الأوبرا بشكل مفاجئ تمامًا.

وتولت من بعدها السيدة ماريا أرناؤوط.

العلاقة مع دار الأوبرا بالعموم كانت تجربة إيجابية إلى حد بعيد، وكانت تحمل مستقبلًا واعدًا قابلًا للتطوير الشديد، لكن العقبات الكبيرة كانت تكمن في التعامل مع وزارة الثقافة ومديرية المسارح والموسيقا.

فمثلًا، اشترطت الوزارة ومديرية المسارح أن يقدم المهرجان تحت اسم وزارة الثقافة ومديرية المسارح أولًا، ودار الأوبرا ثانيًا، وفي النهاية يُكتب بالتعاون مع «تجمع تنوين للرقص المسرحي»، على الرغم من أن المشروع مستقل وحرّ تمامًا، ويخضع لتمويل خاص، ولا علاقة للوزارة أو غيرها بإدارته أو تنظيمه.

كان الاتفاق أن تُؤمّن تكاليف الطيران والعروض من قبل المراكز الثقافية، بينما يكون الجانب السوري مسؤولًا عن كل ما يتعلق بالأمور اللوجستية في دمشق مثل: الإقامة والتنقلات والطعام وبيع البطاقات وتأمين الدعوات والاهتمام بالفرق وتنظيم ورشات العمل...إلخ، وكنت أتحمّل 90 % تقريبًا من عبء العمل بشكلٍ فرديّ.

 وعدت مديرية المسارح والموسيقا في المهرجان الأول المهرجانات بتأمين باص وسائق لنقل الفرق المدعوة من الحدود اللبنانية، وإيصالها إلى دمشق، ثم من دمشق إلى عمان، وذلك كون المهرجان إقليميًا ويتم بالشراكة مع ثلاثة مهرجانات أخرى في لبنان والأردن وفلسطين. لكن السائق المنشود وباصه اختفيا قبل الموعد بيوم، واضطرت إلى تأمين نقل الفرق بآخر لحظة، بالإضافة إلى الذهاب بنفسي للاستقبال، ولاحقًا لم أتلقَ أي تفسير عما حصل، بل على العكس جعلوني أوقّع على ورقة كُتب فيها 12 اسمًا لا أعرف منهم إلا ثلاثة: رئيس المؤسسة والسكرتيرة وسائق الباص الذي لم يذهب لاستقبال الفرق، وتنص هذه الورقة على صرف مكافآت ماديّة من خزينة المديرية مقابل عمل الأشخاص المذكورين في الورقة مع المهرجان. والمضحك المبكي هو أنهم طالبوا أيضًا بحصتهم من بطاقات الدعوة التي اتُّفق عليها قبل اختفاء السائق، وهذا دليل واضح على فساد هذه المنظومة، بدءًا من أصغر موظف وانتهاءً بالمدير، إذ تقتصر وظيفتها على فرض رقابتها وسلطتها على كل عرض، وانتظار منح موافقتها دون أي دعمٍ يذكر، بل على العكس، محاولة تخريب الأعمال الثقافية الحقيقية.

بدأ المهرجان بالتوسع، على الرغم من العقبات العديدة، وازداد عدد الفرق المشاركة، منها العربية والسورية والأجنبية، حتى عام 2011، حين تزامنت الثورة السورية مع جهوزية المهرجان المُفترض إطلاقه في شهر نيسان/ أبريل من كل عام، وكانت العقود مع جميع الفرق قد وُقّعت بالفعل، ومع أولى التظاهرات السورية بتاريخ 23 آذار/ مارس 2011، اعتُقلت المسؤولة الإعلامية عن المهرجان «ضحى حسن»، بالإضافة إلى عدد كبير من أصدقائي، وفي ذلك الوقت، بدأ النظام بتكثيف الفعاليات الثقافية، ليُظهِر للإعلام صورة مناقضة للواقع، كما استغلّ النظام فئة الفنانين، ودفعهم للظهور على التلفاز، والترويج لفكرة المؤامرة ومسؤولية المجموعات الإرهابية المسلّحة عن أعمال الشغب، رفضتُ طبعًا المشاركة بهذه التظاهرة التافهة، واتصلت بالمراكز الثقافية أعلمهم قراري بإلغاء المهرجان، ورفعت كتابًا لوزير الثقافة آنذاك «رياض عصمت وزير الثقافة في سورية من 2010 حتى 2012»، كتبت فيه بما معناه أنه: بناءً على تقارير التلفزيون العربي السوري، والوضع غير الآمن حاليًا، فأنا لا أستطيع ضمان سلامة الفرق القادمة إلى سورية، ولذلك سألغي المهرجان حتى إشعارٍ آخر.

فوجئت باتصال هاتفي من قبل الوزير أو نائبه من تركيا يخبرني أنه غير مسموح لي أن ألغي المهرجان، وأصرّ عليّ أن استمر بالتحضيرات، وعند عدم تراجعي عن موقفي، قررت وزارة الثقافة أن تسرق عملي وتكمل المهرجان من دون موافقتي، لذلك تواصلت مع جميع الفرق وجعلتهم على اطلاع بالحقائق، وأوضحت لهم قراري ورفضي لإقامة المهرجان في هذه الظروف، كما أصدرت بيانًا صحفيًا نشرته في العديد من الصحف والمواقع، أعلنت فيه صراحةً إلغائي المهرجان، وبالفعل لم تأت الفرق، ولم يتم إقامة المهرجان منذ ذلك الحين.

دعمت المراكز الثقافية الأجنبية والسفارات الموجودة في سورية، ومنها معهد غوته، حتى عام 2011، كثيرًا من المبادرات الفردية، ومشاريعًا لفنانين سوريين مستقلين، لكن طبعًا تحت الرقابة الكاملة والتامة من أجهزة الدولة، وبشكل خاص: الأفلام، فكل فيلم يحتاج موافقة خطية مسبقة قبل عرضه، على سبيل المثال عرضتُ جميع أفلام المخرج السوري عمر أميرلاي، تكريمًا لوفاته، في معهد غوته بالتعاون مع مدير المعهد الألماني، على مسؤوليتنا الشخصية، على الرغم من عدم حصولي على موافقة وزارة الثقافة على عرضها، وشهدت الفعالية إقبالًا كبيرًا من عامة الناس، بالإضافة إلى بعض رجال المخابرات بهدف الرقابة.

التهديدات

في عام 2010، قررت عرض أفلام الراقصة الألمانية بينا باوش - Pina Bausch ضمن المهرجان كتأبين لها بعد وفاتها، وقد كلفني الأمر مجهودًا كبيرًا للحصول على الأفلام، بسبب حقوق الملكية بعد وفاتها. لكن قسم الرقابة في وزارة الثقافة، الذي كنا قد أرسلنا له الأفلام على سبيل الروتين، قام بمنع عرض الأفلام متحججًا بلقطات شبه عارية أغلبها لبينا باوش نفسها، والتي تظهر فيها هزالتها وكبر عمرها من خلال هذا العري. ومنع عرضها بحجّة أنها تظهر شبه عارية، وعند جدالي مع مساعد الوزير (السيد نزيه خوري) هددني بزجي في السجن إن حاولت عرضها على الرغم من المنع. (وكنا قد قمنا بحملة إعلامية كبيرة لأفلام بينا باوش، وحجزنا صالة الأوبرا، وصالة العرض في معهد غوته، لهذا الغرض، وقمنا بالتعاقد مع نقاد ومحاورين لأجل التحدث عن مسيرة بينا باوش التي تعتبر من أهم أيقونات الرقص المسرحي في العالم).

ولم تكن المرة الأخيرة، ففي عام 2011، ذهبت في زيارة إلى ألمانيا، واتصل بي أصدقائي، وأخبروني أن أبقى وألا أعود إلى سورية، لأن المخابرات قد سألت عدة مرات عني، خاصة لمن تم اعتقالهم من أصدقائي. بالإضافة إلى تهديدات لي تمت عبر التواصل مع والدتي، ونصحها بأن تقوم بالسيطرة على تحركاتي كيلا يصيبني "مكروه": فالسيارات تسير بسرعة كبيرة في هذه الأيام، وقد تضرب واحدة منها ابنتها، إن لم تكف عن التصرف بهذه الطريقة.

 

وائل سواح

1

لعب المثقف السوري دورين مختلفين: من جهة كان مثقفًا ومبدعًا في مجالات فنية وأدبية متنوعة، ومن جهة ثانية كان عليه أن يلعب دور السياسي الناقد والمعارض، بأشكال مختلفة. فمنذ أن راحت المعارضة التقليدية تجري في فلك السلطة، منذ تسلم الأسد الأب الحكم، وإنشائه الجبهة الوطنية التقدمية كرشوة لقادتها، لم يبق في الساحة سوى المعارضة الإسلامية. أما المعارضة الديمقراطية واليسارية والعلمانية، فكان عليها إما أن تؤسس حركات سياسية صغيرة (مثل رابطة العمل الشيوعي واتحاد الشغيلة)، وأرسلت للسجون أفواجا إثر أفواج، أو أن تكلّف (ليس بالمعنى الحرفي) المثقفين والمبدعين الذين يشاطرونها الرأي والأيديولوجيا للتصدي لهذه المهمة، ترميزًا وتكثيفًا وبلاغة، وأحيانًا مباشرة.

في عام 1977، أصدرنا، جميل حتمل وحسان عزت وبشير البكر وفرج بيرقدار وفادية اللاذقاني وخالد درويش ورياض الصالح الحسين وأنا، كراسة أدبية شهرية، للكتابة غير الرسمية. قلنا: نريدها كتابة خارج النص، وخارج القوانين، وخارج الصحافة الرسمية. وكنا نطبعها على الآلة الكاتبة، ثم نصورها على الورق الحساس (جستتنر) ثم نطبعها، ونجمع الأوراق سوية ونخرزها، وننطلق إلى الجامعة ومقاهي الأدباء والشوارع لنبيعها بليرة سورية واحدة. وكتب معنا ممدوح عدوان وعلي الجندي وفرج بيرقدار ومحمود شاهين وخالد درويش، ورسم معنا يوسف عبدلكي وسعد يكن وألفريد حتمل، وقرأَنا كلُّ من كان مهتمًا، وقلبه علينا، خوفًا من زنزانة طائشة قد تصيبنا. وقد أصابت رياض بالفعل، حيث اعتقل لبضعة أسابيع، وحقق معه في شكل الكراس ومحتواه. واعتقل أيضًا فرج بيرقدار وخالد درويش. كان هدفنا من الكرّاس الخروج عن سلطة الرقابة، وسلطة الشعر التقليدي، وسلطة الأحزاب السياسية المهيمنة على الأدب والفن، الأحزاب التي فرضت علينا أيمن أبو شعر شاعرًا كبيرًا، ورائق النقري فيلسوفًا معاصرًا. لم تكن الصحف تنشر قصائدنا وقصصنا، فقلنا ننشرها نحن، وفعلنا، مخلّفين وراءنا موجة نقدية أعطت ما كتبناه حقّه وقتها. هذا كان فعلًا ثقافيًا، ولكنه كان كفاحيًا وسياسيًا أيضًا. والسلطة تعاملت معه كذلك.

وحين صدرت مجموعتي الأولى "لماذا مات يوسف النجار"، كان المناضلون الشباب يوزعونها كمنشور سرّي. وحين أقام يوسف عبدلكي معرضه الأول، كان بيانًا سياسيًا كما هو نتاج فني، وقل القول نفسه فيما يتعلق بأول مجموعة شعرية لفرج، وأيضًا أفلام نبيل المالح وعمر أميرلاي ومحمد ملص وأسامة محمد.

وكان الكتّاب في لقائهم الشهير مع المسؤولين، في عام 1980، هم من وجه الحربة إلى صدر الظلم والعسف المخابراتي والتمييز الطائفي، وفي مقدمتهم الشاعر الراحل ممدوح عدوان، والراحل ميشيل كيلو.

وتصدى المثقفون مرة أخرى للسياسة، فأصدروا في عهد الابن بيان الـ 99، ثم بيان الألف، ثم شاركوا في المنتديات، وكتبوا في الصحف العربية. وأخيرًا كان المثقفون في طليعة من خرج للشوارع ضد الطاغية الصغير مع الثورة السورية.

2

النسبة العظمى من المعتقلين والمغيبين والمهجَّرين والممنوعين من السفر خسروا حياتهم وحريتهم بسبب حرية التعبير. أنا شخصيًا دفعت كما تعلم ثمنًا كبيرًا لحرية الفكر: عشر سنوات أيام الأب، ويومين اثنين أيام الابن، في السجن. واعتقل يوسف عبدلكي وهالة العبد الله وفرج بيرقدار ورياض الصالح الحسين وحسن حسن، ومُنعت أفلام أميرلاي والمالح ومحمد، ومُنع من السفر مئات المثقفين والمفكرين السوريين، وأهين رجل بعظمة الطيب تيزيني في الشوارع.

لم يكن من الممكن نشر أي كتاب من دون موافقة الجهات المختصة التي تعيّنها وتراقب أداءها الأجهزة الأمنية. وحين منع اتحاد الكتّاب نشر مجموعة لفرج بيرقدار، كتب أحد المانعين رأيًا إيجابيًا في الشكل والمضمون، ولكنه توقف عند الإيحاءات الرمزية للمجموعة. وتمّ تسريح المئات من وظائفهم في الصحف والتلفزيون بسبب آرائهم، وكذا سُرّح آلاف المعلمين في الجامعة والمدارس.

كان حافظ الأسد يجيد الفكاهة، ولكن ابنه لم يكن حتى يعرف معناها. فبينما كان الأسد الأب يعتقل ويمنع من السفر، صار الابن يقتل ويغتصب ويعفّش. والابن هو من حطم أصابع الفنان علي فرزات بسبب رسمه رسومًا كاريكاتورية، وعذّب بوحشية الفنان نجاح البقاعي.

3

سمح النظام في أوقات راحته ببعض الانفراج الثقافي، ولكن الهوامش لا تحسب فقط لصالح رأس الهرم، فالأمانة تقتضي منا أن ننوه بجهود بعض الأفراد الذين كانوا جزءًا من النظام، ولكنهم كانوا أكثر انفتاحًا، منهم مثلًا محمود سلامة الذي ترأس تحرير جريدة الثورة لبعض الوقت. ولعبت نجاح العطار حين كانت وزيرة للثقافة دورًا في فتح بعض الهامش للمثقفين. كان في حمص في مطلع شبابي رئيس تحرير للجريدة المحلية اسمه فائق المحمد، وقد فتح المجال واسعًا أمام النقد والإبداع، ونشر لي وأنا في التاسعة عشرة مقالات كانت تعتبر في وقتها جريئة جدًا.

ولكن بعض الهامش فرضها مناضلون شجعان، بينهم الفيلسوف أنطون مقدسي، مدير مديرية التأليف والترجمة والنشر في وزارة الثقافة، وأيضًا الصديق الراحل عبد الكريم الضحاك الذي كان يستضيف مثقفين معروفين بمواقفهم المعارضة في مركزه، وكان يحضر نشاطاته مئات الأشخاص.

4

الدكتاتور يكره الانتداء والتنادي والأندية والمنتديات. نقطة. فالانتداء جمع لأكثر من رأي، وتمازج وتبادل للآراء، وهو أخشى ما يخشاه الدكتاتور. ولا يقتصر ذلك على الثقافة، ففي بلدي حمص، كان في مطلع شبابي عدد كبير من النوادي جمعها البعث في ناديين اثنين، وكذا فعل في كل المدن السورية، لأنه أريح في المراقبة والتحكم والسيطرة.

5

أشعر أنني محظوظ لأنني لم أكن موظفًا حكوميًا، ولم يُفرض عليّ بالتالي قول أو كتابة ما لا أريد قوله أو كتابته. كثير من أصدقائي كان عليهم أن يراعوا الخطوط الحمراء، وبعضهم اضطر إلى كتابة بعض المديح للدكتاتور. العقبات التي واجهتني شخصيًا كانت تتلخص في المنع من النشر، فقد رفض اتحاد الكتّاب مثلًا أن يضمني إلى عضويته (وخيرًا فعل)، بل إن عبد الله أبو هيف أخفى طلب الانتساب، ثم طلب مني طلبًا جديدًا، ما يقتضي نسخًا أخرى من كتبي، وترشيحًا إضافيًا من عضوين آخرين في الاتحاد، فقلت له: "يفتح الله"، طبعًا لنتذكر أن الكاتب يختلف عن الفنان التشكيلي أو المسرحي أو السينمائي. فالأول لا يحتاج إلا إلى ورق وقلم (أو لابتوب). الآخرون يحتاجون إلى خشبة أو كاميرا أو صالة عرض، لذلك لا يمكنني التشكي كثيرًا.

ثم جاء منعي من السفر لأعوام مديدة، ما منعني من المشاركة في مؤتمرات ثقافية ومنديات ومحاضرات في أكثر من بلد. ويبقى السجن: أراد الدكتاتور أن يكون السجن عائقًا، ولكن أعادني إلى الكتابة، ففي السجن نشرت روايتي "قالت إيمان"، وعددًا كبيرًا من القصص القصيرة والمقالات النقدية، استطعت تسريبها لاحقًا، ونشرها في عدد من المجلات العربية.

6

استطاع حافظ الأسد وولدُه تدمير النسيج المجتمعي للأمة السورية، جنبًا إلى جنب مع تدمير الاقتصاد والثقافة والسياسة والدولة. واعتدى الأسدان على الثقافة بكل السبل الممكنة، فحولاها من إبداع إلى اتباع، ومن حرية إلى قيد، ومن تحرر إلى عبودية. وحاولا تحويل المثقف إلى تابع ومصفّق ومطبّل ومزمّر. كثرة من المثقفين وقعوا في هذا المطبّ. آخرون رفضوا وتحمّلوا نتيجة رفضهم فقرًا وجوعًا وسجنًا وتعذيبًا. ونجح الأسدان مع تابعهما الحزب الشيوعي بخلق جيل من الكتاب والفانين الذين رفضوا الحرية ومجّدوا الالتزام؛ احتقروا الإنسان ومجّدوا الشعب؛ امتدحوا الحروب والقتل باسم الثورة والتحرير، ومزجوا بين الوطن والقائد، بين الدولة والحزب، وبين الأرض ومراكز المخابرات. وعرفنا شعراء مثل يوسف الخطيب وأيمن أبو شعر وصابر فلحوط وآخرين، بينما كافح حامد بدرخان ومنذر المصري وحسان عزت. من منا يذكر الآن محمد خير علاء الدين؟ يحلو لي أن أقول إنه واحد من أهم عشرة شعراء عرب، ولكن أحدًا لا يذكره اليوم. حين خرجت من السجن، سألت عنه فقيل لي إنه يبيع الصابون في سوق الخضار في مساكن برزة. هناك زرته، وسألته عن أحواله. ابتسم وقال لي: "الحمد لله. آخر اليوم بطلع لي ميتين تلاتمية ليرة"، هذا الرجل قبل أن يصير بائع صابون كتب: "البلاد مثل الزوجة، ليست جميلة فقط، بل الحزن سرعان ما يبدو عليها. لو كنت متضايقًا على غير ما يرام من جمالها الغزير، صباح أيام الجمعة، للاطفت وجهي ببنانها الرخص. تتألم من سكوت وجهي وهي تخاطبه: لا تدع الألم يسيطر عليك، وهي شبه ملتصقة تواسي، تفتعل حزنها، لأبتعد به عما في رأسي من ألم، وأنشغل".

 


 

واحة الراهب

حول الوضع الثقافي في سورية خلال خمسين عامًا: 1963ــ 2011

 

قبل استلام حافظ الأسد للسلطة، كان الكاتب والشاعر والمثقف والمبدع هم النجوم الحقيقيون بالنسبة إلى الناس، إذ شكلوا الصوت البديل التعويضي عن أفول نجومية مرتدي البدلة العسكرية، الذين خبا ضوءهم بعد أن خيّبوا الآمال المنعقدة على أوسمتهم البراقة لصد العدوان الإسرائيلي بعد هزيمتهم في حرب 1967، وقد أكثروا من تقلّدها وتقلّد الحكم والسيطرة على السلطة، بادعاء مقدرتهم الزائفة على تحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة. حتى إن الأسد الأب قام بانقلابه الأخير على رفاقه هؤلاء بادعاء الحجة ذاتها. وكان تدمير الثقافة عبر تكميم أفواه المثقفين المبدعين هو أفضل تجسيد لشعاره المفضل "لا صوت يعلو على صوت المعركة"، وكأن النصر في المعارك لا يأتي إلا عبر إلغاء حقوق البشر وتحويلهم إلى دواب ترعى وتُعلف وتخنع. وتم تكبيل الكثير من أدوات الثقافة ومنجزاتها، بدءًا من مجلة أسامة للأطفال التي تراجعت إلى أن اندثرت في النهاية، وانتهاءً باحتكار جميع المنابر الثقافية والفنية ونقاباتهم، والتحكم بوظائفهم ولقمة عيشهم، من صحافة ومجلات واتحاد للكتاب ونشر وتوزيع ومسرح وإعلام وتلفزيون وسينما. وتمت لهم السيطرة شبه التامة على السينما عبر إنشاء المؤسسة العامة للسينما، التي احتكرت العمل والإنتاج والاستيراد والتوزيع السينمائي، وأدت إلى تراجع دور إنتاج القطاع الخاص، إن لم نقل اندثاره تقريبًا، وتراجع معه التوزيع والعرض السينمائي أيضًا، لكون أغلب المنتجين هم أصحاب صالات العرض، وقد مُنعوا حتى من بيع صالاتهم أو التصرف بها، أو حتى استيراد الأفلام التي يرتأون أنها مناسبة لعروضهم لتحقيق مرابح تضمن استمراريتهم. بينما كان القطاع العام غير معني بالربح الذي تتطلبه أيّ صناعة لتحقيق استمراريتها، وبالتالي كان غير معني بتطوير ذاته.

عمدوا حينها لسحب البساط من تحت أقدام المثقفين والكتاب والشعراء، لصالح تكريس نجوم الشاشتين الكبيرة والصغيرة. لظنهم أنهم أقل ثقافة وأكثر طواعية في التبعية لهم لامتطاء ظهورهم من المثقف المبدع. لكن هذا الأمر لم يطل كثيرًا، لكون مبدعي السينما والتلفزيون يحملون الهموم والقهر ذاتها الطاغية على الخوف كما لدى المثقف المبدع. وخاصة بعد دخول القطاع الخاص معترك الإنتاج التلفزيوني. على الرغم من أن معظم منتجيه كانوا من مسؤولي النظام، أو من مبيضي أموالهم، لكنهم اضطروا لفتح هامش حرية التعبير عن الواقع الحقيقي لحياة السوريين، لكسب المصداقية، وإقبال الجمهور على أعمالهم الهادفة إلى الربح، كأي صناعة خاصة أخرى تهدف إلى الاستمرار. فعوضت الدراما عن غياب دور المثقف بتعبيرها عن الواقع السوري بمصداقية، والمساهمة نسبيًا بتشكيل وعيه، لأن منابرهم الأخرى بقيت ممنوعة على أصحاب الرأي الحر، وغالبًا ما توزعت مهامها ونياشينها ومكتسباتها على الموالين للنظام. وكذلك الأمر بالنسبة إلى نشر الروايات أو الدراسات أو الشعر، لم يكن أحد من أصحاب الرأي الحر ليتجرأ على النشر في الداخل بحرية من دون التفاف ومواربة.. بل وبقفز على الواقع وتزييف له أحيانًا. كما كان لأغلب دور النشر في الدول العربية مصالحها التوزيعية مع النظام أيضًا. أما بالنسبة إلى السينما التي كانت هي المنبر الممتلك لهامش من الحرية أوسع مساحة نسبيًا آنذاك، لكونها موجهة لمهرجانات الخارج، وجمهورها المحلي محدود مقارنة بالتلفزيون والإعلام، لا يشكل خطرًا عليهم، فقد انحسر هامشها الحر بشكل كبير لصالح الإنتاج التلفزيوني، لاقتصار إنتاجها على القطاع العام وحده. وهو ما اتضح أكثر بعد اندلاع الثورة السورية، إذ ما عادت المؤسسة تنتج أفلامًا إلا لأبواق النظام ومواليه. كما تم استغلال النظام لنجوم الدراما، ومحاولته تسخير كل من دعمهم من الفنانين للظهور إعلاميًا بهدف الدفاع عنه، وتزييف الوقائع، والتغطية على إجرامه بحق شعبه، بعد ترهيبهم باقتلاع حنجرة مغني الثورة (إبراهيم قاشوش)، وتحطيم أصابع رسام الكاريكاتير المعارض لهم (علي فرزات)، وقتل واعتقال واختفاء وتهجير الكثير من الفنانين والمبدعين، الذين وقفوا مع الثورة، وتساووا في المصير مع كل مثقف ومواطن امتلك رأيه الحر ووقف ضد النظام. كل ذلك تم تحت شعار لحافظ الأسد، اعتُبر من مقولاته الخالدة "لا رقابة على حرية الفكر إلا رقابة الضمير".

كان فكرنا وضميرنا الحران يُنتهكان يوميًا وبكل الوسائل من الرقابة الأمنية عليهما معًا، حتى إن كثيرًا من الأعمال الفنية مررت بأسلوب كوميدي ساخر كيف أن الرقيب الأمني بات متحكمًا حتى بأحلامنا وكوابيسنا. وكان للالتفاف على الرقابة بالضحك عبر الكوميديا السياسية مفعولًا سحريًا لا يمكن مقاومته، حتى من رأس النظام ورقابته ذاتها. كذلك عبر الذهاب إلى التاريخ دراميًا، للإيحاء بإسقاطات على ما هو معاصر ويحدث الآن، ونعجز عن الخوض فيه صراحة وبشكل مباشر. وكنا نحاول الالتفاف كتابة وإخراجًا عبر مدلولات الصورة، لتمرير الكثير من الإيحاءات والدلالات غير المباشرة، التي يستوعبها المشاهد المغلول بالقيود، بذكاء وفطنة تحسب له. وهذا ما استدعى منا فكفكة نص السيناريو، وقراءة ما بين السطور، وتحميل ما نكتبه أو نخرجه من صور تعبق بدلالاتها الموحية بإسقاطاتها، وهو ما منح الأعمال السورية بصمة خاصة وعمقًا أكبر وأكثر إبداعًا، بتعبيرها عن ذاتها بمواربة وذكاء بعيدًا عن المباشرة القاتلة للإبداع.

لكن الأمر كان مختلفًا بالنسبة إلى كتابة الرواية، التي لا تمتلك خاصية الصورة والصوت، لتمرير الدلالات والإسقاطات على الوضع الراهن، إلا عبر الإيحاء باللغة المؤثرة لاستنباط صورة من قوة تعبيرها اللغوي لا غير. وهو ما دفعني لتأجيل البدء بحياكة روايتي الأولى (مذكرات روح منحوسة) وما تلاها من روايات، إلى ما بعد اندلاع الثورة، وتحطيمنا لحاجز الخوف، على الرغم من بدئي المبكر بصياغة أفكارها وهيكلها العام، وكان ذلك التأجيل لمصلحة روايتي، التي أطلقت عبرها العنان لكل أفكاري المراد قولها، ومنحني ذلك بُعد الرؤية لاستخلاص نهاية لروايتي، كانت عالقة في فجوة الخوف التي لا أفق لها.

حتى المسرحيات والعروض السينمائية والفنية والتلفزيونية كانت تُمنع وتحظر بمجرد اشتباه الأمن بدلالات رسائلها، إن كانت تلامس ولو قليلًا مفاهيم الحرية.. أي حرية مهما كانت سياسية أو اجتماعية أو دينية، أو جنسية تدافع عن مساواة المرأة بالرجل، على الرغم من ادعاء النظام بانتمائه لعلمانية مزيفة. أما من سمح لهم النظام بهامش ضيق من حرية التعبير في أعمالهم أو أفلامهم أو مسرحياتهم الفنية، فهم أشخاص محدودون محسوبون عليه. وذلك حين يراد منهم التنفيس المضبوط المتحكم به، عن المواطن الذي وصل لحافة الانفجار قهرًا وقمعًا. كمسرحيات دريد لحام التي تمرر بعض السخرية من المخابرات والفساد والأوضاع العامة، لتنهيها بنصر القيادة الحكيمة في حربها التحريرية مع العدو الإسرائيلي، كهدف أسمى يمحي ويبرر كل فساد لهم قبلها. أي ما يكرس ادعائها بكونها جبهة صمود وتصدي بوجه أعداء الأمة، الحاملة لعبء أحلام الأمة كلها على كاهلها، ولا ضير لها من بعض الهفوات. على ألا يتم التطرق لعمق الصراع العربي الإسرائيلي بجوهره، وهو ما لمسته من خلال تجربتي مع مؤسسة السينما عبر فيلمي (رؤى حالمة)، الذي تكرِّس دلالاته عمق توحد العدوين، الخارجي الإسرائيلي الذي يجتاح لبنان 1982، والداخلي المتمثل باستبداد الأب والمجتمع والسياسة ضد الإنسان والمواطن السوري عامة والمرأة خاصة، كوجهين لعملة واحدة. وذلك بعد أن تم تعييني بالمؤسسة العامة للسينما لكوني أول امرأة مخرجة سينمائية لديهم استكملت دراساتها العليا السينمائية بفرنسا، ولحاجة وزارة الثقافة التي كانت ترأسها امرأة آنذاك (نجاح العطار)، لاستكمال المظهر الحضاري المدعي تمثيل المرأة بالمؤسسات، وخاصة المتطلبة أعمالها للقيادة التي مازالت للآن حكرًا على الرجال. ذاك المظهر الزائف الذي عرَّته تجربة فيلمي الروائي الأول الطويل (رؤى حالمة)، إذ كان أحد أكبر ضحاياه وضحايا ذهنية اللجنة الرقابية التي تقرر ما هو السيناريو الأفضل لإنتاجه. وكانوا قد سجّلوا إعجابهم وأشادوا بكل محاضرهم بتميزه وبالبصمة الأنثوية الخاصة للسيناريو الذي ألفته لهذا الفيلم، وعلى الرغم من ذلك تكرر لمدة سبع سنوات إضافة ملاحظات جديدة تعجيزية لعرقلة إنتاج الفيلم، الذي، باعتراف مدير المؤسسة (مروان حداد)، هو أفضل النصوص التي كانت لديهم آنذاك. لقد لخص خزي قراراتهم أحد زملائي المخرجين (سمير ذكرى) حين قال لي: (لو كان هذا النص لي أو لمخرج رجل، لما تجرأوا على وضع مثل تلك الملاحظات التعجيزية). إلى أن دفعوني لرمي السيناريو جانبًا، وإعلان حربي الإعلامية عليهم لفضح تزويرهم، ولم يتمكنوا من دحضها أو الرد عليها لإدراكهم حجم تجنيهم على نصي من دون مبرر. إلى أن أسهمت بإنهاء تلك الإدارة الفاسدة بعد عامين من تلك المعارك الإعلامية، وقررت الإدارة الجديدة للمؤسسة إعادة الاعتبار، وإنتاج هذا السيناريو الذي ظُلم بحسب رأي مديرها الجديد، وعلى الرغم من ذلك ظهر من جديد زملاء لي مخرجون حاولوا مع الإدارة الجديدة منع إنتاج فيلمي من جديد.

وبصراحة، حتى الآن، لا يمكنني البت إن كان سبب تجنيهم السابق على نصي هذا طوال سبع سنوات، بسبب ذهنيتهم الذكورية المتخلفة، لكوني امرأة ستنافسهم على احتكارهم الذكوري لمهنة تتطلب القيادة كالإخراج، ولكون النص يربط بين العدوين، الداخلي الذكوري الاستبدادي، والعدو الخارجي. أم بسبب توجيهات خفية ضد النص لكونه يتطرق للصراع العربي الإسرائيلي واجتياحه للبنان في 1982، وهو ما تكرر في مهرجان دمشق السينمائي عام 2003، حين شارك الفيلم فيه. وعلى الرغم من توقع الجميع حصده للجوائز الكبرى، لكن والد أحد الممثلين بفيلمي، وهو ضابط بالجيش، أعلمنا أنه على الرغم من مسموعيات فيلمنا الرائعة المؤهلة لفوزه، فعلينا ألا نتأمل الفوز بأي جائزة، لكون التوجيهات الأميركية للنظام المهدد باجتياحهم بعد غزوهم للعراق، قد أملت عليه شروطها، وجزء منها عدم التطرق ثقافيًا وإعلاميًا لأي صراع مع إسرائيل، أو لأي طرح للوحدة والقضايا العربية المشتركة، والأمران متضمنان بفيلمي هذا. لذا تم فعلًا استبعاد فيلمي من كل الجوائز، ومن المشاركة بالكثير من المهرجانات، على الرغم من فوزه جوائز عدة في أماكن سمح له بصعوبة بالمشاركة فيها، وعللا الرغم من حفظه بمتحف السينما الياباني، كأول فيلم سوري وعربي يحفظ لأربع قرون قادمة.

وبعدها تم تهميشي واستبعادي قسرًا من المشهد الفني، واستبعاد كل مشاريعي كمخرجة وكممثلة وككاتبة سيناريو. وخاصة بعد لقاء بشار الأسد بنا كفانين، ومواجهتي الصريحة له بحقائق وضع البلد والرقابة والافتقار حتى لهامش من الحرية والديمقراطية، ومسؤولية ذلك عن تكبيل إبداعنا كفانين. والأهم بعد مشاركتي بمداخلة صغيرة حول كون مرحلة الخمسينيات هي المرحلة الأهم المضيئة بتاريخنا، لكونها حملت مشروع الوحدة والديمقراطية، وذلك بمنتدى الأتاسي الذي نشأ وأغلق سريعًا مع غيره من منتديات ربيع دمشق، وكان قد سُمح للمنتديات بهامش صغير من الحرية، لإعطاء انطباع إيجابي ومتنفس حر، لتمرير توريث الأسد الابن للحكم، وتثبيت استيلائه على السلطة عام 2000. وهو ما نتج عنه تعميم للوزراء أصدره الرئيس السابق للأمن الداخلي بأمن الدولة (بهجت سليمان) بمنعي من العمل في كل وزارات الدولة.

أما فيلمي الثاني الروائي الطويل(هوى)، الذي أنتجته المؤسسة العامة للسينما، والمقتبس عن رواية هيفاء بيطار، فقد تم تكليفي به بطلب من صاحبة الرواية، وتم منعه نهائيًا من العرض بعد إنجازه مباشرة، بسبب وقوفي أنا وكاتب السيناريو الدكتور رياض نعسان آغا مع الثورة، كما تم بعدها للسبب ذاته فصلي تعسفيًا وإيقافي عن العمل كمخرجة في المؤسسة العامة للسينما.

وأجلت كتابة روايتي الأولى إلى ما بعد اندلاع الثورة وتحطيمنا لحاجز الخوف، وإلى ما بعد تعرضي وعائلتي للتهديد وإجبارنا على الرحيل من بلدنا، حتى لا تُنجز مسحوبًا خيرها، ومكبلة بالرقابة الأمنية التي تجذرت بأعماقنا كما تجذر الخوف الذي ترويه روايتي، وتحولت معه إلى رقابة ذاتية لا تسمح بجموح المخيلة الإبداعية. فأيّ جرأة وحرية نعتمدهما في كتابة رواياتنا آنذاك سيحكم عليها بالموت قبلنا، وهي لن تجد طريقها حتى للناشر والموزع الخارجي، الذي سيتردد بنشرها إن لم تكن مشذبه ومنتظمة ضمن الهامش الرقابي المسموح به، لضمان التوزيع والربح في الوطن العربي قاطبة. وما كان بإمكاني حينها أن أخون لغتي وأفكاري وضميري وأطوعهما ضمن ذلك الهامش الضيق المتاح رقابيًا.

كانت حصيلة هذا الحصار الخانق المطبق على جميع الأصعدة الفنية والثقافية والإبداعية دمارًا كبيرًا على مستوى حرية التعبير، وتهميشًا للكثير من الطاقات الإبداعية والثقافية، لم نكتشف حجم خسائرنا لها إلا بعد الثورة التي حررت الطاقات والفكر الإبداعي السوري ليصل إلى العالمية. وتسبب الحصار في تشويه وبتر للكثير من المفاهيم والأفكار الحرة التي يُراد تمريرها ليكتمل العمل الإبداعي الثقافي، إذ لم يملص أيّ منهم من مقص الرقيب، على الرغم من مروره مسبقًا عبر فلترة الرقابة الذاتية قبل الرقابة الأمنية العامة. حتى إن عبارة ذكرتها حول تشكل رأسمالية الدولة بعد استلام حزب البعث الاشتراكي للحكم، في كتابي الذي طبعته وزارة الثقافة بعنوان (صورة المرأة في السينما السورية - منذ نشوء القطاع العام 1963 إلى 1986)، لم يُسمح لها بالمرور من دون بتر وتشذيب. وهو ما جعل الرقابة المتجذرة سلاحًا مسلطًا على جميع الأصعدة، تتجاوز السياسي إلى الاجتماعي والاقتصادي والديني، والجنسي المجهض لأي محاولة لتحقيق المساواة بين المرأة والرجل، بل ويجعل التوافق بينهما شبه مستحيل. تستدعي تحييد نصف المجتمع ليتم تقسيمهما واستهلاكهما بمعارك ليست معاركهما الحقيقية، لإبعادهما عن عدوهما الحقيقي المشترك. وهو ما عانيت منه عبر الملاحظات التي صاغها الرقباء الذكور من زملائي على سيناريو فيلمي (رؤى حالمة)، وكانت معظمها تتعلق برقابة اجتماعية أكثر منها سياسية، تعترض على مفهومي للحرية إن كان مفهومًا شرقيًا أم غربيًا، وكأن الحرية تتجزأ، وعلى كون الأب في السيناريو متسلطًا بلحظات، على الرغم من أنه كان حنونًا محبًا مهزومًا بلحظات أخرى.. وعلى وجود مشهد لفتاة تقرص في الفرن، على الرغم أنني بذاتي قد أديت دورًا مشابهًا كممثلة في مسلسل (دائرة النار)، وقد مرّ بسلاسة رقابيًا لأن كاتبه ومخرجه رجلين.. الخ.

وهذا ما يجهض أي عمل إبداعي أو فكر ثقافي يُراد له الارتقاء بوعي الناس. لكن بالمقابل، كان ذلك يحرِّض ملكة الإبداع الالتفافية على الرقابة، لتحقيق سوية ما، تساهم بتطوير الوعي والذائقة الفكرية والجمالية، من دون تنازلات كبيرة عن فكرنا وقناعاتنا ومبادئنا، ما يدفع بالأفكار لتُقدم بشكل أذكى وأقل مباشرة، وبتواطؤ تفاعلي مشارك من الجمهور النَّهم لتلك المناورات الإبداعية مع النظام.

 



[2] كان مشروعه يقوم على تطوير المؤسسات الثقافية القائمة في مصر وإحداث مؤسسات ثقافية جديدة لا تقتصر على المدن الكبرى، بل تمتد إلى مختلف المدن في مصر، وكان له الفضل بوجه خاص في الفصل بين مفهوم الثقافة ومفهوم الإعلام، حين رفض أن تقوم وزارة الإعلام بمهمات هي من صميم مهمات وزارة الثقافة. وقد روى لي ثروت عكاشة في واحد من لقاءاتنا بباريس وبالقاهرة كيف أنه حين رفض هذا الدمج في مهام الوزارتين الذي كان الرئيس عبد الناصر يريده، أعلن رغبته بالاستقالة في هذه الحالة. أجابه عبد الناصر: "ما عنديش وزير يستقيل"، فأجابه ثروت عكاشة: "لكني أنا أستقيل يا ريس". وأمام إصرار ثروت عكاشة على الاستقالة، اتفقا على أن يعين رئيسًا لمجلس إدارة البنك الأهلي، ويُنشر قرار تعيينه في جريدة الوقائع المصرية (الجريدة الرسمية في مصر) قبل خمسة عشر يومًا من تأليف الوزارة الجديدة. لكن عبد الناصر اضطر إلى أن يستدعيه ثانية عام 1966، حين أراد أن يسند إليه الوزارتين معًا، كي يعيد النظر فيما آلت إليه المشروعات التي وضع أسسها قبل أن يغادر وزارة الثقافة. وقد وجدت روايته لهذه الحادثة في مذكراته بصياغة أخرى يمكن العودة إليها. انظر: ثروت عكاشة، مذكراتي في السياسة والثقافة، الجزء الثاني، مكنبة مدبولي، القاهرة 1987، ص.187ـ201.، وكذلك عند إسناد وزارة الثقافة والإعلام إليه 251ـ 255.

[3] بدأ عمله بجولة في المحافظات السورية التقى خلالها بمختلف العاملين في حقل الثقافة مفكرين وكتابًا وفنانين وإداريين، تمهيدًا لوضع خطة سياسة ثقافية خاصة بسورية، توازي وتسير جنبًا إلى جنب مع الخطة التي كان قد بدأ السير على طريق تنفيذها في مصر. انظر ثروت عكاشة، مذكراتي في السياسة والثقافة، الجزء الأول، ص. ص. 602ـ 604.

[4] انظر ثروت عكاشة، مذكراتي في السياسة والثقافة، الجزء الأول، 602ـ 604، حيث يتحدث عن مختلف المشروعات التي وضعت ضمن الخطة بل ورصد لها في ميزانية 1961/1962 مبالغ من أجل البدء بدراسة مشروعاتها.

[5] انظر: بدر الدين عرودكي، الظاهرة المسرحية العربية بعد الخامس من حزيران، مجلة المعرفة، العدد 104، تشرين الأول/ أكتوبر 1970، ص. 127ـ151، حيث جاء في مقدمة الدراسة :"كانت هزيمة حزيران العسكرية التعبير الأكثر ضراوة وعنفًا عن هزيمة العديد من الأبنية السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت قائمة حتى ذلك الحين.."

[6] كان من بين المسرحيات التي عرضت خلال هذا المهرجان مسرحية "خيام" التي أخرجها روجيه عساف، وقامت بدور البطولة فيها الممثلة نضال الأشقر. كتبت يومئذ مقالًا عن المسرحية وأجريت لقاء مع نضال الأشقر حول دورها فيها نشرته في مجلة "الطليعة" الأسبوعية التي كانت تصدر عن دار البعث، وكنتُ المحرر الفني والأدبي فيها. إثر صدور العدد تلقيت اتصالًا من السيد مالك الأمين الذي كان مسؤولًا عن الشؤون الثقافية في القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، يدعوني فيه إلى فنجان قهوة. سألني خلال لقائنا عمّا دفعني إلى كتابة هذا المقال وإجراء هذا اللقاء، وعن معرفتي بوالد نضال الأشقر، واسمه أسد الأشقر. حدثته عن أهمية المسرحية فنيًّا والأداء الممتاز لنضال الأشقر، وكذلك عن عدم معرفتي بأبيها أو بميولها السياسية أو الحزبية. أفهمني عضو القيادة القومية لحزب البعث أن أسد الأشقر كان أحد قادة الحزب القومي السوري، وأنها بالتالي قومية سورية. ولما أدرك جهلي بذلك وأن ما قمت به من الكتابة عنها لم يكن يستهدف تسليط الأضواء على مناضلة في الحزب القومي الاجتماعي السوري، طلب إلي أن أنتبه في المرات القادمة إلى هذه التفاصيل ذات الأهمية والدلالة حين تنشر في مجلة تصدر عن دار البعث.

[7] شهدت بنفسي حين زيارة حافظ الأسد لمعهد العالم العربي في شهر تموز 1998، كيف توقف مطولًا، وهو في طريقه للقاء السفراء العرب في قاعة المجلس الأعلى بالمعهد، أمام نضال الأشقر التي كانت بين من دعتهم السفارة السورية بباريس لهذه المناسبة، وصافحها بحرارة أثارت فضول المدعوين كافة.

[8] انظر "الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية"، خلدون الشمعة. ذلك ما يراه خلدون الشمعة الذي يقدم شهادة مفصلة عما واجهه خلال عمله في الحقل الثقافي سواء في الصحافة السورية الرسمية أو خارجها. وهو رأي ساد في ستينيات القرن الماضي وخصوصًا إثر حركة 23 شباط/فبراير 1966، على إثر تدفق أبناء الريف للعمل في العاصمة وفي الدوائر الأمنية خصوصًا. كان الدمشقيون يعانون من التمييز الفاضح ضدهم سواء خلال ممارستهم وظائفهم أو حتى في الحصول على سمة دخول إلى لبنان بعد انتظار ساعات في طوابير أمام مكاتب الشرطة بدمشق.

[9] خلال ستينيات القرن الماضي اجتاحت صالات السينما في مختلف المدن السورية موجة أكثر الأفلام الهندية رداءة شكلًا ومضمونًا، ولا سيّما أنها كانت تجارة رابحة لمستوردي الأفلام في القطاع الخاص،

[10] انظر "الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، حميد مرعي.

[11] في جواب على سؤال طرحته إثر المنع على أديب اللجمي، وكان يشغل منصب معاون وزير الثقافة ورئيس تحرير مجلة المعرفة.

[12] وهي الجملة التي كان يرددها حافظ الأسد كما يبدو أمام زائريه من الكتاب أو المفكرين. كتب خلدون الشمعة في شهادته ما سمعه خلال لقاء أعضاء المكتب التنفيذي المنتخبين شارك فيه بصحبة أنطون المقدسي مع حافظ الأسد: "الذي أذكر من حديثه الذي جرى في غرفة مغطاة بالستائر السميكة من كل طرف قوله" (لا رقابة على الفكر إلا الضمير)". انظر: ملحق شهادات الفاعلين الثقافيين، خلدون الشمعة، في ملكوت الطاغوت.

[13] وذلك على غرار ما جرى في مصر على يدي ثروت عكاشة، باني المؤسسات الثقافية في مصر المعاصرة واستيحاء من خطته التي كان قد وضعها خلال الفترة القصيرة التي كان فيها وزيرًا للثقافة في سورية (الإقليم الشمالي) قبيل الانفصال عام 1961.

[14] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، حميد مرعي.

[15] شهدتُ شخصيًا أطرافًا من هذا الصراع، حين حاول وزير الثقافة يومئذ، فوزي الكيالي، أكثر من مرة ومن خلالي إرسال رسائل تقول سلطته إلى المدير العام للمؤسسة. فقد استدعاني ذات يوم من عام 1971 إلى مكتبه مباشرة وكان في مكتبه مفتي الجمهورية الشيخ أـحمد كفتارو وبطريرك أنطاكية وسائر المشرق كي يواجهني فور دخولي مكتبه: "إذا هكذا تسمح لنفسك أن تعرض أفلامًا بورنوغرافية في سينما الكندي؟" وحين سألته عن الفيلم المقصود أجابني "الموت في البندقية" الذي علم ضيفاه بخطورة الفيلم على الأخلاق. أعلمته أن كاتب الرواية حائز على جائزة نوبل وأن مخرج الفيلم هو واحد من كبار المخرجين السينمائيين العالميين.. بدا غير مقتنع بما أقول، فخرجت مني عندئذ عفويًا هذه الجملة: "لكن الفيلم لا يحتوي على قبلة واحدة". إلا أنها لم تحدث أثرًا. فقلت له إن العرض مخصص لأعضاء النادي السينمائي بدمشق وحدهم. حينئذ، وحينئذ فقط أجابني: "لِمَ لمْ تقل لي ذلك منذ البداية؟". ثم التفت نحو ضيفيه ليطمئنهم على أن الأخلاق في حرز حريز مادام العرض كان "مخصصًا حصرًا لأعضاء النادي السينمائي".

[16] انظر بدرالدين عرودكي، مهرجان دمشق الدولي الأول لسينما الشباب، ملف تسجيلي لوقائع المهرجان، مجلة المعرفة العدد 131، كانون الثاني / يناير 1973.

[17] أتيحت لي حين بدأت العمل في المؤسسة العامة للسينما عام 1971 أن أقوم خلال الأشهر الأولى من العام المذكور بإحياء النادي السينمائي بدمشق الذي كان مؤسسه نجيب حداد والذي كان متوقفًا كليًا عن النشاط، وذلك بطلب من العضوين الوحيدين المتبقيين فيه آنئذ. وقد أخذت على عاتقي تكوين مجلس إدارة جديد للنادي المسجل لدى وزارة العمل والشؤون الاجتماعية بوصفه جمعية، وانتخبت رئيسًا للنادي وقمت على الفور باستئجار غرفة في المنتدى الاجتماعي الذي كنت أحد أعضائه منذ عام 1962، كي تكون مقرًا للنادي السينمائي ومكتبته.. وقد سمح المدير العام للمؤسسة العامة للسينما للنادي السينمائي أن يقدم عروضه الأسبوعية مساء كل أربعاء في سينما الكندي التابعة لها على أن تعود واردات العرض للمؤسسة بالطبع. وقد استمر العمل بذلك حتى نهاية تشرين ثاني 1972 عند مغادرتي سورية إلى فرنسا. كان عدد أعضاء النادي السينمائي يتجاوز العشرة آلاف عضو. وكان امتياز العضوية يمنح لقاء اشتراك سنوي قدره عشر ليرات سورية. وكان رصيد الحساب المصرفي للنادي يوم مغادرتي حوالي مائة ألف ليرة سورية وهو ما سمح للإدارة الجديدة أن تستغني عن سينما الكندي وتجهز قاعة المنتدى الاجتماعي بمستلزمات قاعة عرض سينمائي بفضل الرصيد المالي المذكور الذي كان بتصرفها.

[18] شهادة شخصية: في عام 1993، كان الوزير الفرنسي إدغار بيزاني ورئيس معهد العالم العربي بين عامي 1989 و1995 قد طلب إلي تنظيم لقاء مع المثقفين العرب من مختلف الاتجاهات الفكرية والسياسية في كل من مصر والأردن وسورية كي يطرح عليهم سؤالًا واحدًا: "كيف ترون تقديم العالم العربي إلى الجمهور الفرنسي خصوصًا، والجمهور الأوربي عمومًا، من خلال معهد العالم العربي بباريس؟". وطلب إلي ألا يكون مكان اللقاء مكانًا رسميًا، أي ألا يكون في السفارة الفرنسية أو في مكان تابع للسلطات الحكومية في البلدان العربية الثلاثة المشار إليها. جرى تنظيم اللقاء مع المثقفين المصريين بالقاهرة في مقر جمعية الصداقة الفرنسية ـ المصرية بمساعدة ودعم وزير الثقافة المصري السابق الصديق العزيز المرحوم ثروت عكاشة، كما جرى تنظيم اللقاء مع المثقفين الأردنيين في منزل الدكتور فهمي جدعان الذي ساعدني في دعوة كبار المثقفين الأردنيين. لا بدّ من الإشارة هنا إلى أن لقائيْ القاهرة وعمان قد جريا بمعزل عن السلطات المصرية في القاهرة، وبمعزل عن السلطات الأردنية في عمان. على أن لقاء المثقفين بدمشق لم يكن من الممكن أن يجري بمعزل عن السلطات السورية الرسمية. فقد صادف موعد رحلتنا إلى القاهرة وعمان إثر انتهاء معرض "سورية ذاكرة وحضارة" الذي نظمناه في معهد العالم العربي وزاره أكثر من أربعمائة ألف زائر، الذي كانت وزيرة الثقافة، نجاح العطار، قد وجهت دعوة إلى إدغار بيزاني لزيارة دمشق رسميًا لتقليد وسام الاستحقاق من الدرجة الممتازة بقرار من رئيس الجمهورية. أعلمت بيزاني أنه لن يمكنني تنظيم اللقاء مع المثقفين السوريين، وهو ضيف وزيرة الثقافة، من دون إعلامها بذلك على الأقل. واتفقنا على أن أقوم بإعلام الوزيرة التي ما إن تلقت الخبر حتى طلبت مني أسماء المثقفين الذين سيلتقون بيزاني. أرسلت لها قائمة المثقفين التي ضمت أساتذة في جامعة دمشق كالدكتور بديع الكسم وأنطون مقدسي وأديب اللجمي، وسينمائيين كنبيل المالح وفنانين تشكيليين كنذير نبعة.. إلخ. أعلمتني الوزيرة على إثر تلقيها القائمة أنها تضع تحت تصرفنا القاعة الشامية بمتحف دمشق. نقلت إلى بيزاني جواب الوزيرة، ووضعها القاعة الشامية تحت تصرفنا. كان جواب بيزاني يومها: سيتمكنون بذلك من سماع ما نقول. لا يهم. حسنًا. إلا أننا ونحن نستعد لمغادرة عمان باتجاه دمشق، تلقى بيزاني هاتفًا من سفير فرنسا في سورية يومذاك، جان كلود كوسران، كي يعلمه أنه في طريقه إلى عمان للقائنا قبل مغادرتنا لها لأمر طارئ وعاجل. أعلم السفير بيزاني أن الوزيرة تعتذر عن إمكان عقد اللقاء في القاعة الشامية، وأن المأمول ألا يتم عقد مثل هذا اللقاء. أخبرني بيزاني بالأمر، وطلب إلي أن أدعو كل صباح خلال أيام إقامتنا الثلاثة عددًا ممن دعوتهم لتناول الفطور. وهذا ما قمت بتنظيمه بحيث أمكن لبيزاني أن يلتقي المثقفين الإثني عشر على التوالي. يوم أقامت الوزيرة حفل الاستقبال في فندق الشام لتقليد بيزاني وسام الاستحقاق، وصلت إلى القاعة بصحبة بيزاني. بعد أن حيا بيزاني الوزيرة، تقدمت لتحيتها، لكنها أخذتني من كتفيَّ بكلتي يديها وقالت لي: دعوت لك كل الذين تريد دعوتهم للقاء بيزاني هذا المساء. أعلمتها أن فكرة لقاء المثقفين كانت فكرة بيزاني، وأنني أنا من اقترح المثقفين الذين أرسلت لها أسماءهم، وأنني لا أفهم لمَ جرى إلغاء مثل هذا اللقاء الذي عقدنا مثيله في القاهرة وفي عمان، ومن قبل في تونس. كان جوابها لي بلهجة تأنيب ولوم: "يبدو أنك نسيت البلد الذي تنتمي إليه"، ويوم رافقت بيزاني لوداعها في مكتبها، لم تقبل أن أحضر لقاءها مع بيزاني، إذ رجتني مديرة مكتبها أن أبقى في غرفة الاستقبال حين دُعي بيزاني إلى لقاء الوزيرة، لكني غادرت الوزارة مباشرة إلى الفندق بانتظار بيزاني الذي أبدى دهشته عند عودته من عدم التحاقي به في مكتب الوزيرة.

[19] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، خلدون الشمعة،.

[20] انظر: بدر الدين عرودكي، الظاهرة المسرحية العربية بعد الخامس من حزيران، مجلة المعرفة، العدد 101، تموز/يوليو 1970، ص. 27ـ151. تضمنت هذه الدراسة دراسة لنص مسرحية "حفلة سمر.." إلى جانب نصوص مسرحيات عربية أخرى تناولت الموضوع نفسه.

[22] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، جمال سليمان. يسرد جمال سليمان في شهادته كيف شاهد حافظ الأسد الفيلم "لوحده في القصر الجمهوري، وبقي في كرسيه عدة دقائق بعد انتهائه، ثم غادر دون أن يقول امنعوا هذا الفيلم أو أجيزوه". وربما كان هذا الموقف يفسر منع عرض الفيلم داخل سوريه والسماح بتمثيلها خارجها.

[23] انظر: ليف ستينبرغ، مشروع أسلمة حي، ميراث الشيخ أحمد كفتارو، ترجمة بدرالدين عرودكي، معهد العالم للدراسات، إسطنبول، 24/12/2016. كتبت هذه الدراسة حوالي عام 2006 ونشرت عام 2007. ضمن كتاب:

(La Syrie au présent, Reflets d’une société ;Sindbad, Actes Sud, 2007.)

[24] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، جمال سليمان.

[25] مثال ذلك ما كتبته ميريام كوك حول الحياة الثقافية في سورية. انظر: ميريام كوك، صناعة الفن المعارض، ترجمة حازم نهار، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الدوحة، 2018.

Miriam Cooke, Dancing in Damascus, and the Syrian Revolution, 1st Edition, New York, 2016.

[26] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، راشد عيسى.

[27] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، علي سفر.

[28] كتبتُ مقالة نقدية نشرت في مجلة الطليعة السورية عن هذه المجموعة، حاولت فيها يومئذ وضع النقاط على الحروف بحذر شديد، ولا سيّما في دلالة العنوان نفسه الذي حمل اسم المدينة الأندلسية الدال على المدينة السورية القنيطرة. انظر: بدر الدين عرودكي، الحكاية في مختبر القصة، عن فارس مدينة "القنطرة"، مجلة الطليعة، العدد 256، السبت 12 حزيران 1971، ص. 36ـ39.

[29] انظر "زكريا تامر، الذي أحرق السفن، الرعد، الطبعة الأولى اتحاد الكتاب العرب، دمشق 1970، الطبعة الثانية، مكتبة النوري، دمشق 1978، ص. 19 ـ 24. انظر أيضًا زكريا تامر، الجريمة، ربيع في الرماد، (الطبعة الأولى 1963)، الطبعة الثالثة رياض نجيب الريس، بيروت، 1994،، ص. 29ـ40.

[30] شهادة شخصية: كان المخرج المسرحي المرحوم علاء الدين كوكش قد اقترح علي أن أقدم أسبوعيًا خلال خمس دقائق الفيلم الذي سنقوم بعرضه في اليوم التالي بسينما الكندي باسم النادي السينمائي بدمشق. وذات يوم، قررتُ أن أرتجل التقديم الذي كنت أقرؤه عادة. لكن الذاكرة خانتني حين أردت الإشارة إلى عنوان الفيلم. فانتقلت إلى موضوع آخر حول الفيلم دفعًا للحرج الذي أصابني ثم، فجأة، تذكرت عنوان الفيلم،

وقلت بعفوية ساذجة: "آه.. تذكرت عنوان الفيلم هو..."، وتابعت حتى النهاية. رأيت يومها بعد انتهاء البرنامج الذي كان يُبث مباشرة كيف كان وجه علاء الدين كوكش يتصبب عرقًا بسبب ما حدث، وقد أعلمني في اليوم التالي أن مدير التلفزيون أنذره إنه إن سمح بتكرار ذلك مرة أخرى فلن يدري أحد بمصيرنا. هذا في حين تلقت إدارة التلفزيون عقب ذلك أعدادًا لا حصر لها من الاتصالات الهاتفية ممن كانوا يتابعون هذا البرنامج للتعبير عن إعجابهم بالعفوية التي طبعت برنامج الثقافة هذه المرة، وبشعورهم بالسعادة أنهم لم يكونوا يستمعون إلى إنسان آلي، كما اعتادوا من قبل.

[31] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، مأمون البني.

[32] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، وائل السواح.

[33] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، واحة الراهب.

[34] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، عاصم الباشا.

[35] شهادة شخصية: اعترض سفير العراق يومئذ على الرسم وطلب سحبه من المعرض تحت طائلة انسحاب العراق من معهد العالم العربي، لكن علي فرزات أجاب بأنه سيسحب في هذه الحالة كل رسومه لا الرسم المقصود وحده. وتضامن معه الرسامون العرب المشاركون في المعرض وكذلك رسامو الكاريكاتير الفرنسيون الذي ما إن علموا بهذا الاعتراض حتى هرعوا للتوقيع بأسمائهم على رسم علي فرزات. وضجت الصحافة الفرنسية ووسائل الإعلام بخبر مطالبة السفير العراقي سحب الرسم مما اضطر رئيس المعهد يومها، بول كارتون، أن يعلن بقاء الرسم في المعرض حتى نهاية المدة المقررة في أيلول 1988. انظر وقائع هذا الحدث على موقع الفنان علي فرزات، على الرابط التالي:

http://www.ali-ferzat.com/en/generalcomicl.html

[37] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، محمد كامل الخطيب.

[38] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، محمد كامل الخطيب.

[39] قد تكون ثمة أسباب أخرى لم يفصح عنها صراحة أيٌّ من الأصدقاء الثلاثة المشار إليهم. إلا أنه لا أهمية هنا لتخمينها على كل حال ما دامت ثمار كل من المشروعين متاحة بين أيدينا.

[40] انظر: جورج جبور، جمعية العلوم الاقتصادية السورية تحتفي بعامها الخمسين فمتى تولد شقيقتها جمعية العلوم السياسية السورية؟، جريدة النور، 20/8/2018.

[41] كان بشار الأسد قبل وفاة أبيه عام 2000 يحضر بعض هذه الندوات برفقة اللواء بهجت سليمان الذي كان أحد كبار المسؤولين الأمنيين قبل أن يسمى فيما بعد سفيرًا في الأردن. يشير هذا الحضور بوضوح إلى "الحماية" التي كانت ولا تزال تتمتع بها هذه الجمعية ونشاطاتها.

[42] لم تكن وسائل التواصل الاجتماعي تتيح، كما هو الحال اليوم، العودة إلى نصوص مختلف المحاضرات التي كانت تلقى في ندوة الثلاثاء الاقتصادي، وكان العدد الأقصى للحضور يدور حوالي مائتي شخص عندما كانت المحاضرات تلقى في المركز الثقافي العربي بدمشق في حي المزة، في حين كان العدد لا يتجاوز مئة شخص في المركز الثقافي بشارع أبو رمانة. انظر موقع الجمعية الاقتصادية السورية على الرابط التالي:

https://secoss.org/%d9%85%d8%ad%d8%a7%d8%b6%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%ac%d9%85%d8%b9%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%88%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d9%82%d8%aa%d8%b5%d8%a7%d8%af%d9%8a%d8%a9-%d8%a8%d9%85%d9%86%d8%a7/(جرى الاطلاع عليه في 30 /9/2021.)

[43] كان رئيس القسم صادق العظم ورئيس شعبة الفلسفة أحمد برقاوي ورئيس شعبة علم الاجتماع خضر زكريا. انظر: الملحق، شهادات..، أحمد برقاوي.

[44] ليس الهدف من العرض التالي حول مسار تعليم علم الاجتماع في جامعة دمشق دراسةَ مشكلات التعليم العالي في سورية، ولا تقديم مثل في مجال علم الاجتماع على مشكلات هذا التعليم، بل تقديم مثل حيّ على وضع الدراسات والبحوث الاجتماعية تدريسًا وإنتاجًا غائبًا كليًا، ولا سيّما أن كاتب هذا السطور كان شاهدًا على الطريقة التي كان يُنظّرُ بها إلى علم الاجتماع لدى مسؤولي كلية الآداب في سبعينيات القرن الماضي وقسم الفلسفة والدراسات الاجتماعية الذي سنرى ما سيطرأ عليه من تغييرات في السطور التالية في هذا التأريخ.

ففي عام 1974، أرسلت إلى عمادة كلية الآداب بجامعة دمشق كما تقضي التعليمات الرسمية، بوصفي طالب بعثة رسمية للحصول على الدكتوراه في علم الاجتماع جامعة باريس، رسالة حول حصولي على شهادة الدراسات المعمقة في علم الاجتماع بعد الحصول على الماجستير (أو الميتريز بالفرنسية) وقبولي لإعداد الدكتوراه في المعهد العالي للعلوم الاجتماعية تحت إشراف الأستاذ جاك بيرك وموافقة هذا الأخير على موضوع الرسالة الذي اقترحته والذي قبله الأستاذ المشرف. كان موضوع دراستي هو دراسة تحليلية للرؤية الاجتماعية والقومية كما تتجلى في الروايات السورية بين عامي 1945 و1970. وكان جواب عميد الكلية، عادل العوا يومئذ، وبرسالة رسمية، أن على رسالتي أن تتناول موضوعًا "في صميم علم الاجتماع". وقد أجبت الأستاذ العميد بأنني بحثت عن كلية أو قسم "صميم علم الاجتماع" في جامعات باريس الثلاثة عشر عبثًا، وطلبت إليه أن يهديني إلى هذا القسم في الجامعات الفرنسية كي أستجيب لطلبه. لم يجبني عميد الكلية. لكن حين عاتبني أستاذي الدكتور بديع الكسم على كتابة هذه الرسالة، سألته: ولكن ما الذي كان يعنيه عميد الكلية بهذا التعبير الأدبي: "صميم علم الاجتماع"، أجاب: كان يقصد نظرية علم الاجتماع. سألته: لم لم يقل ذلك؟ لكن الدكتور كسم سألني عما سأفعله في تعليم علم الاجتماع بجامعة دمشق، شرحت له بالتفصيل كيف يمكن الجمع بين النظرية والفعل في تعليم نظرية وتاريخ ومناهج علم الاجتماع المختلفة عبر دراسات ميدانية للمشكلات الاجتماعية المعيشة في مختلف المناطق السورية التي ينتمي إليها طلبة قسم علم الاجتماع. فكان جوابه: "وهل تتصور أنه سيسمح لك بذلك؟ الأفضل أن تبقى بباريس".

[45] ليزا وادين، السيطرة الغامضة، ترجمة نجيب الغضبان، رياض نجيب الريس، بيروت 2010، ص. 169.

[46] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، أحمد برقاوي.

[47] من بينهم خالد شاتيلا الذي طبعت رسالته بعد حصوله على شهادة الدكتورة مع مقدمة حررها عالم الأنثروبولوجيا والأستاذ في الكوليج دو فرانس مارسيل موس (Marcel Mausse).

[48] انظر تفاصيل تنظيم الأسبوع الثقافي في الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، أحمد برقاوي.

[49] انظر الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، حسام الدين درويش.

[50] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية ، أحمد اليوسف. تمثل هذه الشهادة جزءًا مما كان يكتبه ولا يزال يكتبه بين الحين والآخر، على صفحته في الفيسبوك والتي يسرد فيها ذكرياته عن حياته طالبًا في جامعتي تشرين ودمشق.

[51] لم يحدد موقع جامعة دمشق في الصفحة الخاصة بقسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية تاريخًا محددًا لفصل الفلسفة عن علم الاجتماع في القسم، ومن ثمَّ إنشاء شعبة علم الاجتماع وشعبة الفلسفة في إطار قسم الدراسات الفلسفية والاجتماعية. لكن أحمد برقاوي يؤرخه في العام الدراسي 1980/1981، في حين يؤرخه طلال المصطفى بعام 1976. على أن الفصل الكامل بين الفلسفة وعلم الاجتماع وتنظيمهما إداريًا كقسمين جرى في عام 1999/2000.

[52] طلال المصطفى، السوسيولوجيا الأكاديمية السورية، موقع الجمعية السورية للعلوم الاجتماعية، 7 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019.

[53] طلال عبد المعطي مصطفى، واقع البحث السوسيولوجي في جامعة دمشق: دراسة تقويمية للرسائل العلمية (ماجستير ودكتوراه) بين 2005 -2014 ، مجلة العلوم الاجتماعية – جامعة الكويت المجلد / 44/ العدد /3/ 2016.

[54] انظر: الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، مي سعيفان.

[55] منهم السوري نجمي السكري حامل جائزة الملكة إليزابيت (ملكة بلجيكا) في العزف على الكمان، واللبناني عبد الرحمن الباشا عازف البيانو والحائز على جائزة مرغريت لونغ في العزف على البيانو.

[56] انظر في الملحق. شهادة مي سعيفان التي تلخص في تجربتها الرابعة هذا الوضع بتفاصيله كافة، وهي تفاصيل يمكن أن يسردها بطريقة أو بأخرى كل من عاش مثل هذه التجربة في ميادين مختلفة أو مشابهة.

[57] انظر: سورية منطقة عسكرية، الملحق، شهادات حول الوضع الثقافي في سورية، زياد عدوان.


** نشرت هذه الدراسة على موقع مركز حرمون يوم الإثنين 6 كانون أول/ديسمبر 2021. 



Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire